دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

غير قابلٍ للانطباق على الخارج ، وإنّما يؤخذ نحو اللحاظ قيداً لنفس العلقة الوضعية المجعولة للواضع ، فاستعمال الحرف في الابتداء حالة اللحاظ الاستقلاليّ استعمال في معنىً بلا وضع ؛ لأنّ وضعه له مقيّد بغير هذه الحالة ، لا استعمال في غير ما وضع له.

والاتّجاه الثاني : ما ذهب إليه مشهور المحقّقين بعد صاحب الكفاية (١) ، من أنّ المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ متباينان ذاتاً ، وليس الفرق بينهما باختلاف كيفية اللحاظ فقط ، بل إنّ الاختلاف في كيفية اللحاظ ناتج عن الاختلاف الذاتي بين المعنيين ، على ما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

أمّا الاتّجاه الأوّل فيرد عليه : أنّ البرهان قائم على التغاير السنخيّ والذاتيّ بين معاني الحروف ومعاني الأسماء ، وملخّصه : أنّه لا إشكال في أنّ الصورة الذهنية التي تدلّ عليها جملة (سار زيد من البصرة إلى الكوفة) مترابطة ، بمعنى أنّها تشتمل على معانٍ مرتبطةٍ بعضها ببعض ، فلابدّ من افتراض معانٍ رابطةٍ فيها لإيجاد الربط بين (السير) و (زيد) و (البصرة) و (الكوفة).

وهذه المعاني الرابطة إن كانت صفة الربط عرضيةً لها وطارئةً فلا بدّ أن تكون هذه الصفة مستمدّةً من غيرها ؛ لأنّ كلّ ما بالعَرَض ينتهي إلى ما بالذات ، وبهذا ننتهي إلى معانٍ يكون الربط ذاتياً لها ، وليس شيء من المعاني الاسميّة يكون الربط ذاتياً له ؛ لأنّ ما كان الربط ذاتياً ومقوّماً له ـ وبعبارةٍ اخرى عين حقيقته ـ يستحيل تصوّره مجرّداً عن طرفيه ؛ لأنّه مساوق لتجرّده عن الربط ، وهو خلف ذاتيّته له.

وكلّ مفهومٍ اسميٍّ قابلٌ لأَنْ يُتصوّر بنفسه مجرّداً عن أيّ ضميمة ، وهذا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤ ـ ١٦ ، ومقالات الاصول ١ : ٨٩ ـ ٩١ ، والمحاضرات ١ : ٥٩ ـ ٦٧.

٨١

يثبت أنّ المفاهيم الاسمية غير تلك المعاني التي يكون الربط ذاتياً لها ، وهذه المعاني هي مداليل الحروف ، إذ لا يوجد ما يدلّ على تلك المعاني بعد استثناء الأسماء إلاّالحروف.

وحتّى نفس مفهوم النسبة ومفهوم الربط المدلول عليهما بكلمتي (النسبة) و (الربط) ليسا من المعاني الحرفية ، بل من المعاني الاسمية ؛ لإمكان تصوّرهما بدون أطراف ، وهذا يعني أنّهما ليسا نسبةً وربطاً بالحمل الشائع وإن كانا كذلك بالحمل الأوّلي. وقد مرّ عليك في المنطق أنّ الشيء يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع ، كالجزئي فإنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي ، ولكنّه كلّيّ بالحمل الشائع.

وهذا البيان كما يبطل الاتّجاه الأوّل يبرهن على صحة الاتّجاه الثاني إجمالاً ، وتوضيح الكلام في تفصيلات الاتّجاه الثاني يقع في عدّة مراحل :

المرحلة الاولى : أنّا حين نواجه ناراً في الموقد ـ مثلاً ـ ننتزع في الذهن عدّة مفاهيم :

الأوّل : مفهوم بإزاء (النار).

والثاني : مفهوم بإزاء (الموقد).

والثالث : مفهوم بإزاء (العلاقة والنسبة الخاصّة القائمة بين النار والموقد).

غير أنّ الغرض من إحضار مفهومَي النار والموقد في الذهن التمكّن بتوسّط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيَّين ، وليس الغرض إيجاد خصائص حقيقة النار في الذهن. وواضح أنّه يكفي لتوفير الغرض الذي ذكرناه أن يكون الحاصل في الذهن ناراً بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي ؛ لِمَا تقدّم (١) منّا

__________________

(١) ضمن بحث الحكم الشرعي وتقسيماته من بحوث التمهيد ، وقد وضعنا له عنوان : تعلّق الأحكام بالعناوين الذهنيّة.

٨٢

سابقاً ـ في البحث عن القضايا الحقيقية والخارجية ـ من كفاية ذلك في إصدار الحكم على الخارج.

وأمّا الغرض من إحضار المفهوم الثالث الذي هو بإزاء النسبة الخارجية والربط المخصوص بين النار والموقد فهو الحصول على حقيقة النسبة والربط ؛ لكي يحصل الارتباط حقيقةً بين المفاهيم في الذهن. ولا يكفي أن يكون المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبةً بالنظر التصوّري والحمل الأوّلي ـ أي مفهوم النسبة ـ وليس كذلك بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، إذ لا يتمّ حينئذٍ ربط بين المفاهيم ذهناً.

