دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

اللغوي ؛ لأنَّ السيرة الاولى تقتضي سلوكاً لا يُقرّه الشارع إذا كان لا يرى الحيازة سبباً للملكية.

وأمّا ما تقتضيه السيرة الثانية من سلوكٍ فلا يتجاوز الالتزام بأنّ قول اللغويّ منجِّز ومعذّر في علاقات الآمرين بالمأمورين من العقلاء ، ولا يضرّ الشارع ذلك على أيِّ حال.

فإن قال قائل : لماذا لا يفترض بناء العقلاء على أنّ قول اللغويّ حجّة بلحاظ كلّ حكمٍ وحاكمٍ وأمرٍ وآمرٍ بما فيهم الشارع ، فيكون هذا البناء مضرّاً بالشارع إذا لم يكن قد جعل الحجّية لقول اللغوي؟

قلنا : إنّ كون قول اللغويِّ منجِّزاً لحكمٍ أو معذِّراً عنه أمر لا يعقل جعله واتّخاذ قرارٍ به إلاّمن قبل جاعل ذلك الحكم بالنسبة إلى مأموره ومكلَّفه ، فكلّ أبٍ ـ مثلاً ـ قد يجعل الأمارة الفلانية حجّةً بينه وبين أبنائه بلحاظ أغراضه التشريعية التي يطلبها منهم ، ولا معنى لِأنْ يجعلها حجّةً بالنسبة إلى سائر الآباء الآخرين مع أبنائهم.

وهكذا يتّضح أنّ الحجّية المتبانى عليها عقلائياً إنّما هي في حدود الأغراض التشريعية لأصحاب البناء أنفسهم ، فلا يضرّ الشارع ذلك.

وليس بالإمكان تصحيح الاستدلال بالسيرة على الحجّية بأفضل من القول بأنّها تمسّ الشارع ؛ لأنّها توجب ـ على أساس العادة ـ الجريَ على طبقها حتّى في نطاق الأغراض التشريعية لمولىً لم يساهم في تلك السيرة ، وتوحي ـ ولو ارتكازاً وخطأً ـ بأنّ مؤدّاها مورد الاتّفاق من الجميع ، وبذلك تصبح مستدعيةً للردع على فرض عدم التوافق ، ويكون السكوت عندئذٍ كاشفاً عن الإمضاء.

وبهذا نعرف أنّ الشرط في الاستدلال بالسيرة العقلائية على الحجّية بمعناها

١٤١

الاصوليّ (المنجِّزية والمعذِّرية) أن تكون السيرة العقلائية في مجال التطبيق قد افترضت ارتكازاً اتّفاق الشارع مع غيره في الحجّية ، وجرت في علاقتها مع الشارع على أساس هذا الافتراض ، أو أن تكون على الأقلّ بنحوٍ يعرضها لهذا الافتراض والجري. وهذا معنىً قد يثبت في السيرة العقلائية على العمل بالأمارات الظنّية في المقام الأول أيضاً ، أي في مجال الأغراض الشخصية التكوينية ، فإنّها كثيراً ما تولِّد عادةً وذوقاً في السلوك يعرض المتشرّعة بعقلائيتهم إلى الجري على طبق ذلك في الشرعيات أيضاً ، فلا يتوقّف إثبات الحجّية بالسيرة على أن تكون السيرة جاريةً في المقام الثاني ومنعقدةً على الحجّية بالمعنى الاصولي.

ومهما يكن الحال فلا شكّ في أنّ معاصرة السيرة العقلائية لعصر المعصومين عليهم‌السلام شرط في إمكان الاستدلال بها على الحكم الشرعي ؛ لأنّ حجّيتها ليست بلحاظ ذاتها ، بل بلحاظ استكشاف الإمضاء الشرعيِّ من التقرير وعدم الردع ، فلكي يتمّ هذا الاستكشاف يجب أن تكون السيرة معاصرةً لظهور المعصومين عليهم‌السلام ؛ لكي يدلّ سكوتهم على الإمضاء ، وأمّا السيرة المتأخّرة فلا يدلّ عدم الردع عنها على الإمضاء ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

وأمّا كيف يمكن إثبات أن السيرة كانت قائمةً فعلاً في عصر المعصومين فقد مرّ بنا البحث عن ذلك في الحلقة السابقة (٢).

