تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

عرف الأفرنج ذلك ، نهضوا إليه في تقدير ثلاثمائة فارس لانجاد من بالأكمة ، فوصلوا إليهم ليلا ، فقويت نفوسهم ، واقتضى رأي أتابك الرحيل عنها بحكم من صار فيها منهم ، فرحل كالمنهزم ، وطمع فيه ، وتتبع العسكر ، فغنم من الخيل والكراع غنيمة كبيرة وتفرق العسكر في الشجر والجبال ، ووصلوا إلى حمص على أقبح صفة ، وأشنع صورة ، من غير لقاء ولا محاربة ، وعاد الأفرنج إلى عرقة ، وعدم القوت فيها ، فملكوها بالأمان.

وفيها استوزر ظهير الدين أبا نجم هبة الله بن محمد بن بديع الأصفهاني ، الذي كان مستوفيا للسلطان تاج الدولة ، وكان قد وزر بعده لولده الملك رضوان بحلب ، وبقي في الوزارة مدة ، في أوائل سنة اثنتين وخمسمائة ، وأفسد قلب ظهير الدين أتابك عليه معه ما كان في قلبه في الأيام التاجية ، فأمر بالقبض عليه واعتقاله في القلعة ، وحمل ما كان في داره ، وقبض أملاكه ، وأقام أياما في الاعتقال ، ثم أمر بخنقه ، فخنق ورمي في جب بالقلعة ، ثم أخرج ودفن في المقابر.

وفي شعبان من هذه السنة وصل ريمند بن صنجيل ، الذي كان نازلا على طرابلس ، من بلاد الافرنج في جملة ستين مركبا في البحر ، مشحونة بالأفرنج والجنويين ، فنزل على طرابلس ، ووقع بينه وبين السرداني ابن أخت صنجيل مشاجرة ، ووصل طنكري صاحب أنطاكية إليه لمعونة السرداني (١) ، ووصل الملك بغدوين صاحب بيت المقدس في عسكره فأصلح بينهم ، وعاد السرداني إلى عرقة ، ووجد بعض الأفرنج في زرعها ، فأراد ضربه فضربه الافرنجي فقتله ، ولما بلغ الخبر ريمند بن صنجيل ، وجه من تسلم عرقة من أصحابه.

__________________

(١) من أجل النزاع بين وليم جوردان السرديني ، وبرتراند الابن الأكبر لريموند الصنجيلي وعلاقة ذلك بحصار طرابلس ، أنظر طرابلس الشام في التاريخ الاسلامي : ١١٣ ـ ١١٦.

٢٦١

ونزل الافرنج بجموعهم وحشدهم على طرابلس ، وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها منذ أول شعبان إلى الحادي عشر من ذي الحجة (٨٩ و) من السنة ، وأسندوا أبراجهم إلى السور ، فلما شاهد الجند والمقاتلة وأهل البلد سقط في أيديهم ، وأيقنوا بالهلاك وذلت نفوسهم لا سيما مع اليأس من تأخر وصول الاصطول المصري في البحر بالميرة والنجدة ، وقد كانت علة الأصطول أزيحت ، وسير والريح تردّه ، لما يريد الله تعالى من نفاذ الأمر المقضي ، فشد الافرنج القتال عليها وهجموها من الأبراج ، فملكوها بالسيف في يوم الإثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ، ونهبوا ما فيها ، وأسروا رجالها ، وسبوا نساءها وأطفالها ، وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها ، وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يحد عدده ، ولا يحصر فيذكر ، وسلم الوالي بها وجماعة من جنده ، كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها ، فلما ملكت أطلقوا ، ووصلوا إلى دمشق بعد أيام من فتحها ، وعوقب أهلها واستصفيت أموالها ، واستثيرت ذخائرهم من مكامنها ، ونزل بهم أشد البلاء ، ومؤلم العذاب (١).

وتقرر بين الأفرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلث من البلد ، وما نهب منه ، والثلثان لريمند بن صنجيل ، وأفردوا للملك بغدوين من الوسط ما رضي به ، وكان طنكري لما لم ينل ما أراد من نصرة السرداني ، قد عاد ونزل على بانياس وافتتحها وأمن أهلها في شوال من السنة ، ونزل على ثغر جبيل وفيه فخر الملك بن عمار ، والقوت فيه نزر قليل ، فلم يزل مضايقا له ولأهله إلى يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة ، فراسلهم وبذل لهم الأمان ، فأجابوه إلى ذلك ، فتسلمه بالأمان ، وخرج منه فخر الملك بن عمار سالما ، وقد وعده بإحسان النظر والاقطاع.

__________________

(١) أنظر كتاب طرابلس الشام في التاريخ الاسلامي : ١١٧ ـ ١٣١.

٢٦٢

ووصل عقيب ذلك الاصطول المصري ، ولم يكن خرج للمصريين فيما تقدم مثله كثرة رجال ومراكب وعدد وغلال لحماية طرابلس ، وتقويتها بالغلة الكثيرة والرجال والمال لمدة سنة ، مع تقوية ما في المملكة المصرية من ثغور الساحل وأهله ، ووصل إلى صور في يوم الثامن من فتح طرابلس ، وقد فات الأمر فيها للقضاء النازل بأهلها ، وأقام بالساحل مدة وفرقت الغلة في جهاتها ، وتمسك به أهل صور وصيدا (٨٩ ظ) وبيروت ، وشكوا أحوالهم وضعفها عن محاربة الأفرنج ، ولم يمكن الاصطول المقام ، فأقلع عائدا عند استقامة الريح إلى مصر.

وفي شوال من هذه السنة وردت الأخبار بتملك الأمير سكمان القطبي مدينة ميافارقين بالأمان بعد الحصر لها والمضايقة لأهلها عدة شهور ، بعد أن عدم القوت بها ، واشتد الجوع بأهلها.

وفيها وصل بيمند صاحب أنطاكية من بلاد الأفرنج ، عائدا إلى مملكته في خلق كثير ، ونزل بالقرب من قسطنطينة ، وخرج ملكها إليه ومعه خلق كثير من التركمان المجاورين له فاقتتلوا أياما ، وطلب الروم تقبيحهم بكل نوع إلى أن تفرقوا وتبددوا في البلاد ، وأصلح بيمند أمره مع الملك ، ودخل عليه ووطىء بساطه ، ومن معه وكفى الله ، وله الحمد ، أمرهم ، وصرف عن الاسلام شرّهم.

