تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وفي هذه السنة ، عرض لكريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق ، وزير شمس الملوك ، مرض حاد ، لم يزل به إلى أن توفي إلى رحمة الله في يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة منها ، فحزن له الناس وتفجعوا بوفاته ، وتأسفوا عليه لحسن طريقته ، ومشكور أفعاله ، وحميد خلاله ، وكان محبا للخير متمسكا بالدين ، مواظبا على تلاوة القرآن العظيم.

وفي صفر من السنة نهض صاحب بيت المقدس ملك الافرنج في خيله ، إلى أطراف أعمال حلب ، ووصل الى موضع يعرف (١) بنواز ، فنهض إليه الأمير سوار النائب في حلب في عسكر حلب ، وما انضاف إليه من التركمان ، فالتقوا وتحاربوا أياما ، وتطاردوا إلى أن وصلوا الى أرض قنسرين ، فحمل الأفرنج عليهم فكسروهم كسرة عظيمة ، قتلوا فيها من المسلمين تقدير مائة فارس ، فيهم جماعة من المقدمين المشهورين المذكورين (٢) ، وقتل من الأفرنج أكثر من ذلك ، ووصل الفل إلى حلب ، وتم الأفرنج إلى قنسرين ، ثم الى المقاومة (٣) ثم الى نقرة الأحرين (٤) فعاود الأمير سوار النهوض اليهم من حلب في من بقي من العسكر والأتراك فلقوا فريقا من الأفرنج فأوقعوا به وكسروه وقتلوا منه تقدير مائة فارس فانكفت الافرنج هزيما نحو بلادهم وعاد المسلمون برؤوس القتلى والقلائع إلى حلب فانجلت تلك الغمة بتسهل هذه النعمة ، ووصل الملك إلى أنطاكية.

وانتهى الى (١٣٢ ظ) سوار خبر [غارة](٥) خيل الرها ، فنهض الأمير

__________________

(١) في ياقوت هي إحدى قرى جبل السماق من أعمال حلب.

(٢) ذكر بعضهم ابن العديم في زبدة الحلب : ٢ / ٢٥٢.

(٣) كذا بالأصل ولم أهتد الى هذا الموقع.

(٤) كذا بالأصل ، والنقرة موقع خارج حلب ، وقد اكتفى ابن العديم في زبدة الحلب : ٢ / ٢٥٢ بالقول : «وتحول الفرنج الى النقرة فصابحهم سوار والعسكر فأوقعوا بسرية منهم ، فقتلوهم وعادوا برؤوسهم وأسرى منهم».

(٥) أضيف ما بين الحاصرتين توضيحا ، انظر زبدة الحلب : ٢ / ٢٥٢.

٣٨١

سوار وحسان البعلبكي ، فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال ، وأسروا من وقع في أيديهم حيا ، وعادوا الى حلب ظافرين سالمين ، ومعهم الأسرى والرؤوس.

سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

وفي هذه السنة نهض شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك في عسكره الى شقيف تيرون (١) الذي في الجبل المطلّ على ثغر بيروت وصيدا ، فملكه وانتزعه من يد الضحاك بن جندل التيمي ، المتغلب عليه في يوم الجمعة لست بقين من المحرم منها.

وفي هذه السنة خرج شمس الملوك الى المتصيد ، أواخر شهر ربيع الآخر ، بناحية صيدنايا (٢) وعسال ، فلما كان يوم الثلاثاء التاسع منه ، وقد انفرد من غلمانه وخواصه ، وثب عليه أحد مماليك جده ظهير الدين أتابك ، من الأتراك يعرف بايلبا ، وقد وجد منه خلوة وفرصة بالسيف وضربه ضربة هائلة يريد بها قطع رأسه ، فقضى الله تعالى بالسلامة ، فانقلب السيف في يده ولم يعمل شيئا ، ورمى بنفسه الى الأرض في الحال ، وضربه ثانية فوقعت في عنق الفرس ، فأتلفه ، وحال بينه وبينه الفرس الى أن تكاثر عليه الغلمان ، وتوافوا إليه فانهزم وأنهض في إثره من الخيل من يقفوه ويطلبه ويتوثق منه ، وعاد الى البلد ، وقد اضطرب الأمر فيه عند اشاعة هذه الكائنة ، فسكنت النفوس بسلامته ، وجدّ المنهضون في طلبه من الخيل والغلمان ، والبحث عنه في الجبال والطرقات والمسالك ، الى أن لحقوه ، فجرح جماعة بالنشاب

__________________

(١) قال عنها أبو الفداء في تقويم البلدان : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ : «هي قلعة منيعة ، ناقلة عن البحر ، وهي عن صفد على مسيرة يوم في سمت الشمال»

(٢) ما زالتا تعرفان باسميهما وتتبعان محافظة دمشق ، وتبعد صيدنايا عن دمشق / ٢٨ كم / وتعرف عسال الآن باسم عسال الورد وتبعد عن دمشق ١٢٥ كم.

٣٨٢

إلى أن أمسكوه ، فلما أحضروه الى شمس الملوك ، وقرره وسأله : ما الذي حملك على هذا الفعل؟ فقال : لم أفعله إلا تقربا الى الله تعالى بقتلك ، وراحة الناس منك ، لأنك قد ظلمت المساكين والضعفاء من الناس ، والصناع والمتعيشين والفلاحين ، وامتهنت العسكرية والرعية ، وذكر جماعة من الغلمان أبرياء ، أوقعهم في التهمة ، بأنهم وافقوه على هذا ، فقبض عليهم وأضافهم إليه ، وقتل الجميع في الحال صبرا ، ولامه الناس على ذلك (حيث قتل (١)) هؤلاء الغلمان بقول هذا الجاني من غير بينة قامت (١٣٣ و) ولا دلالة ظهرت ، ولم يكفه قتل من قتل ظلما ، حتى اتهم أخاه سونج بن تاج الملوك ، فقتله ، وهو كبيره ، أشنع قتلة بالجوع في بيت (٢) وبالغ في هذه الأفعال القبيحة ، والظلم ، ولم يقف عند حدّ.

