دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

لطوليّتها ، وبعد ذلك تصل النوبة اليها بدون معارضٍ وفقاً لِمَا تقدم في الحالة الاولى من حالات الاستثناء من تعارض الاصول وتساقطها.

وهذا التقريب إذا تمّ يجري ، سواء اقترن العلم بالملاقاة مع العلم بنجاسة أحد المائعين أو تأخّر عنه ، فالتقريب الثاني إذن أوسع جرياناً من التقريب الأول.

وقد يقال : إنّ هناك بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، وذلك فيما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع الأول ، ثمّ علم بأنّ الثوب كان قد لاقى المائع الأول ففي هذه الحالة لا يجري التقريب الأول ؛ لأنّ العلم الإجمالي المتقدِّم ليس منجِّزاً ، لاختلال الركن الثالث فيه ، كما تقدم ، فلا يمكن أن يحول دون تنجيز العلم الإجمالي المتأخّر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر الموجود فعلاً. ولا يجري التقريب الثاني ؛ لأنّ الأصل المؤمِّن في المائع الأول لا معنى له بعد تلفه ، وهذا يعني أنّ الأصل في المائع الآخر له معارض واحد وهو الأصل المؤمِّن في الثوب ، فيسقطان بالتعارض.

ولكنّ الصحيح : أنّ التقريب الثاني يجري في هذه الحالة أيضاً ؛ لأنّ تلف المائع الأول لا يمنع عن استحقاقه لجريان أصل الطهارة فيه ما دام لطهارته أثر فعلاً ، وهو طهارة الثوب. فأصل الطهارة في المائع الأول ثابت في نفسه ويتولّى المعارضة مع الأصل في المائع الآخر في المرتبة السابقة ، ويجري الأصل في الثوب بعد ذلك بلا معارض.

٧ ـ الشبهة غير المحصورة :

إذا كثرت أطراف العلم الإجمالي بدرجةٍ كبيرةٍ سمّيت بالشبهة غير المحصورة. والمشهور بين الاصوليّين سقوطه عن المنجِّزية لوجوب الموافقة القطعية ، وهناك مَن ذهب الى عدم حرمة المخالفة القطعية.

٤٠١

ويجب أن نفترض عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثيرٍ في إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزية ، دون أن نُدخِل في الحساب ما قد يقارن افتراض الكثرة من امورٍ اخرى ، كخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

وعلى هذا الأساس يمكن أنّ نُقرِّب عدم وجوب الموافقة القطعية وجواز اقتحام بعض الأطراف بتقريبين :

التقريب الأول : أنّ هذا الاقتحام مستند الى المؤمِّن ، وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف المقتحَم ، إذ كلّما زادت أطراف العلم الإجمالي تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق في كلّ طرفٍ حتّى تصل الى درجةٍ يوجد على خلافها اطمئنان فعلي.

وقد استشكل المحقّق العراقي (١) وغيره باستشكالين على هذا التقريب :

أحدهما : محاولة البرهنة على عدم وجوب اطمئنانٍ فعليٍّ بهذا النحو ؛ لأنّ الأطراف كلّها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق ، ولو وجدت اطمئنانات فعلية بهذا النحو في كلّ الأطراف لكان ذلك مناقضاً للعلم الإجمالي بوجود النجس ـ مثلاً ـ في بعضها ؛ لأنّ السالبة الكلّية التي تتحصّل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة الجزئية التي يكشفها العلم الإجمالي.

والجواب على ذلك : أنّ الاطمئنانات المذكورة إذا أدّت بمجموعها إلى الاطمئنان الفعلي بالسالبة الكلّية فالمناقضة واضحة ، ولكنّ الصحيح أنّها لا تؤدّي الى ذلك ، فلا مناقضة.

وقد تقول : كيف لا تؤدّي الى ذلك؟ أليس الاطمئنان ب «ألف» والاطمئنان ب «باء» يؤدّيان حتماً الى الاطمئنان بمجموع «الألف والباء»؟! وكقاعدةٍ عامّةٍ

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٢٤٢.

٤٠٢

أنّ كلّ مجموعةٍ من الإحرازات تؤدّي الى إحراز مجموعة المتعلقات ووجودها جميعاً بنفس تلك الدرجة من الإحراز.