إلاّأنّ اشتراط المعاصرة إنّما هو في السيرة التي يراد بها إثبات حكمٍ

__________________

(١) ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : السيرة.

(٢) ضمن البحث عن وسائل الإثبات الوجداني ، تحت عنوان : الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي.

١٤٢

شرعيٍّ كلّي ، والكشف بها عن دليلٍ شرعيٍّ على ذلك الحكم ، وهي التي كنّا نقصدها بهذا البحث بوصفها من وسائل إثبات الدليل الشرعي.

[السيرة المحقّقة لصغرى الحكم الشرعي :]

ولكن هناك نحو آخر من السيرة لا يكشف عن الدليل الشرعيّ على حكمٍ كلّي ، وإنّما يحقِّق صغرى لحكمٍ شرعيٍّ كلّيٍّ قد قام عليه الدليل في المرتبة السابقة.

وإلى هذا النحو من السيرة ترجع ـ على الأغلب ـ البناءات العقلائية التي يراد بها تحليل مرتكزات المتعامِلَين ومقاصدهما النوعية في مقام التعامل بنحوٍ يحقِّق صغرى لأدلّة الصحة والنفوذ في باب المعاملات.

ومثال ذلك : ما يقال من انعقاد السيرة العقلائية على اشتراط عدم الغبن في المعاملة بنحوٍ يكون هذا الاشتراط مفهوماً ضمناً وإن لم يصرَّح به ، وعلى هذا الأساس يثبت خيار الغبن بالشرط الضمنيّ في العقد ، فإنّ السيرة العقلائيّة المذكورة لم تكشف عن دليلٍ شرعيٍّ على حكمٍ كلّي ، وإنّما حقّقت صغرى لدليل «المؤمنون عند شروطهم» (١) ، وكلّ سيرةٍ من هذا القبيل لا يشترط في تأثيرها على هذا النحو أن تكون معاصرةً للمعصومين عليهم‌السلام ؛ لأنّها متى ما وُجِدت أوجدت صغرى لدليلٍ شرعيٍّ ثابت ، فيتمسّك بإطلاق ذلك الدليل لتطبيق الحكم على صغراه.

وهناك فوارق اخرى بين السيرتين ، فإنّ السيرة التي يستكشف بها دليل شرعيّ على حكمٍ كلّيٍّ تكون نتيجتها مُلزمةً حتّى لمن شذّ عن السيرة ، فلو فرض أنّ شخصاً لم يكن يرى ـ بما هو عاقل ـ أنّ طيب نفس المالك كافٍ في جواز

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٠ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، الحديث ٤.

١٤٣

التصرّف في ماله ، وشذّ في ذلك عن عموم الناس كانت النتيجة الشرعية المستكشفة بسيرة عموم الناس ملزمةً له ؛ لأنّها حكم شرعيّ كلّي.

وأمّا السيرة التي تحقِّق صغرى لمفاد دليلٍ شرعيٍّ فلا تكون نتيجتها ملزمةً لمن شذّ عنها ؛ لأنّ شذوذه عنها معناه أنّ الصغرى لم تتحقّق بالنسبة اليه ، فلا يجري عليه الحكم الشرعي. ففي المثال المتقدّم لخيار الغبن إذا شذّ متعامِلان عن عرف الناس وبَنَيا على القبول بالمعاملة والالتزام بها ولو كانت غبنيةً لم يثبت لأيِّ واحدٍ منهما خيار الغبن ؛ لأنّ هذا يعني عدم الاشتراط الضمني ، ومع عدم الاشتراط لا يشملهما دليل «المؤمنون عند شروطهم» مثلاً.

١٤٤

٢ ـ الدليل الشرعي

إثباتُ

صغرى الدليل الشرعي

١ ـ وسائل الإثبات الوجدانيّ.

٢ ـ وسائل الإثبات التعبّديّ.

١٤٥
١٤٦

بعد أن تكلّمنا عن الدلالات العامّة للدليل الشرعيِّ نريد أن نتكلّم الآن عن وسائل إثبات صدور الدليل من الشارع ، وهي على نحوين :

أحدهما : وسائل الإثبات الوجداني.

والآخر : وسائل الإثبات التعبّدي.