وفي يوم السبت الرابع من جمادى الأولى ، من السنة ، وصل أثير الملك أبو علي الحسن ابن اقش رسولا من الدار العزيزة النبوية المسترشدية ، وعلى يده برسم شمس الملوك التشريف الإمامي المندوب لإيصاله إليه ، وافاضته عليه ، ووردت المكاتبات على يده عن الوزير شرف الدين أبي القاسم علي بن طراد النقيب الزينبي ، وزير الخليفة ، وكان معزولا عن الوزارة ، فأعيد إليها في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسمائة ، وصرف عنها الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد صرفا جميلا.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر ، بالخلف الحادث بين ولدي الامام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد أمير المؤمنين : أبي علي الحسن ولي عهد المسلمين ، وأخيه أبي تراب حيدرة ابني الحافظ ، واقتسام الأجناد فرقتين إحداهما مائلة الى مذهب السنّة وأهله ، والأخرى إلى مذهب

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من مرآة الزمان : ١ / ١٤٨.

(٢) «تركه في بيت ورد عليه الباب فمات جوعا» مرآة الزمان : ١ / ١٤٨.

٣٨٣

الاسماعيلية وحزبه ، واستعار نار الحرب بينهما ، واستظهار حزب السنة على حزب الاسماعيلية ، بحيث قتل منهم خلق كثير ، وكان أكثر القتل في الريحانية السودان ، واستقام الأمر بعده لأبي علي الحسن ، وتتبع من كان ينصر مذهب الاسماعيلية من المقدمين والدعاة ، ومن يجري مجراهم ، فأبادهم بالقتل والتشريد ، وصلحت الأحوال ، واستقامت أمور الأعمال ، بعد الاضطراب والاختلال ، وورد كتاب الحافظ لدين الله الى شمس الملوك بهذه الحال ، في أواخر ذي الحجة من السنة ، بما تجدد عنده من هذه النعمة (١).

وفي ذي القعدة من السنة انتهت الأخبار الى شمس الملوك ، من ناحية الأفرنج باعتزامهم على نقض المستقر من الهدنة ، وقبيح الموادعة المستمرة ، وتأهبهم للجمع والاحتشاد ، وقصد الأعمال الدمشقية بالعيث والفساد ، فحين عرف شمس الملوك هذه الحال ، شرع في جمع الرجال ، واستدعى التركمان من جميع الأعمال ، واتصل به نهوض الأفرنج الى ناحية حوران فبرز في (١٣٣ ظ) العسكر ، وتوجه إليهم ، وخيّم بإزائهم ، وشرعوا في إخراب أمهات الضياع الحورانية ، ووقع التطارد بين الفريقين ، وكان الأفرنج في جمع كثيف من الخيل والرجل ، بحيث حصروهم في منزلهم ، لا يخرج منهم فارس ولا راجل ، إلا رشقته السهام ، واختطفه الحمام ، وأقامت المناوشة بين الفريقين عدة أيام ، ثم أغفلهم شمس الملوك ، ونهض في فريق وافر من العسكر ، وهم لا يشعرون ، وقصد بلادهم : عكا والناصرة وما جاورهما ، وطبرية وما والاها ، فظفر بما لا يحصى كثرة من المواشي والعوامل ، والنسوان والصبيان والرجال ، وقتل من صادفه وسبى من ظهر له ، وأحرق ما وجده ، وامتلأت أيدي التركمان من غنائمهم ، واتصل الخبر بالأفرنج ، فانخذلوا وقلقوا وانزعجوا ، وأجفلوا في الحال من منزلهم طالبين أعمالهم ، وعرف شمس الملوك ذاك ،

__________________

(١) انظر اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٤٩ ـ ١٥٥.

٣٨٤

فانكفأ إلى مخيمه على طريق الشعراء سالما في نفسه وجملته ، ظافرا غانما ووصل الأفرنج الى أعمالهم ، فشاهدوا ما حل بها ونزل بأهلها من البلاء ، فساءهم ذاك وفت في أعضادهم وانفلت شكتهم ، وانقصفت شوكتهم ، وتفرق شملهم ، وذلوا وطلبوا تقرير الصلح بينهم ، وعاد شمس الملوك الى دمشق مسرورا في آخر ذي الحجة من السنة.

وفيها وردت الأخبار باجتماع الأمير عماد الدين أتابك ، والأمير حسام الدين تمرتاش بن ايل غازي بن أرتق على بلاد الأمير داود بن سكمان بن أرتق ، ونهض إليهما في عسكره ، والتقى الفريقان على باب آمد ، فانهزم داود ، وانفل عسكره ، وأسر بعض أولاده وقتل جماعة من أصحابه ، وذلك في يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة ، ونزل على آمد وحصرها ، وقطع شجرها ، ولم يحصل منها على طائل ، فرحل عنها.

ووردت الأخبار بأن عماد الدين أتابك ، نزل على القلعة المعروفة بالصور (١) وضايقها وافتتحها في رجب من السنة.

وفيها ورد الخبر من ناحية بغداد بوقوع النار في بعض محالها ، فاحترق الخان المشهور بمخازن التجار ، وكثير من الأسواق ، وتلف للتجار الحاضرين والغائبين من جميع الجهات ما لا يحصى من أموالهم وبضائعهم.

وفيها ورد الخبر بأن عماد الدين أتابك استوزر ضياء الدين (١٣٤ و) أبا سعيد الكفرتوثي ، وهو مشهور بحسن الطريقة والكفاية ، وحب الخير والمقاصد السديدة ، والمذاهب الحميدة.

وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان طغرل بن السلطان محمد بن ملك شاه رحمه‌الله.

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير : ١ / ٣٤٣ «قلعة الصور من دياربكر».

٣٨٥

وفيها تواصلت الأخبار من ناحية الأمير عماد الدين أتابك ، باعتزامه على التأهب لقصد مدينة دمشق لمنازلتها ومحاصرتها ، وأنه منصرف الهمة الى الاستعداد لذلك (١).

سنة تسع وعشرين وخمسمائة

في أول المحرم هرب الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق ، إلى تدمر خوفا من شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك بوري.