ونجيب على ذلك :

أولاً بالنقض ، وتوضيحه : أنّ من الواضح وجود احتمالاتٍ لعدم انطباق المعلوم الإجمالي بعدد أطراف العلم الإجمالي ، وهذه الاحتمالات والشكوك فعلية بالوجدان ، ولكنّها مع هذا لا تؤدّي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فاذا صحّ أنّ «ألف» محتمل فعلاً و «باء» محتمل فعلاً ، ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع «الف» و «باء» فيصحّ أن يكون كلّ منهما مطمئنّاً به ، ولا يكون المجموع مطمئنّاً به.

وثانياً بالحلّ ، وهو : أنّ القاعدة المذكورة إنمّا تصدق فيما إذا كان كلّ من الإحرازين يستبطن ـ إضافةً إلى إحراز وجود متعلّقه فعلاً ـ إحراز وجوده على تقدير وجود متعلّق الإحراز الآخر على نهج القضية الشرطية ، فمن يطمئنّ بأنّ «الف» موجود حتّى على تقدير وجود «باء» أيضاً ، وأنّ «باء» موجود أيضاً حتّى على تقدير وجود «ألف» فهو مطمئنّ حتماً بوجود المجموع.

وفي المقام : الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أيّ طرفٍ وإن كان موجوداً فعلاً ولكنّه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتّى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر.

والسبب في ذلك : أنّ هذا الاطمئنان إنّما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في الأطراف الاخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف ، فتلك الاحتمالات إذن هي الأساس في تكوّن الاطمئنان ، فلا مبرِّر إذن للاطمئنان بعدم الانطباق على طرفٍ عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر ؛ لأنّ هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الأساس في

٤٠٣

تكوّن الاطمئنان بعدم الانطباق.

وأمّا الاستشكال الآخر فيتّجه ـ بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور ـ إلى أنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لمَّا كان موجوداً في كلّ طرفٍ فالاطمئنانات معارضة في الحجّية والمعذّرية ؛ للعلم الاجمالي بأنّ بعضها كاذب ، والتعارض يؤدّي الى سقوط الحجّية عن جميع تلك الاطمئنانات.

والجواب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي بكذب بعض الأمارات إنمّا يؤدّي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجّية لأحد سببين :

الأول : أن يحصل بسبب ذلك تكاذب بين نفس الأمارات ، فيدلّ كلّ واحدةٍ منها بالالتزام على وجود الكذب في الباقي ، ولا يمكن التعبّد بحجّية المتكاذبَين.

الثاني : أن تؤدّي حجّية تلك الأمارات ـ والحالة هذه ـ إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.

وكلا السببين غير متوفّرٍ في المقام.

أمّا الأول فلأنّ كلّ اطمئنانٍ لا يوجد ما يكذِّبه بالدلالة الالتزامية ؛ لأنّنا إذا أخذنا أيَّ اطمئنانٍ آخر معه لم نجد من المستحيل أن يكونا معاً صادقَين ، فلماذا يتكاذبان؟ وإذا أخذنا مجموعة الاطمئنانات الاخرى لم نجد تكاذباً أيضاً ؛ لأنّ هذه المجموعة لا تؤدّي إلى الاطمئنان بمجموع متعلقاتها ، أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الأطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها ؛ وذلك لِمَا برهنَّا عليه من أنّ كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان الاطمئنان بالقضية الشرطية لا يؤدّي اجتماعهما إلى الاطمئنان بالمجموع ، والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل ، كما عرفت.

وأمّا الثاني فلأنّ الترخيص في المخالفة القطعية إنّما يلزم لو كان دليل حجّية

٤٠٤

هذه الاطمئنانات يقتضي الحجّية التعيينية لكلّ واحدٍ منها ، غير أنّ الصحيح : أنّ مفاده هو الحجّية التخييرية ؛ لأنّ دليل الحجّية هنا هو السيرة العقلائية ، وهي منعقدة على الحجّية بهذا المقدار.

