دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولا يكون هناك بأس في ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ؛ لأنّه من ضمِّ ترك المباح إلى ترك الواجب ، فالبراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممّن ترك العتق.

وهذا البيان وإن كان يثبت علماً إجمالياً بإحدى حيثيتين إلزاميّتين ولكنّ هذا العلم غير منجِّز ، بل منحلّ حكماً ؛ لجريان البراءة الاولى وعدم معارضتها بالبراءة الثانية ؛ لأنّ فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة القطعية ، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعية ، بخلاف فرض جريان البراءة الاولى فإنّه فرض المخالفة الاحتمالية.

وثانياً : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، والحكم حينئذٍ هو الحكم في المسألة السابقة فيما إذا دار الواجب بين إكرام زيدٍ مطلقاً وإطعامه خاصّة.

وثالثاً : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضين لزوميّين للمولى غير أنّهما متزاحمان في مقام التحصيل ، بمعنى أنّ استيفاء أحدهما يُعجِز المكلّف عن استيفاء الآخر ، ومن هنا يحكم بوجوب كلٍّ من الفعلين مشروطاً بترك الآخر ، والحكم هنا أصالة الاشتغال ؛ لأنّ مرجع الشكّ في وجوب العتق تعييناً أو تخييراً حينئذٍ إلى الشكّ في أنّ الإطعام هل يُعجِز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق ؛ فيكون من الشكّ في القدرة الذي تجري فيه أصالة الاشتغال؟

٤٤١

ملاحظات عامّة حول الأقلِّ والأكثر

فرغنا من المسائل الأساسية في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وبقي علينا أن نذكر في ختام مسائل هذا الدوران ملاحظاتٍ عامّةً حول الأقلِّ والأكثر :

١ ـ دور الاستصحاب في هذا الدوران :

قد يتمسّك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارةً لإثبات وجوب الاحتياط ، واخرى لإثبات نتيجة البراءة.

أمّا التمسّك به على الوجه الأوّل فبدعوى : أنّا نعلم بجامع وجوبٍ مردّدٍ بين فردين من الوجوب ، وهما : وجوب التسعة ووجوب العشرة ، ووجوب التسعة يسقط بالإتيان بالأقلّ ، ووجوب العشرة لا يسقط بذلك ، فاذا أتى المكلف بالأقلِّ شكّ في سقوط الجامع وجرى استصحابه ، ويكون من استصحاب القسم الثاني من الكلّي.

والجواب على ذلك : أنّ استصحاب جامع الوجوب إن اريد به إثبات وجوب العشرة ـ لأنّ ذلك هو لازم بقائه ـ فهذا من الاصول المثبتة ؛ لأنّه لازم عقليّ لا يثبت بالاستصحاب. وإن اريد به الاقتصار على إثبات جامع الوجوب فهذا لا اثر له ؛ لأنّه لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع ، وقد فرضنا أنّ العلم به لا ينجِّز سوى الأقلّ ، والأقلّ حاصل في المقام بحسب الفرض.

وأمّا التمسّك به على الوجه الثاني فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت ، أو في صدر عصر التشريع. ولا يعارض باستصحاب عدم

٤٤٢

الوجوب الاستقلالي للأقل ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب ؛ لأنّه إن اريد به إثبات وجوب الزائد بالملازمة فهو مثبت. وإن اريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ فهو غير صحيح ؛ لأنّ فرض ترك الأقلّ هو فرض المخالفة القطعية ، ولا يصحّ التأمين بالأصل العملي إلاّعن المخالفة الاحتمالية.

٢ ـ الدوران بين الجزئية والمانعية :

إذا تردّد أمر شيءٍ بين كونه جزءاً من الواجب أو مانعاً عنه فمرجع ذلك إلى العلم الإجمالي بوجوب زائدٍ متعلّقٍ إمّا بالتقيّد بوجود ذلك الشيء ، أو بالتقيّد بعدمه ، وفي مثل ذلك يكون هذا العلم الإجمالي منجِّزاً ، وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئية مع أصالة البراءة عن المانعية ، فيجب على المكلف الاحتياط بتكرار العمل مرّةً مع الإتيان بذلك الشيء ، ومرّةً بدونه.

هذا فيما إذا كان في الوقت متّسع ، وإلاّ جازت المخالفة الاحتمالية بملاك الاضطرار ، وذلك بالاقتصار على أحد الوجهين.

