تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

سنة تسع وستين وثلاثمائة

فيها خرج العسكر المصري مع القائد سلمان بن جعفر بن فلاح في أربعة آلاف من المغاربة ، ووصل إلى دمشق فصادف قسّاما قد غلب عليها ، فنزل في بستان الوزير (١٩ ظ) بزقاق الرمان (١) ، وعسكر حوله في دور هناك ، فثقل أمره على قسّام ، وطال مقامه في غير شيء ، وقلّت نفقته ورام أن يظهر صرامة فيتمكن من البلد ، فقال لقسّام : لا يحملن أحد سلاحا ، فأبوا ذلك فبعث إلى الغوطة من يتولاها ويمنع من خفارة تؤخذ منها وحمل السلاح فيها ، فأعلم قسّام ذلك ، فقال : لا يحفل بهذا الأمر بل كونوا على ما كنتم عليه ، وثار قسام ومن معه الى الجامع ، وصاروا إلى البستان الذي فيه سلمان فأخرجوهم ، وخرج سلمان وأصحابه الى الدكة ، ونزل على نهر يزيد ، وقسام جالس في الجامع ولم يشهد الحرب مع أصحابه ، وقد أحضر المشايخ ، وكتب بما جرى إلى مصر ، وعمل محضرا على نفسه أنه «متى جاء للملك عضد الدولة عسكر أغلق الأبواب وقاتله ليكون لك معونة على ما يريده» ، فلما وقف عليه العزيز وافق غرضه ، وأنفذ رسله وكتابه إلى سلمان بن فلاح يأمره بالرحيل عن دمشق ، فرحل عنها وكان مقامه بها شهورا من سنة تسع وستين وثلاثمائة ورجع القائد أبو محمود إلى دمشق ، ولما تمّ للفضل ما دبره على أبي تغلب ووافق الاغراض عزموا على إعمال الحيلة على ابن جرّاح لأن أمره كبر وشرّه ظهر ، (٢) وتوجه الى قسّام ليعمل أيضا عليه ، وأظهر أنه يريد المسير الى

__________________

(١) قرب العقيبة. الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ١٤١.

(٢) شكل نشاط أمراء طيء من آل الجراح في فلسطين خطرا كبيرا على الخلافة الفاطمية ، وقد نلحظ مشاعر الادارة الفاطمية تجاه هذا الخطر في وصية يعقوب ابن كلس للخليفة العزيز عندما زاره وهو على فراش الموت حيث قال له فيما قال : «سالم الروم ما سالموك ، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة ، ولا تبق على مفرج بن دغفل متى اعترضت لك فيه فرصة» أنظر الاشارة الى من نال الوزارة : ٢٣.

٤١

حمص وحلب ليأخذهما ، وجمع بني عقيل ونزل بظاهر دمشق ، وعلم ابن الجراح بمكاتبته لبني عقيل فأخذ حذره وأمر أصحابه بالرحيل ، وركب أصحاب الفضل وأخذوا من العرب تقدير خمسمائة فارس ، وسار ابن جرّاح عن دمشق ، وانضمت بنو عقيل إلى الفضل مع شبل وظالم في صفر سنة سبعين وثلاثمائة وبطل كل ما أراد الفضل عمله من الحيلة على ابن جراح وقسّام ، ورحل عن دمشق في طلب ابن جرّاح ، وجدّ في طلبه فبعد عنه ، وكتب ابن جراح إلى مصر يتلطف أمره فورد الأمر على الفضل بالكف عنه ، وعاد الفضل الى مصر وعاد ابن جراح الى فلسطين فأخربها وأهلك من فيها ، وكان الرجل يدخل إلى الرملة يطلب فيها شيئا يأكله فلا يجده ، ومات الناس بالجوع ، وخربت الأعمال.

وأمّا دمشق فكان قد اشتد بها غلاء السعر ، وكان بكجور قد ولي حمص من قبل سعد (٢٠ و) الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان فواصل إليها الغلة مع العرب بحيث اتصلت مع الأيام ، وعمرت الطرقات ، وجعل فيها من يخفر سالكيها ، وكانت العرب قد طمعت في عمل دمشق وأفسدت الغوطة ، وكان بها القائد أبو محمود واليها في ضعف ، وهو ضميمة لقسّام فهلك في دمشق في سنة سبعين وثلاثمائة ، وكان بكجور قد ضمن أعمال المغاربة : قارا ويبرود ومعلولا والتينة وصيدنايا والمعرة وتلفيتا (١) وغيرها من ضياع جبل سنير (٢) فحماها من العرب والحرامية ، وحسنت حال دمشق بذلك ، وكاتب بكجور العزيز في ترغيبه في الأجناد حملة السلاح ، فاجتمع إليه حين فعل

__________________

(١) ما تزال جميعا معروفة بهذه الأسماء في محافظة دمشق في سورية.

(٢) هو جبل القلمون الحالي. غوطة دمشق ١٤.

٤٢

ذاك الخلق الكثير من سائر البلاد ، وكانوا حوله إذا ركب من داره ، فقهر بهم المغاربة ، واستظهر عليهم في سنة سبعين وثلاثمائة (١).