كان الحاجب المذكور في حياة (٢) تاج الملوك متمكن الرتبة عنده ، مقبول الرأي فيما يرومه ، وقد صرف همه ، ووكده الى تطلب معقل حصين يعده لنائبة تنوب ، وخطب من خطوب الزمان يتجدد ، واتفق أن الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك المقيم بتدمر ، قد سئم المقام بها ، وضجر من كونه فيها ، وارتاحت نفسه إلى دمشق والإقامة فيها ، وجعل يراسل أباه تاج الملوك ، ويسأله نقله عنها ، ولم يزل إلى أن أجيب الى مقترحه وأسعف بمطلبه ، فوجد يوسف بن فيروز الغرض الذي يتطلبه ، قد تسهلت أسبابه ، فشرع في الحديث فيه ، والخطاب بسببه ، والاستعانة بمن يعينه على ذلك من المقدمين والوجوه ، الى أن تسهل الأمر ، وأجيب إليه وعول في تولي أمر تدمر عليه ، وتسلمها وحصلت في ولايته ، ورتب فيها ولده مع من وثق به في حفظها ، والذب عنها من ثقات أصحابه وأمناء نوابه ، وشرع في تحصينها ورمرمتها ، ولم شعثها وشحنها بالغلة والعدد ، وحصل فيها كل ما يحتاج مثلها إلى مثله ، فلما عرف

__________________

(١) عزا ابن العديم في زبدة الحلب : ٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ سبب عزم زنكي الى سوء الأوضاع الداخلية ، واضطراب أحوال اسماعيل وسفكه للدماء ثم مراسلته زنكي يعرض عليه تسليمه البلد وفق شروط.

(٢) في الأصل : جاه وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

٣٨٦

من شمس الملوك التنكر عليه ، وظهر له فساد نيته فيه ، وبان ذلك له من ثقات يسكن إليهم ، ولا يشك فيهم ، وحمله الخوف من العاجلة له ، والايقاع (١) به ، فهم بالهروب إلى تدمر ، وترقب الفرصة في ذلك إلى أن اتفق لشمس الملوك في بعض الجهات خروج ، فخرج من البلد آخر النهار ، وسره مكتوم عن الخل والجار ، وقصد ضيعته لمشاهدتها ، (٣٤ ظ) وقد استصحب خواص أصحابه وغلمانه ، ثم تم على حاله مغذا في سيره ، مجدا في قصده إلى أن حصل بتدمر ، آمنا مما توقاه ، ظافرا بما رجاه ، وظهر خبره في غد ذلك اليوم ، فحين عرف شمس الملوك جلية حاله ، ضاق صدره لإفلاته من يده ، وتضاعف ندمه لفوات الأمر فيه ، وكاتبه بما يطيب نفسه ، ويؤنسه بعد استيحاشه ، فلم يصغ الى ذلك ، بل أجابه جواب الخاضع ، والطائع ، والعبد الناصح ، والمستخدم المخلص ، ويقول : «إنني في هذا المكان خادم في حفظه ، والذب عنه» ، فلما وقع اليأس ، وعلم أن المقال لا ينجع ، حنق عليه ، وذكره بكل قبيح ، وأظهر ما يسره في نفسه ، ولم يعرض لشيء من ملكه وداره ، واقطاعه وأهله وأسبابه ، وتجدد بعد ذلك ما يذكر في موضعه ، وكان هروبه في ليلة الجمعة لليلة خلت من المحرم سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، من الضيعة الجارية في إقطاعه ، المعروفة بالمنيحة (٢) من الغوطة.

وفي هذه السنة شاعت الأخبار في دمشق بين خاصتها وعامتها ، عن صاحبها الأمير شمس الملوك أبي الفتح اسماعيل بن تاج الملوك بوري ابن ظهير الدين أتابك ، بتناهيه في ارتكاب القبائح المنكرات ، وايغاله في اكتساب المآثر المحظورات ، الدالة على فساد التصور والعقل ، وصداء الحس

__________________

(١) قيل بأن شمس الملوك اتهم يوسف بوالدته. زبدة الحلب : ٢ / ٢٥٦.

(٢) لعلها القرية المعروفة الآن باسم «المليحة» في الغوطة الشرقية ، وتبعد عن دمشق مسافة / ١٢ كم /.

٣٨٧

وظهور الجهل ، وتبلد الفهم ، وحب الظلم ، وعدوله عما عرف فيه من مضاء العزيمة في مصالح الدين ، والمسارعة إلى الجهاد في الأعداء الملحدين ، وشرع في مصادرات المتصرفين ، والعمال ، وتأول المحال على المستخدمين في الأعمال ، واستخدم بين يديه كرديا ، جاءه من ناحية حمص ، يعرف ببدران الكافر ، لا يعرف الاسلام ، ولا قوانينه ، ولا الدين وشروطه ، ولا يرقب في مؤمن ولا ذمة ، ونصبه لاستخراج مال المصادرين من المتصرفين ، والأخيار المستورين بفنون قبيحة إخترعها في العقوبات ، وأنواع مستشبعة في التهديد لهم والمخاطبات وظهر من شمس الملوك ، مع هذه الحال القبيحة ، والأفعال الشنيعة ، بخل زائد واسفاف نفس إلى الدنايا متواصل ، بحيث لا يأنف من تناول الخسيس الحقير بالعدوان ، وأخذه من غير وجهه بالعتو والطغيان ، وأشياء من هذا الباب لا حاجة إلى ذكرها لإشاعتها ، واشتهار أمرها ، بحيث أنكرت من أفعاله ، واستبشعت (١٣٥ و) من أمثاله ، ولم يكفه ما هو عليه من هذه الأفعال الذميمة ، والخصال المكروهة ، حتى أسر في نفسه مصادرة كفاته من الكتاب ، وخواصه من الأمراء والحجاب ، وعزم على الابتداء أولا بالحاجب سيف الدولة يوسف بن فيروز ، أحظى من كان عند أبيه أولا ، وعنده ثانيا واشتهر عنه حتى هرب إلى تدمر منه ، ورأى الغنيمة الكبرى ببعده من شره ، وراحته من نظره ، وكاتب في أثناء هذا الاختلال والاضطراب الأمير عماد الدين أتابك ، حين عرف اعتزامه على قصد دمشق ، لمنازلتها ومضايقتها ، والطمع في ملكتها ، يبعثه على سرعة الوصول إليها ، ليسلمها إليه طائعا ، ويمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم ، وإخراجهم من منازلهم ، لأمر تصوره ، وهذيان في نفسه قرره ، وتابع الكتب إليه بالمسألة في الإسراع والبدار ، وترك التلوم والانتظار ، ويقول له في أثناء هذا المقال : «وان اتفق إهمال لهذا الأمر ، واغفال أو إمهال ، أحوجت الى

٣٨٨

استدعاء الأفرنج من بلادهم ، وسلمت إليهم دمشق بما فيها ، وكان إثم دم من بها في رقبته» ، وأسر ذلك في نفسه ، ولم يبده لأحد من وجوه دولته ، وأهل بطانته ، وكانت كتبه بذلك ، بخط يده ، وشرع في نقل المال والأواني ، والثياب من خزانته الى حصن صرخد ، حتى حصل الجميع به ، ظنا منه أنه يفوز به ، ويهلك جميع الناس من بعده.