فالكلام يقع في قسمين :

١٤٧
١٤٨

القسم الأوّل

وسائل الإثبات الوجداني

تمهيد

المقصود بالإثبات الوجداني : اليقين ، ولمّا كانت وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة إلينا كلُّها وسائل تقوم على أساس حساب الاحتمال ـ كالتواتر والإجماع ونحوهما على ما تقدّم في الحلقة السابقة (١) ـ فمن المناسب أن نتحدّث بإيجازٍ عن كيفية تكوّن اليقين على أساس حساب الاحتمال.

فنقول : إنّ اليقين ـ كما عرفنا في مباحث القطع ـ موضوعيّ وذاتي ، ونحن حينما نتكلّم عن حجّية القطع بعد افتراض تحقّقه لا نفرِّق بين القسمين ، إذ نقول بحجّيتهما معاً ، كما تقدّم (٢). ولكن حينما نتكلّم عن الوسائل الموجِبة للإثبات والإحراز فمن المعقول أن نهتمَّ بالتمييز بين أدوات اليقين الموضوعيِّ وغيرها ؛ ابتعاداً بقدر الإمكان عن التورّط في غير اليقين الموضوعي.

واليقين الموضوعي قد يكون أوّلياً ، وقد يكون مستنتَجاً ، واليقين

__________________

(١) ضمن البحث عن وسائل الإثبات الوجداني ، تحت عناوين : الخبر المتواتر ، والإجماع ، وسيرة المتشرّعة.

(٢) في هذه الحلقة ، ضمن البحث عن حجّية الظهور ، تحت عنوان : حجّية القطع غير المصيب وحكم التجرّي.

١٤٩

الموضوعيّ المستنتَج بقضيةٍ مّا له سببان :

أحدهما : اليقين الموضوعيّ بقضيةٍ اخرى تتضمّن أو تستلزم تلك القضية ، ويكون الاستنتاج حينئذٍ قائماً على أساس قياسٍ من الأقيسة المنطقية.

والآخر : اليقين الموضوعيّ بمجموعةٍ من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلاً القضية المستنتَجة ، ولكنّ كلّ واحدةٍ منها تشكِّل قيمةً احتماليةً بدرجةٍ مّا لإثبات تلك القضية ، وبتراكم تلك القيم الاحتمالية تزداد درجة احتمال تلك القضية حتّى يصبح احتمال نقيضها قريباً من الصفر. وبسبب ذلك يزول لضآلته ، وكون الذهن البشريّ مخلوقاً على نحوٍ لا يحتفظ باحتمالاتٍ ضئيلةٍ قريبةٍ من الصفر.

ومثال ذلك : أن نشاهد اقتران حادثةٍ معيّنةٍ باخرى مرّاتٍ كثيرةً جدّاً ، فإنّ هذه الاقترانات المتكرِّرة لا تتضمّن ولا تستلزم أن تكون إحدى الحادثتين علّةً للُاخرى ، إذ قد يكون اقترانهما صدفة ، ويكون للحادثة الاخرى علّة غير منظورة ، ولكن حيث إنّ من المحتمل في كلِّ اقترانٍ أن لا يكون صدفةً وأن لا تكون هناك علّة غير منظورةٍ فيعتبر كلّ اقترانٍ قرينةً احتماليةً على علّية إحدى الحادثتين للُاخرى ، وبتعدّد هذه القرائن الاحتمالية يقوى احتمال العلّية حتّى يتحوّل إلى اليقين.

ونسمّي كلّ يقينٍ موضوعيٍّ بقضيةٍ مستنتَجةٍ على أساس قياسٍ منطقيٍّ باليقين الموضوعيِّ الاستنباطي ، وكلّ يقينٍ موضوعيٍّ بقضيةٍ مستنتَجةٍ على أساس تراكم القرائن الاحتمالية باليقين الموضوعيِّ الاستقرائي. والنتيجة في القياس مستبطنة دائماً في المقدمات ؛ لأنّها إمّا أصغر منها ، أو مساوية لها. والنتيجة في الاستقراء غير مستبطنةٍ في المقدّمات التي تكوّن منها الاستقراء ؛ لأنّها أكبر وأوسع من مقدماتها.

١٥٠

والطرق التي تذكر عادةً لإثبات الدليل الشرعيّ وإحرازه وجداناً من التواتر والإجماع والسيرة كلّها من وسائل اليقين الموضوعيّ الاستقرائي ، كما سنرى إن شاء الله تعالى.