وقد يقال : إنّ العلم الإجمالي المذكور غير منجِّزٍ ، ولا يمنع عن جريان البراءتين معاً ، بناءً على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الإجمالي ، وهي صيغة الميرزا (١) القائلة : بأنّ تعارض الاصول مرهون بأداء جريانها إلى الترخيص عملياً في المخالفة القطعية ، فإنّ جريان الاصول في المقام لا يؤدّي إلى ذلك ؛ لأنّ المكلف لا تمكنه المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المذكور ، إذ في حالة الإتيان بالشيء المردّد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة ، وفي حالة تركه يحتملها أيضاً ، فلا يلزم من جريان الأصلين معاً ترخيص في المخالفة القطعية.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٦ ـ ٢٧.

٤٤٣

فإن قيل : ألا تحصل المخالفة القطعية لو ترك المركّب رأساً؟!

قلنا : نعم تحصل ، ولكنّ هذا ممّا لا إذن فيه من قبل الأصلين حتى لو جَرَيا معاً.

ولكن يمكن أن يقال على ضوء صيغة الميرزا : إنّ المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المذكور ممكنة أيضاً فيما إذا كان الشيء المردّد بين الجزء والمانع متقوّماً بقصد القربة على تقدير الجزئية ، فإنّ المخالفة القطعية حينئذٍ تحصل بالإتيان به بدون قصد القربة ، ويكون جريان الأصلين معاً مؤدِّياً إلى الإذن في ذلك ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

٣ ـ الأقلّ والأكثر في المحرّمات :

كما قد يعلم إجمالاً بواجبٍ مردّدٍ بين التسعة والعشرة كذلك قد يعلم بحرمة شيءٍ مردّدٍ بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه ، ويختلف الدوران المذكور في باب الحرام عنه في باب الواجب من بعض الجهات :

فأوّلاً : وجوب الأكثر هناك كان هو الأشدّ مؤونةً ، وأمّا حرمة الأكثر هنا فهي الأخفّ مؤونةً ، إذ يكفي في امتثالها ترك أيّ جزء ، فحرمة الأكثر في باب الحرام تناظر إذن وجوب الأقلّ في باب الواجب.

وثانياً : أنّ دوران الحرام بين الأقلّ والأكثر يشابه دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ؛ لأنّ حرمة الأكثر في قوة وجوب ترك أحد الأجزاء تخييراً ، وحرمة الأقلّ في قوة وجوب ترك هذا الجزء بالذات تعييناً ، فالأمر دائر بين وجوب ترك أحد الأجزاء ووجوب ترك هذا الجزء بالذات ، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير ، لا الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو

٤٤٤

الشرائط. والحكم هو جريان البراءة عن حرمة الأقلّ ، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الأكثر ، بنفس البيان الذي جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعييني للعتق بدون أن تعارض بالبراءة عن الوجوب التخييري.

٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقلِّ والأكثر :

كما يمكن افتراض الشبهة الحكمية للدوران بين الأقلِّ والأكثر كذلك يمكن افتراض الشبهة الموضوعية ، بأن يكون مردّ الشكّ إلى الجهل بالحالات الخارجية ، لا الجهل بالجعل ، كما إذا علم المكلف بأنّ مالا يؤكل لحمه مانع في الصلاة وشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا يؤكل لحمه ، أوْ لا؟ فتجري البراءة عن مانعيّته ، أو عن وجوب تقيّد الصلاة بعدمه بتعبيرٍ آخر.

وقد يقال كما عن الميرزا قدس‌سره (١) : إنّ الشبهة الموضوعية للواجب الضمني لا يمكن تصويرها إلاّإذا كان لهذا الواجب تعلّقٌ بموضوعٍ خارجي ، كما في هذا المثال. ولكنّ الظاهر إمكان تصويرها في غير ذلك أيضاً ، وذلك بلحاظ حالات المكلف نفسه ، كما إذا فرضنا أنّ السورة كانت واجبةً على غير المريض في الصلاة وشكّ المكلف في مرضه ، فإنّ هذا يعني الشكّ في جزئية السورة ، مع أنّها واجب ضمني لا تعلّقَ له بموضوعٍ خارجي ، والحكم هو البراءة.

٥ ـ الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط :

كنّا نتكلّم عمّا إذا شكّ المكلف في جزئية شيءٍ أو شرطيته ـ مثلاً ـ للواجب ، وقد يتّفق العلم بجزئية شىءٍ أو دخالته في الواجب بوجهٍ من الوجوه ولكن يشكّ

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٠٠.