وفي هذه السنة توفي الأمير أرتق بن عبد الرزاق أحد مقدمي أمراء دمشق بمرض طال به ، وكثر ألمه بسببه ، إلى أن قضى نحبه ليلة عيد النحر من سنة اثنتين وخمسمائة.

وفيها ترددت رسل الملك بغدوين إلى ظهير الدين في التماس المهادنة والموادعة ، فاستقر الأمر بينهما ، على أن يكون السواد وجبل عوف أثلاثا :

٢٦٣

للأتراك الثلث ، وللأفرنج والفلاحين الثلثان ، فانعقد الأمر على هذه القضية ، وكتب الشرط على هذه النية.

وكان فخر الملك بن عمار ، لما ملك الأفرنج جبيل ، خرج منها وتوجه إلى شيزر ، فأكرمه صاحبها سلطان بن علي بن المقلد بن منقذ الكناني ، واحترمه ، وجماعته ، وعرض عليه المقام عنده ، فلم يفعل ، وتوجه إلى دمشق عائدا إلى ظهير الدين أتابك ، فأكرمه وأنزله في دار ، وأقطعه الزبداني وأعمالها في المحرم سنة ثلاث وخمسمائة.

سنة ثلاث وخمسمائة

لما فرغ الافرنج من طرابلس بعد افتتاحها ، وتدبير أعمالها ، وتقرير أحوالها ، نهضوا إلى رفنية وعرف ظهير الدين ذاك من قصدهم ، فنهض في العسكر نحوها لحمايتها ، وخيم بإزائهم بحمص ، فلم يتمكن الأفرنج من منازلتها ومضايقتها ، وترددت بينه وبينهم مراسلات ومخاطبات ، أفضت إلى أن أجاب كل واحد من الفريقين (٩٠ و) إلى تقرير الموادعة على الأعمال ، والمسالمة ، واستقر الأمر في ذلك على أن يكون للأفرنج الثلث من استغلال البقاع ، ويسلم إليهم حصن المنيطرة (١) وحصن ابن عكار (٢) ، ويكفّوا عن العيث والفساد في الأعمال والأطراف ، وأن يكون حصن مصيات (٣) وحصن الطوفان (٤) وحصن الأكراد (٥) داخلا في شرط الموادعة ، ويحمل أهلها عنها

__________________

(١) قال ياقوت عن المنيطرة : حصن بالشام قريب من طرابلس.

(٢) قلعة صغيرة في شمالي لبنان (٢٥ ميلا تقريبا الى الشمال الشرقي من طرابلس) تربض فوق جرف جبلي على السفوح الشمالية لجبل عكار.

(٣) قلعة ومدينة صغيرة في وسط سورية الى الغرب من مدينة حماة ، تقع فوق تل متدرج الانحدار في الشعاب الشرقية لجبال النصيرية.

(٤) لم أجد هذا الحصن في المظان حتى أحدد مكانه.

(٥) تعرف الآن باسم قلعة الحصن تربض في وسط سورية الى الغرب من حمص في منطقة وادي النضارة ، موقعها ممتاز فوق ذروة مرتفعة تزيد عن / ٢١٠٠ قدم / وتحيط بها من جميع جهاتها مدرجات متوسطة الانحدار.

٢٦٤

مالا معينا في كل سنة إلى الافرنج فأقاموا على ذلك مدة يسيرة ، فلم يلبثوا على ما تقرر ، وعادوا إلى رسمهم في الفساد والعناد.

وفيها توفي الشريف القاضي المكين فخر الملك أبو الفضل اسماعيل بن ابراهيم بن العباس الحسيني ليلة الخميس الخامس والعشرين من صفر منها ، بدمشق ، رحمه‌الله.

وفي جمادى الأولى من هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوصول السلطان ركن الدنيا والدين محمد بن ملك شاه إلى بغداد ، وانفاذ كتبه الى سائر البلاد معلما فيها بما هو عليه من قوة العزم على قصد الجهاد ، والأمر لظهير الدين أتابك بالمقام بحيث هو الى حين ترد العساكر إلى الشام ، وينضاف إليها ويدبر أمرها ، لأنه كان تابع كتبه بالاستصراخ والاستنجاد على الكفرة الأضداد ، فعرضت عوائق عن ذلك عاقت ، وموانع عن المراد صدت ، وطالت مدة الانتظار ، وتزايد طمع الكفار بتأخر العسكر السلطانية ، فحملت ظهير الدين أتابك ، الحمية الاسلامية ، والعزيمة التركية على التأهب للمسير بنفسه إلى بغداد ، لخدمة الدار العزيزة النبوية المستظهرية ، والمواقف السلطانية الغياثية ، والمثول بها ، والشكوى لما نزل بالمسلمين في الأعمال إليها ، من تملك البلاد ، وقتل الرجال ، وسبي النساء والأطفال ، وحديثهم بينهم بالطمع في الإمتداد إلى تملك الأعمال الجزرية والعراقية ، وتأهب للمسير ، واستصحب معه فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس ، وخواص أصحابه ، وما أمكنه من الخيول العربية السبّق ، وطرف مصر من أجناس اللباس ، وما يصلح لتلك الجهات من التحف والهدايا من كل فن له قيمة وافرة وتوجه في البرية على طريق السماوة واستناب في دمشق ولده تاج الملوك بوري ، ووصاه بما يجب عمله من استعمال اليقظة (٩٠ ظ) في الذب والحماية وإحسان السيرة في الرعية ، والمغالظة للأفرنج ، والثبات على الموادعة المستقرة معهم إلى حين العود.