التقريب الثاني : أنّ الركن الرابع من أركان التنجيز المتقدِّمة مختلّ ؛ وذلك لأنّ جريان الاصول في كلّ أطراف العلم الإجمالي لا يؤدّي إلى فسح المجال للمخالفة القطعية عملياً والإذن فيها ؛ لأنّنا نفترض كثرة الأطراف بدرجةٍ لا تُتيح للمكلف اقتحامها جميعاً ، وفي مثل ذلك تجري الاصول جميعاً بدون معارضة.

وهذا التقريب متّجه على أساس الصيغة الأصلية التي وضعناها للركن الرابع فيما تقدم ، وأمّا على أساس صياغة السيّد الاستاذ له السالفة الذكر فلا يتمّ ؛ لأنّ المحذور في صياغته الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ، وهو حاصل من جريان الاصول في كلّ الأطراف ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها. ومن هنا يظهر أنّ الثمرة بين الصيغتين المختلفتين للركن الرابع تظهر في تقويم التقريب المذكور إثباتاً ونفياً.

غير أنّ السيّد الاستاذ (١) حاول أن ينقض على من يستدلّ بهذا التقريب ، وحاصل النقض : أنّ الاحتياط إذا كان غير واجبٍ في الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلف على المخالفة القطعية يلزم عدم وجوب الاحتياط في كلّ حالةٍ تتعذّر فيها المخالفة القطعية ولو كان العلم الإجمالي ذا طرفين أو أطرافٍ قليلة ، حيث تجري الاصول جميعاً ولا يلزم منها الترخيص عملياً في المخالفة القطعية.

ومثاله : أن يعلم إجمالاً بحرمة المكث في آنٍ معيَّنٍ في أحد مكانين ، مع أنّ

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٧٤.

٤٠٥

القائلين بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك في نظائر هذا المثال.

والتحقيق : أنّ الصيغة الأصلية للركن الرابع يمكن أن توضّح بأحد بيانين :

البيان الأول : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعية يجعل جريان الاصول في جميع الأطراف ممكناً ؛ لأنّه لا يؤدّي ـ والحالة هذه ـ إلى الترخيص عملياً في المخالفة القطعية ؛ لأنّها غير ممكنةٍ حتى يتصور الترخيص فيها. وهذا البيان ينطبق على كلّ حالات العجز عن المخالفة القطعية ؛ ولذلك يعتبر النقض وارداً عليه.

إلاّأنّ البيان المذكور غير صحيح ؛ لأنّ المحذور في جريان الاصول في جميع أطراف العلم الإجمالي هو : أنّ تقديم المولى لأغراضه الترخيصية على أغراضه اللزومية الواصلة بالعلم الإجمالي على خلاف المرتكز العقلائي ، كما تقدم توضيحه سابقاً (١) ، ومن الواضح أنّ شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف يعني ذلك ، ومجرّد اقترانه صدفةً بعجز المكلف عن المخالفة القطعية لا يغيِّر من مفاد الدليل ، فالارتكاز العقلائي إذن حاكم بعدم الشمول كذلك.

البيان الثاني : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعية إذا نشأ من كثرة الأطراف أدّى إلى إمكان جريان الاصول فيها جميعاً ، إذ في غرضٍ لزوميٍّ واصلٍ كذلك ـ بوصولٍ مردّدٍ بين أطرافٍ بالغةٍ هذه الدرجة من الكثرة ـ لا يرَى العقلاء محذوراً في تقديم الأغراض الترخيصية عليه ؛ لأنّ التحفّظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراضٍ ترخيصيةٍ كثيرة ، ومعه لا يبقى مانع عن شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف.

__________________

(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ضمن مباحث حجّية القطع ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

٤٠٦

وهذا هو البيان الصحيح للركن الرابع ، وهو يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، ولا يرد عليه النقض.

وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، غير أنّهما يختلفان في بعض الجهات ، فالتقريب الأوّل ـ مثلاً ـ يتمّ حتّى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل مؤمِّن ؛ لأنّ التأمين فيه مستند إلى الاطمئنان ، لا إلى الأصل ، بخلاف التقريب الثاني ، كما هو واضح.

٨ ـ إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور :

قد يفرض أنّ ارتكاب الواقعة غير مقدورٍ ويعلم إجمالاً بحرمتها أو حرمة واقعةٍ اخرى مقدورة ، وفي مثل ذلك لا يكون العلم الإجمالي منجِّزاً.