وبذلك يتّضح أول فرقٍ أساسيٍّ بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفي ، وهو أنّ الأوّل سنخ مفهومٍ يحصل الغرض من إحضاره في الذهن بأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصوّري ، والثاني سنخ مفهومٍ لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلاّبأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.

وهذا معنىً عميق لإيجادية المعاني الحرفية ، بأن يراد بإيجادية المعنى الحرفيّ كونه عين حقيقة نفسه ، لا مجرّد عنوانٍ ومفهومٍ يُري الحقيقة تصوّراً ويغايرها حقيقة ، والأنسب أن تحمل إيجادية المعاني الحرفية التي قال بها المحقّق النائيني (١) على هذا المعنى ، لا على ما تقدّم في الحلقة السابقة (٢) من أنّها بمعنى إيجاد الربط الكلامي.

المرحلة الثانية : أنّ تكثّر النوع الواحد من النسبة كنسبة الظرفية ـ مثلاً ـ لا يعقل إلاّمع فرض تغاير الطرفين ذاتاً ، كما في نسبة (النار) إلى (الموقد) ، ونسبة (الكتاب) إلى (الرفّ). أوموطناً ، كما في نسبة الظرفية بين (النار) و (الموقد)

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٣٧.

(٢) ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

٨٣

في الخارج ، وفي ذهن المتكلّم ، وفي ذهن السامع.

وكلّما تكثّرت النسبة على أحد هذين النحوين استحال انتزاع جامع ذاتيٍّ حقيقيٍّ بينها ، وذلك إذا عرفنا مايلي :

أولاً : أنّ الجامع الذاتيّ الحقيقيّ ما تحفظ فيه المقوّمات الذاتية للأفراد ، خلافاً للجامع العرضيّ الذي لا يستبطن تلك المقوّمات. ومثال الأوّل : (الإنسان) بالنسبة إلى زيد وخالد. ومثال الثاني : (الأبيض) بالنسبة إليهما.

ثانياً : أنّ انتزاع الجامع يكون بحفظ جهةٍ مشتركةٍ بين الأفراد مع إلغاء ما به الامتياز.

ثالثاً : أنّ ما به امتياز النسب الظرفية المذكورة بعضها على بعضٍ إنّما هو أطرافها ، وكلّ نسبةٍ متقوّمة ذاتاً بطرفيها ، أي أنّها في مرتبة ذاتها لا يمكن تعقّلها بصورةٍ مستقلّةٍ عن طرفيها ، وإلاّ لم تكن نسبةً وربطاً في هذه المرتبة.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ انتزاع الجامع بين النسب الظرفية ـ مثلاً ـ يتوقّف على إلغاء ما به الامتياز بينها ، وهو الطرفان لكلّ نسبة ، ولمَّا كان طرفا كلّ نسبةٍ مقوِّمَين لها فما يحفظ من حيثيةٍ بعد إلغاء الأطراف لا تتضمَّن المقوّمات الذاتية لتلك النسب ، فلا تكون جامعاً ذاتياً حقيقياً. وهذا برهان على التغاير الماهويِّ الذاتيِّ بين أفراد النسب الظرفية وإن كان بينها جامع عَرَضي اسمي ، وهو نفس مفهوم النسبة الظرفية.

المرحلة الثالثة : وعلى ضوء ما تقدّم أثبت المحقّقون أنّ الحروف موضوعة بالوضع العامِّ والموضوع له الخاصّ (١) ؛ لأنّ المفروض عدم تعقّل جامعٍ ذاتيٍّ بين

__________________

(١) كما ذهب إليه المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله في نهاية الدراية ١ : ٥٥ ـ ٥٦ ، والسيّد الخوئي في المحاضرات ١ : ٨٢ ، وغيرهما ، إلاّأنّ اعتماد هؤلاء في هذه النظريّة على مثل هذا التفصيل الذي سبق في المتن غير واضح.

٨٤

النسب ليوضع الحرف له ، فلابدّ من وضع الحرف لكلّ نسبةٍ بالخصوص ، وهذا إنّما يتأتّى باستحضار جامعٍ عنوانيٍّ عَرَضيٍّ مشير ، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وليس المراد بالخاصِّ هنا الجزئيّ بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّ النسبة كثيراً ما تقبل الصدق على كثيرين بتبع كلّيّة طرفيها ، بل [المراد] كون الحرف موضوعاً لكلّ نسبةٍ بما لها من خصوصية الطرفين ، فجزئية المعنى الحرفيّ جزئية بلحاظ الطرفين ؛ لا بلحاظ الانطباق على الخارج.

هيئات الجمل :

كما أنّ الحروف موضوعة للنسبة على أنحائها كذلك هيئات الجمل ، غير أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة لنسبةٍ ناقصة ، وهيئة الجملة التامّة موضوعة لنسبةٍ تامّةٍ يصحّ السكوت عليها.