٢٦٥

فلما سار ، وحصل في الوادي المعروف بوادي المياه من البرية ، وافى الخبر بما شاع من المرجفين ببغداد ، من الحديث بتقليد السلطان بلاد الشام لأمراء عيّن عليهم ، ووقعت الإشارة في ذلك إليهم ، فأحدث هذا الخبر وحشة أوجبت عوده من طريقه ، واعتمد على فخر الملك بن عمار ، ومن عول عليه من ثقاته في الإتمام إلى بغداد بما صحبه من التحف والهدايا ، والمناب عنه في إنهاء ما دعاه إلى العود من طريقه ، فوصل فخر الملك الى بغداد بما صحبه ، فصادف من الابتهاج بمقدمه والتأسف على عود أتابك ، ولم يصل ويشاهد ما زاد على الأمل ، وظهور بطلان تلك الأراجيف بالمحال الذي لا حقيقة له ، وتواصلت الأجوبة عن ذلك بما سر النفوس ، وشرح الصدور والاعتذار من إشاعة المحال ، وأكاذيب الأخبار.

وقد كان ظهير الدين أتابك في عوده من وادي المياه ، قد اتصل به أن كمشتكين الخادم التاجي ، الوالي ببعلبك قد راسل الأفرنج بالتماس المصافاة منهم ، وبعثهم عن شن الغارات على الأطراف ، وأنه قد سيّر أخاه بايتكين الخادم التاجي إلى السلطان ، للتوصل بالمحال إلى إفساد الحال ، فحين سمع ظهير الدين هذا الخبر ونفوذه ، ندب جماعة من العسكر ، وقرر معهم المصير إلى المسالك والطرقات التي لا بد من عبوره فيها ، لمسكه وحمله إليه ، فلم يقف لبايتكين المذكور على خبر ، وسار ظهير الدين في العسكر من طريقه ، وكتب إلى تاج الملوك يأمره بالخروج في العسكر إلى بعلبك ، والنزول عليها ، فسارع الى امتثال أمره ، وسار إليها ونزل عليها على غفلة من أهلها وغرة ممن بها ، ثم أرسل الخادم المذكور يلتمس منه الدخول في الطاعة ، وتسليم الموضع إليه ، ويحذره من الاستمرار على المخالفة والعصيان ، ويخوفه الإقامة على ما يفضي إلى سفك الدماء ، وبالغ في الاعذار له والإنذار ، فلم يجب إلى المراد والايثار ، وأصر على الخلف والانكار ، ووافى عقيب ذلك ظهير الدين في العسكر ، ومن جمعه من الرجالة ، وزحف إلى بعلبك مقاتلا لها ، ونصب

٢٦٦

عليها المناجيق ، وشرع في عمل آلة الحرب والنقوب لقصد الأماكن المستضعفة منها لانتهاز الفرصة فيها (٩١ و) وترامى إليه من أحداث أهلها وأجنادها جماعة أحسن إليهم ، وخلع عليهم ، وزحف إلى سورها ، وقاتل من عليه ، فقتل جماعة منهم ، فحين شاهدوا الجد في القتال ، والصبر على النزال ، جنحوا إلى الدخول في الطاعة ، والتمس الخادم الإقالة ، وبذل تسليم البلد والحصن على شرط اشترطه ، واقطاع عينه ، وطلب بعض المقدمين للحديث معه والتوثق لنفسه ، فنفذ إليه الأمير بلتاش لمحله من الدولة ، فتقررت الحال على ما اقترحه وسلم البلد والحصن الذي هو غاية في المنعة والحصانة ، ومن العجائب المذكورة ، والقلاع المشهورة ، وخرج إليه ، وجرى على عادته الجميلة في الصفح عمن أساء إليه ، وأظهر العصيان عليه ، وعوضه عن بعلبك حصن صرخد ، وهو مشهور بالحصانة والمنعة أيضا (١) ، وأعاد إليه ما كان قبض عنه من ملك وإقطاع (٢) بدمشق ، وسلم ظهير الدين أتابك ، بعلبك إلى ولده تاج الملوك بوري ، فرتب فيها من ثقات أصحابه من اعتمد عليه في حفظها ، وقرر أحوالها ، وكانت مدة المقام في منازلتها خمسة وثلاثين يوما وسلمت وتسلمت في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسمائة وأمر ظهير الدين بإزالة حوادث الظلم عن أهل بعلبك ، وتسويغ بعض خراجها (٣) أهلها ، وأعاد عليهم أملاكا كانت قد اغتصبت في قديم الزمان ، وكثر له الدعاء ، وتواصل

__________________

(١) ترسم الآن «صلخد» وهي مركز منطقة تابعة لمحافظة السويداء ، وقد وصفها أبو الفداء في تقويم البلدان : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ بقوله : وهي بلدة صغيرة ذات قلعة مرتفعة وكروم كثيرة ، وليس لها ماء سوى ما يجمع من الأمطار في الصهاريج والبرك ... ومن شرقيها تسلك طريقا تعرف بالرصيف الى العراق.

(٢) في الأصل «الى دمشق» وهو غير مستقيم قوم من مرآة الزمان ـ أخبار سنة ـ ٥٠٣ ـ حيث نقل رواية ابن القلانسي هذه.

(٣) في الأصل «بعض خراج أهلها» وهو غير مستقيم المعنى ، وفي مرآة الزمان عن ابن القلانسي : «وحط بعض الخراج» لذا تم التقويم.

٢٦٧

عليه الثناء وعاد منكفيا إلى دمشق ، وورد عليه الخبر بعود السلطان من بغداد إلى أصفهان في شوال من السنة.

وورد الخبر بوفاة الأمير ابراهيم ينال صاحب آمد ، وكان قبيح السيرة فيها ، مذكورا بالظلم في أهلها ، وكان جماعة من أهلها قد جلوا عنها لأجل [ظلمه] المستمر عليهم ، واساءته إليهم ، فسرت النفوس بفقده ، وأمل من بعده الصلاح وقام مقامه ولده ، فكان أصلح منه سريرة ، وأحسن طريقة.