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّ القدرة تارةً تنتفي عقلاً ، كما إذا كان المكلف عاجزاً عن الارتكاب حقيقةً ، واخرى تنتفي عرفاً ، بمعنى أنّ الارتكاب فيه من العنايات المخالفة للطبع والمتضمّنة للمشقّة ما يضمن انصراف المكلف عنه ، ويجعله بحكم العاجز عنه عرفاً وإن لم يكن عاجزاً حقيقةً ، كاستعمال كأسٍ من حليبٍ في بلدٍ لا يصل اليه عادة ، ويسمّى هذا العجز العرفي بالخروج عن محلّ الابتلاء.

فإن حصل علم إجمالي بنجاسة أحد مائعين ـ مثلاً ـ وكان أحدهما ممّا لا يقدر المكلف عقلاً على الوصول اليه فالعلم الإجمالي غير منجِّز. ويقال في تقريب ذلك عادةً : إنّ الركن الأول منتفٍ ؛ لعدم وجود العلم بجامع التكليف ؛ لأنّ النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر المكلف على ارتكابه فليس موضوعاً للتكليف الفعلي ؛ لأنّ التكليف الفعلي مشروط بالقدرة ، فلا علمَ إجماليٌّ بالتكليف الفعلي إذن.

٤٠٧

وكأنّ أصحاب هذا التقريب جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه ، فكما لا ينجِّز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرفٍ معيَّنٍ منه ـ على ما مرّ في الحالة الثانية ـ كذلك لا ينجّز مع الاضطرار العقلي إلى تركه ؛ لأنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وكلّ من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف ثابتاً على كلّ تقدير.

والتحقيق : أنّ الاضطرارين يتّفقان في نقطةٍ ويختلفان في اخرى ، فهما يتّفقان في عدم صحة توجّه النهي والزجر معهما ، فكما لا يصحّ أن يزجر المضطرّ إلى شرب المائع عن شربه كذلك لا يصحّ أن يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعني أنّه لا علمَ إجماليٌّ بالنهي في كلتا الحالتين.

ولكنّهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضية ، فإنّ الاضطرار إلى الفعل يشكِّل حصّةً من وجود الفعل مغايرةً للحصّة التي تصدر من المكلف بمحض اختياره ، فيمكن أن يفترض أنّ الحصّة الواقعة عن اضطرارٍ كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضية فيها ، وإنمّا المفسدة والمبغوضية في الحصّة الاخرى.

وأمّا الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكِّل حصّةً خاصّةً من وجود الفعل على النحو المذكور ، فلا معنى لافتراض أنّ الفعل غير (١) المقدور للمكلف ليس واجداً لمبادئ الحرمة ، وأ نّه لا مفسدة فيه ولا مبغوضية ، إذ من الواضح أنّ فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقّق المبغوض ، فكم فرق بين من هو مضطرّ إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن أكله لوجوده في مكانٍ بعيدٍ عنه؟ فأكل لحم الخنزير على اضطرارٍ اليه قد لا يكون فيه

__________________

(١) كلمة (غير) ساقطة في الطبعة الاولى ولكنّها موجودة في النسخة الخطيّة الواصلة إلينا.

٤٠٨

مبادئ النهي أصلاً ، فيقع من المضطرّ بدون مفسدةٍ ولا مبغوضية. وأمّا أكل لحم الخنزير البعيد عن المكلف فهو واجد للمفسدة والمبغوضية لا محالة. وعدم النهي عنه ليس لأنّ وقوعه لا يساوق الفساد ، بل لأنّه لا يمكن أن يقع.

ونستخلص من ذلك : أنّ مبادئ النهي يمكن أن تكون منوطةً بعدم الاضطرار إلى الفعل ، ولكن لا يمكن أن تكون منوطةً بعدم العجز عن الفعل.

وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ كما في الحالة الثانية المتقدمة ـ يمكن القول بأ نّه لا علمَ إجماليٌّ بالتكليف ، لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه.

وأمّا في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ كما في المقام ـ فالنهي وإن لم يكن ثابتاً على كلّ تقديرٍ ولكنّ مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالاً على كلّ حال ، فالركن الأول ثابت ؛ لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف يشمل العلم الإجمالي بمبادئه.