وفيها وردت الأخبار بوفاة الملك عضد الدولة فناخسره بن بويه في يوم الاثنين ثامن شوال ، وكتم أمره ، وكانت مدته بالعراق خمس سنين ونصفا ، وانتهى ذلك إلى الوزير ابن كلس ، فدخل على العزيز فأعلمه فسر بذلك ، وخلع عليه ، وأمنوا بعد وفاته وعملوا على الخروج إلى الشام (٢).

* * *

__________________

(١) قامت دولة الفاطميين على عواتق قبيلة كتامة البربرية ، ولدى سيطرة الخلافة الفاطمية على الشمال الافريقي ازداد حجم جيشها بدخول بربر من غير كتامة فيه ، كما اشترى الخلفاء عددا صغيرا من الأرقاء الصقالبة واستخدموهم في الجيش ووصل بعض هؤلاء إلى مراتب قيادية مثل جوهر ، وعندما فتحت مصر وبعد انتقال الخليفة المعز إليها ظل عماد الجيش الفاطمي البربر ، وبرهن هذا الجيش عن عجزه في حروب الشام والصراع مع القرامطة ، مما دفع الخليفة العزيز إلى التفكير بتجنيد بعض الأتراك وسواهم ، ولهذا رأينا مدى حرصه على ألفتكين ، ومن هنا نفهم كيف حدث اغتيال ألفتكين بسرعة مدهشة ، ويلاحظ نجاح العزيز في تأسيس كتائب من الترك والديلم ، وقيامه بتجنيد كميات كبيرة من زنوج أفريقية ، ومنح هذا التنويع بعض الفوائد للخلافة الفاطمية إنما سبب لها العديد من الأزمات الخطيرة أيضا.

(٢) كان عضد الدولة أعظم رجالات الدولة البويهية ، ولقد أخذ ملك بني بويه بعد وفاته في الانحدار وقوتهم بالضعف ، والمفيد الاشارة إليه هنا أن وفاة عضد الدولة كانت سنة ٣٧٢ ه‍ / ٩٨٣ م وليس سنة ٣٧٠ كما ورد هنا. أنظر مسكويه : ٢ / ٣٨٠ ـ ٤١٧. ذيل تجارب الأمم : ٣ / ٥٣ ـ ٧٥. المنتظم لابن الجوزي : ٧ / ٣٨ ـ ١١٨. تاريخ ابن خلدون. ط بيروت : ٤ / ٩٤٧ ـ ٩٧٥.

٤٣

سنة احدى وسبعين وثلاثمائة

فيها وقع الاهتمام بتجهيز العساكر المصرية إلى ابن جرّاح ، وقد اشتهر أمره بإرتكاب العيث والفساد وإخراب البلاد ، فلما سار العسكر من مصر ، القائد بلتكين التركي (١) وكان فيها أعجام ومغاربة ومن كل الطوائف ، فنزل الرملة ، وأجفل ابن جرّاح ، وكان قد قوي أمره وصار معه جند يرمون بالنشّاب ، وخلق عظيم ، وسار معه بشارة (٢) والي طبرية واجتمع إليه من العرب من قيس وغيرها جمع كثير ونشبت الحرب بين الفريقين ، وكان بلتكين المقدم قد خرج على ابن جراح من ورائه بعد اشتداد الحرب ، فانهزمو وأخذهم بالسيف وأسر ابن جرّاح وأفلت ونهب عسكره ، وقصد أرض حمص في البرية ، وقصد أنطاكية واستجار بصاحبها فأجاره وأمنه ، وصادف خروج بارديس من قسطنطينة في عسكر عظيم يريد أرض الإسلام فخاف ابن جرّاح ، وكاتب بكجور خوفا على نفسه (٣) ، وكان القائد بلتكين (٢٠ ظ) المقدم قد نزل على دمشق في ذي الحجة سنة [اثنتين](٤) وسبعين وثلاثمائة ، وكان على

__________________

(١) هو من رجالات ألفتكين ، وورد اسمه في تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكي : ١٦٣ «تلتكين» ولعل صورته هنا ولدى يحيى بن سعيد تصحيف «ألبتكين» ومفيد أن نشير هنا أن المقريزي يؤرخ لقدومه سنة ٤٧٢. انظر اتعاظ الحنفا : ١ / ٢٥٦.

(٢) بشارة الخادم من غلمان الحمدانية فر من حلب إلى مصر مع عدد من الغلمان فانتدب لولاية طبرية. انظر اتعاظ الحنفا : ١ / ٢٥٥. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٠٦ ـ ٣٠٨.

(٣) ذكر يحيى بن سعيد : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، أن ابن دغفل التجأ إلى أنطاكية وكتب إلى الامبراطور باسيل الثاني ملتمسا منه النجدة ؛ وبين الأنطاكي أن الامبراطور بعث الدمشق بردس الفوقاس.

(٤) في الأصل : «سبعين وثلاثمائة» وهو خطأ صوابه ما أثبتناه وتداركناه بين حاصرتين. انظر اتعاظ الحنفا : ١ / ٢٥٦ ، ولاحظ سياق الخبر.