وفي هذه السنة خرج طنكري من أنطاكية في حشده ولفيفه المخذول ، إلى الثغور الشامية فملك طرسوس وما والاها ، وأخرج صاحب ملك الروم منها ، وعاد إلى أنطاكية ، ثم خرج إلى شيزر وقرر عليها عشرة آلاف دينار ، مقاطعة تحمل اليه بعد أن عاث في عملها ، ونزل على حصن (٩١ ظ) الأكراد فتسلمه من أهله وتوجه إلى عرقة ، وكان الملك بغدوين وابن صنجيل قد نزلا على ثغر بيروت برا وبحرا ، فعاد طنكري إلى أنطاكية ، وسار جوسلين صحب تل باشر (١) إلى ثغر بيروت لمعاونة النازلين عليه من الأفرنج ، ويستنجد بهم على عسكر الأمير مودود النازلين على الرها ، وشرع الأفرنج في عمل البرج ، ونصبه على سور بيروت ، فحين نجز وزحفوا به كسر بحجارة المناجيق وأفسد ، فشرعوا في عمل غيره ، وعمل ابن صنجيل برجا آخر ، ووصل في الوقت من اصطول مصر في البحر تسعة عشر مركبا حربية ، فظهروا على مراكب الأفرنج وملكوا بعضها ، ودخلوا بالميرة الى بيروت ، فقويت بها نفوس من فيها من الرعية ، وأنفذ الملك الى السويدية يستنجد بمن فيها من الجنوية في مراكبهم ، فوصل منها إلى بيروت أربعون مركبا مشحنة بالمقاتلة ، فزحف الأفرنج في البر والبحر إليها بأسرهم في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال ، ونصبوا

__________________

(١) يعرف الآن باسم «تل باجر» وهو تابع اداريا لمنطقة جبل سمعان ، احدى مناطق محافظة حلب.

٢٦٨

على السور برجين اشتدوا في القتال ، فقتل مقدم الاصطول المصري ، وخلق كثير من المسلمين ، ولم ير الأفرنج من ما تقدم وتأخر أشد من حرب هذا ، وانخذل الناس في البلد وأيقنوا بالهلكة ، فهجم الأفرنج على البلد آخر نهار هذا اليوم ، فملكوه بالسيف قهرا وغلبة وهرب الوالي الذي كان فيه في جماعة من أصحابه [ثم أمسك](١) وحمل إلى الافرنج فقتل ومن كان معه ، وغنموا ما كان استصحبه من المال ، ونهب البلد وسبي من كان فيه ، وأسر واستصفيت أموالهم وذخائرهم ، ووصل عقيب ذلك من مصر ثلاثمائة فارس نجدة لبيروت ، فحين حصلوا بالأردن خرجت عليهم فرقة من الأفرنج يسيرة العدد ، فانهزموا منهم إلى الجبال ، فهلك منهم جماعة.

فلما تقرر أمر بيروت رحل الملك بغدوين في الأفرنج ، ونزل على ثغر صيدا ، وراسل أهله يلتمس منهم تسليمه ، فاستمهلوه مدة عينوها ، فأجابهم إلى المهلة بعد أن قرر عليهم ستة آلاف دينار تحمل إليه مقاطعة ، وكانت قبل ذلك ألفي دينار ، ورحل عنها الى بيت المقدس للحج.

وفي هذه السنة وردت الأخبار بظهور الكرج على بلاد (٢) كنجة (٩٢ و) وما قاربها ، وأكثروا العيث والفساد في نواحيها ، وانتهى الخبر بذلك إلى السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه ، فأنهض إليهم عسكرا وافر العدد ، فأوقع بهم وشردهم ، وعن الفساد والعيث أبعدهم بالفتك فيهم ، وطردهم ودوخ بلادهم ، وأخرب أعمالهم ، فأمن أهل بلاد كنجة من شرهم ، وقامت الهيبة بإهلاكهم ، وعاد العسكر السلطاني ظافرا غانما.

__________________

(١) زيد ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق حيث أن النص ألم به سقط.

(٢) هي وراء أرمينية العليا ، وهي من مشهور بلاد أران (اللان) على مرحلتين من برذعة. تقويم البلدان : ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٢٦٩

وفي هذه السنة وردت الأخبار بظهور قوم من كافر ترك على من صادفوه في الأعمال ، ووصلوا إلى جيحون فأفسدوا تلك الأعمال ، وأعاثوا فيها ، واتصل الخبر بالسلطان المعظم أبي الحارث سنجر بن ملك شاه ، سلطان خراسان ، فأنهض إليهم أميرا كبيرا من مقدمي عساكر خراسان ، في عدد دثر من الأتراك ، فظفر بهم وكسرهم ، وقتل منهم خلقا كثيرا ، [فأقبلوا](١) عائدين خاسرين مفلولين.

وفي ثامن ذي القعدة من السنة ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة ، وأقام إلى آخر ذي الحجة ، ثم غاب.

وفيها كاتب السلطان غياث الدنيا والدين الأمير سكمان القطبي ، صاحب أرمينية وميافارقين ، وشرف الدين مودود صاحب الموصل يأمرهما بالمسير في العساكر إلى جهاد الأفرنج ، وحماية بلاد الموصل ، فجمعا واحتشدا ، ونهضا ونزلا بجزيرة بني نمير إلى أن تكامل وصول ولاة الأطراف إليهما ، وخلق كثير من المتطوعة ، ووصل إليهما أيضا الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق في خلق كثير من التركمان ، واجتمع المسلمون في عدد لا يقوم بلقائه جميع الأفرنج ، واتفقت الآراء على افتتاح الجهاد بقصد الرها ومضايقتها ، إلى أن يسهل الله افتتاحها بحكم حصانتها ومنعتها.

فرحلوا بأسرهم ونزلوا عليها في العشر الثاني من شوال ، وأحاطوا بها من جهاتها كالنطاق ، ومنعوا الداخل والخارج بالمسير إليها ، وكان القوت بها قليلا ، فأشرف من بها على الهلاك ، وغلا بها السعر ، وطالت مدة الحصر لها ، والتضييق عليها ، وحين عرف الأفرنج صورة هذه الحال ، شرعوا في الجمع والإحتشاد ، والتأهب للذب عنها ، والاستعداد ، واتفقت الكلمة بينهم على

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق. انظر ما ذكره سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٣. ه.

٢٧٠

هذه الحال ، واجتمع (٩٢ ظ) طنكري صاحب أنطاكية وابن صنجيل صاحب طرابلس ، والملك بغدوين ومقدمو ولاة الأعمال من الأفرنج ، وتعاهدوا وتعاقدوا على الثبات في الحرب والمصابرة واللباث ، فلما استقرت الأحوال بينهم على البينة رحلوا بأسرهم إلى ناحية الرها.