ويجب أن يفسَّر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الاولى ، حيث إنّ الأصل المؤمِّن في الطرف المقدور يجري بلا معارض ، إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور ؛ لأنّ إطلاق العنان تشريعاً في مورد تقيّد العنان تكويناً لا محصّل له. وإمّا بصيغته الثانية ، حيث إنّ العلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّ التنجيز هو الدخول في العهدة عقلاً ، والطرف غير المقدور لا يعقل دخوله في العهدة.

هذا كلّه فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدور. وأمّا إذا كان خارجاً عن محلّ الابتلاء فقد ذهب المشهور إلى عدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الحالة ، واستندوا إلى أنّ الدخول في محلّ الابتلاء شرط في التكليف ، فلا علمَ إجماليٌّ بالتكليف في الحالة المذكورة. فالعجز العقلي عن ارتكاب الطرف

٤٠٩

وخروجه عن محلّ الابتلاء يمنعان معاً عن تنجيز العلم الإجمالي بملاكٍ واحدٍ عندهم.

وقد عرفت أنّ التقريب المذكور غير صحيحٍ في العجز العقلي ، فبطلانه في الخروج عن محلّ الابتلاء أوضح. بل الصحيح : أنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطاً في التكليف بمعنى الزجر ، فضلاً عن المبادئ ، إذ ما دام الفعل ممكن الصدور من الفاعل المختار فالزجر عنه معقول.

فإن قيل : ما فائدة هذا الزجر مع أنّ عدم صدوره مضمون لبعده وصعوبته؟

كان الجواب : أنّه يكفي فائدةً للزجر تمكين المكلّف من التعبّد بتركه.

فالأفضل أن يفسّر عدم تنجيز العلم الإجمالي مع خروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء باختلال الركن الثالث ؛ لأنّ أصل البراءة لا يجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه ؛ لأنّ الأصل العملي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزومية والترخيصية ، والعقلاء لا يرون تزاحماً من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ؛ بل يرون الغرض اللزوميّ المحتمل مضموناً بحكم الخروج عن محلّ الابتلاء بدون تفريطٍ بالغرض الترخيصي ، فالأصل المؤمِّن في الطرف الآخر يجري بلا معارض.

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيّات :

إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي تكليفاً فعلياً والطرف الآخر تكليفاً منوطاً بزمانٍ متأخِّرٍ سمّي هذا العلم بالعلم الإجمالي بالتدريجيّات. ومثاله : علم المرأة إجمالاً ـ إذا ضاعت عليها أيام العادة ـ بحرمة المكث في المسجد في بعض الأيام من الشهر.

٤١٠

وقد استشكل بعض (١) الاصوليّين في تنجيز هذا العلم الإجمالي ، ويستفاد من كلماتهم إمكان تقريب الاستشكال بوجهين :

الأول : أنّ الركن الأول مختلّ ؛ لأنّ المرأة في بداية الشهر لا علم إجمالي لها بالتكليف الفعلي ؛ لأنّها : إمّا حائض فعلاً فالتكليف فعلي ، وإمّا ستكون حائضاً في منتصف الشهر ـ مثلاً ـ فلا تكليف فعلاً ، فلا علم بالتكليف فعلاً على كلّ تقدير ، وبذلك يختلّ الركن الأول.

الثاني : أنّ الركن الثالث مختلّ ، أمّا اختلاله بصيغته الاولى فتقريبه : أنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل حرمة المكث فعلاً ، وتحتمل حرمة المكث في منتصف الشهر مثلاً ، ولمَّا كانت الحرمة الاولى محتمَلةً فعلاً ومشكوكةً فهي مورد للأصل المؤمِّن ، وأمّا الحرمة الثانية فهي وإِن كانت مشكوكةً ولكنّها ليست مورداً للأصل المؤمِّن فعلاً في بداية الشهر ، إذ لا يحتمل وجود الحرمة الثانية في أوّل الشهر ، وإنّما يحتمل وجودها في منتصفه ، فلا تقع مورداً للأصل المؤمِّن إلاّفي منتصف الشهر ، وهذا يعني أنّ المرأة في بداية الشهر تجد الأصل المؤمِّن عن حرمة المكث فعلاً جارياً بلا معارض ، وهو معنى عدم التنجيز.