فلما بدأ هذا الأمر يظهر ، والسر فيه ينتشر ، شرع في القبض على أصحابه وكتابه وعماله ، وغيرهم من أهل دمشق ، ومقدمي الضياع ، وامتعض الأمراء والمقدمون ووجوه الغلمان الأتابكية ، وكافة العسكرية والرعية ، من هذا الفعل ، وأشفقوا من الهلاك والبوار إن تم هذا التدبير المذموم ، لما يعلمون من أفعال عماد الدين أتابك إذا ملك البلد ، فأجروا الحديث فيما بينهم سرا ، وأنهوا الحال فيه إلى والدته الخاتون صفوة الملك ، فقلقت لذاك ، وامتعضت منه ، واستدعته وأنكرته واشتبشعته ، وحملها فعل الجميل ، ودينها القويم وعقلها الرصين على النظر في هذا الأمر ، بما يحسم داءه ، ويعود بصلاح دمشق ومن حوته ، وتأملت الأمر في ذلك تأمل الحازم الأريب ، والمرتأي (١٣٥ ظ) المصيب ، فلم تجد لدائه دواء ، ولا لنفسه شفاء إلا بالراحة منه ، وحسم أسباب الفساد المتزايد عنه ، وأشار عليها وجوه الغلمان وأكابرهم بذاك واستصوبوا رأيها فيه ، وبعثوها على العاجلة له ، قبل ظهور الشر ، وفوات الأمر ، وأنه لا ينفع فيه أمر ، ولا ينجع معه وعظ ، فصرفت الهمة الى مناجزته ، وارتقبت الفرصة في خلوته الى أن تسهل الأمر المطلوب ، عند خلوته من غلمانه ، وسلاحيته ، فأمرت غلمانها بقتله ، وترك الامهال له ، غير راحمة له ، ولا متألمة لفقده ، لما عرفت من قبيح فعله ، وفساد عقله ، وسوء سيرته ، ومذموم طريقته ، وأوعزت بإخراجه حين قتل ، وإلقائه في موضع من الدار ، ليشاهده غلمانه وأصحابه ، وكلّ سر بمصرعه ، وابتهج بالراحة منه ، وبالغ

٣٨٩

في شكر الله تعالى على ما سهله فيه ، وأكثر الدعاء لها ، والثناء عليها ، وذلك ضحى نهار يوم الأربعاء الرابع عشر من ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، وقد كان مولده ليلة الخميس السابع بالعدد من جمادى الآخرة سنة ست وخمسمائة في الساعة الثانية منها ، والطالع برج السرطان أو المشتري فيه كمح مح والمريخ في السنبلة ، والزهرة في الخامس ، والعقرب والشمس في السادس من القوس ، والقمر وزحل في التاسع ، وسهم السعادة في العاشر.

وقد كان المعروف ببدران الكافر ، لعنه الله في يوم الثلاثاء المتقدم ليوم الأربعاء ، الذي قتل فيه ، قد راح من بين يديه بعد أن أسر إليه بشر يعمل عليه ، فلما حصل في بيته وقت الظهر من يومه المذكور ، أرسل الله تعالى ذكره ، عليه آفة عظيمة ، أخذت بأنفاسه وربا لسانه حتى ملأفاه ، وهلك من وقته ، وكانت الكائنة في غده فبالغ الكافة في حمد الله تعالى ، وشكره على هذه الآية الباهرة ، والقدرة الظاهرة ، وواصلوا تسبيحه وتقديسه وتمجيده ، فسبحان مالك الأمر ومدبر الخلق ، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وفي الوقت نودي بشعار أخيه الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك ابن أتابك ، وجلس في منصبه ، بمحضر من والدته خاتون صفوة الملك ، وحضر الأمراء وأماثل الأجناد ، وأعيان الرعية ، فسلموا عليه بالإمرة ، واستحلفوا على الطاعة (١٣٦ و) له ولوالدته ، والمناصحة في خدمتهما ، والنصرة لأوليائهما ، والمجاهدة في أعدائهما ، وحلف كل منهم بانشراح من صدره ، وانفساح من أمله ، وظهر من سرور الكافة خاصيها وعاميها ، بهذه النوبة السعيدة ، والأفعال الحميدة ، ما يزيد على الوصف ، وأيقنوا بالخلاص من المكروه الذي أشرفوا عليه ، واستقامت الأحوال ، وتحققت الآمال.

وتتابعت المكاتبات في أثناء ذلك ، من سائر الجهات ، بوصول عماد الدين ، في عسكره ، وقطعه الفرات مجدا لتسلم دمشق ، من شمس الملوك

٣٩٠

صاحبها ، ووصلت رسله لتقرير الأمر ، فصادفوا الحال بالصد ، والتدبير بالعكس ، إلا أنهم أكرموا وبجلوا ، وأحسن إليهم ، وأعيدوا بأجمل جواب ، وألطف خطاب ، وأعلم عماد الدين جلية الحال ، واتفاق الكلمة في حفظ الدولة والذب عن الحوزة ، والبعث على اجمال الرعاية ، والعود على أحسن نية.