وخالف في ذلك السيّد الاستاذ ، إذ ذهب إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة لِمَا هو مدلول الدلالة التصديقية الاولى ، أي لقصد إخطار المعنى ، وأنّ هيئة الجملة التامّة موضوعة لِمَا هو مدلول الدلالة التصديقية الثانية ، وهو قصد الحكاية في الجملة الخبرية ، والطلب وجعل الحكم في الجملة الإنشائية ، وهكذا (١). وقد بنى ذلك على مسلكه في تفسير الوضع بالتعهّد الذي يقتضي أن تكون الدلالة الوضعية تصديقيةً والمدلول الوضعيّ تصديقياً ، كما تقدم (٢).

__________________

(١) أقرب ما وجدناه إلى هذا البيان في كلمات السيّد الخوئي رحمه‌الله ما جاء في هامش أجودالتقريرات ١ : ٢٤ ، كما جاءت الإشارة إليه أيضاً في هامش الصفحة ٣١ من نفس المصدر.

(٢) في الحلقة الثانية ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة.

٨٥

والصحيح : ما عليه المشهور من أنّ المدلول الوضعيّ تصوّريّ دائماً في الكلمات الأفرادية وفي الجمل ، وأنّ الجملة حتّى التامّة لا تدلّ بالوضع إلاّعلى النسبة دلالةً تصوّرية ، وأمّا الدلالتان التصديقيّتان فهما سياقيّتان ناشئتان من ظهور حال المتكلِّم.

الجملة التامّة والجملة الناقصة :

ولا شكّ في الفرق بين الجملة التامّة والجملة الناقصة في المعنى الموضوع له ، فمن اعتبر نفس المدلول التصديقيّ موضوعاً له ميَّز بينهما على أساس اختلاف المدلول التصديقي ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١). وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول التصديقيّ هو المعنى الموضوع له فنحن بين أمرين :

إمّا أن نقول : إنّه لا اختلاف بين الجملتين في مرحلة المعنى الموضوع له والمدلول التصوري ، ونحصر الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي.

وإمّا أن نسلِّم باختلافهما في مرحلة المدلول التصوري.

والأوّل باطل ؛ لأنّ المدلول التصوّريّ إذا كان واحداً وكانت النسبة التي تدلّ عليها الجملة التامّة هي بنفسها مدلول للجملة الناقصة فكيف امتازت الجملة التامّة بمدلولٍ تصديقيٍّ من قبيل قصد الحكاية على الجملة الناقصة؟ ولماذا لا يصحّ أن يقصد الحكاية بالجملة الناقصة؟

وأمّا الثاني فهو يفترض الاختلاف في المدلول التصوّري ، ولمّا كان المدلول التصوري لهيئة الجملة هو النسبة فلا بدّ من افتراض نحوين من النسبة بهما

__________________

(١) ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : المقارنة بين الجمل التامّةوالناقصة.

٨٦

تتحقّق التماميّة والنقصان.

والتحقيق : أنّ التماميّة والنقصان من شؤون النسبة في عالم الذهن لا في عالم الخارج. ف (مفيد) و (عالم) تكون النسبة بينهما تامةً إذا جعلنا منهما مبتدأً وخبراً ، وناقصةً إذا جعلنا منهما موصوفاً ووصفاً. وجعل (مفيد) مبتدأً تارةً وموصوفاً اخرى أمر ذهني لا خارجي ؛ لأنّ حاله في الخارج لا يتغيّر ، كما هو واضح.

وتكون النسبة في الذهن تامةً إذا جاءت إلى الذهن ووجدت بما هي نسبة فعلاً ، وهذا يتطلّب أن يكون لها طرفان متغايران في الذهن ، إذ لا نسبة بدون طرفين. وتكون النسبة ناقصةً إذا كانت اندماجيّةً تدمج أحد طرفيها بالآخر وتكوّن منهما مفهوماً أفرادياً واحداً وحصّةً خاصّة ، إذ لا نسبة حينئذٍ حقيقة في صقع الذهن الظاهر ، وإنّما هي مستترة وتحليلية. ومن هنا قلنا سابقاً (١) : إنّ الحروف وهيئات الجمل الناقصة موضوعة لنسبٍ اندماجية ، أي تحليلية ، وإنّ هيئات الجمل التامة موضوعة لنسبٍ غير اندماجية.

الجملة الخبرية والإنشائية :

وتنقسم الجملة التامّة إلى (خبريةٍ) و (إنشائية) ، ولا شكّ في اختلاف إحداهما عن الاخرى حتى مع اتّحاد لفظيهما ، كما في (بعتُ) الخبرية و (بعتُ) الإنشائية ، فضلاً عن (أعاد) و (أعد) ، وقد وُجدتْ عدّة اتّجاهاتٍ في تفسير هذا الاختلاف :

__________________

(١) في الحلقة الاولى ، ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة التامّة والجملةالناقصة.

٨٧

الأول : ما تقدم في الحلقة الاولى (١) عن صاحب الكفاية وغيره من وحدة الجملتين في مدلولهما التصوّري واختلافهما في المدلول التصديقيّ فقط ، وقد تقدم الكلام عن ذلك.