وأمّا اختلاله بصيغته الثانية فلأنّ الحرمة المتأخِّرة لا تصلح أن تكون منجَّزةً في بداية الشهر ؛ لأنّ تنجّز كلّ تكليفٍ فرع ثبوته وفعليته ، ففي بداية الشهر لا يكون العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ تقدير.

والصحيح : أنّ الركن الأوّل والثالث كلاهما محفوظان في المقام. أمّا الركن الأوّل فلأنّ المقصود بالفعلية في قولنا : «العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي» ليس وجود التكليف في هذا الآن ، بل وجوده فعلاً في عمود الزمان ؛ احترازاً

__________________

(١) منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الاصول ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٤١١

عمّا إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر ، فإنّه في مثل ذلك لا علم بتكليفٍ فعليٍّ ولو في زمان. فالجامع بين تكليفٍ في هذا الآن وتكليفٍ يصبح فعلياً في آنٍ متأخِّرٍ لا يقصر ـ عقلاً ـ وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن ؛ لأنّ مولوية المولى لا تختصّ بهذا الآن ، كما هو واضح.

وأمّا الركن الثالث بصيغته الاولى فلأنّ الأصل المؤمِّن الذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي يعارض (١) بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخِّر في ظرفه ، إذ ليس التعارض بين أصلين من قبيل التضادِّ بين لونَين يشترط في حصوله وحدة الزمان ، بل مردّه إلى العلم بعدم إمكان شمول دليل الأصل لكلٍّ من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زماناً ، وحيث لا مرجِّح للأخذ بدليل الأصل في طرفٍ دون طرفٍ فيتعارض الأصلان.

وأمّا الصيغة الثانية للركن الثالث فلأنّ المقصود من كون العلم الإجمالي صالحاً لمنجِّزية معلومه على كلّ تقديرٍ : كونه صالحاً لذلك ولو على امتداد الزمان ، لا في خصوص هذا الآن.

وهكذا يتّضح أنّ الشبهات التي حامت حول تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات موهونة جدّاً ، غير أنّ جماعةً من الاصوليّين وقعوا تحت تأثيرها.

فذهب بعضهم (٢) إلى عدم التنجيز ورخّص في ارتكاب الطرف الفعلي ما دام الطرف الآخر متأخِّراً.

__________________

(١) كلمة (يعارض) ساقطة في الطبعة الاولى ، ولكنّها موجودة في النسخة الخطيّة الواصلةإلينا.

(٢) منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الاصول ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٤١٢

وذهب البعض الآخر إلى عدم الترخيص بإبراز علمٍ إجماليٍّ بالجامع بين طرفين فعليَّين ، كالمحقّق العراقي (١) ، إذ أجاب على شبهات عدم التنجيز بوجود علمٍ إجماليٍّ آخر غير تدريجيِّ الأطراف.

وتوضيحه : أنّ التكليف إذا كان في القطعة الزمانية المعاصرة فهو تكليف فعلي. وإذا كان في قطعةٍ زمانيةٍ متأخِّرةٍ فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلي ؛ لِما يعرف من مسألة وجوب المقدّمات المفوِّتة من عدم جواز تضييع الإنسان لقدرته قبل مجيء ظرف الواجب ، وهكذا يعلم إجمالاً بالجامع بين تكليفين فعليّين فيكون منجّزاً.

ونلاحظ على هذا :

أولاً : أنّ التنجيز ليس بحاجةٍ إلى إبراز هذا العلم الإجمالي ؛ لِمَا عرفت من تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات.

وثانياً : أنّ وجوب حفظ القدرة إنمّا هو بحكم العقل ، كما تقدم في مباحث المقدّمة المفوِّتة ، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليفٍ فرع تنجّز ذلك التكليف ، فلابدّ في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجِّزٍ للتكليف الآخر ، ولا منجِّز له كذلك إلاّالعلم الإجمالي في التدريجيّات.