٤٤٥

في شمول هذه الجزئية لبعض الحالات ، كما إذا علمنا بأنّ السورة جزء في الصلاة الواجبة وشككنا في إطلاق جزئيتها لحالة المرض أو السفر ، ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر بلحاظ هذه الحالة بالخصوص ، فإذا لم يكن لدليل الجزئية إطلاق لها وانتهى الموقف إلى الأصل العملي جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة ، وهذا على العموم لا إشكال فيه.

ولكن قد يقع الإشكال في حالتين من هذه الحالات ، وهما : حالة الشكّ في إطلاق الجزئية لصورة نسيان الجزء ، وحالة الشكّ في إطلاق الجزئية لصورة تعذّره. ونتناول هاتين الحالتين فيما يلي تباعاً :

أ ـ الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان :

إذا نسي المكلف جزءً من الواجب فأتى به بدون ذلك الجزء ، ثمّ التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به : فإن كان لدليل الجزئية إطلاق لحال النسيان اقتضى ذلك بطلان ما أتى به ؛ لأنّه فاقد للجزء ، من دون فرقٍ بين افتراض ارتفاع النسيان في أثناء الوقت وافتراض استمراره إلى آخر الوقت ، وهذا هو معنى أنّ الأصل اللفظي في كلّ جزءٍ يقتضي ركنيته ، أي بطلان المركّب بالإخلال به نسياناً.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزئية إطلاق وانتهى الموقف إلى الأصل العملي فقد يقال بجواز اكتفاء الناسي بما أتى به ؛ لأنّ المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان ، والأقلّ واقع والزائد منفيّ بالأصل.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ النسيان تارةً يستوعب الوقت كلّه ، واخرى يرتفع في أثنائه.

ففي الحالة الاولى لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مردّداً بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يحتمل التكليف بالأكثر بالنسبة اليه ؛ لأنّ الناسي لا يكلَّف بما نسيه

٤٤٦

على أيِّ حال ، بل هو يعلم إمّا بصحة ما أتى به ، أو بوجوب القضاء عليه ، ومرجع هذا إلى الشكّ في وجوبٍ استقلاليٍّ جديدٍ وهو وجوب القضاء ، فتجري البراءة عنه حتى لو منعنا من البراءة في موارد دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا في الحالة الثانية فالتكليف فعليّ في الوقت ، غير أنّه متعلّق إمّا بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان ، أو بالصلاة التامّة فقط. والأول معناه اختصاص جزئية المنسيّ بغير حال النسيان ، والثاني معناه إطلاق الجزئية لحال النسيان ، والدوران بين وجوب الجامع ووجوب الصلاة التامة تعييناً هو من أنحاء الدوران بين الأقلّ والأكثر ، ويمثِّل الجامع فيه الأقلّ ، وتمثِّل الصلاة التامة الأكثر ، وتجري البراءة وفقاً للدوران المذكور.

ولكن قد يقال ـ كما في إفادات الشيخ الأنصاري (١) وغيره ـ بأنّ هذا إنمّا يصحّ فيما إذا كان بالإمكان أن يكلَّف الناسي بالأقلّ ، فإنّه يدور عنده أمر الواجب حينئذٍ بين الأقلّ والأكثر ، ولكنّ هذا غير ممكن ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ إن خُصِّص بالناسي فهو محال ؛ لأنّ الناسي لا يرى نفسه ناسياً ، فلا يمكن لخطابٍ موجّهٍ إلى الناسي أن يصل اليه. وإن جعل على المكلف عموماً شمل المتذكِّر أيضاً ، مع أنّ المتذكِّر لا يكفي منه الأقلّ بلا إشكال. وعليه فلا يمكن أن يكون الأقلّ واجباً في حقّ الناسي ، وإنّما المحتمل إجزاؤه عن الواجب ، فالواجب إذن في الأصل هو الأكثر ويشكّ في سقوطه بالأقلّ ، وفي مثل ذلك لا تجري البراءة.

والجواب : أنّ التكليف بالجامع يمكن جعله وتوجيهه إلى طبيعيّ المكلف ، ولا يلزم منه جواز اقتصار المتذكّر على الأقلّ ؛ لأنّه جامع بين الصلاة الناقصة

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ٢ : ٣٦٣ ، وكفاية الاصول : ٤١٨.