الثاني : أنّ الاختلاف بينهما ثابت في مرحلة المدلول التصوري ؛ وذلك في كيفية الدلالة ، فقد يكون المدلول التصوريّ واحداً ولكنّ كيفية الدلالة تختلف ، فإنّ جملة (بعتُ) الإنشائية دلالتها على مدلولها بمعنى إيجادها له باللفظ ، وجملة (بعتُ) الإخبارية دلالتها على مدلولها بمعنى إخطارها للمعنى وكشفها عنه.

فكما ادُّعي في الحروف أنّها إيجاديّة كذلك يدّعى في الجمل الإنشائية ، لكن مع فارق [بين] الإيجاديّتين ، فتلك بمعنى كون الحرف موجداً للربط الكلامي ، وهذه بمعنى كون (بعتُ) موجدةً للتمليك بالكلام ، فما هو الموجَد ـ بالفتح ـ في باب الحروف حالة قائمة بنفس الكلام ، وما هو الموجَد ـ بالفتح ـ في باب الإنشاء أمرٌ اعتباريّ مسبَّب عن الكلام.

ويرد على ذلك : أنّ التمليك اعتبار تشريعيّ يصدر من البائع ويصدر من العقلاء ومن الشارع. فإن اريد بالتمليك الذي يوجد بالكلام ، الأوّل فمن الواضح سبقه على الكلام ، وأنّ البائع بالكلام يُبرِز هذا الاعتبار القائم في نفسه ، وليس الكلام هو الذي يخلق هذا الاعتبار في نفسه.

وإن اريد الثاني أو الثالث فهو وإن كان مترتّباً على الكلام غير أنّه إنّما يترتّب عليه بعد فرض استعماله في مدلوله التصوّريّ وكشفه عن مدلوله التصديقي ، ولهذا لو أطلق الكلام بدون قصدٍ أو كان هازلاً لم يترتّب عليه أثر ، فترتّب الأثر إذن ناتج عن استعمال (بعتُ) في معناها ، وليس محقِّقاً لهذا

__________________

(١) ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة.

٨٨

الاستعمال.

الثالث : أنّ الجملتين مختلفتان في المدلول التصوّري حتى في حالة اتّحاد لفظهما ودلالتهما على نسبةٍ واحدة ، فإنّ الجملة الخبرية موضوعة لنسبةٍ تامّةٍ منظوراً اليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه. والجملة الإنشائية موضوعة لنسبةٍ تامّةٍ منظوراً اليها بما هي نسبة يراد تحقيقها ، كما تقدّم في الحلقة الاولى (١).

ويمكن أن نفسّر على هذا الأساس إيجادية الجملة الإنشائية ، فليست هي بمعنى أنّ استعمالها في معناها هو بنفسه إيجاد للمعنى باللفظ ، بل بمعنى أنّ النسبة المبرَزة بالجملة الإنشائية نسبة منظور اليها لا بما هي ناجزة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والإيجاد.

الثمرة :

قد يقال : إنّ من ثمرات هذا البحث أنّ الحروف بالمعنى الاصولي الشامل للهيئات إذا ثبت أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فهذا يعني أنّ المعنى الحرفيّ خاصّ وجزئي ، وعليه فلا يمكن تقييده بقرينةٍ خاصّة ، ولا إثبات إطلاقه بقرينة الحكمة العامّة ؛ لأنّ التقييد والإطلاق من شؤون المفهوم الكلّيّ القابل للتحصيص.

وممّا يترتّب على ذلك أنّ القيد إذا كان راجعاً في ظاهر الكلام إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله ، كما في الجملة الشرطية فإنّ ظاهرها كون الشرط قيداً لمدلول هيئة الجزاء ، وحيث إنّ هيئة الجزاء موضوعة لمعنىً حرفيٍّ ـ وهو جزئيّ ـ فلا يمكن تقييده ، فلابدّ من تأويل الظهور المذكور. فإذا قيل : (إذا جاءك زيد

__________________

(١) ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة.

٨٩

فأكرمه) دلّ الكلام بظهوره الأوّليّ على أنّ المقيّد بالمجيء مدلول هيئة الأمر في الجزاء ، وهو الطلب والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي ، فيكون الوجوب مشروطاً ، ولكن حيث يستحيل التقييد في المعاني الحرفية فلابدّ من إرجاع الشرط إلى متعلّق الوجوب ، لا إلى الوجوب نفسه ، فيكون الوجوب مطلقاً ومتعلقه مقيّداً بزمان المجيء على نحو الواجب المعلّق ، الذي تقدّم الحديث عن تصويره في الحلقة السابقة (١).

ولكنّ الصحيح : أنّ كون المعنى الحرفيّ جزئيّاً ليس بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين لكي يستحيل فيه التقييد والإطلاق ، بل هو قابل لذلك تبعاً لقابلية طرفيه ، وإنّما هو جزئيّ بلحاظ خصوصية طرفيه ، بمعنى أنّ كلّ نسبةٍ مرهونة بطرفيها ؛ ولا يمكن الحفاظ عليها مع تغيير طرفيها.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

٩٠

الأمر أو أدوات الطلب

ينقسم ما يدلّ على الطلب إلى قسمين :

أحدهما : ما يدلّ بلا عناية ، كمادّة الأمر وصيغته.

والآخر : ما يدلّ بالعناية ، كالجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب.