٤٤

العسكر منشا بن الغرّار اليهودي ، فتلطف أمر قسام فلم يتمكن من ذلك ، وكان بدمشق مع قسّام القائد جيش بن الصمصامة شبه وال ، وقد كان ولي البلد بعد مهلك خاله القائد أبي محمود في سنة سبعين ، ولما نزل القائد بلتكين مقدّم العسكر المصري على المزة وجده رجلا أحمق ، فلم يحفل به ودخل على منشا الكاتب ، فقال : إني قضيت حق هذا القائد ولم يجيء إليّ ولم يقض حقي ، وأنا الوالي ، فهزأ به منشا وقال له : نعم أنت الوالي ، وظن إنما نزول العسكر على دمشق ليصلح البلد ، وقالوا : تخرج أنت ومن معك إلى ظاهر البلد ، فخرج هو ومن معه ، فعسكر نحو مسجد ابراهيم عليه‌السلام ، وكان عسكر بشارة نازلا في ذلك المكان ، وكانت المراسلة بينهم وبين قسّام أن يسلم البلد ويكون هو آمنا على نفسه ومن معه ، فعلم قسّام أنهم إن بقوا في البلد أهلكوه ومن معه ، فقال لا أسلم البلد ، وضبط أصحابه.

فلما كان يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وقع بين قوم من أصحاب قسّام وقوم من أصحاب القائد بشارة الخادم عند باب الحديد فظهر عليهم أصحاب بشارة ، وأقبل في غد أصحاب جيش بن الصمصامة ، فخرج أصحابه إليهم فطردوهم ، ثم نشبت الحرب وأحرق ربض باب شرقي ، وأطلقت النار في عدة مواضع وملكوا الشاغور ، ودخلت الأتراك على خيلهم في البطّاطين وأحرقوا سقيفة وعدّة مواضع ومساجد وعمها الخراب بعد ما كانت عليه من حسن العمارة ، واشتد بالناس الخوف والمضرة ، فاجتمع الناس وكلموا قسّاما بأن يخرجوا إلى القائد بلتكين فيصلحوا الأمر معه فلان لهم وذل بعد تحيره وتبلده ، وقال : افعلوا ما شئتم ، وكان اجتماع الناس لطفا من الله تعالى ، فخرجوا إليه وخاطبوه ، فصرف أصحابه عن القتال وعن الأبواب ، وانصرف أصحاب قسّام إليه فوجدوه خائفا ، فأخذ كل لنفسه ، ورجع المشاريخ إلى قسّام فقالوا له : قد أجاب القائد الى ما تحب وأمنك على نفسك وأصحابك ،

٤٥

فخاطبوه بذلك وهو ساكت حائر وقد بان ذلك في وجهه ، فلما رأوه كذلك خافوا أن يعود عن تسليم البلد ، [واجتمع أكثر الناس ، فصاح من كان قد احترقت داره وهم كثير بقسام : انتقم الله ممن أذلنا وأحرق دورنا وشتتنا وتركنا مطرحين على الطريق ، فوجب قلبه من سماع صياحهم وقال : أسلم البلد](١) على أمان لي ولأصحابي (٢١ و) فعاد المشايخ إلى بلتكين القائد وأعلموه الخطاب والجواب فأجابهم إلى ما طلب ، وقال لهم : نريد أن ننزل على هذا البلد في هذا اليوم ، فقالوا : افعل ما تحب وتوثر فولى البلد حاجبا يقال له خطلخ في خيل ورجل فدخل المدينة من يومه ، وكان مبدأ الحرب في هذه النوبة يوم الخميس لعشر بقين من المحرم سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة والدخول إلى البلد يوم الخميس لثلاث بقين منه ، ولم يعرض لقسّام ولا لأحد من أصحابه ، وتفرق أصحابه عنه ، وأقام يومين واستتر ، وقيل هرب فصاروا إلى داره وأخذوا ما فيها وحولها من دور أصحابه ، وطلب ، فلم يوجد ، ونودي عليه وبذل لمن يظهره خمسون ألف درهم ، ولمن يدل على مكان [أولاده](٢) عشرون ألفا ، فقال لهم قائل : «هو في كنيسة اليهود بين البطاين» فجاؤوا إلى الديّان وقالوا : نريد أن نخرب هذه الكنيسة أو نحرقها بالنار فإن قسّاما فيها ، فأصعدهم ، ودار بهم فيها فلم يروا أثرا ولا عرفوا له خبرا ، فلما أخذت امرأته وولده ، قالت لمن سمع منها : ما تنتظر يا مشوم ، وكان عند رجل في الحائر (٣) ولم يفطن به أحد ، فخرج في الليل إلى العسكر ، فوقف على خيمة منشا الكاتب ، وقال : رجل يريد أن يدخل الى الرئيس ، فقالوا : ومن هو ، قال : قسام ، فدخل عليه على غير أمان ، فبعث إلى القائد بلتكين فأعلمه

__________________

(١) وقع سقط بالأصل لم يتنبه له الناسخ ، وتم تدارك ما بين الحاصرتين من اتعاظ الحنفا : ١ / ٢٥٧.