٤٤٧

المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة ، كما لا يلزم منه عدم إمكان الوصول إلى الناسي ؛ لأنّ موضوع التكليف هو طبيعيّ المكلف ، غاية ما في الأمر أنّ الناسي يرى نفسه آتياً بأفضل الحصّتين من الجامع ؛ مع أنّه إنّما تقع منه أقلّهما قيمة ، ولا محذور في ذلك.

وهذا الجواب أفضل ممّا ذكره عدد من المحقّقين (١) في المقام من حلِّ الإشكال وتصوير تكليف الناسي بالأقلّ بافتراض خطابين : أحدهما متكفّل بإيجاب الأقلّ على طبيعيّ المكلف ، والآخر متكفّل بإيجاب الزائد على المتذكِّر. إذ نلاحظ على ذلك : أنّ الأقلّ في الخطاب الأول هل هو مقيّد بالزائد ، أو مطلق من ناحيته ، أو مقيّد بلحاظ المتذكِّر ومطلق بلحاظ الناسي ، أو مهمل؟

والأول خلف ، إذ معناه عدم كون الناسي مكلَّفاً بالأقل. والثاني كذلك ؛ لأنّ معناه كون المتذكِّر مكلَّفاً بالأقل وسقوط الخطاب الأول بصدور الأقلّ منه.

والثالث رجوع إلى الخطاب الواحد الذي ذكرناه ، ومعه لا حاجة إلى افتراض خطابٍ آخر يخصّ المتذكِّر. والرابع غير معقول ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب والإيجاب فلا يمكن انتفاؤهما معاً.

وعلى هذا الأساس فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، فيلحقه حكمه من جريان البراءة عن الزائد. بل التدقيق في المقارنة يكشف عن وجود فارقٍ يجعل المقام أحقَّ بالبراءة من حالات الدوران المذكور ، وهو : أنّ العلم بالواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر قد يدّعى كونه في حالات الدوران المذكور علماً إجمالياً منجّزاً.

__________________

(١) منهم المحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ٤١٨ ، والمحقّق النائيني في فوائد الاصول ٤ : ٢١٤.

٤٤٨

وهذه الدعوى لَئِن قُبِلت في تلك الحالات فهناك سبب خاصّ يقتضي رفضها في المقام ، وعدم إمكان افتراض علمٍ إجماليٍّ منجِّزٍ هنا ، وهو : أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر في المقام إنمّا يحصل للناسي بعد ارتفاع النسيان ، والمفروض أنّه قد أتى بالأقلِّ في حالةالنسيان ، وهذا يعني أنّه يحصل بعد امتثال أحد طرفيه ، فهو نظير أن تعلم إجمالاً بوجوب زيارة أحد الإمامين بعد أن تكون قد زرت أحدهما ، ومثل هذا العلم الإجمالي غير منجِّزٍ بلا شكٍّ ؛ حتّى لو كان التردّد فيه بين المتباينين فضلاً عمّا اذا كان بين الأقل والأكثر. وخلافاً لذلك حالات الدوران الاعتيادية ، فإنّ التردّد فيها يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، فاذا تشكّل منه علم إجمالي كان منجِّزاً.

ب ـ الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر

إذا كان الجزء جزءاً حتى في حالة التعذّر كان معنى ذلك أنّ العاجز عن الكلّ المشتمل عليه لا يطالب بالناقص ، وإذا كان الجزء جزءاً في حالة التمكّن فقط فهذا يعني أنّه في حالة العجز لا ضرر من نقصه ، وأنّ العاجز يطالب بالناقص.

والتعذّر تارةً يكون في جزءٍ من الوقت ، واخرى يستوعبه.

ففي الحالة الاولى يحصل للمكلف علم إمّا بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامة ، أو بوجوب الصلاة التامة عند ارتفاع العجز ؛ لأنّ جزئية المتعذّر إن كانت ساقطةً في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالجامع ، وإلاّ كان متعلقاً بالصلاة التامة عند ارتفاع التعذّر ، وتجري البراءة حنيئذٍ عن وجوب الزائد وفقاً لحالات الدوران بين الأقلّ والأكثر.

ويلاحظ : أنّ التردّد هنا بين الأقلّ والأكثر يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، خلافاً لحال الناسي ؛ لأنّ العاجز عن الجزء يلتفت إلى حاله حين العجز.