واتصلت الأخبار بظهير الدين أتابك ، وعرف صورة الحال فيما تقرر بينهم ، فسار من دمشق في العسكر وخيم على سلمية ، وعرف أن الافرنج قد قصدوا في طريقهم رفنية ، وفيها الأمير شمس الخواص واليها ، وأنهم لما نزلوا عليها ظهر إليهم في خيله وقتل منهم جماعة ، ووصل الى المخيم بسلمية ، واجتمع إليه خلق كثير من الشام ، ووصل الخبر بحصول الأفرنج على الفرات عازمين على قطعه (قصد) الرها ، فرحل أتابك في الحال وتوجه إلى ناحية الرقة وقلعة جعبر ، وقطع الفرات وتلوم هناك إلى أن عرف خبر الافرنج ، أنهم قد أحجموا عن العبور لتفرق سرايا العساكر الاسلامية وطلائعهم في سائر الجهات والمسالك إلى الفرات.

ولما عرف المسلمون قرب الأفرنج منهم ، اتفقت الآراء فيما بينهم على الإفراج لهم ليتمكنوا من لقائهم في الفضاء من شرقي الفرات ، ورحلوا عن الرها في آخر ذي الحجة منها ، ونزلوا أرض حران على سبيل الخديعة والمكر ، وكانت حران قد حصلت للأمير مودود ، وسلمها إلى نجم الدين ايل غازي بن أرتق ، وتوقف المسلمون عن لقاء الأفرنج إلى أن يقربوا منهم ، ويصل إليهم عسكر دمشق ، وفطن الأفرنج لهذا التدبير والاتفاق عليه ، فخافوا واستشعروا الهلاك والخذلان ، وأجفلوا ناكصين على الأعقاب إلى شاطئ الفرات ، وبلغ المسلمين خبرهم ، فنهضوا في إثرهم وأدركهم سرعان الخيل وقد قطع الفرات بعضهم من مقدميهم ، فغنم المسلمون سوادهم وأثقالهم ، وأتوا على العدد الدثر من أتباعهم قتلا وأسرا وتمزيقا في الفرات ، وامتلأت الأيدي من الغنائم

٢٧١

والأسلاب والسبي والدواب ، ولم يتمكن المسلمون من قطع الفرات للحاق بهم بحكم اشتغالهم بأمر الرها ، والعود إليها ، وكانوا قد أخرجوا منها كل ضعيف الحال ، ورتبوا جماعة من الأرمن لحفظها ، وحملوا إليها ما صحب العسكر الواصل من الأقوات تقوية لها ، وخرج بغدوين الرويس (٩٣ و) صاحبها عنها ، وتوجه صحبة الأفرنج المنهزمين ، وأقام عسكر الإسلام على الفرات أياما نازلا بإزائهم ، ورحل طالبا للعود إلى منازلة الرها ، وعرف ظهير الدين أتابك خبر عودهم على تلك الصفة ، فعاد منكفئا إلى عمله لحمايته منهم ، بعد أن نفّذ شطرا وافرا من معسكره إلى النازلين على الرها لمعونتهم ، ووصل إلى دمشق وأقام من كان أنهضه من عسكره الى الرّها الى أن خلت البلاد منهم وأذن لهم في العود إلى أماكنهم بعد إكرامهم والإحسان إليهم (١).

وترددت بين أتابك ظهير الدين ، وبين الأمير شرف الدين مودود مراسلات ، أفضت إلى استحكام المودة بينهما ، واتفاق الكلمة ، وتأكيد أسباب الألفة ، فطال مقام عسكر الاسلام على الرها لامتناعها وحصانتها ، وقل تواصل الميرة إلى المخيم ، وعدم وجودها ، فدعتهم الحاجة إلى العود عنها ، فتفرقوا بعد أن رتبوا من يقيم على حرّان لحصر الرها.

وحدث لنجم الدين ايل غازي بن أرتق استيحاش من سكمان القطبي لأمر تجدد بينهما ، فأجفل من حران إلى ماردين ، فقبض سكمان على ابن أخيه بلك ، وحمله معه إلى بلده مقيدا.

وبعد تفرق العساكر الاسلامية عن الرها عاد إليها بغدوين الرويس صاحبها ، وحصل بها ، والغارات متواصلة على أطرافها ، وقد كان الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب لما عرف هزيمة الأفرنج خرج إلى اعمال حلب ،

__________________

(١) كان جمع العساكر الاسلامية موسميا خاضعا لقواعد الاقطاع العسكري.

٢٧٢

واستعاد ما كان غلب الأفرنج عليه منها ، وغار على عمل أنطاكية ، وغنم منه غنيمة وافرة ، ولما عرف خبر عودهم عاد إلى حلب ، ووصل الأفرنج عقيب ذلك فأفسدوا في عمل حلب ، وقتلوا وأسروا خلقا كثيرا ، وعاد طنكري ونزل على الأثارب (١) ، وملكها بعد طول حصرها والمضايقة لها ، وذلك في جمادى الآخرة من السنة ، وآمن أهلها ، وخرج منها من أراد الخروج ، وأقام من آثر المقام ، واستقرت الموادعة بعد ذلك بين الملك فخر الملوك رضوان وبين طنكري ، على أن يحمل إليه الملك من مال حلب في كل سنة عشرين ألف دينار مقاطعة ، وعشرة أرؤس خيلا ، وفكاك الأسرى ، واستقرت على هذه القضية.

وفيها وصل الملك بغدوين صاحب (٩٣ ظ) بيت المقدس الى ناحية بعلبك وعزم على العيث والإفساد في ناحية البقاع ، وترددت المراسلة بينه وبين ظهير الدين أتابك في هذا المعنى ، الى أن تقررت الموادعة بينهما على أن يكون الثلث من استغلال البقاع للأفرنج ، والثلثان للمسلمين والفلاحين ، وكتبت بينهما المواصفة بهذا الشرح في صفر من السنة ، ورحل عائدا إلى عمله ، وقد فاز بما حصل في يده وأيدي عسكره من غنائم بعلبك ، والبقاع.