فيقع الكلام في القسمين تباعاً :

القسم الأوّل : [ما يدلّ على الطلب بلا عناية]

الطلب : هو السعي نحو المقصود ، فإن كان سعياً مباشراً ـ كالعطشان يتحرّك نحو الماء ـ فهو طلب تكويني ، وإن كان بتحريك الغير وتكليفه فهو طلب تشريعي.

ولا شكّ في دلالة مادّة الأمر على الطلب بمفهومه الاسمي ، ولكن ليس كلّ طلب ، بل الطلب التشريعيّ من العالي.

كما لا إشكال في دلالة صيغة الأمر على الطلب ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة فيها هو النسبة الإرسالية ، والإرسال يُنتزع منه مفهوم الطلب ، حيث إنّ الإرسال سعي نحو المقصود من قبل المرسِل ، فتكون الهيئة دالّةً على الطلب بالدلالة التصوّرية تبعاً لدلالتها تصوّراً على منشأ انتزاعه.

كما أنّ الصيغة نفسها بلحاظ صدورها بداعي تحصيل المقصود تكون مصداقاً حقيقياً للطلب ؛ لأنّها سعي نحو المقصود.

وممّا اتّفق عليه المحصِّلون من الاصوليّين (١) تقريباً دلالة الأمر ـ مادةً

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٨٣ و ٩٢ ، وأجود التقريرات ١ : ٨٧ ، والمقالات ١ : ٢٠٨ و ٢٢٢.

٩١

وهيئةً ـ على الوجوب بحكم التبادر وبناء العرف العامّ على كون الطلب الصادر من المولى بلسان الأمر مادّةً أو هيئةً وجوباً. وإنّما اختلفوا في توجيه هذه الدلالة وتفسيرها إلى عدّة أقوال :

القول الأوّل : إنّ ذلك بالوضع (١) ، بمعنى أنّ لفظ (الأمر) موضوع للطلب الناشئ من داعٍ لزومي ، وصيغة الأمر موضوعة للنسبة الإرسالية الناشئة من ذلك ، ودليل هذا القول هو التبادر مع إبطال سائر المناشئ الاخرى المدَّعاة لتفسير هذا التبادر.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق النائيني (٢) رحمه‌الله من : أنّ ذلك بحكم العقل ، بمعنى أنّ الوجوب ليس مدلولاً للدليل اللفظي ، وإنّما مدلوله الطلب ، وكلّ طلبٍ لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل بلزوم امتثاله ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالوجوب. بينما إذا اقترن بالترخيص المذكور لم يلزم العقل بموافقته ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالاستحباب.

ويرد عليه :

أوَّلاً : أنّ موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرّد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص ؛ لوضوح أنّ المكلّف إذا اطّلع بدون صدور ترخيصٍ من قبل المولى على أنّ طلبه نشأ من ملاكٍ غير لزوميٍّ ولا يؤذي المولى فواته لم يحكم العقل بلزوم الامتثال ، فالوجوب العقليّ فرع مرتبةٍ معيّنةٍ في ملاك الطلب ، وهذه المرتبة لا كاشف عنها إلاّالدليل اللفظي ، فلابدّ من فرض أخذها في مدلول اللفظ لكي يتنقّح بذلك موضوع الوجوب العقلي.

__________________

(١) كما عليه ظاهر عبارة الكفاية : ٨٣ و ٩٢.

(٢) فوائد الاصول ١ : ١٣٦.

٩٢

وثانياً : أنّ لازم القول المذكور أن يبنى على عدم الوجوب فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في عنوانٍ يشمل بعمومه مورد الأمر.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا بنينا على أنّ اللفظ بنفسه يدلّ على الوجوب فالأمر في الحالة التي أشرنا اليها يكون مخصِّصاً لذلك العامّ الدالّ على الإباحة ومخرجاً لمورده عن عمومه ؛ لأنّه أخصّ منه ، والدالّ الأخصّ يقدَّم على الدالّ العامّ ، كما تقدّم (١).

وأمّا إذا بنينا على مسلك المحقّق النائيني المذكور فلا تعارض ولو بنحوٍ غير مستقرٍّ بين الأمر والعامّ ، ليقدّم الأمر بالأخصية ؛ وذلك لأنّ الأمر لا يتكفّل الدلالة على الوجوب بناءً على هذا المسلك ، بل المتعيّن بناءً عليه أن يكون العامّ رافعاً لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ؛ لأنّ العامّ ترخيص وارد من الشارع ، وحكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص من المولى ، مع أنّ بناء الفقهاء والارتكاز العرفيّ على تخصيص العامّ في مثل ذلك والالتزام بالوجوب.

وثالثاً : أنّه قد فرض أنّ العقل يحكم بلزوم امتثال طلب المولى معلّقاً على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وحينئذٍ نتساءل : هل يراد بذلك كونه معلّقاً على عدم اتّصال الترخيص بالأمر ، أو على عدم صدور الترخيص من المولى واقعاً ولو بصورةٍ منفصلةٍ عن الأمر ، أو على عدم إحراز الترخيص ويقين المكلّف به؟ والكلّ لا يمكن الالتزام به.