٤٤٩

وفي الحالة الثانية يحصل للمكلف علم إجمالي إمّا بوجوب الناقص في الوقت ، أو بوجوب القضاء إذا كان للواجب قضاء ؛ لأنّ جزئية المتعذّر إن كانت ساقطةً في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالناقص في الوقت ، وإلاّ كان الواجب القضاء ، وهذا علم إجمالي منجِّز.

وليعلم : أنّ الجزئية في حال النسيان أو في حال التعذّر إنمّا تجري البراءة عند الشكّ فيها إذا لم يكن بالإمكان توضيح الحال عن طريق الأدلّة المحرزة ، وذلك بأحد الوجوه التالية :

أولاً : أن يقوم دليل خاصّ على إطلاق الجزئية أو اختصاصها ، من قبيل حديث «لا تُعاد الصلاة إلاّمن خمس ...» (١).

ثانياً : أن يكون لدليل الجزئية إطلاق يشمل حالة النسيان أو التعذّر فيؤخذ بإطلاقه ، ولا مجال حينئذٍ للبراءة.

ثالثاً : أن لا يكون لدليل الجزئية إطلاق ؛ بأن كان مجملاً من هذه الناحية وكان لدليل الواجب إطلاق يقتضي في نفسه عدم اعتبار ذلك الجزء رأساً ، ففي هذه الحالة يكون دليل الجزئية مقيِّداً لإطلاق دليل الواجب بمقداره ، وحيث إنّ دليل الجزئية لا يشمل حال التعذّر أو النسيان فيبقى إطلاق دليل الواجب محكَّماً في هاتين الحالتين ودالاًّ على عدم الجزئية فيهما.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣١٢ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث الأوّل ، وفيه بدل «خمس» : «خمسة».

٤٥٠

٣ ـ الاصول العمليّة ـ

الاستصحاب

أدلّة الاستصحاب.

الاستصحاب أصل أو أمارة؟

أركان الاستصحاب.

مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

عموم جريان الاستصحاب.

تطبيقات.

٤٥١
٤٥٢

أدلّة الاستصحاب

الاستصحاب قاعدة من القواعد الاصولية المعروفة ، وقد تقدم في الحلقة السابقة الكلام عن تعريفه والتمييز بينه وبين قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع (١).

والمهمّ الآن استعراض أدلّة هذه القاعدة ، ولمّا كان أهمّ أدلّتها الروايات فسنعرض في مايلي عدداً من الروايات التي استُدلّ بها على الاستصحاب كقاعدةٍ عامة :

[رواية النوم المبطل للوضوء :]

الرواية الاولى : رواية زرارة قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء». قلت : فإن حُرِّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من

__________________

(١) بحث الاصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنواني : تعريف الاستصحاب ، والتمييز بين الاستصحاب وغيره.

٤٥٣

ذلك أمر بيِّن ، وإلاّ فإنّه على يقينٍ من وضوئه ، ولاتنقض اليقين أبداً بالشكّ ، وإنمّا تنقضه بيقينٍ آخر» (١).

وتقريب الاستدلال : أنّه حكم ببقاء الوضوء مع الشكّ في انتقاضه تمسّكاً بالاستصحاب ، وظهور التعليل في كونه بأمرٍ عرفيٍّ مركوزٍ يقتضي كون الملحوظ فيه كبرى الاستصحاب المركوزة ، لا قاعدة مختصّة باب الوضوء ، فيتعيّن حمل اللام في اليقين والشكّ على الجنس ، لا العهد إلى اليقين والشكّ في باب الوضوء خاصّة. وقد تقدم في الحلقة السابقة (٢) تفصيل الكلام عن فقه فقرة الاستدلال وتقريب دلالتها وإثبات كلِّيتها ، فلاحظ.

[رواية دم الرعاف :]

الرواية الثانية : وهي رواية اخرى لزرارة كما يلي :

١ ـ قلت : أصاب ثوبي دم رعاف (أو غيره) أو شيء من منيّ ، فعلَّمت أثره إلى أن اصيب له (من) الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً ، وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : «تعيد الصلاة وتغسله».

٢ ـ قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : «تغسله وتعيد الصلاة».

٣ ـ قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أرَ شيئاً ، ثم صلّيت فرأيت فيه؟. قال : «تغسله ولا تعيد الصلاة». قلت : ولم ذلك؟ قال : «لأنّك كنت على يقينٍ من طهارتك ثمّ شككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٢) تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

٤٥٤

بالشكّ أبداً».