ووردت الأخبار فيها بوصول بعض ملوك الأفرنج في البحر ، ومعه نيف وستون مركبا مشحونة بالرجال لقصد الحج والغزو في بلاد الإسلام ، فقصد بيت المقدس ، وتوجه إليه بغدوين واجتمع معه ، وتقرر بينهما قصد البلاد ، فلما عادا من بيت المقدس نزلا على ثغر صيدا في ثالث شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة وضايقوه برا وبحرا ، وكان الاصطول المصري مقيما على ثغر صور ، ولم يتمكن من إنجاد صيدا ، فعملوا البرج وزحفوا به إليها ، وهو ملبس بحطب الكرم والبسط وجلود البقر الطرية ، ليمنع من الحجارة والنفط ، وكانوا إذا أحكموه على هذه الصورة نقلوه على بكر تركب تحته

__________________

(١) هي قلعة حصينة بين حلب وأنطاكية. اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير. ط. بيروت : ١٩٨٠.

٢٧٣

في عدة أيام متفرقة ، فإذا كان يوم الحرب وقرب من السور ، زحفوا به وفيه الماء والخل لطفي النار ، وآلة الحرب.

فلما عاين من بصيدا هذا الأمر ، ضعفت نفوسهم ، وأشفقوا من مثل نوبة بيروت ، فأخرج إليهما قاضيها وجماعة من شيوخها ، وطلبوا من بغدوين الأمان ، فأجابهم الى ذلك ، وأمنهم والعسكرية معهم على النفوس والأموال ، وإطلاق من أراد الخروج منها إلى دمشق ، واستحلفوه على ذلك وتوثقوا منه وخرج الوالي والزمام وجميع الأجناد والعسكرية ، وخلق كثير من أهل البلد ، وتوجهوا الى دمشق لعشر بقين من جمادى [الأولى](١) لسنة أربع وخمسمائة ، وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوما ، ورتب بغدوين الأحوال بها والحافظين لها ، وعاد إلى بيت المقدس ، ثم عاد بعد مدة يسيرة الى صيدا ، فقرر على من أقام بها نيفا وعشرين ألف دينار ، فأفقرهم واستغرق أحوالهم ، وصادر من علم أن له تنبه منهم.

سنة أربع وخمسمائة

(٩٤ و) في هذه السنة وردت الأخبار بأن جماعة من التجار المسافرين خرجت من تنيس (٢) ودمياط ومصر ببضائع وأموال جمة ، كانوا قد ضجروا وملّوا طول المقام ، وتعذر مسير الاصطول في البحر ، وحملوا نفوسهم على الخطر ، وأقلعوا في البحر ، فصادفتهم مراكب الأفرنج ، فأخذتهم وحصل في أيديهم من الأمتعة والمال ما يزيد على مائة ألف دينار ، وأسروهم وعاقبوهم ، واشتروا أنفسهم بما بقي لهم من الذخائر في دمشق وغيرها.

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من الكامل لابن الأثير : ٨ / ٢٦٠.

(٢) في تقدم البلدان : ١١٨ ـ ١١٩ : «وتنيس جزيرة في مصر في وسط بحيرة تعرف ببحيرة تنيس قريبة من ماء البحر» المتوسط.

٢٧٤

وأما بغدوين فإنه لما عاد من صيدا ، قصد عسقلان ، وغار عليها ، وكان واليها المعروف بشمس الخلافة يراسل بغدوين ، فاستقرت الحال بينهما على مال يحمله إليه ، ويرحل عنه ويكف الأذية عن عسقلان ، وكان شمس الخلافة أرغب في التجارة من المحاربة ، ومال إلى الموادعة والمسالمة وإيمان السابلة ، وقرر على أهل صور سبعة آلاف دينار تحمل إليه في مدة سنة وثلاثة شهور ، وانتهى الخبر بذلك الى الأفضل صاحب مصر في شوال ، فأنكر هذه الحال ، وأسرها في نفسه ، ولم يبدها لأحد من خاصته ، وجهز عسكرا كثيفا إلى عسقلان مع وال يكون مكان شمس الخلافة ، فلما قرب من عسقلان وعرف شمس الخلافة ذاك أظهر الخلاف على الأفضل ، وجاهر بالعصيان عليه ، وأخرج من كان عنده من العسكرية لخوفه من تدبيرهم عليه من الأفضل لما يعلمه من الأمور التي أنكرها عليه ، ونقمها منه ، ومراسلته لبغدوين يلتمس منه المصافاة والمعونة بالرجال والغلال ، وإن دهمه أمر ، وحزبه خطب ، سلم إليه عسقلان فطلب منه العوض عنها ، فلما عرف الأفضل ذلك أشفق من تمام هذا الأمر ، فكاتبه بما يطيب نفسه ، وغالطه وأقطعه عسقلان وأقر إقطاعه بمصر عليه ، وأزال الاعتراض لشيء من ماله في ديار مصر من خيل وتجارة وأثاث ، وخاف شمس الخلافة من أهل البلد ، فاستدعى جماعة من الارمن فأثبتهم في عسقلان ، ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة ، فأنكر أمره أهل البلد ، ووثب عليه قوم من كتامة وهو راكب فجرحوه ، وانهزم إلى داره فتبعوه وأجهزوا عليه ، ونهبوا داره وماله ، وتخطفوا بعض دور (٩٤ ظ) الشهود والعامة ، وانتهى الخبر إلى صاحب السيارة فبادر إلى البلد ، فأطاع أمره من به ، وأنفذوا رأسه إلى الأفضل إلى مصر ، وأنهوا جلية حاله ، فحسن موضع ذلك منه وموقعه ، وأحسن الى الواردين بهذه البشرى ، ثم تقدم بمطالبة القوم القاتلين بما نهبوه من داره ، واستولوا عليه من ماله ، ومال أهل البلد ،

٢٧٥

واعتقالهم ، وقبض جماعة من أهل البلد ، وحملهم إلى مصر ، ولما وصلوا اعتقلوا فيها.