فلما انتهى إليه الجواب ، ووقف عليه ، لم يحفل به ، ولا أصاخ إلى استماعه ، فأوهمته نفسه بالطمع في ملكة دمشق ، ظنا منه بأن الخلف يقع بين الأمراء والمقدمين من الغلمان ، فكان الأمر بخلاف ما ظن ، وواصل الرحيل واغذاذ السير إلى أن وصل الى ظاهر دمشق ، وخيم بأرض عذراء الى أرض القصير ، في عسكر كثيف الجمع ، عظيم السواد ، في أوائل جمادى الأولى من سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، وقد كان التأهب له مستعملا عند ورود أخبار عزيمته ، وأجفلت الضياع ، وحصل أهلها في البلد ، ووقع الاستعداد لمحاربته واللقاء عند منازلته ، والاجتماع على صده ، ودفعه ، ولم تزل الحال على هذه القضية ، والانتصاب بإزائه على هذه السجية ، وقد أشعرت النفوس من شدة البأس ، والصبر على المراس ، للقائه والتأهب لزحفه ، ودنوه من البلد ، وقربه ، وقد كان رحل عن عذراء ونزل تحت العقبة القبلية ، وكان يزحف في عسكره ، وقد فرقه في عدة مواضع كالمراكب ، حتى تقرب من البلد ، فيشاهد كثرة من يخرج من البلد والعسكرية ، وأحداث الرعية بالسلاح الشاك ، وامتلأ المصلى وسائر الأماكن ، والكمناء في جميع المسالك ما يروعه ويصده عن الزحف ، وفي كل يوم يصل من مستأمني عسكره جملة وافرة ، مع ما ينهب من خيولهم ، ويقلع من فوارسهم (١٣٦ ظ) فلما طالت الأيام عليه ، ولم يحصل على طائل مما حاول ، ولا مرام ، راسل في طلب الصلح ، والدخول في طاعته ، والتمس خروج الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك إليه لوطء بساط ولد السلطان الواصل معه ، ويخلع عليه ، ويعيده الى بلده ، وأجمل الخطاب في ذلك والوعد ، فلم يجب الى خروج شهاب الدين ، وتقررت الحال

٣٩١

على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه بن تاج الملوك ، ووافق ذلك وصول الرئيس بشر بن كريم بن بشر ، رسولا من الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين الى عماد الدين أتابك ، بخلع أعدت له ، والأمر بالرحيل عن دمشق ، وترك التعرض لها ، والوصول الى العراق لتولي أمره ، والتدبير له ، وأن يخطب للسلطان ألب أرسلان المقيم بالموصل.

ودخل الرسول المذكور ، والقاضي بهاء الدين بن الشهرزوري الى دمشق ، لتقرير الأمر ولإحكام القاعدة في الجمعة ، في الثامن والعشرين من جمادى الأولى ، فتقرر الأمر ، ووكدت الأيمان ، وحضرا الجامع لصلاة الجمعة ، وخطب للسلطان ألب أرسلان على المنبر ، بأمر أمير المؤمنين ، وعادا الى العسكر الأتابكي ، وخرج بهرام شاه فأكرمه وأعاده على أجمل قضية ، ورحل في يوم السبت غد ذلك اليوم ، منكفئا والقلوب قد أمنت بعد الوجل ، والنفوس قد سكنت بعد الاضطراب والوهل ، والشكر له متواصل ، والثناء عليه متكامل ، فلما حصل بحماة أنكر على شمس أمراء الخواص واليها أمرا ، ظهر له منه ، وتزايد شكوى أهلها لأصحابه ونوابه ، فعزله عنها ، وقرر من رآه في ولايتها ، وقد كان ظهر من الأمير ابن شجاع الدولة بزواج ، ومعين الدين أونر من حسن السياسة في تدبير العسكرية والأجناد عند الترتيب في الحرب ، ما وافق الأغراض ، وطابق الإصابة والسداد ، بحيث شكرا ، وحمدت مقاصدهما.

وفي ذي القعدة منها ، وردت الأخبار من العراق باستشهاد الإمام الخليفة المسترشد بالله أبي منصور الفضل بن المستظهر بالله أمير المؤمنين ، رحمة الله عليه ورضوانه.

٣٩٢

وقد مضى ذكر ما كان من الخليفة المفقود ، في معنى السلطان مسعود ابن السلطان محمد (١) بن ملك شاه (١٣٧ و) من تقرير السلطنة له ، ورد تدبير الأعمال والأمر بالدعاء له ، على منابر البلاد ، وتشريفه بالخلع والحملان الكامل ، وعقيب هذا الفعل الجميل ظهر لأمير المؤمنين المسترشد بالله أمور أنكرها ، وبلغته أسباب امتعض منها ، وبدت منه أفعال أكبرها ، فرام استعطافه واستعادته إلى الواجب المألوف في طاعة الخلفاء ، فامتنع وحاول استمالته الى الصواب المعروف في المناصحة ، وحسن الوفاء فلم ينفع ، وبعثه على الحق الذي هو خير من التمادي في الباطل ، فلم يقبل ، فأفضت الحال صرف الهمة العلية المسترشدية الى مداواة هذا الداء ، والاستعداد له ، الى أن أعضل بالدواء ، ولم ير فيه أنجع من التأهب لقصده ، والاحتشاد للايقاع به وصده ، لأن اخباره كانت متناصرة بعزمه على قصد بغداد ، والإخراب لها ، والاعاثة في نواحيها ، فرأى الصواب في معاجلته ، ومقابلة فعله بمثله.

واتفق وصول جماعة من وجوه عسكره ، ومقدمي جنده ، لخدمة الخليفة ، والمعاضدة له على محاربة عدوه ، وشرعوا في تحريضه على البروز إليه ، والمسارعة بالإطلال عليه ، فتوجه نحوه في تجمل يعجز عنه الوصف ، ويقصر دونه النعت ، وقد اجتمع إليه من أصحاب الأطراف ، وأصناف الأجناد ، الخلق الكثير ، والجم الغفير ، الذي بمثله قويت نفسه ، واشتد بأسه ، ولم يشك أحد في أنه الظافر به ، والمستولي على حزبه ، فلما قرب من مخيمه بناحية همذان ، ووقع العيان على العيان ، زحف إليه في عسكره ، والتقى الجمعان ، واتفق للقضاء المكتوب ، والقدر المحجوب أن أمراء الأتراك الواصلين لخدمة

__________________

(١) في الأصل : ابن محمود بن محمد ، ومحمود زيادة فحذفت.