١ ـ التواتر

الخبر المتواتر من وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي ، وقد عُرِّف في المنطق : بأ نّه إخبار جماعةٍ كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب. وبموجب هذا التعريف يمكن أن نستخلص أنّ المنطق يفترض أنّ القضية المتواترة مستنتَجة من مجموع مقدمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى ، وهي تواجد عددٍ كبيرٍ من المخبِرين.

والاخرى بمثابة الكبرى ، وهي أنّ كلَّ عددٍ من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب.

وهذه الكبرى يفترض المنطق أنّها عقلية ومن القضايا الأولية في العقل ، ومن هنا عدّ المتواترات في القضايا الضرورية الستّ التي تنتهي اليها كلّ قضايا البرهان.

وهذا التفسير المنطقيّ للقضية المتواترة يشابه تماماً تفسير المنطق نفسه للقضية التجريبية التي هي إحدى تلك القضايا الستّ ، فإنّه يرى أنّ عِلِّية الحادثة الاولى للحادثة الثانية (التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية بالاولى في عددٍ كبيرٍ من المرّات) مستنتَجة من مجموع مقدمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى ، وهي اقتران الحادثة الثانية بالاولى في عددٍ كبيرٍ من المرّات.

١٥١

والاخرى بمثابة الكبرى ، وهي أنّ الاتّفاق لا يكون دائمياً ، بمعنى أنّه يمتنع أن يكون هذا الاقتران في كلّ هذه المرّات صدفةً ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر لهذه الدرجة ، وهذه الكبرى يعتبرها المنطق قضيةً عقليةً أوّلية ، ولا يمكن في رأيه أن تكون ثابتةً بالتجربة ؛ لأنّها تشكِّل الكبرى لإثبات كلِّ قضيةٍ تجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون هي بنفسها قضيةً تجريبيّة؟

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضية المتواترة مردّها إلى نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضية التجريبية ، لأنّ كذب المخبر يعني افتراضَ مصلحةٍ شخصيةٍ معيّنةٍ دعته إلى إخفاء الواقع ، وكذب العدد الكبير من المخبِرين معناه افتراض أنّ مصلحة المخبِر الأول في الإخفاء اقترنت صدفةً بمصلحة المخبر الثاني في الإخفاء ، والمصلحتان معاً اقترنتا صدفةً بمصلحة المخبِر الثالث في الشيء نفسه ، وهكذا ، على الرغم من اختلاف ظروفهم وأحوالهم ، فهذا يعني أيضاً تكرّر الصدفة مرّاتٍ كثيرة.

وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضية التجريبيّة والقضية المتواترة إلى القياس المكوّن من المقدّمتين المشار اليهما ، واعتقد بأنّ القضية المستدلَّة ليست بأكبر من مقدماتها.

ولكنّ الصحيح : أنّ اليقين بالقضية التجريبية والمتواترة يقين موضوعيّ استقرائي ، وأنّ الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة في مصبٍّ واحد ، فإخبار كلّ مخبرٍ قرينة احتمالية ، ومن المحتمل بطلانها ؛ لإمكان وجود مصلحةٍ تدعو المخبر إلى الكذب ، وكلّ اقترانٍ بين حادثتين قرينة احتمالية على العلّية بينهما ، ومن المحتمل بطلانها ـ أي القرينة ـ لإمكان افتراض وجود علّةٍ اخرى غير منظورةٍ هي السبب في وجود الحادثة الثانية ، غير أنّها اقترنت بالحادثة الاولى صدفة ، فاذا تكرّر الخبر أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتمالية

١٥٢

وازداد احتمال القضية المتواترة أو التجريبية ، وتناقص احتمال نقيضها حتى يصبح قريباً من الصفر جدّاً ، فيزول تلقائياً لضآلته الشديدة. ونفس الكبرى التي افترضها المنطق القديم ليست في الحقيقة إلاّقضيةً تجريبية أيضاً.

ومن هنا نجد أنّ حصول اليقين بالقضية المتواترة والتجريبية يرتبط بكلِّ ما له دخل في تقوية القرائن الاحتمالية نفسها ، فكلّما كانت كلّ قرينةٍ احتماليةٍ أقوى وأوضح كان حصول اليقين من تجمّع القرائن الاحتمالية أسرع.