(٢) في الأصل مكانه والتقويم من اتعاظ الحنفاء : ١ / ٢٥٨ وحسب سياق بقية الخبر.

(٣) أي البستان أو ما يشبه ذلك من الأمكنة المضروب حولها جدار أو سور.

٤٦

فأخذه إليه وأدخله عليه ، وحملوه إلى خيمة ، وقالوا له : مدّ رجلك ، فقال : ما أفعل أنا جئتكم بأمان ، فأخرج الحاجب الدبوس فضربه به ، فمدّ رجله فقيد وحمل إلى مصر ، فعفي عنه لما جاءهم في الامان ، وكان قسّام هذا أصله من قرية بجبل سنير يقال لها تلفيتا (١) من قوم يقال لهم الحارثيون بطن من العرب نشأ بدمشق ، وكان يعمل في التراب ، ثم إنه صحب رجلا يقال له ابن الجسطار من مقدّمي الأحداث وحملة السلاح وطالبي الشر ، فصار من حزبه وتزايد أمره إلى ما انتهى إليه.

* * *

__________________

(١) ما زال قبره معروفا بها باسم سيدي قسيم.

٤٧

ولاية بكجور لدمشق

والسبب في ذلك في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة (١)

كان من ابتداء أمر بكجور ما ذكر أنه كان غلاما مملوكا لقرغويه أحد غلمان سيف الدولة (٢١ ظ) ابن حمدان صاحب حلب ، وكان قرغويه قد غلب على أمر حلب بعد وفاة سيف الدولة ، ومنع ولده سعد الدولة أبا المعالي منها ، ودفعه عنها ، فسار أبو المعالي إلى حماة ورفنية (٢) وكان ينزل مهما (٣) في عسكره ، وكانت الروم قد خربت حمصا وأعمالها ونزل رقتاش التركي غلام سيف الدولة من حصن برزويه (٤) فلقي مولاه أبا المعالي ، وسار معه ، ونزل على حمص وشرع في عمارتها ولمّ شعثها لأن الروم لما ملكتها أفسدت أعمالها في النوبة الأولى عند خروجهم في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة على غفلة من أهلها وغرة ممن بها واجتهد رقتاش في عمارتها وتحصينها وأبو المعالي يقوي أمره بها ويشد شوكته فيها ، وكان قرغويه قد استناب بكجور في حلب ، فلما قوي أمره قبض على مولاه وحبسه في قلعة حلب وملك البلد وأقام تقدير ست سنين (٥) ، وكوتب أبو المعالي من حلب وأطمع في

__________________

(١) في الأصل «اثنتين وسبعين» وهو خطأ يخالف ما سبق ويعارض روايات بقية المصادر لهذا اقتضى التقويم ، انظر زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم ط دمشق ١٩٥١ : ١ / ١٧٧ ـ ١٧٨. اتعاظ الحنفا : ١ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩. تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ط. بيروت : ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) كانت عبارة عن بليدة صغيرة ذات قلعة صغيرة غربي حماه ، على مرحلة منها ، اندثرت وقام مقامها بارين أو بعرين ـ تقويم البلدان لأبي الفداء. ط باريس ١٨٤٠ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٣) كذا في الأصل ولعلها تصحيف «بهما».

(٤) قلعة صغيرة مستطيلة لها منعة في ذيل الجبل ، وهي عن أفامية في جهة الشمال والغرب على نحو مرحلة ـ تقويم البلدان : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٥) تفاصيل هذا كله عند ابن العديم في زبدة الحلب : ١ / ١٥٧ ـ ١٧٠.

٤٨

تملك البلد في رجال قرغويه ، وأن يكونوا عونا له على أمره ، فجمع بني كلاب ومن أمكنه ونهض صوب حلب ونزل على معرة النعمان فملكها وأخذ منها غلاما كان غلب عليها يقال له زهير (١) فقتله ، وسار عنها فنزل حلب سنة ست وستين وثلاثمائة فأقام عليها تقدير أربعة أشهر ، ثم تسهل له فتحها بحيلة عملها ، وتحصن بكجور في القلعة فراسله أبو المعالي فطلب منه الأمان فأمنه ، فقال بكجور : أريد يتوسط بيني وبينك وجوه البلد من بني كلاب ، فأجابه إلى ذلك فتوسطوا الأمر بينهما ، وأخذوا له العهد والميثاق والأمان على نفسه وولده وماله وأنه لا يغدر به ويوليه حمصا على أنه ينحدر من القلعة ويسلمها ، ولا يأخذ منها شيئا الا ما لا بد منه ، فأجابه إلى ذلك ، فولاه حمصا لما نزل من القلعة وسلمها ، ووفى له بكل ما عاهده عليه ، وسار بكجور إلى حمص في السنة المذكورة ، وصرف همه إلى عمارتها وكان أمره كل يوم فيها الى الزيادة بعد الدخول إليها في الضعف ، واتفق له أن أعمال دمشق من حوران والبثنية قد اختلت وخربت على ما تقدم ذكره من قلّة القوت بها وغلاء السعر فيها ، وجلا منها خلق كثير إلى حمص فعمر البلد وكثر الناس عنده.