وفي هذه السنة هبت بمصر وأعمالها ريح سوداء ، وطلع سحاب أسود أخذ بالأنفاس وأظلمت منه الدنيا ، حتى لم يبصر أحد يده ، والريح تسفي الرمل في مقل الناس ووجوههم ، حتى يئسوا من الحياة ، وأيقنوا بالبوار لهول ما عاينوه ، والخوف مما نزل بهم ، ولما تجلى ذلك السواد ، عاد إلى الصفرة ، والريح بحالها ، ثم انجلت الصفرة ، وظهرت للناس الكواكب ، وظن أهل تلك الأعمال بأن القيامة قد قامت ، وخرج الناس من منازلهم وأسواقهم إلى الصحراء ، وركدت الريح ، وأقلع السحاب ، وعاد الناس إلى منازلهم سالمين من الأذى ، وكانت مدة هذه الشدة منذ صلاة العصر الى صلاة المغرب.

وفيها وصل السلطان غياث الدين محمد بن ملك شاه من همذان إلى بغداد ، في جمادى الأولى منها ، ووردت الكتب والرسل إليه من الشام بإنهاء الحال ، وما جرى من الافرنج بعد عودهم عن الفرات ، ونوبة صيدا والأثارب وأعمال حلب.

ولما كان أول جمعة من شعبان حضر رجل من الأشراف الهاشميين من أهل حلب ، وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء إلى جامع السلطان ببغداد ، فاستغاثوا وأنزلوا الخطيب عن المنبر ، وكسروه ، وصاحوا وبكوا لما لحق الاسلام من الأفرنج ، وقتل الرجال وسبي النساء والأطفال ، ومنعوا الناس من الصلاة ، والخدم والمقدمون يعدونهم عن السلطان بما يسكنهم من إنفاذ العساكر ، والانتصار للاسلام من الأفرنج والكفار ، وعاودوا في الجمعة الثانية المصير إلى جامع الخليفة ، وفعلوا مثل ذلك من كثرة البكاء والضجيج والإستغاثة والنحيب.

٢٧٦

ووصلت عقيب ذلك الخاتون السيدة ، أخت السلطان ، وزوجة الخليفة إلى بغداد من أصفهان ، ومعها من التجمل والجواهر والأموال والآلات ، وأصناف المراكب والدواب والأثاث (٩٥ و) وأنواع الملابس الفاخرة ، والخدم والغلمان والجواري والحواشي ، ما لا يدركه حزر فيحصر ، ولا عدّ فيذكر ، واتفقت هذه الاستغاثة ، فتكدر ما كان صافيا من الحال والسرور بمقدمها ، وأنكر الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ما جرى ، وعزم على طلب من كان الأصل والسبب ليوقع به المكروه ، فمنعه السلطان من ذلك ، وعذر الناس فيما فعلوه ، وأوعز إلى الأمراء والمقدمين بالعود إلى أعمالهم ، والتأهب للمسير الى جهاد أعداء الله الكفار.

وفي جمادى الآخرة منها ، وصل رسول متملك الروم بهدايا وتحف ومراسلات ، مضمونها البعث على قصد الأفرنج ، والايقاع بهم والاجتماع على طردهم من هذه الأعمال ، وترك التراخي في أمرهم ، واستعمال الجدّ والاجتهاد في الفتك بهم قبل إعضال خطبهم واستفحال شرهم ، ويقول إنه قد منعهم من العبور الى بلاد المسلمين ، وحاربهم ، فان طمعوا فيها ، بحيث تتواصل عساكرهم وامدادهم الى البلاد الاسلامية احتاج إلى مداراتهم وإطلاق عبورهم ومساعدتهم على مقاصدهم وأغراضهم ، للضرورات القائدة إلى ذلك ، ويبالغ في الحث والتحريض على الإجتماع على حربهم ، وقلعهم من هذه الديار بالاتفاق عليهم.

وفي هذه السنة نقض الملك بغدوين صاحب بيت المقدس الهدنة المستقرة بين أتابك وبينه ، وكتب إلى ابن صنجيل صاحب طرابلس يلتمس منه الوصول إليه في عسكره ، ليجتمع معه في طبرية ، وجمع وحشد ، ورحل إلى ناحية بيت المقدس لتقرير أمر كان في نفسه ، فحدث له في طريقه مرض أقام به أياما ، ثم أبل منه وأفاق ، وقصد في حشده ناحية البثنية من حوران ، وقد اطرح كل

٢٧٧

من في الشام ، ولم يبق في عينه منهم أمر يحفل به من جهتهم ، فنهض ظهير الدين أتابك عند معرفته قصده في عسكره ، ونزل في المنزل المعروف برأس الماء (١) ، ثم رحل عنه إلى اللجاة ، ونهض الأفرنج في إثره الى الصنمين (٢) ، ففرق أتابك العسكر عليهم من عدة جهات ، وبث في المعابر والمسالك خيلا تمنع من حمل الميرة إليهم ، وضايقهم مضايقة ألجأتهم الى الدخول في حكم المسالمة والموادعة ، وترددت المراسلات في ذلك (٩٥ ظ) إلى أن استقرت الحال بينهما على أن يكون لبغدوين النصف من ارتفاع جبل عوف والسواد والحياينة مضافا إلى ما في يده ، ومن هذه الأعمال التي يليها في أيدي العرب من آل جراح ، وكتب بينهما هذا الشرط ، ورحل كل منهما منكفئا الى عمله في آخر ذي الحجة منها.

وقد كان الأمر تقرر مع السلطان غياث الدنيا والدين على إنهاض العساكر عقيب تلك الاستغاثة المقدم شرحها ببغداد ، والتقدم الى الأمراء بالتأهب للمسير الى الجهاد ، فتأهبوا لذلك ، وكان أول من نهض منهم الى أعمال الأفرنج الأمير الاسفهسلار شرف الدين مودود ، صاحب الموصل ، في عسكره إلى شبختان (٣) فافتتح تل قراد (٤) وعدة حصون هناك بالسيف والأمان

__________________

(١) اسمه الآن نبع الثريا قرب قرية فقيع بحوران بين جاسم ونوى ، جرت مياهه الى قرية الشيخ مسكين ويبعد عن دمشق مسافة / ٧٠ كم /.

(٢) على الطريق الدولية التي تصل دمشق بدرعا ، وتبعد عن دمشق حوالي / ١٥ / ميلا.