وعلى هذا الأساس نلاحظ أنّ مفردات التواتر إذا كانت إخباراتٍ يبعد في كلّ واحدٍ منها احتمال الاستناد إلى مصلحةٍ شخصيةٍ تدعو إلى الإخبار بصورةٍ معيّنةٍ ـ إمّا لوثاقة المخبِر أو لظروفٍ خارجيةٍ ـ حصل اليقين بسببها بصورةٍ أسرع.

وكذلك الحال في الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين ؛ فإنّه كلّما كان احتمال وجود علّةٍ غير منظورةٍ أضعف كانت الدلالة الاحتمالية لكلّ اقترانٍ على العلّية أقوى ، وبالتالي يكون اليقين بالعلّية أسرع وأرسخ ، وليس ذلك إلاّلأنّ اليقين في المتواترات والتجريبيّات ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمّع قيمها الاحتمالية المتعدِّدة في مصبٍّ واحد ، وليس مشتقّاً من قضيةٍ عقليةٍ أوّليّةٍ كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق.

الضابط للتواتر :

والضابط في التواتر : الكثرة العدديّة ، ولكن لا يوجد تحديد دقيق لدرجة هذه الكثرة التي يحصل بسببها اليقين بالقضية المتواترة ؛ لأنّ ذلك يتأثّر بعوامل موضوعيّةٍ مختلفةٍ وعوامل ذاتيةٍ أيضاً.

أمّا العوامل الموضوعيّة :

فمنها : نوعية الشهود من حيث الوثاقة والنباهة.

١٥٣

ومنها : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ، إذ بقدر ما يشتدّ التباعد والتباين يصبح احتمال اشتراكهم جميعاً في كون هذا الإخبار الخاصّ ذا مصلحةٍ شخصيةٍ داعيةٍ اليه بالنسبة إلى جميع اولئك المخبِرين ـ على مابينهم من اختلافٍ في الظروف ـ أبعدَ بحساب الاحتمال.

ومنها : نوعية القضية المتواترة ، وكونها مألوفةً أو غريبة لأنّ غرابتها في نفسها تشكّل عاملاً عكسياً.

ومنها : درجة الاطّلاع على الظروف الخاصّة لكلِّ شاهدٍ بالقدر الذي يبعِّد أو يقرِّب بحساب الاحتمال افتراض مصلحةٍ شخصيةٍ في الإخبار.

ومنها : درجة وضوح المدرَك المدّعى للشهود ، ففرق بين الشهادة بقضيةٍ حسّيةٍ مباشرةٍ ـ كنزول المطر وقضيةٍ ليست حسّية ، وإنّما لها مظاهر حسّية ، كالعدالة ؛ وذلك لأنّ نسبة الخطأ في المجال الأول أقلّ منها في المجال الثاني ، وبهذا كان حصول اليقين في المجال الأوّل أسرع.

إلى غير ذلك من العوامل التي يقوم تأثيرها إيجاباً أو سلباً على أساس دخلها في حساب الاحتمال وتقويم درجته.

وأمّا العوامل الذاتية :

فمنها : طباع الناس المختلفة في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة ، فإنّ هناك حدّاً أعلى من الضآلة لا يمكن لأيّ ذهنٍ بشريٍّ أن يحتفظ بالاحتمال البالغ إليه ، مع الاختلاف بالنسبة إلى ماهو أكبر من الاحتمالات.

ومنها : المبتنيات القبليّة التي قد تُوقف ذهن الإنسان وتشلّ فيه حركة حساب الاحتمال ، وإن لم تكن إلاّوهماً خالصاً لا منشأ موضوعياً له.

ومنها : مشاعر الإنسان العاطفية التي قد تزيد أو تنقص من تقويمه للقرائن الاحتمالية ، أو من قدرته على التشبّث بالاحتمال الضئيل تبعاً للتفاعل

١٥٤

معه إيجاباً أو سلباً.

تعدّد الوسائط في التواتر :

إذا كانت القضية الأصلية المطلوب إثباتها ليست موضعاً للإخبار المباشر في الشهادات المحسوسة ، وإنّما هي منقولة بواسطة شهاداتٍ اخرى ـ كما هو الغالب في الروايات ـ فلابدّ من حصول أحد أمرين ليتحقّق ملاك التواتر :

أحدهما : أن تكون كلّ واحدةٍ من تلك الشهادات الاخرى موضوعاً للإخبار المباشر المتواتر ، وهكذا يلحظ التواتر في كلّ حلقة.