٣٩٣

الخليفة ، في عسكره خامروا عليه ، بمواطأة كانت ، وتقديرات تقررت وبانت ، فانقلبوا عنه وأسلموه ، وعملوا عليه وأغنموه ، يحيث تفرقت عنه حماته ، وخذله أبطاله وكماته ، وثبت هو وخواصه في المصاف ، يقاتلون ولا يولون إلى أن انفل عنه حزبه ، وضعف أمره ، وغلب على نفسه ، فأخذوه ووزيره النقيب ، وكاتبه سديد الدولة بن الأنباري ، وصاحب مخزنه وخدمه وخاصته ، وحملوه مع أصحابه المذكورين إلى خيمة ، ووكل بجماعة من يحفظهم ، ويتوثق منهم ، (١٣٧ ظ) ويحتاط عليهم.

وكتبت المطالعات إلى السلطان سنجر بن ملك شاه ، صاحب خراسان بصورة الحال ، والاستئذان بما يعتمد في بابه ، ووعد السلطان مسعود الخليفة ومن معه بالإطلاق ، وإعادتهم الى بغداد ، وتقرير أمر الخلافة على ما جرى به الرسم قديما ، فلما عاد الجواب من السلطان سنجر في هذا الباب ، وتقرير ما اقتضاه الرأي في أمر الخلافة بين السلطانين المذكورين ، ندب عدة من الرجال ، تقدير أربعة عشر رجلا ، نسبوا الى أنهم من الباطنية ، فقصدوا الخليفة في خيمته ، وهو مطمئن لا يشعر بما نزل به من البلاء ، وأحاط به من محتوم القضاء ، وهجموا عليه ، فقتلوه في يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، صبرا وقتلوا معه من أصحابه وفراشيه من دافع عنه ومانع دونه ، وشاع الخبر بذاك بناحية مراغة على مرحلتين منها ، ودفن بها ، واستبشع الناس هذا الفعل الشنيع ، والقصد الفظيع ، في حق خليفة الزمان ، وابن عم رسول الله ، عليه أفضل الصلاة والرضوان ، وأكبروا الجرأة على الله ، والاقدام على هذا المنكر في الاسلام ، والدم الحرام ، وأطلقوا الألسنة بالدعاء ، والذم على من استحسن هذا الفعل القبيح ، ودبر هذا الخطب الشنيع ، وتيقن كل انسان من الخاص والعام أن الله تعالى لا يمهل المقدم ، ولا يغفل (عن) المجرى اليه ، لأنه جلت قدرته لا يصلح عمل المفسدين ، ولا يهدي كيد الخائنين ، ولا يهمل عقوبة الظالمين.

٣٩٤

ولما انتهى هذا الخبر إلى ولده ، ولي عهده ، تقدم بتحصين بغداد ، والتأهب لدفع من يقصدها بسوء من الأعداء والمخالفين ، وبويع بالخلافة في يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، ولقب بالراشد بالله أبي جعفر المنصور بن المسترشد بالله أمير المؤمنين ، وجلس في منصب الخلافة في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، واستقام له الأمر وتوكدت له البيعة على الرسم ، ووعد كافة الأجناد والعسكرية ، وأماثل الرعية بما طيب نفوسهم ، وشرح صدورهم ، وأطلق مال النفقات والواجبات على جاري العادة ، فكثر الدعاء له ، والثناء عليه ، وسكنت الدهماء (١) (١٣٨ ظ).

__________________

(١) في تاريخ ميافارقين لابن الأزرق الفارقي ، مواد وثائقية حول الصراع بين الخليفة والسلطان ، مع وصف المعركة بينهما ونتائجها ، وقد أثبت المحقق الأول هذا النص في حواشي الكتاب ، ولفائدته أبقيته ، وقمت بضبطه على مصورة مخطوطة المتحف البريطاني الموجودة لدي ، قال الفارقي : وقيل خرج في شعبان سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، قيل في ثمان وعشرين وخمسمائة ، خرج الخليفة المسترشد من بغداد ، ولقي السلطان مسعود بباب همذان الى موضع يسمى دآى مرك قريب من جبل بهستون ، ونهب العسكر ، وكان جمع السلطان خلقا ، فالتقوا بعسكر الخليفة وأسروه وأسروا أرباب المناصب كلها. ولقد سألت السعيد مؤيد الدين أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم الأنباري ، رحمه‌الله ، في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ببغداد ، حين نزلت إليه في أيام السلطان محمود عن حال المسترشد وما جرى ، فقال رضي‌الله‌عنه : كان قد وقع بين السلطان والخليفة في أيام السلطان محمود ، وخرج وأسره مرتين ، فلما ولى مسعود استطال نوابه على العراق ، وعارضوا الخليفة في أملاكه ، فوقعت الوحشة ، وتجهز المسترشد وعزم على الخروج ، وجد في ذلك ، واتفق أن بعض الأيام دخل الوزير شرف الدين الزينبي علي بن طراد على الخليفة ، وأنا معه وجمال الدين طلحة صاحب المخزن ، وكان الخليفة قد طرد أصحاب السلطان عن العراق ، ورتب صاحب المخزن على دار السلطان للمظالم والبلد ، فلما دخلنا ذلك اليوم قال له الوزير شرف الدين : يا مولانا في نفس المملوك شيء وهل يؤذن له في المقال؟ فقال : قل ، قال : يا مولانا الى أين تمضي وبمن تعتضد والى من تلتجئ ، وبمن تنتصر؟ ومقامنا ببغداد أمكن لنا ، ولا يقصدنا أحد إلا وفينا نحن الظهر ، والعراق فيه لنا كفاية ، فإن الحسين بن علي عليهما‌السلام لما خرج الى العراق

٣٩٥

سنة ثلاثين وخمسمائة

في المحرم منها وردت الأخبار من ناحية العراق ، بقتل الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد ، قتله السلطان مسعود بن محمد ، لأمور أنكرها ، وأسباب

__________________

جرى عليه ما جرى ، ولو أقام بمكة والمدينة ما اختلف عليه اثنان ، وكان تابعه جميع الناس ، فقال له الخليفة : ما تقول يا كاتب؟ فقلت : يا مولانا الصواب المقام ، وما رآه الوزير فهو الرأي ، فلا يقدم علينا بالعراق أحد ، وليت بقي لنا العراق ، فقال لصاحب المخزن : يا وكيل ما تقول؟ قال : في نفسي ما في نفس مولانا ـ وكان هو قد حمله على الخروج ـ فقال المسترشد :