(٣) في الأصل سنجتان ، وقد ضبطه أمدروز / سنجتان / ولم أجد لهذا الموقع من ذكر في المصادر الجغرافية ووجدت في الباهر لابن الأثير : ١٧ «شبختان» حيث قال : «فما بلغني منها أن الأمير مودودا سار الى الغزاة بالشام ، ففتح في طريقه قلاعا من شبختان كان للفرنج» وشبختان كما يستنتج من ياقوت هي في بلاد الأرمن في ديار ربيعة. انظر زبدة الحليب : ٢ / ١٥٨.

(٤) في الأصل : «تل مراد» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا ففي معجم البلدان : تل قراد : حصن مشهور في بلاد الأرمن من نواحي شبختان.

٢٧٨

ووصل إليه الأمير أحمد يل (١) في عسكر كثيف الجمع ، وكذلك تلاه الأمير قطب الدين سكمان القطبي من بلاد أرمنية وديار بكر ، فاجتمعوا في أرض حران ، وكتب إليهم سلطان بن علي بن منقذ صاحب شيزر يعلمهم نزول طنكري صاحب أنطاكية أرض شيزر ، وشروعه في بناء تل ابن معشر في مقابلة شيزر ، وحمل الغلال إليه ، ويستصرخهم ويبعثهم على الوصول إلى جهته ، فحين عرفوا ذاك رحلوا إلى الشام ، وقطعوا الفرات في النصف من المحرم سنة خمس وخمسمائة ، ونزلوا على تل باشر في التاسع عشر من المحرم ، وأقاموا عليه منتظرين وصول الأمير برسق بن برسق صاحب همذان ، وكان قد أمر من السلطان بالتقدم عليهم ، فوصل إليهم في بعض عسكره ، وبه مرض من علة النقرس ، وسكمان القطبي أيضا مريض ، والآراء بينهما مختلفة ، وقاتل المطوعة والسوقة هذا الحصن ونقبوه ، فأنفذ جوسلين صاحب تل باشر إلى الأمير أحمد يل الكردي يلاطفه بمال وهدية ، ويبذل له الكون معه ، والميل إليه ، وكان أكثر العسكر مع أحمد يل ، وسأله الرحيل عن الحصن وينزل إليه ، فأجابه إلى ذلك ، على كراهية من باقي الأمراء ، واشتد مرض سكمان القطبي ، وعزم أحمد يل على العود طمعا منه في أن السلطان يقطعه بلاد سكمان ، وكان قد عقد بينهما وصلة وصهر ، فعادوا عن تل باشر إلى حلب ، ونزلوا عليها ، وعاثوا في أعمالها وفعلوا أقبح من فعل الأفرنج في الفساد ، وتوقعوا خروج (٩٦ و) الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب إليهم ، أو خدمة ينفذها لهم ، فلم يلتفت الى أحد منهم ، وأغلق أبواب حلب ، وأخذ رهائن أهلها الى القلعة ، ورتب الجند وأحداث الباطنية والطائعين لحفظ الأسوار ، ومنع الحلبيين من الصعود إلى السور ، وأطلق الحرامية في أخذ من يظفرون به من أطراف العسكر (٢).

__________________

(١) أحمد يل الكردي صاحب مراغة أعظم بلاد أذربيجان وأشهرها ، ترجم له ابن العديم في بغية الطلب. انظر كتابي : مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٥٤.

(٢) أنظر تفاصيل خبر هذا وآثاره في ترجمة رضوان في بغية الطلب لابن العديم. مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٩٢ ـ ٢٩٤.

٢٧٩

وقد كان ظهير الدين أتابك عند اجتماع هؤلاء الأمراء ، وعبورهم الفرات قد كاتبوه بالوصول إليهم ، ورد التدبير فيما يعتمدونه عليه إليه ، ووصل إليه كتاب السلطان بمثل هذه الحال ، فاقتضت الصورة ، وصائب الرأي أن ينهض في العسكر نحوهم للاعتضاد على الجهاد ، وتقوية النفوس على حماية هذه البلاد من أهل الشرك والإلحاد ، وجمع من أمكنه من رجال حمص وحماة ورفنية وسائر المعاقل الشامية ، وسار إليهم ووصلهم على ظاهر حلب ، فتلقوه بالإكرام والمزيد في الإحترام ، وقويت بوصوله النفوس ، واشتدت الظهور ، وسروا بحصوله عندهم سرورا ، ظهر منهم وشاع عنهم ، فلم ير منهم عزيمة صادقة في جهاد ، ولا حماية بلاد.

وأما سكمان القطبي فإن المرض اشتد به ، واشفي منه ففصل عنهم وعاد إلى بلده (١) ، وورد الخبر بوفاته في طريقه قبل وصوله الفرات (٢) ، وأما

__________________

(١) في الأصل «ولده» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

(٢) سكمان القطبي هو صاحب ميافارقين ، وكان قبل ذلك يمتلك أخلاط ، وتحدث الفارقي في تاريخه : ٢٧٤ ـ ٢٧٨ عن تسلمه لميافارقين ثم مشاركته في حملة مودود حتى وفاته ، ورواية الفارقي لها أهمية خاصة لأن حوادثها وقعت في منطقة هو مؤرخها ، يقول الفارقي : «وفي الخميس العشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسمائة نزل الأمير سكمان صاحب أخلاط الى ميافارقين وحاصرها ، وكان تشرين الأول من السنة ، وحاصرها وضايقها وكانت شتوة صعبة ، وبقي يحاصرها سبعة أشهر ، ثم سلمها إليه أتابك خمر تاش بعد ذلك في شوال سنة اثنتين وخمسمائة ، ودخل ميافارقين .. وأقام بميافارقين ، وأزال عنهم الكلف والمؤن والأعشار والأقساط وأسقط دار الضرب ، وما كان جدده المحتسب وأتابك واتخذوه من الرسوم ، وحط عن الناس أشياء كثيرة ، وأطلق الحشر للسور ، وأجرى الناس على أملاكهم ، وخفف عنهم من الخراج ، وأزال عنهم جميع أسباب الظلم ، ونزل في القصر واليا مملوكه غزغلي وسلم البلد الى خواجا أثير الدولة أبو الفتوح ، وبقي الناس معه على كل خير ...

٢٨٠