٤ ـ قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد اصابه ، ولم أدرِ أين هو فأغسله؟ قال : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقينٍ من طهارتك».

٥ ـ قلت : فهل عليَّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال : «لا ، ولكنّك إنمّا تريد أن تُذهِب الشكّ الذي وقع في نفسك».

٦ ـ قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضعٍ منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكَّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» (١).

وتشتمل هذه الرواية على ستة أسئلةٍ من الراوي مع أجوبتها ، وموقع الاستدلال ما جاء في الجواب على السؤال الثالث والسادس ، غير أنّا سنستعرض فقه الأسئلة الستّة وأجوبتها جميعاً ؛ لِمَا لذلك من دخلٍ في تعميق فهم موضعَي الاستدلال من الرواية.

ففي السؤال الأول يستفهم زرارة عن حكم مَن علم بنجاسة ثوبه ثمّ نسي ذلك وصلّى فيه وتذكّر الأمر بعد الصلاة ، وقد أفتى الإمام بوجوب إعادة الصلاة ؛ لوقوعها مع النجاسة المنسيّة ، وغسل الثوب.

وفي السؤال الثاني سأل عمَّن علم بوقوع النجاسة على الثوب ففحص ولم يشخِّص موضعه ، فدخل في الصلاة باحتمال أنّ عدم التشخيص مسوِّغ للدخول

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٢ ، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ، الحديث ٨. ووسائل الشيعة ٣ : ٤٧٧ ، الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

٤٥٥

فيها مع النجاسة ما دام لم يصبها بالفحص ، وقوله : «فطلبته ولم اقدر عليه» إنمّا يدلّ على ذلك ، ولا يدلّ على أنّه بعدم التشخيص زال اعتقاده بالنجاسة ، فإنّ عدم القدرة غير حصول التشكيك ، في الاعتقاد السابق ولا يستلزمه ، وقد أفتى الإمام بلزوم الغسل والإعادة ؛ لوقوع الصلاة مع النجاسة المعلومة إجمالاً.

وفي السؤال الثالث افترض زرارة أنّه ظنّ الإصابة ففحص فلم يجد ، فصلّى فوجد النجاسة ، فأفتى الإمام بعدم الإعادة ، وعلّل ذلك بأ نّه كان على يقينٍ من الطهاره فشكّ ، ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ.

وهذا المقطع هو الموضع الأول للاستدلال ، وفي بادئ الأمر يمكن طرح أربع فرضياتٍ في تصوير الحالة التي طرحت في هذا المقطع :

الفرضية الاولى : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص وعدم الوجدان ، وحصول القطع عند الوجدان بعد الصلاة بأنّ النجاسة هي نفس ما فحص عنه ولم يجده أوّلاً. وهذه الفرضية غير منطبقةٍ على المقطع جزماً ؛ لأنّها لا تشتمل على شكٍّ لا قبل الصلاة ولا بعدها ، مع أنّ الامام قد افترض الشكّ وطبَّق قاعدةً من قواعد الشكّ.

الفرضية الثانية : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص كما سبق ، والشكّ عند وجدان النجاسة بعد الصلاة في أنّها تلك ، أو نجاسة متأخّرة.

وهذه الفرضية تصلح لإجراء الاستصحاب فعلاً في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلف على يقينٍ من عدم النجاسة قبل ظنّ الإصابة فيستصحب. كما أنّها تصلح لإجراء قاعدة اليقين فعلاً في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلف كان على يقينٍ من الطهارة بعد الفحص وقد شكّ الآن في صحة يقينه هذا.

الفرضية الثالثة : عكس الفرضية السابقة ، بأن يفرض عدم حصول القطع بالعدم عند الفحص ، وحصول القطع عند وجدان النجاسة بأنّها ما فحص عنه. وفي

٤٥٦

مثل ذلك لا يمكن إجراء أيّ قاعدةٍ للشكّ فعلاً في ظرف السؤال ؛ لعدم الشكّ ، وإنمّا الممكن جريان الاستصحاب في ظرف الفحص والإقدام على الصلاة.

الفرضية الرابعة : عكس الفرضية الاولى ، بافتراض الشكّ حين الفحص وحين الوجدان. ولا مجال حينئذٍ لقاعدة اليقين ، إذ لم يحصل شكّ في خطأ يقينٍ سابق ، وهناك مجال لجريان الاستصحاب حال الصلاة وحال السؤال معاً.