والآخر : أن تبدأ عملية تجميع القرائن الاحتمالية على أساس حساب الاحتمال من القيم الاحتمالية للخبر غير المباشر ، فتلحظ القيمة الاحتمالية لقضيةٍ يشهد شخص بوجود شاهدٍ بها ، وتجمع مع قيمٍ احتماليةٍ مماثلة ، وهكذا حتّى يحصل الإحراز الوجداني.

وهذا طريق صحيح ، غير أنّه يكلِّف افتراض عددٍ أكبر من الشهادات غير المباشرة ؛ لأنّ مفردات الجمع أصغر قيمةً منها في حالة الشهادات المباشرة.

أقسام التواتر :

إذا واجهنا عدداً كبيراً من الأخبار فسوف نجد إحدى الحالات التالية :

الحالة الاولى : أن لا يوجد بين المدلولات الخبرية مشترك يخبر الجميع عنه ، كما إذا جمعنا بطريقةٍ عشوائيةٍ مائة روايةٍ من مختلف الأبواب ، وفي هذه الحالة من الواضح أنّ كلّ واحدٍ من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر ، وإنّما يقع الكلام في إثبات أحدها على سبيل العلم الإجماليّ لكي تُرتَّب عليه آثار العلم الإجمالي.

١٥٥

والتحقيق في ذلك : أنّ قيمة احتمال كذب الجميع ضئيلة جدّاً ؛ لوجود مضعِّفٍ وهو عدد الاحتمالات التي ينبغي أن تضرب قيمها من أجل الحصول على قيمة احتمال كذب الجميع ، وكلّما كانت عوامل الضرب كسوراً تضاءلت نتيجة الضرب تبعاً لزيادة تلك العوامل ، وهذا مانسمّيه بالمضعِّف الكمّي ، فيكون احتمال كذب الجميع ضئيلاً جدّاً ، ويحصل في المقابل اطمئنان بصدق واحدٍ على الأقل ، ولكنّ هذا الاطمئنان يستحيل أن يتحوّل إلى يقينٍ بسبب الضآلة.

ووجه الاستحالة : أنّنا نعلم إجمالاً بوجود مائة خبرٍ كاذبٍ في مجموع الأخبار ، وهذه المائة التي التقطناها تشكّل طرفاً من أطراف ذلك العلم الإجمالي ، وقيمة احتمال انطباق المعلوم الإجماليّ عليها تساوي قيمة احتمال انطباقه على أيّ مائةٍ اخرى تجمع بشكلٍ آخر ، فلو كان المضعِّف الكمّي وحده يكفي لإفناء الاحتمال لزال احتمال الانطباق على أيّ مائةٍ نفرضها ، وهذا يعني زوال العلم الإجمالي ، وهو خلف.

وهكذا نعرف أنّ درجة احتمال صدق واحدٍ من الأخبار على الأقلّ تبقى اطمئناناً ، وحجّية هذا الاطمئنان مرتبطة بتحديد مدى انعقاد السيرة العقلائية على العمل بالاطمئنان ، وهل تشمل الاطمئنان الإجماليّ المتكوّن نتيجة جمع احتمالات أطرافه ، أوْ لا؟ إذ قد يمنع عن شمول السيرة لمثل هذه الاطمئنانات الإجمالية.

الحالة الثانية : أن يوجد بين المدلولات الخبرية جانب مشترك يشكِّل مدلولاً تحليلياً لكلّ خبرٍ : إمّا على نسق المدول التضمّني ، أو على نسق المدلول الالتزامي مع عدم التطابق في المدلول المطابقي بكامله ، كالإخبارات عن قضايا متغايرةٍ ولكنّها تتضمّن جميعاً مظاهر من كرم حاتم مثلاً.

ولا شكّ هنا في وجود المضعِّف الكمّي الذي رأيناه في الحالة السابقة ،

١٥٦

يضاف اليه مضعِّف آخر ، وهو : أنّ افتراض كذب الجميع يعني وجود مصلحةٍ شخصيةٍ لدى كلّ مخبرٍ دعته إلى الإخبار بذلك النحو. وهذه المصالح الشخصية إن كانت كلّها تتعلّق بذلك الجانب المشترك فهذا يعني أنّ هؤلاء المخبرين على الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم اتّفق صدفةً أن كانت لهم مصالح متماثلة تماماً.