وكان في بكجور جور ، وكان مجتهدا في العمارة (٢٢ و) وأمن السبل والطرق ، فلما انقطعت الغلات عن دمشق ، ومات بها كثير من الناس جوعا من أهل حوران والبثنية ورغب الناس الجالبون منها في حمل الغلّة إلى دمشق ، مكّنهم من ذلك ، وحمى لهم الطرق في تردّدهم بادين وعائدين ، فحسن حال حمص ، وكثر السفر إليها ومنها ، وكانت العرب قد طمعت في أعمال دمشق ، وكان واليها القائد أبو محمود بن جعفر في ضعف وقسّام غالب عليه ، واتفق وفاة أبي محمود ابراهيم بن جعفر المذكور بدمشق في صفر سنة سبعين وثلاثمائة ، وكان بكجور قد ضمن أعمال المغاربة على ما تقدم ذكره وحماها من العرب ،

__________________

(١) هو زهير الحمداني في زبدة الحلب : ١ / ١٧٠ ـ ١٧١.

٤٩

وحسنت حال دمشق بحمل الغلات إليها في تلك الشدة ، وكان بكجور يكاتب العزيز بالله بمصر وورد الجواب عليه بأن «تصير الى بابنا لنوليك دمشق» ، وكان العزيز قد رغب في الجند الذين يعملون السلاح مثل الناشب والرامح ، وجمع الجمع الكثير وأخرجهم الى حرب ألفتكين وجرى من أمره ما ذكر في موضعه.

فلما كان في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وقعت الوحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب ، وبين بكجور ، وراسله بأن يخرج من بلده (١) فكتب بكجور إلى العزيز يسأله إنجاز الوعد بولاية دمشق ، ودعت الحاجة إلى عود القائد بلتكين مقدّم العسكر المصري بحكم اعتزام المغاربة على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله ، وقادت الضرورة العزيز إلى أن ولّى بكجور دمشق ، وكتب الى بلتكين ومنشا كاتب الجيش بأن يسلّم البلد الى بكجور ويرحل عنه ، وقد كان كتب أيضا كتابا الى العزيز «أن أنفذ إليّ عسكرا لآخذ لك حلب» ، وأطمعه في ذلك ، فأنفذ إليه بعض عسكر دمشق فسار بهم ونزل على حلب وحصرها مدة يسيرة ، فظهر دمستق الروم بارديس ونزل على أنطاكية وعزم على كبس بكجور ، على حلب ، فكتب اليه ابن جرّاح يحذره فرحل عن حلب ، وتبعه عسكر الروم في إثره وتمّ بكجور ونزل على حمص وحمل ما كان له إلى بعلبك ، ونزل في جوسية (٢) في جمع عظيم ، ونزل ملك الروم (٣) ميماس حمص ، ولم يعرض للبلد ودخل المدينة وشاهد (٢٢ ظ) الكنيسة ورحل عنها متوجها الى البقيعة (٤) يريد طرابلس ،

__________________

(١) انظر زبدة الحلب : ١ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٢) معروفة باسمها هذا حتى الآن عند ملتقى الحدود السورية مع شمال لبنان.

(٣) معروف حتى الآن بهذا الاسم فيه أجمل حدائق ومنتزهات ضواحي حمص.

(٤) في لبنان على طريق طرابلس تحمل نفس الاسم حتى الآن.

٥٠

وأنفذ إلى أهل حمص رسولا يقول لهم نريد مالا يحمل إلينا ، فقالوا : هذا بلد خراب ليس فيه مال ، فرجع ونزل عليها وقال لأهلها : من خرج من البلد فهو آمن ، فخرج قوم وأقام قوم فدخل عسكره فنهب وسبى وأحرق الجامع ومواضع من البلد ، وتحصّن قوم بالمغاير ، فأوقد عليهم فأهلكهم الدخان ، ولم يعرض للعرب ولا لمن هرب إليها ، وكان دخول الروم إلى حمص يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأول سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وهي النوبة الثانية للروم ، وقيل إن أبا المعالي بن سيف الدولة خاف من أخذ بكجور حلب بالمغاربة ، فأنفذ إلى ملك الروم يسأله إخراب حمص.

ورجع أكثر من كان مع بكجور من عسكر دمشق أصحاب القائد بلتكين ، وبقي بكجور وأصحابه منتظرا أن يرحل بلتكين عن دمشق ويسير اليها ، وكان السبب في تأخر ولاية دمشق أن الوزير ابن كلس كتب إلى بلتكين أن لا يسلّم دمشق إلى بكجور ، وعرف بكجور ذاك فكتب [إلى العزيز](١) يذكر بأمره وإنجاز وعده ، فسأل العزيز عن تأخر الأمر في ذلك فقال له الوزير : الصواب أن لا يلي بكجور دمشق ويعصي فيها ، قال : نحن استدعيناه لذلك ووعدناه به ، فقال : قد كان ذاك والحزم أن لا يولّى ، فقال له : لا بد من ذلك ، فكتب الوزير إلى منشا بن الغرار كاتب الجيش : واقف بكجور على ما يأخذ من المال له ولرجاله ، وسلم ولاية دمشق إليه ، فسلّم بلتكين البلد إليه وعاد متوجها الى مصرفي يوم الأحد مستهل رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ، وكانت ولاية بلتكين دمشق خمسة شهور ، ودخل بكجور البلد واليا في يوم السبت سابع رجب من السنة ، وقد عرف أن الذي أخر الولاية الوزير ابن كلس ، فحقد بكجور عليه ، وكان لابن كلس نائب في عمله وضياعه يقال له ابن أبي العود يهودي ، وكان يكتب إليه بأخبار البلد ، فقال بكجور : هذا عين عليّ ، وتقدّم بقتله