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن الغبن أن تموت جبانا

 ... قال مؤيد الدين : لما قتل المسترشد جاء السلطان مسعود ونفذ أحضرنا عنده ، فحضر الوزير شرف الدين ، وجمال الدين صاحب المخزن ، وأنا ، فلما حضرنا عنده ، قال : ما الرأي وما التدبير في أمر الخلافة ، من ترون؟ فقال الوزير : يا مولانا الخلافة لولي العهد ، وقد بايعه الناس ، وجلس واستقر ، وقد بويع له بولاية العهد ، والآن بعد قتل أبيه ، فقال : ما الى هذا سبيل أبدا ولا أقره عليها فإنه يحدث نفسه بالخروج مثل أبيه ، ونحن كل يوم من حيث ولي المسترشد لم يزل يخرج علينا وكان خرج على أخي محمود مرتين ، وعلي مرة ، وهذه أخرى ثم تم عليه ما تم ، وبقيت علينا شناعة عظيمة وسبة الى آخر الدهر ، ويقولون : قتلوا الخليفة ، وهم كانوا السبب في عود الخلافة الى هذا البيت ، لا أريد يجلس الا من لا يداخل نفسه في غير أمور الدين ، ولا يتخذ ولا يجمع ولا يخرج علي ولا على أهل بيتي ، وفي الدار جماعة ، فاعتمدوا على شيخ منهم ، صاحب عقل ورأي وتدبير ، ويلزم نفسه ما يجب من طاعتنا ، ولا يخرج من داره ، ولا تعرجوا عن هارون بن المقتدي ، فهو شيخ كبير ، ولا يرى الفتنة ، وقد أشار به عمي سنجر ، وكان في الدار في ذلك الوقت سبعة أخوة من أولاد المقتدي ، ولهم أولاد وأولاد أولاد ... ومن أولاد المستظهر سبعة أخوة ... وكان للمسترشد أولاد جماعة وللراشد ، وله مقدار نيف وعشرين ولدا ...

وقال المؤرخ أيضا : قيل ونفذ السلطان مسعود الى عمه سنجر ، يأخذ اذنه فيمن يولى ، فنفذ اليه يقول : لا تول إلا من يقع عليه رأي الوزير ، وصاحب المخزن ، وابن الأنباري ، فاجتمع السلطان بهم ، وشاورهم ، وأشار بهرون ،

٣٩٦

امتعض منها ، نسبت إليه ، وقيل إن هذا مكافأة من الله تعالى له ، عما كان منه في عصيان الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين ، والسعاية في دمه ، وكان هذا الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين رحمه‌الله ، عالما تقيا فاضلا ، حسن الخط ، بليغا نافذا في أكثر العلوم ، عارفا بالفتوى ، واختلاف الفقهاء ، فيها ، أشقر الشعر أشهل العينين ، بوجهه نمش ، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة ، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

وفي شهر ربيع الأول منها تسلم الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك ، مدينة حمص ، وقلعتها.

شرح الحال في ذلك

لما عرف من كان بحمص وقلعتها من أولاد خيرخان بن قراجة ، وخمارتاش الوالي من قبلهم فيها ، ما استمر عليها ، من مضايقة الأمير عماد الدين أتابك لها ، وبذل جهده ، وحرصه في تملكها وأخذها ، وأخذه حماة المجاورة لها ، وجده في طلبها ، وإضعاف أهلها ، ومواصلة الغارات عليها ، وأنهم لا طاقة لهم بضبطها ، لقلة القوت بها ، وعدم الميرة فيها ، أنفذوا رسلهم إلى شهاب الدين

__________________

وعرفهم ما أمرهم السلطان سنجر ، وقال الوزير : إذا كان هذا الأمر يلزمنا فنحن نولي من نراه ، وهو الزاهد العابد الدين الذي ليس في الدار مثله ، قال السلطان : من هو؟ قال : الأمير أبو عبد الله بن المستظهر ، فقال : وتضمنون ما يجري منه؟ فقال الوزير : نعم ، وكان الأمير أبو عبد الله صهر الوزير شرف الدين على ابنته ، فإنها دخلت ذات يوم في الدار ، في زمن المستظهر ، فرآها الأمير أبو عبد الله ، فطلبها من أبيه فزوجه إياها ، وكان شرف الدين اذ ذاك نقيب النقباء ، ودخل بها ، وبقيت عنده مدة ، وماتت عنده ، فقال السلطان : ذاك إليكم ، واكتموا الحال لئلا ينمو الأمر فيقتل ، ثم رحل السلطان يطلب بغداد والوزير والجماعة الى بغداد والوزير ونحن أجمع في صحبته ...

٣٩٧

يلتمسون منه إنفاذ من يراه ، لتسلّم حمص وقلعتها ، ويعوضهم عنها بما يتفق عليه الرأي ، وتوسط الحاجب سيف الدولة يوسف بن فيروز المقيم بتدمر الأمر في ذلك طمعا في الكون بها ، والانتقال من تدمر إليها ، لكونها من الأماكن الحصينة ، والقلاع المنيعة ، واستأذن في الوصول الى دمشق للحديث ، وتقرير الحال في ذلك ، فأذن له ، ووصل الى دمشق ، وجرى في ذلك خطاب طويل ، أفضى آخره الى أن تسلم حمص وقلعتها الى شهاب الدين ، وتسلم الى خمارتاش تدمر عوضا عنها ، ووقع الشرط واليمين على هذه الصفة ، وبرز شهاب الدين من دمشق في العسكر ، وتوجه إليها ، فحين حصل بها نزل خمارتاش من القلعة وأولاد خيرخان وأهله بما يخصهم ، وسلموها إليه فتسلمها يوم الأحد الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وخمسمائة وحصل بها ورتب أمرها [١٣٨ ظ] وقرر ولايتها للحاجب يوسف ابن فيروز ، وأن يكون فيها نائبا عن الأمير معين الدين أنر الأتابكي ، حسب ما تقرر ، وكتب الى الجهات والأطراف بحمل الأقوات إليها ، والتقوية لها بالميرة ، وعاد شهاب الدين عنها بعد تقرير أمرها منكفئا الى دمشق ، وشرع الأمير سوار النائب عن عماد الدين في حلب ، ومن بحماة من قبله في الغارات على أعمال حمص ، ورعي زرعها ، وجرى في ذلك مراسلات ومخاطبات ، أسفرت عن المهادنة والموادعة ، والمسالمة الى أمد معلوم ، وأجل مفهوم ، بحيث انحسمت أسباب الفساد عن الجهتين ، واستقامت أحوال الجانبين.