ومن هنا يعرف أنّ الاستدلال بالمقطع المذكور على الاستصحاب موقوف على حمله على إحدى الفرضيّتين الأخيرتين ، أو على الفرضية الثانية مع استظهار إرادة الاستصحاب.

وفي السؤال الرابع سأل عن حالة العلم الإجمالي بالنجاسة في الثوب ، واجيب بلزوم الاعتناء والاحتياط.

وفي السؤال الخامس سأل عن وجوب الفحص عند الشكّ ، واجيب بالعدم.

وفي السؤال السادس يقع الموضع الثاني من الاستدلال بالرواية ، حيث إنّه سأل عمّا إذا وجد النجاسة في الصلاة ، فاجيب : بأ نّه إذا كان قد شكّ في موضعٍ منه ثمّ رآه قطع الصلاة وأعادها. وإذا لم يشكَّ ثمّ رآه رطباً غسله وبنى على صلاته ؛ لاحتمال عدم سبق النجس ، ولا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ.

ويحتمل أن يراد بالشِقِّ الأول صورة العلم الإجمالي ، وبالشِقِّ الثاني المبدوء بقوله : «وإن لم تشكَّ» صورة الشكّ البدوي.

ويحتمل أن يراد بالشِقِّ الأول صورة الشكّ البدوي السابق ، ثمّ وجدان نفس ما كان يشكّ فيه ، وبالشقِّ الثاني صورة عدم وجود شكٍّ سابقٍ ، ومفاجأة النجاسة للمصلّي في الأثناء. ولكلٍّ من الاحتمالين معزِّزات ، والنتيجة المفهومة واحدة على التقديرين ، وهي : أنّ النجاسة المرئيّة في أثناء الصلاة إذا علم بسبقها بطلت الصلاة ، وإلاّ جرى استصحاب الطهارة وكفى غسلها وإكمال الصلاة.

٤٥٧

وقد ادُّعي في كلمات الشيخ الأنصاري (١) وقوع التعارض بين هذه الفتوى في الرواية والفتوى الواقعة في جواب السؤال الثالث إذا حملت على الفرضية الثالثة ، إذ في كلتا الحالتين وقعت الصلاة في النجاسة جهلاً إمّا بتمامها ـ كما في مورد السؤال الثالث ـ أو بجزءٍ منها ، كما في مورد السؤال السادس ، فكيف حكم بصحة الصلاة في الأول وبطلانها في الثاني؟!

والجواب : أنّ كون النجاسة قد انكشفت وعلمت في أثناء الصلاة قد يكون له دخل في عدم العفو عنها ، فلا يلزم من العفو عن نجاسةٍ لم تعلم أثناء الصلاة العفو عن نجاسةٍ علمت كذلك.

هذا حاصل الكلام في فقه الرواية.

وأمّا تفصيل الكلام في موقعَي الاستدلال فيقع في مقامين :

المقام الأول : في الموقع الأول ، والكلام فيه في جهات :

الاولى : أنّ الظاهر من جواب الإمام تطبيق الاستصحاب ، لاقاعدة اليقين ؛ وذلك لأنّ تطبيق الإمام لقاعدةٍ على السائل متوقّف على أن يكون كلامه ظاهراً في تواجد أركان تلك القاعدة في حالته المفروضة ، ولا شكّ في ظهور كلام السائل في تواجد أركان الاستصحاب من اليقين بعدم النجاسة حدوثاً والشكّ في بقائها. وأمّا تواجد أركان قاعدة اليقين فهو متوقّف على أن يكون قوله : «فنظرت فلم أرَ شيئاً ...» مفيداً لحصول اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة بسبب الفحص وعدم الوجدان ، وأن يكون قوله : «فرأيت فيه» مفيداً لرؤية نجاسةٍ يشكّ في كونها هي المفحوص عنها سابقاً. مع أنّ العبارة الاولى ليست ظاهرةً عرفاً في افتراض حصول اليقين حتّى لو سلّمنا ظهور العبارة الثانية في الشكّ.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٦١.

٤٥٨

الجهة الثانية : أنّ الاستصحاب هل اجري بلحاظ حال الصلاة ، أو بلحاظ حال السؤال؟.

وتوضيح ذلك : أنّ قوله : «فرأيت فيه» إن كان ظاهراً في رؤية نفس ما فحص عنه سابقاً فلا معنى لإجراء الاستصحاب فعلاً ، كما أنّ قوله : «فنظرت فلم أرَ شيئاً» إذا كان ظاهراً في حصول اليقين بالفحص فلا معنى لجريانه حال الصلاة.