أمّا الأول فلأ نّه يعني أنّ الأمر إذا ورد ولم يتّصل به ترخيص تمّ بذلك موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهذا يستلزم كون الترخيص المنفصل منافياً لحكم العقل باللزوم ، فيمتنع ، وهذا اللازم واضح البطلان.

وأمّا الثاني فلأ نّه يستلزم عدم إحراز الوجوب عند الشكّ في الترخيص

__________________

(١) في بحث التعارض من الحلقتين الاولى والثانية.

٩٣

المنفصل واحتمال وروده ؛ لأنّ الوجوب من نتائج حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهو معلّق ـ بحسب الفرض ـ على عدم ورود الترخيص ولو منفصلاً ، فمع الشكّ في ذلك يشكّ في الوجوب.

وأمّا الثالث فهو خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في الوجوب الواقعيّ الذي يشترك فيه الجاهل والعالم ، لا في المنجِّزية.

القول الثالث : إنّ دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق وقرينة الحكمة ، وتقريب ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ الأمر يدلّ على ذات الإرادة ، وهي تارةً شديدة كما في الواجبات ، واخرى ضعيفة كما في المستحبّات. وحيث إنّ شدّة الشيء من سنخه ـ بخلاف ضعفه ـ فتتعيّن بالإطلاق الإرادة الشديدة ؛ لأنّها بحدّها لا تزيد على الإرادة بشيء ، فلا يحتاج حدّها إلى بيانٍ زائدٍ على بيان المحدود ، بينما تزيد الإرادة الضعيفة بحدّها عن حقيقة الإرادة فلو كانت هي المعبّر عنها بالأمر لكان اللازم نصب القرينة على حدِّها الزائد ؛ لأنّ الأمر لا يدلّ إلاّعلى ذات الإرادة.

وقد اجيب (١) على ذلك : بأنّ اختلاف حال الحدّين أمر عقليّ بالغ الدقّة وليس عرفياً ، فلا يكون مؤثّراً في إثبات إطلاقٍ عرفيٍّ يعيّن أحد الحدّين.

ثانيها : وهو مركّب من مقدِّمتين :

المقدِّمة الاولى : أنّ الوجوب ليس عبارةً عن مجرّد طلب الفعل ؛ لأنّ ذلك ثابت في المستحبّات أيضاً ، فلابدّ من فرض عنايةٍ زائدةٍ بها يكون الطلب وجوباً ، وليست هذه العناية عبارةً عن انضمام النهي والمنع عن الترك إلى طلب الفعل ؛ لأنّ النهي عن شيءٍ ثابت في باب المكروهات أيضاً ، وإنّما هي عدم ورود الترخيص

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣١٩.

٩٤

في الترك ؛ لأنّ هذا الأمر العدميّ هو الذي يميّز الوجوب عن باب المستحبّات والمكروهات.

ونتيجة ذلك : أنّ الممميِّز للوجوب أمر عدميّ وهو عدم الترخيص في الترك ، فيكون مركّباً من أمرٍ وجوديٍّ وهو طلب الفعل ، وأمرٍ عدميٍّ وهو عدم الترخيص في الترك ، والمميِّز للاستحباب أمر وجودي وهو الترخيص في الترك ، فيكون مركّباً من أمرين وجوديّين.

المقدِّمة الثانية : أنّه كلّما كان الكلام وافياً بحيثيةٍ مشتركةٍ ويتردّد أمرها بين حقيقتين : المميِّز لإحداهما أمر عدميّ والمميز للُاخرى أمر وجوديّ ، تعيّن بالإطلاق الحمل على الأول ؛ لأنّ الأمر العدميّ أسهل مؤونةً من الأمر الوجودي.

فإذا كان المقصود ما يتميّز بالأمر الوجوديّ مع أنّه لم يذكر الأمر الوجوديّ فهذا خرق عرفيّ واضح ؛ لظهور حال المتكلّم في بيان تمام المراد بالكلام. وأمّا إذا كان المقصود ما يتميّز بالأمر العدميّ فهو ليس خرقاً لهذا الظهور بتلك المثابة عرفاً ؛ لأنّ المميِّز حينما يكون أمراً عدميّاً كأ نّه لا يزيد على الحيثية المشتركة التي يفي بها الكلام.

ومقتضى هاتين المقدمتين تعيّن الوجوب بالإطلاق.

ويرد عليه المنع من إطلاق المقدمة الثانية ، فإنّه ليس كلّ أمرٍ عدميٍّ لا يلحظ أمراً زائداً عرفاً ، ولهذا لا يرى في المقام أنّ النسبة عرفاً بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقلّ والأكثر ، بل [هي] النسبة بين مفهومين متباينين فلا موجب لتعيين أحدهما بالإطلاق.

ثالثها : أنّ صيغة الأمر تدلّ على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ، ولمّا كان الإرسال والدفع مساوقاً لسدِّ تمام أبواب العدم للتحرّك والاندفاع ، فمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوريّ والمدلول التصديقيّ أنّ الطلب والحكم

٩٥

المبرَز بالصيغة سنخ حكمٍ يشتمل على سدِّ تمام أبواب العدم ، وهذا يعني عدم الترخيص في المخالفة.