وفي يوم الأحد الرابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة ، خلع شهاب الدين على أمين الدولة كمشتكين الأتابكي ، والي صرخد وبصرى الخلع التامة ، ورد إليه أسفهسلارية العسكرية ، وخوطب بالأتابكية ، وأنزل في الدار الكبيرة الأتابكية بدمشق ، وحضر الناس لهنائه فيها ، وأوعز الى الكافة باتباع رأيه ، والامتثال لأمره.

وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة ، قتل الحاجب يوسف بن فيروز ، في ميدان المصلى بدمشق.

٣٩٨

شرح السبب في ذلك

كان الحاجب يوسف بن فيروز المقدم ذكره ، عند كونه في خدمة شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك ، وتمكنه عنده ، وارتفاع طبقته لديه ، قد اعتمد في حق مقدمي الغلمان الأتابكية ما أوحشهم منه ، وبلغهم ما ضيق صدورهم عنه ، وأسروا ذلك في نفوسهم ، وأخفوه في قلوبهم ، لا سيما ما قصده في نوبة الغلمان الذين قتلهم شمس الملوك مع أخيه سونج بن تاج الملوك ، بسبب اتهامهم بكونهم مع ايلبا الغلام التركي ـ الذي كان وثب على شمس الملوك ، وضربه بالسيف طالبا قتله ، فسلمه الله ونجاه ، حسب ما تقدم به الشرح ـ وكونه أكبر السعاة عليهم ، والسبب في قتلهم ، على عادة قد ألفيت من فعله ، وطريقة قد عرفت من طبعه ، وقد كان حصل بتدمر ، وأهمل أمره ، ونسي ما سبق به شره ، فلما راسل من تدمر (١) يطلب الأذن في الوصول إلى دمشق ، لتقرير أمر حمص ، وأجيب الى الأذن في ذلك ، أنكر الأمير شجاع الدولة بزواج ، والحاجب سنقر ، وأكابر الغلمان الأتابكية الأذن له في ذلك ، وامتعضوا من وصوله كل الامتعاض (١٣٩ و) ، لما عرفوا من سوء فعله ، ومشهور سعيه ، وختله ، وأشاعوا بينهم ما هم عازمون عليه من العمل على قتله ، ونصحه أهل وده ، والاشفاق عليه ، والمتقربين إليه بذاك ، فأبى القبول منهم ، وأخذ النصح منهم ، وقويت نفسه على التغرير بها ، والمخاطرة باتباع هواها ، وتمسك بمدافعة الأمير معين الدين عنه ، والمنع منه ، لصداقة كانت بينهما ، قد استحكمت قواها ، ووصلة انعقدت وأحكمت عراها ، ولما وصل إلى دمشق توثق لنفسه من الجماعة بأيمان سكنت إليها نفسه ، وتوكد معها أنسه ، وقرر معه أنه يكون يحضر للسلام في كل يوم ، ويعود الى داره ، ويقنع بالكون في ملكة دمشق ، والتنقل منها إلى حمص ، ولا يداخل نفسه في أمر غير ذلك.

__________________

(١) في الأصل : من تدمر من يطلب ، ومن الثانية زيادة فحذفت.

٣٩٩

فما هو إلا أن حصل بها ، وجعل يدبر أمرا غير خاف ، ويقرر تقريرا غير مكتوم ولا مستتر ، فأثار بذلك ما كان في نفوس الغلمان كامنا ، وحرك ما كان في القلوب ساكنا ، ووجد الأمير بزواج (١) والغلمان السبيل إلى نقض ما عوهدوا عليه ، باعتماده المخالفة لما قرره معه ، وسكنوا إليه ولاحت الفرصة لهم فيه ، ولما كان في اليوم المقدم ذكره ، وقد تقرر الأمر بينهم على الفتك به ، صادفه شجاع بزواج ، المقدم ذكره في الميدان المجاور للمصلى بظاهر دمشق فماشاه ساعة بالحديث وقد خلا من أصحابه وأغفله وجرد سيفه وضربه به ، ضربة عظيمة في وجهه الى رأسه ، وثنى بأخرى فسقط الى الأرض ، وأجهز عليه آخر من الغلمان ، ولم يتجاسر أحد من أصحابه من الدنو منه ، ولا الدفع عنه لقوة شوكة الغلمان ، واتفاق كلمتهم على قتله.

وانهزم شهاب الدين وأصحابه من الميدان الى داره ، وبقي ساعة مطروحا على الأرض في الميدان ، يشاهد مصرعه ، ويعتبر اللبيب بمنظره ، ثم حمل الى المسجد الذي بناه فيروز أبوه بالعقيبة ، فدفن عند قبره في يومه في تربته ، وأنفذ بزواج وسنقر وجماعة الغلمان الى شهاب الدين ووالدته الخاتون مراسلات ومعاتبات ، على ما اعتمداه من الأذن له في العود إلى دمشق ، بعد ما كان من فعله في حق من قتل بسعيه من الغلمان ، واشترطوا أمورا وقع الاباء لها والاستيحاش منها ، ومن طلب مثلها ، وامتنع الغلمان ، وأكثر الأتراك من الدخول إلى البلد و [رفضوا](٢) العود إلى دورهم إلا بعد تقرير أمر بزواج (١٣٩ ظ) وجماعة الغلمان ، والدخول فيما راموه ، وتطييب نفوسهم بالإجابة إلى ما حاولوه.

واندفعوا الى ناحية المرج ، فنزلوا فيه وخيموا في ناحية من نواحيه ، وترددت بينهم مراسلات لم تسفر عن سداد ، ولا نيل مراد ، فأظهروا الخلاف ،

__________________

(١) يرد رسم هذا الاسم في مرآة الزمان ـ بزواش.

(٢) زيد ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

٤٠٠