__________________

(١) في الأصل «وعرف العزيز ذاك وكتب يذكر بأمره وانجاز وعده» وفي هذا اضطراب وتداخل ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

٥١

فقتل ، فلما بلغ ذلك الوزير عظم عليه واغتمّ له (١) ، وأعلم الوزير العزيز وقال : هذا مبدأ عصيان بكجور ، وقد تمكن من البلد وجاء معه ابن جراح ، وهو عدوّ ، فلما كان في سنة سبع وسبعين عزم الوزير على العمل على قتل بكجور (٢٨ و) فأنفذ إلى غلام نصراني عطار يعرف بابن أخي الكويس من أهل دمشق أن «احتل على قتل بكجور» ، ولم يكن النصراني من أهل ذاك ، فقال : لا يتم هذا الأمر إلا برجل من الجند من أصحابه يعين على هذا الأمر ، فكتب رقعة بما يريد إلى بعض أصحاب بكجور ، فلما وصلت الرقعة إليه ونظر ما فيها فظن أن بكجور دسها إليه ليبلوه بها فأوصل الرقعة إلى بكجور ، فوقف عليها ، وقال : أريد من جاءك بها ، فقال : إنما أوصلتها اليك لأبرأ من أمرها ولا أكتمها عنك ، فلم يقبل قوله ولجّ في طلبه ، وقال له : إن الذي أوصل الرقعة أجير لابن أخي الكويس العطار ، فوجه قبض عليه وعلى الأجير ووضع العقوبة على العطار ، وقال : أريد الصبي ، وقبض على قوم كانوا يعاشرون العطار فكحلهم (٢) ونفاهم ، وكان فيهم ثلاثة من أهل العلم والفضل يقال لأحدهم ابن الخطابي ، والآخر الخلادي ، والثالث المستولي ، وأخرج ابن الكويس بعد ما صفّي ومعه رجلان من المتهمين فصلبوا أقبح صلب ، وماتوا في غد ذلك اليوم في رمضان سنة سبع وسبعين ، وبلغ الخبر الوزير ابن كلس فعظم عليه ، وازداد حنقا وأعلم العزيز ذاك ، واتفق أن يخرج إليه عسكر ومعه [ابن] جرّاح (٣) وشرع بكجور في أذية الناس من أصحاب الوزير في ضياعه ، وجار في البلد جورا عظيما ، ولم يخل من القتل والصلب والفتك فجرد إليه في سنة ثمان وسبعين القائد منير الخادم في عسكر كثيف ، وأصدرت

__________________

(١) انظر المقريزي اتعاظ الحنفاء : ١ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) أي سمل عيونهم بواسطة اطباق الجفنين على بعضهما ثم المرور عليهما بميل مكحلة محمى بالنار.

(٣) اضيف ما بين الحاصرتين تصحيحا ، ويبدو أن هناك سقط في الأصل ، والمقصود هنا أن العسكر الموجه هو ضد بكجور وابن الجراح ، انظر سياق بقية الخبر واتعاظ الحنفا : ١ / ٢٥٩.

٥٢

الكتب إلى ولاة الأعمال بالمسير معه ، ولمّا عرف بكجور ذلك أنفذ إلى العرب وجمع وحشد واستقبل العسكر ، فالتقيا وصدقوا القتال وكثر في بني كلب (١) الطعن والجراح ، وبشارة ومنير المقدمان قائمان في أصحابهما عليهما الحديد ، فحملوا جميعا على الكلبين فهزموهم وألجوهم الى حيطان داريا فرجعوا ومن معهم من أصحاب بكجور خاسرين مفلولين ، فخاف بكجور على نفسه أن يؤخذ فراسلهم بأنه يسلّم البلد ويرحل عنه ، وقد كان كوتب القائد نزال والي طرابلس بالمسير والنزول على دمشق ، وكان عسكره ستة آلاف فسار فلما (٢٣ ظ) عرف بكجور انفصاله قلق وخاف وذلّ ، وراسل منشا بن الغرار الكاتب «بأني عازم على المسير من هذا البلد وأريد أن أكون على عهد وأمان ولا أتبع بمضرة» ، فأجيب إلى ما التمس ، وجمع ماله وسلاحه وخاف من الرجعة والحيلة أن تقع عليه من البلد فأخفى أمره وستر مسيره ، فلما كان في يوم الثلاثاء نصف رجب سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة سار خائفا وجلا نحو الشرق ، وأخذ مع الجبل وسار معه ابن الجراح الى حصن حوارين (٢) فأخذ ما كان له وأخفى أمره ، فلما عرف خبره نهض في إثره القائد منير من غد ونزل على البلد ، ففرح الناس به ، وتوجه بكجور إلى الرقة ، وتخلف بدمشق من أصحابه تقدير ثلاثمائة رجل فصاحوا «عزيز يا منصور» فأمنوا.