ولعلّ هذا التقريب أوجه من سابقيه ، فإن تمّ فهو ، وإن لم يتمَّ يتعيّن كون الدلالة على الوجوب بالوضع.

وتترتّب فوارق عملية عديدة بين هذه الأقوال على الرغم من اتّفاقها على الدلالة على الوجوب ، ومن جملتها : أنّ إرادة الاستحباب من الأمر مرجعها على القول الأول إلى التجوّز واستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، ومرجعها على القول الأخير إلى تقييد الإطلاق ، وأمّا على القول الوسط فلا ترجع إلى التصرّف في مدلول اللفظ أصلاً.

وعليه فإذا جاءت أوامر متعدّدة في سياقٍ واحدٍ وعُلم أنّ أكثرها أوامر استحبابيّة اختلّ ظهور الباقي في الوجوب على القول الأول ، إذ يلزم من إرادة الوجوب منه حينئذٍ تغاير مدلولات تلك الأوامر مع وحدة سياقها ، وهو خلاف ظهور السياق الواحد في إرادة المعنى الواحد من الجميع.

وأمّا على القول الثاني : فالوجوب ثابت في الباقي ؛ لعدم كونه دخيلاً في مدلول اللفظ لتثلم وحدة المعنى في الجميع.

وكذلك الحال على القول الثالث ؛ لأنّ التفكيك بين الأوامر وكون بعضها وجوبيةً وبعضها استحبابيةً لا يعني ـ على هذا القول ـ تغاير مدلولاتها ، بل كلّها ذات معنىً واحد ؛ ولكنّه اريد في بعضها مطلقاً وفي بعضها مقيّداً.

الأوامر الإرشادية :

ومهما يكن فالأصل في دلالة الأمر أنّه يدلّ على طلب المادة وإيجابها ، ولكنّه يستعمل في جملةٍ من الأحيان للإرشاد ، فالأمر في قولهم : (استقبل القبلة

٩٦

بذبيحتك) ليس مفاده الطلب والوجوب ؛ لوضوح أنّ شخصاً لو لم يستقبل القبلة بالذبيحة لم يكن آثماً ، وإنّما تحرم عليه الذبيحة. فمفاد الأمر إذن الإرشاد إلى شرطية الاستقبال في التذكية ، وقد يعبّر عن ذلك بالوجوب الشرطي ، باعتبار أنّ الشرط واجب في المشروط. والأمر في (اغسل ثوبك من البول) ليس مفاده طلب الغسل ووجوبه ، بل الإرشاد إلى نجاسته بالبول ، وأنّ مطهِّره هو الماء. وأمر الطبيب للمريض باستعمال الدواء ليس مفاده إلاّالإرشاد إلى ما في الدواء من نفعٍ وشفاء.

وفي كلّ هذه الحالات تحتفظ صيغة الأمر بمدلولها التصوريّ الوضعي ، وهو النسبة الإرسالية ، غير أنّ مدلولها التصديقيّ الجدّيّ يختلف من موردٍ إلى آخر.

القسم الثاني : [ما يدلّ على الطلب بالعناية]

ونقصد به : الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب ، والكلام حولها يقع في مرحلتين :

الاولى : في تفسير دلالتها على الطلب مع أنّها جملة خبرية مدلولها التصوريّ يشتمل على صدور المادة من الفاعل ، ومدلولها التصديقيّ قصد الحكاية ، فما هي العناية التي تعمل لإفادة الطلب بها؟

وفي تصوير هذه العناية وجوه :

الأول : أن يحافظ على المدلول التصوريّ والتصديقيّ معاً ، فتكون الجملة إخباراً عن وقوع الفعل من الشخص ، غير أنّه يقيّد الشخص الذي يقصد الحكاية عنه بمَن كان يطبِّق عمله على الموازين الشرعية ، وهذا التقييد قرينته نفس كون المولى في مقام التشريع ، لا نقل أنباءٍ خارجية.

٩٧

الثاني : أن يحافظ على المدلول التصوريّ وعلى إفادة قصد الحكاية ، ولكن يقال : إنّ المقصود حكايته ليس نفس النسبة الصدورية المدلولة تصوّراً ، بل أمر ملزوم لها وهو الطلب من المولى ، فتكون من قبيل الإخبار عن كرم زيدٍ بجملة (زيد كثير الرّماد) على نحو الكناية.

الثالث : أن يفرض استعمال الجملة الخبرية في غير مدلولها التصوريّ الوضعيّ مجازاً ، وذلك بأن تستعمل كلمة (أعاد) أو (يعيد) في نفس مدلول (أعِد) ، أي النسبة الإرسالية.

ولا شكّ في أنّ الأقرب من هذه الوجوه هو الأول ؛ لعدم اشتماله على أيّ عنايةٍ سوى التقييد الذي تتكفّل به القرينة المتّصلة الحالية.

الثانية : في دلالتها على الوجوب ، أمّا بناءً على الوجه الأول في إعمال العناية فدلالتها على الوجوب واضحة ؛ لأنّ افتراض الاستحباب يستوجب تقييداً زائداً في الشخص الذي يكون الإخبار بلحاظه ، إذ لا يكفي في صدق الإخبار فرضه ممّن يطبِّق عمله على الموازين الشرعية ، بل لابدّ من فرض أنّه يطبِّقه على أفضل تلك الموازين.