وثالثاً : أنّ المنجِّز إذا كان هو العلم الإجمالي بالجامع بين التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة لامتثال التكليف المتأخّر فهو لا يفرض سوى عدم تفويت القدرة ، وأمّا تفويت ما يكلَّف به في ظرفه المتأخّر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الإجمالي ، وإنّما يتعيّن تنجّز المنع عنه بنفس العلم الإجمالي في التدريجيات ، وهو إن كان منجِّزاً لذلك ثبت تنجيزه لكلا طرفيه.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٤١٣

١٠ ـ الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي :

قد يكون الطرفان للعلم الإجمالي طوليَّين ، بأن كان أحد التكليفين مترتّباً على عدم الآخر ، من قبيل أن نفرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب وفاء الدين وعلم إجمالاً بأحد الأمرين ، وهذا له صورتان :

الاولى : أن يكون وجوب الحجّ مترتّباً على مطلق التأمين عن وجوب وفاء الدين ولو بالأصل.

الثانية : أن يكون وجوب الحجّ مترتّباً على عدم وجوب وفاء الدين واقعاً.

أمّا الصورة الاولى فليس العلم الإجمالي منجِّزاً فيها بلا ريب ؛ لانهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل المؤمِّن عن وجوب وفاء الدين يجري ولا يعارضه الأصل المؤمِّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ وجوب الحجّ يصبح معلوماً بمجرّد إجراء البراءة عن وجوب الوفاء ، فلا موضوع للأصل فيه.

فإن قيل : هذا يتمّ بناءً على إنكار علِّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، واستناد عدم جريان الأصل في بعض الأطراف إلى التعارض ، فما هو الموقف بناءً على علِّية العلم الإجمالي واستحالة جريان الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ولو لم يكن له معارض؟

والجواب : أنّ هذه الاستحالة إنّما هي باعتبار العلم الإجمالي ، ويستحيل في المقام أن يكون العلم الإجمالي مانعاً عن جريان الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء ؛ لأنّه متوقّف على عدم جريانه ، إذ بجريانه يحصل العلم التفصيلي بوجوب الحجّ وينحلّ العلم الإجمالي ، وما يتوقّف على عدم شيءٍ يستحيل أن يكون مانعاً عنه ، فالأصل يجري إذن حتّى على القول بالعلِّية.

٤١٤

وأمّا الصورة الثانية فيجري فيها أيضاً الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء ، ولا يعارض بالأصل المؤمِّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ ذلك الأصل ينقِّح بالتعبّد موضوع وجوب الحجّ ، فيعتبر أصلاً سببياً بالنسبة إلى الأصل المؤمِّن عن وجوب الحجّ ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبَّبي.

وهكذا نعرف أنّ حكم الصورتين عملياً واحد ، ولكنّهما يختلفان في أنّ الأصل في الصورة الاولى بجريانه في وجوب الوفاء يحقِّق موضوع وجوب الحجّ وجداناً ، ويوجب انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ، ومن هنا كان وجود العلم الإجمالي متوقّفاً على عدم جريانه ، كما عرفت. وأمّا في الصورة الثانية فلا يحقّق ذلك ؛ لأنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب الوفاء واقعاً ، وهو غير محرزٍ وجداناً ، وإنّما يثبت تعبّداً بالأصل دون أن ينشأ علم تفصيلي بوجوب الحجّ. ولهذا لا يكون جريان الأصل في الصورة الثانية موجباً لانحلال العلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون وجود العلم الإجمالي متوقّفاً على عدم جريانه.

ومن أجل ذلك قد يقال هنا بعدم جريان الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء على القول بالعلّية ؛ لأنّ مانعية العلم الإجمالي عن جريانه ممكنة ؛ لعدم توقّف العلم الإجمالي على عدم جريانه.

وهناك فارِق آخر بين الصورتين ، وهو : أنّه في الصورة الاولى يجري الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء (١) ، سواء كان تنزيلياً أوْ لا ، ويحقّق ـ على أيّ حالٍ ـ موضوع وجوب الحجّ وجداناً. وأمّا في الصورة الثانية فإنّما يجري إذا كان تنزيلياً ، بمعنى أنّ مفاده التعبّد بعدم التكليف المشكوك واقعاً ؛ وذلك لأنّ الأصل

__________________

(١) في الطبعة الاولى والنسخة الخطيّة الواصلة إلينا : «وجوب الحجّ» بدلاً عن «وجوب الوفاء» ولكنّ الصحيح ما أثبتناه ، كما يظهر بالتأمّل.