ولما نزل منير القائد على دمشق أصبح القائد نزال نازلا معه في يوم الخميس ، فلامه الناس على ما اعتمده من التثاقل ، ونفذت المطالعات إلى مصر

__________________

(١) في الأصل «كلاب» وهو خطأ فكلاب كانت ديار حلب ديارها ، وأما كلب فكانت ديار دمشق ديارها ، ويؤكد هذا سياق بقية الخبر ، وأخبار أخرى كثيرة خاصة لدى الحديث عن التحالف بين صالح بن مرداس أمير كلاب وسنان بن عليان أمير كلب ، وحسان بن المفرج أمير طئ.

(٢) قرية من قرى حمص من جهتها الشرقية الجنوبية. تقويم البلدان : ٨٣. وتبعد حوارين الآن عن حمص / ٧٥ كم ، وهي تتبع اداريا ناحية القريتين.

٥٣

بشرح الحال ، فأنكر الوزير ابن كلس فعل منشا وإهماله بكجور حتى نجا ، وأشخصه إلى مصر مع المستأمنة من أصحاب بكجور ، وقال له : خليت بكجور خوفا على نفسك ، أما كان معك (١) عسكر فيه كفاية؟ فقال : لم يكن غير ما فعلته ، لأن نزالا تأخر عنا وتثاقل ، وكان بكجور في قوة وكثرة من العرب وغيرهم ، وهم أصحاب دروع وجواشن وخيل سبّق ، فلم يقبل عذره وعزله عن تدبير العسكر ، وكان ابن كلس يخاف من بكجور أن تكون له عودة إلى ولاية دمشق فيتمكن من دمشق ، فأنفذ رسولا إليه يقول له : ما أردنا رحيلك عن البلد ، وإنما إنفاذنا العسكر لابعاد ابن الجراح لفساده وعناده ، وما كان من ضياع وغلات فلك إفعل فيها ما أحببت فما لنا فيه حاجة ، فحمل بكجور ما كان له بدمشق ، وأقام بالرقة منقطعا ليس له سلطان يستند إليه ، وكان بالرقة يراسل كرديا يقال له باذ (٢) قد غلب على ميّافارقين ، ويراسل أبا المعالي بن سيف الدولة بحلب أن يردّه إلى العمل الذي كان في يده من حمص ، فلما كان في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة خرج عسكر صاحب بغداد إلى باذ الكردي المقدم ذكره لغلبته على الموصل وديار ربيعة فكسر وانهزم عسكره وأصحابه ، وعرف بكجور ذلك فخاف من عسكر بغداد فراسل سعد الدولة أبا المعالي يسأله تولية حمص فأجابه الى ذلك.

وكان ابن كلس يسأل (٢٤ و) عن أخباره بالرقة خوفا منه ، فلما عرف الوزير ذلك قال : يجاورنا بكجور في حمص فيطمع في الديار ، فأرسل إلى غلام له يقال له ناصح الطباخ بأن يسير إلى حمص فيأخذ من بها من أصحاب

__________________

(١) في الأصل «معه» وهو خطأ يدل عليه سياق الخبر ، وصوابه ما أثبتناه.

(٢) ظهر بين الأكراد وقادهم في عمليات قادته إلى دخول الموصل والتفكير بالزحف على بغداد ، اصطدم أثناء نشاطه ببقايا الحمدانيين وبقبيلة عقيل وقتل سنة ٣٨٠ ه‍ / ٩٩٠ م ، وقد نجم عن نشاطه فيما نجم قيام الدولة المروانية في ميافارقين. انظر ذيل تجارب الأمم : ٣ / ١٧٦ ـ ١٧٨. تاريخ الفارقي : ٤٩ ـ ٥٨. الكامل لابن الأثير ؛ ١٢٢ ، ١٤٢ ـ ١٤٣.