وأمّا بناءً على الوجه الثاني فتدلّ الجملة على الوجوب أيضاً ؛ لأنّ الملازمة بين الطلب والنسبة الصدورية المصحِّحة للإخبار عن الملزوم ببيان اللازم إنّما هي في الطلب الوجوبي ، وأمّا الطلب الاستحبابيّ فلا ملازمة بينه وبين النسبة الصدورية ، أو هناك ملازمة بدرجةٍ أضعف.

وأمّا بناءً على الالتزام بالتجوّز في مقام استعمال الجملة الخبرية ـ كما هو مقتضى الوجه الأخير ـ فيشكل دلالتها على الوجوب ، إذ كما يمكن أن تكون مستعملةً في النسبة الإرسالية الناشئة من داعٍ لزوميٍّ ، كذلك يمكن أن تكون مستعملةً في النسبة الإرسالية الناشئة من داعٍ غير لزومي.

٩٨

[دلالة النهي :]

وكلّ ما قلناه في جانب مادّة الأمر وهيئته ، والجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب يقال عن مادّة النهي وهيئته والنفي الخبريّ المستعمل في مقام النهي ، غير أنّ مفاد الأمر طلب الفعل ، ومفاد النهي الزجر عنه.

وكما توجد أوامر إرشادية توجد نواهٍ إرشادية أيضاً ، والمرشَد إليه : تارةً يكون حكماً شرعياً ، كالمانعية في (لا تصلِّ فيما لا يؤكل لحمه) ، واخرى نفي حكمٍ شرعيٍّ من قبيل (لا تعمل بخبر الواحد) فإنّه إرشاد إلى عدم الحكم بحجّيته ، وثالثةً يكون المرشَد إليه شيئاً تكوينياً ، كما في نواهي الأطبّاء للمريض عن استعمال بعض الأطعمة إرشاداً إلى ضررها.

[الفور والتراخي ، والمرّة والتكرار :]

ثمّ إنّ الأمر لا يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإسراع بالإتيان بمتعلّقه ، ولا لزوم التباطؤ ؛ لأنّ الأمر لا يقتضي إلاّالإتيان بمتعلّقه ، ومتعلّقه هو مدلول المادّة ، ومدلول المادّة طبيعيّ الفعل الجامع بين الفرد الآنيّ والفرد المتباطَأ فيه.

كما أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ، ولا على التكرار ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإتيان بفردٍ واحدٍ أو بأفرادٍ كثيرة ، وإنّما تلزم به الطبيعة ، والطبيعة بعد إجراء قرينة الحكمة فيها يثبت إطلاقها البدلي ، فتصدق على ما يأتي به المكلّف من وجودٍ لها ، سواء كان في ضمن فردٍ واحدٍ أو أكثر. فلو قال الآمر : (تصدَّقْ) تحقّق الامتثال بإعطاء فقيرٍ واحدٍ درهماً ، كما يتحقّق بإعطاء فقيرين درهمين في وقتٍ واحد. وأمّا إذا تصدّق المكلّف بصدقتين مترتّبتين زماناً ، فالامتثال يتحقّق بالفرد الأول خاصّة.

٩٩

الإطلاق واسم الجنس

الإطلاق يقابل التقييد ، فإن تصوّرت معنىً وأخذت فيه وصفاً زائداً أو حالةً خاصّةً ـ كالإنسان العالم ـ كان ذلك تقييداً. وإذا تصوّرت مفهوم الإنسان ولم تُضِف إليه شيئاً من ذلك فهذا هو الإطلاق.

وقد وقع الكلام في أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الإطلاق فيكون الإطلاق قيداً في المعنى الموضوع له ، أو لذات المعنى الذي يطرأ عليه الإطلاق تارةً والتقييد اخرى؟

[أنحاء لحاظ الماهيّة :]

ولتوضيح الحال تُقدَّم عادةً مقدمة لتوضيح أنحاء لحاظ المعنى واعتبار الماهيّة في الذهن ، لكي تحدِّد نحو المعنى الموضوع له اللفظ على أساس ذلك.

وحاصلها ـ مع أخذ ماهيّة (الإنسان) وصفة (العلم) كمثال ـ : أنّ ماهيّة (الإنسان) إذا تتبّعنا أنحاء وجودها في الخارج نجد أنّ هناك حصتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم ، وهما : الإنسان الواجد للصفة خارجاً ، والإنسان الفاقد لها خارجاً. ولا يتصوّر لها حصّة ثالثة ينتفي فيها الوجدان والفقدان معاً ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصّةً ثابتةً في الخارج في عرض الحصّتين السابقتين.

ولكن إذا تجاوزنا الخارج إلى الذهن وتتبّعنا عالم الذهن في معقولاته الأوّلية التي ينتزعها من الخارج مباشرةً نجد ثلاث حِصَصٍ أو ثلاثة أنحاءٍ من لحاظ الماهيّة ، كلّ واحدٍ يشكِّل صورةً للماهيّة في الذهن تختلف عن الصورتين

١٠٠