وإن كانت تلك المصالح الشخصية تتعلّق بالنسبة إلى كلّ مخبرٍ بكامل المدلول المطابقي فهذا يعني أنّها متقاربة ، وذلك أمر بعيد بحساب الاحتمالات ، وهذا ما نسمّيه بالمضعِّف الكيفي ؛ يضاف إلى ذلك المضعِّف الكمّي. ولهذا نجد أنّ قوة الاحتمال التي تحصل في هذه الحالة أكبر منها في الحالة السابقة.

والاحتمال القويّ هنا يتحوّل إلى يقينٍ بسبب ضآلة احتمال الخلاف ، ولا يلزم من ذلك أن ينطبق هذا على كل مائة خبرٍ نجمعها ؛ لأنّ المضعِّف الكيفيّ المذكور لا يتواجد إلاّفي مائةٍ تشترك ولو في جانبٍ من مدلولاتها الخبرية.

الحالة الثالثة : أن تكون الإخبارات مشتركةً في المدلول المطابقي بالكامل ، كما إذا نقل المخبِرون جميعاً أنّهم شاهدوا قضيةً معيّنةً من قضايا كرم حاتم ، وفي هذه الحالة يوجد المضعِّف الكمّي والمضعِّف الكيفي معاً ، ولكنّ المضعِّف الكيفي هنا أشدّ قوّةً منه في الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّ مصالح الناس المختلِفين كلّما افترض تطابقها وتجمّعها في محورٍ أضيق كان ذلك أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات ؛ لِمَا بينهم من الاختلاف والتباين في الظروف والأحوال ، فكيف أدّت مصلحة كلّ واحدٍ منهم إلى نفس ذلك المحور الذي أدّت إليه مصلحة الآخرين؟

هذا من ناحية ، ومن ناحيةٍ اخرى : إذا كان الكلّ ينقلون واقعةً واحدةً بالشخص فاحتمال الخطأ فيهم جميعاً أبعد ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدةً بينها

١٥٧

جانب مشترك.

وفي هذه الحالة كلّما كان التوحّد في المدلول أوضح والتطابق في الخصوصيات بين إخبارات المخبِرين أكمل كان احتمال الصدق أكبر والمضعِّف الكيفي أقوى أثراً ، ومن هنا كان اشتمال كلّ خبرٍ على نفس التفاصيل التي يشتمل عليها الخبر الآخر مؤدِّياً إلى تزايد احتمال الصدق بصورةٍ كبيرة.

ومن أهمّ أمثلة ذلك : التطابق في صيغة الكلام المنقول ، كما إذا نقل الجميع كلاماً لشخصٍ بلفظٍ واحد ؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ : هل اتّفق أن كانت للجميع مصلحة في إبراز نفس الألفاظ بعينها مع إمكان أداء المعنى نفسه بألفاظٍ اخرى ، أو كان هذا التطابق في الألفاظ عَفْوياً وصدفةً؟ وكلّ ذلك بعيد بحساب الاحتمالات ، ومن هنا نستكشف أنّ هذا التطابق ناتج عن واقعية القضية وتقيّد الجميع بنقل ما وقع بالضبط.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح الوجه في أقوائية التواتر اللفظيّ من المعنوي ، والمعنويّ من الإجمالي ، كما هو واضح.

٢ ـ الإجماع

الإجماع يبحث عن حجّيته في إثبات الحكم الشرعي : تارةً على أساس حكم العقل المدّعى بلزوم تدخّل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ ، وهو ما يسمّى بقاعدة اللطف.

واخرى على أساس قيام دليلٍ شرعيٍّ على حجّية الإجماع ولزوم التعبّد بمفاده ، كما قام على حجّية خبر الثقة والتعبّد بمفاده.

وثالثةً على أساس إخبار المعصوم وشهادته بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ،

١٥٨

كما في الحديث المدّعى : «لا تجتمع امّتي على خطأ» (١).

ورابعةً باعتباره كاشفاً عن دليلٍ شرعي ؛ لأنّ المجمعين لا يفتون عادةً إلاّ بدليل ، فيستكشف بالإجماع وجود الدليل الشرعيّ على الحكم الشرعي.