والصحيح : أنّه لا موجب لحمل قوله : «فرأيت فيه» على رؤية ما يعلم بسبقه ، فإنّ هذه عناية إضافية تحتاج إلى قرينةٍ عند تعلّق الغرض بإفادتها ، ولا قرينة ، بل حَذْفُ المفعول بدلاً عن جعله ضميراً راجعاً إلى النجاسة المعهود ذكرها سابقاً يشهد لعدم افتراض اليقين بالسبق.

وعليه فالاستصحاب جارٍ بلحاظ حال السؤال ، ويؤيّد ذلك أنّ قوله : «فنظرت فلم أر شيئاً» وإن لم يكن له ظهور في حصول اليقين ولكنّه ليس له ظهور في خلاف ذلك ؛ لأنّ إفادة حصوله بمثل هذا اللسان عرفية ، فكيف يمكن تحميل السائل افتراض الشكّ حال الصلاة وإفتاؤه بجريان الاستصحاب حينها؟!

وليس في مقابل تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال السؤال إلاّاستبعاد استغراب زرارة من الحكم بصحة الصلاة حينئذٍ ؛ لأنّ فرض ذلك هو فرض عدم العلم بسبق النجاسة ، فأيّ استبعادٍ في أن يحكم بعدم إعادة صلاةٍ لا يعلم بوقوعها مع النجاسة؟! فالاستبعاد المذكور قرينة على أنّ المفروض حصول اليقين للسائل بعد الصلاة بسبق النجاسة ، ومن هنا استغرب الحكم بصحتها ، وهذا يعني أنّ إجراء الاستصحاب إنمّا يكون بلحاظ حال الصلاة ، لا حال السؤال.

ولكن يمكن الردّ على هذا الاستبعاد : بأ نّه لا يمتنع أن يكون ذهن زرارة مشوباً بأنّ المسوِّغ للصلاة مع احتمال النجاسة الظنّ بعدمها الحاصل من الفحص ،

٤٥٩

وحيث إنّ هذا الظنّ يزول بوجدان النجاسة بعد الصلاة على نحوٍ يحتمل سبقها كان زرارة يترقّب أن لا يكتفى بالصلاة الواقعة.

فإن تمّ هذا الردّ فهو ، وإلاّ ثبت تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة ، ويصل الكلام حينئذٍ إلى الجهة الثالثة.

الجهة الثالثة : أنّا إذا افترضنا كون النجاسة المكشوفة معلومةَ السبق ، وأنّ الاستصحاب إنّما يجري بلحاظ حال الصلاة فكيف يستند في عدم وجوب الإعادة إلى الاستصحاب ، مع أنّه حكم ظاهريّ يزول بانكشاف خلافه ، ومع زواله وانقطاعه لا يمكن أن يرجع إليه في نفي الإعادة؟!

وقد اجيب على ذلك : تارةً بأنّ الاستناد إلى الاستصحاب في عدم وجوب الإعادة يصحّ إذا افترضنا ملاحظة كبرى مستترةٍ في التعليل ، وهي إجزاء امتثال الحكم الظاهري عن الواقع. واخرى بأنّ الاستناد المذكور يصحّ إذا افترضنا أنّ الاستصحاب أو الطهارة الاستصحابية بنفسها تحقِّق فرداً حقيقياً من الشرط الواقعي للصلاة ، بأن كان الشرط الواقعي هو الجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، إذ بناءً على ذلك تكون الصلاة واجدةً لشرطها حقيقةً.

الجهة الرابعة : أنّه بعد الفراغ عن دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب نقول : إنّه ظاهر في جعله على نحو القاعدة الكلّية ، ولا يصحّ حمل اليقين والشكّ على اليقين بالطهارة والشكّ فيها خاصّة ؛ لنفس ما تقدم من مبرِّرٍ للتعميم في الرواية السابقة ، بل هو هنا أوضح ؛ لوضوح الرواية في أنّ فقرة الاستصحاب وردت تعليلاً للحكم ، وظهور كلمة «لا ينبغي» في الإشارة إلى مطلبٍ مركوزٍ وعقلائي. وعلى هذا فدلالة المقطع المذكور على المطلوب تامة.

المقام الثاني : في الموقع الثاني من الاستدلال ، وهو قوله : «وإن لم تشكّ ...» في جواب السؤال السادس.

٤٦٠