٤١٥

التنزيلي هو الذي يحرز لنا تعبّداً موضوع وجوب الحجّ ، فيكون بمثابة الأصل السببي بالنسبة إلى الأصل المؤمِّن عن وجوب الحجّ ، وأمّا الأصل العمليّ البحت فلا يثبت به تعبّداً العدم الواقعي لوجوب الوفاء ، فلا يكون حاكماً على الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بل معارضاً.

تلخيص للقواعد الثلاث :

خرجنا حتّى الآن بثلاث قواعد : فالقاعدة العملية الاولى قاعدة عقلية ، وهي أصالة الاشتغال على مسلك حقّ الطاعة ، والبراءة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والقاعدة العملية الثانية الحاكمة هي البراءة الشرعية.

والقاعدة العملية الثالثة منجِّزية العلم الإجمالي ، أي تنجّز الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي وعدم جريان البراءة عنه.

٤١٦

٣ ـ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ

الوظيفة

عندالشكّ في الوجوب والحرمة معاً

الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة.

دوران الأمر بين المحذورين.

٤١٧
٤١٨

حتّى الآن كنّا نتكلّم عن الشكّ في التكليف ، وما هي الوظيفة العملية المقرّرة فيه عقلاً أو شرعاً ، سواء كان شكّاً بدوياً أو مقروناً بالعلم الإجمالي ، إلاّ أنّنا كنّا نقصد بالشكّ في التكليف : الشكّ الذي يستبطن احتمالين فقط ، وهما : احتمال الوجوب ، واحتمال الترخيص. أو احتمال الحرمة ، واحتمال الترخيص.

والآن نريد أن نعالج الشك الذي يستبطن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة معاً.

وهذا الشكّ تارةً يكون بدوياً ، أي مشتملاً على احتمالٍ ثالثٍ للترخيص أيضاً.

واخرى يكون مقروناً بالعلم الإجمالي بالجامع بين الوجوب والحرمة ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر بين المحذورين.

فهنا مبحثان ، كما يأتي إن شاء الله تعالى :

١ ـ الشكّ البدويّ في الوجوب والحرمة :

الشك البدويّ في الوجوب والحرمة : هو الشكّ المشتمل على احتمال الوجوب ، واحتمال الحرمة ، واحتمال الترخيص ، وسندرس حكمه بلحاظ الأصل العملي العقلي ، وبلحاظ الأصل العملي الشرعي.

٤١٩

أمّا باللحاظ الأول فعلى مسلك قبح العقاب بلا بيانٍ لا شكّ في جريان البراءة عن كلٍّ من الوجوب والحرمة ، وعلى مسلك حقّ الطاعة يكون كلّ من الاحتمالين منجّزاً في نفسه ، ولكنّهما يتزاحمان في التنجيز ؛ لاستحالة تنجيزهما معاً ، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فتبطل منجّزيتهما معاً وتجري البراءة أيضاً.

وأمّا باللحاظ الثاني فأدلّة البراءة الشرعية شاملة للمورد بإطلاقها ، وعليه فالفارق بين هذا الشكّ وما سبق من شكٍّ : أنّ هذا مورد للبراءة عقلاً وشرعاً معاً حتّى على مسلك حقّ الطاعة ، بخلاف الشكّ المتقدم.

٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين :

وهو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي بجنس الإلزام ، وتوضيح الحال فيه :

أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجِّزاً ؛ لأنّ تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية غير ممكن ؛ لأنّها غير مقدورة ، وتنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ممتنع أيضاً ؛ لأنّها غير ممكنة ، وتنجيزه لأحد التكليفين المحتملين بالخصوص دون الآخر غير معقول ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي اليهما نسبة واحدة. وبهذا يتبرهن عدم كون العلم الإجمالي منجِّزاً.

ولكن هل تجري البراءة العقلية والشرعية عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة ، أوْ لا؟ سؤال اختلف الاصوليون في الإجابة عليه.

فهناك من قال بجريانها (١) ، إذ ما دام العلم الإجمالي غير منجِّزٍ فلا يمكن أن يكون مانعاً عن جريان البراءة عقلاً وشرعاً.

__________________

(١) منهم السيد الخوئي قدس‌سره كما في مصباح الاصول ٢ : ٣٢٨.

٤٢٠