والفارق بين الأساس الرابع لحجّية الإجماع والاسس الثلاثة الاولى : أنّ الإجماع على الاسس الاولى يكشف عن الحكم الشرعيّ مباشرةً ، وأمّا على الأساس الرابع فيكشف عن وجود الدليل الشرعيّ على الحكم.

والبحث عن حجّية الإجماع على الاسس الثلاثة الاولى يدخل في نطاق البحث عن الدليل غير الشرعيّ على الحكم الشرعي ، والبحث عن حجّيته على الأساس الأخير يدخل في نطاق إحراز صغرى الدليل الشرعي ، ويعتبر من وسائل إثبات هذا الدليل ، وهذا ما نتناوله في المقام.

وقد قسَّم الاصوليون الملازمة ـ كما نلاحظ في الكفاية (٢) وغيرها (٣) ـ إلى ثلاثة أقسام ، ثمّ بحثوا عن تحقّق أيّ واحدٍ منها بين الإجماع والدليل الشرعي ، وهي : الملازمة العقلية ، والعادية ، والاتّفاقية ، ومثّلوا للُاولى بالملازمة بين تواتر الخبر وصدقه ، وللثانية بالملازمة بين اتّفاق آراء المرؤوسين على شيءٍ ورأي رئيسهم ، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه.

والتحقيق : أنّ الملازمة دائماً عقلية ، والتقسيم الثلاثيّ لها مردّه في الحقيقة

__________________

(١) لم نعثر عليه بهذا اللفظ سوى ما ذكره السيد المرتضى في الذريعة ٢ : ٦٠٨ ، إلاّأنّ الموجود في مظانّه «لا تجتمع امّتي على ضلالة». انظر : سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣ ، الحديث ٣٩٥٠ ، وكنوز الحقائق ٢ : ٢٨٧ ، الحديث ٨٨٥٤ ، وكشف الخفاء ٢ : ٤٧٠ ، الحديث ٢٩٩٩.

(٢) كفاية الاصول : ٣٣٢.

(٣) مصباح الاصول ٢ : ١٣٨ ـ ١٤٠.

١٥٩

إلى تقسيم الملزوم لا الملازمة ، فإنّ الملزوم إذا كان ذات الشيء مهما كانت ظروفه وأحواله سمّيت الملازمة (عقلية) ، كالملازمة بين النار والحرارة. وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروفٍ متواجدةٍ فيه غالباً وعادةً سمّيت الملازمة (عادية). وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروفٍ قد يتّفق وجودها فالملازمة (اتّفاقية).

والصحيح : أنّه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضية فضلاً عن الإجماع ، وهذا لا ينفي أنّنا نعلم بالقضية القائلة : (كلّ قضيةٍ ثبت تواترها فهي ثابتة) ؛ لأنّ العلم بأنّ المحمول لا ينفكّ عن الموضوع غير العلم بأ نّه لا يمكن أن ينفكّ عنه ، والتلازم يعني الثاني ، وما نعلمه هو الأول على أساس تراكم القيم الاحتمالية وزوال الاحتمال المخالف لضآلته ، لا لقيام برهانٍ على امتناع محتمله عقلاً.

فالصحيح : ربط كشف الإجماع بنفس التراكم المذكور وفقاً لحساب الاحتمال ، كما هو الحال في التواتر على فوارق بين مفردات الإجماع بوصفها أخباراً حدسيّة ، ومفردات التواتر بوصفها أخباراً حسّية ، وقد تقدّم البحث عن هذه الفوارق في الحلقة السابقة (١).

وتقوم الفكرة في تفسير كشف الإجماع بحساب الاحتمال على أنّ الفقيه لا يفتي بدون اعتقادٍ للدليل الشرعيّ عادةً ، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي ، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الإصابة والخطأ معاً ، وبقدر احتمال الإصابة يشكِّل قرينةً احتماليةً لصالح إثبات الدليل الشرعي ، وبتراكم الفتاوى تتجمّع القرائن الاحتمالية لإثبات الدليل الشرعيِّ بدرجةٍ كبيرةٍ تتحوّل بالتالي إلى يقينٍ لتضاؤل احتمال الخلاف.

__________________

(١) في بحث وسائل الإثبات الوجداني ، تحت عنوان : الإجماع.

١٦٠