٥٤

بكجور ، فسرى في البرية فلم يشعر به حتى أتاهم ، وكان أبو المعالي صاحب حلب قد علم بالسرية ، فأنفذ إليهم من حذّرهم واتفق لهم أنهم حملوا وخرجوا من حمص هاربين ، فلما حصلوا بأحمالهم بظاهر البلد أدركتهم السرية ، فأخذتهم ورجعت إلى دمشق ، وفسد أمر بكجور مع المغاربة ومع أبي المعالي ، فراسل صاحب بغداد فلم ير له عنده ما يحبّ ، وكان الوزير ابن كلس يضرّب بينهما ويطمع كل واحد منهما في صاحبه ، وكان الوزير ابن كلس يهوديا من أهل بغداد خبيثا ذا مكر وحيلة ودهاء وذكاء وفطنة وكان في قديم أمره خرج إلى الشام ، فنزل بالرملة فجلس وكيلا للتجار ، فلما اجتمعت الأموال التي للتجار كسرها وهرب الى مصر في أيام كافور الاخشيدي صاحب مصر ، فتاجره وحمل إليه متاعا كثيرا و [صار](١) يحال بماله على ضياع مصر ، وكان إذا دخل ضيعة عرف غلتها وارتفاعها وظاهر أمرها وباطنها ، وكان ماهرا في أشغاله لا يسأل عن شيء من أمورها إلا أخبر به عن صحة ، فكبرت حاله وخبّر كافور بخبره وما فيه من الفطنة والسياسة ، فقال : لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا ، فبلغه ما قال كافور فطمع في الوزارة فدخل جامع مصر في يوم الجمعة ، وقال : أنا أسلم (على) يد كافور ، فبلغ الوزير ابن حنزابة وزير كافور ما هو عليه وما طمع فيه فقصده وخاف منه ، فهرب إلى المغرب وقصد يهودا كانوا هناك مع أبي تميم المعز لدين الله أصحاب أمره ، فصارت له عندهم حرمة فلم يزل معهم إلى أن أخذ المعز مصر ، فسار معه اليها ، فلما توفي المعز وأصحابه اليهود وولي العزيز بالله استوزره في سنة خمس وستين وثلاثمائة وكان هذا الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلّس كبير الهمّة ، قوي النفس والمنة ، عظيم الهيبة فاستولى على أمر العزيز ، وقام به واستصحّه ، فعوّل عليه وفوض أمره إليه ، وكانت أموره مستقيمة بتدبيره ، فلما اعتل علّة الوفاة ركب إليه العزيز عائدا فشاهده على حال اليأس ، فغمه أمره ، وقال له : وددت بأنك

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق ، انظر الاشارة إلى من نال الوزارة : ١٩ ـ ٢٠.

٥٥

تباع ، فأبتاعك بملكي ، أو تفتدى وأفديك بولدي (٢٤ ظ) فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب؟ فبكى وقبّل يده وتركها على عينه ، وقال : أما ما يخصني يا أمير المؤمنين فلا لأنك أرعى بحقي من أن أسترعيك إياه وأرأف على من أخلفه من أن أوصيك به ، لكني أنصح لك فيما يتعلق بدولتك ، قال : قل يا يعقوب فقولك مسموع ورأيك مقبول ، قال : سالم يا أمير المؤمنين الروم ما سالموك ، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة ، ولا تبق على المفرج بن دغفل بن الجرّاح متى عرضت لك فيه فرصة ، وتوفي في ذي الحجة سنة ثمانين وثلاثمائة فأمر العزيز أن يدفن في داره بالقاهرة في قبة كان بناها لنفسه ، وحضر جنازته وصلى عليه وألحده بيده في قبره ، وانصرف عنه حزينا بفقده ، وأغلق الدواوين وعطّل الأعمال أياما [واستوزر أبا الحسن علي بن عمر العداس سنة ، ثم استوزر أبا الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات](١) بعده مديدة ، ثم صرفه وقلد عيسى بن نسطورس ، وكان نصرانيا من أقباط مصر ، وفيه جلادة وكفاية ، فضبط الأمور وجمع الأموال ووفّر كثيرا من الخراج ، ومال إلى النصارى فقلّدهم الأعمال والدواوين واطرح الكتّاب المتصرفين من المسلمين واستناب في الشام رجلا يهوديا يعرف بمنشا بن ابراهيم بن الغرار ، فسلك مسلكه في التوفر على اليهود ، وعيسى مع النصارى مثله ، واستولى أهل هاتين الملتين على الدولة ، فكتب رجل من أجلاد المسلمين رقعة وسلمها إلى امرأة وبذل لها بذلا على اعتراض العزيز ورفع الظلامة إليه وتسليمها إلى يده ، وكان مضمون الرقعة : «يا أمير المؤمنين بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس ، واليهود بمنشا بن الغرار ، وأذل المسلمين بك ألا نظرت في أمري» ، وكان العزيز على بغلة سريعة في المشي ، وإذا ركبها تدفقت كالموج

__________________

(١) أصاب النص سقط لم يتنبه له الناسخ ، وأضيف ما بين الحاصرتين من كتاب الاشارة إلى من نال الوزارة : ٢٤ ـ ٢٥. الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي للدكتور محمد حمدي المناوي. ط القاهرة ١٩٧٠ : ٣٠٥.

٥٦

ولم تلحق ، فوقفت له المرأة في مضيق ، فلما قاربها رمتها إليه ، فسارع الركابي الى أخذ الرقعة على العادة ، وغاصت المرأة في الناس ووقف العزيز عليها ، وأمر بطلب المرأة فلم توجد وعاد إلى قصره منعم الفكر في أمره ، فاستدعى قاضي قضاته أبا عبد الله محمد بن النعمان ، وكان متقدما عنده في خواصه وأهل أنسه ، فأعطاه الرقعة وقال له : قف عليها ، فلما قرأها قال له : ما عندك في هذا الأمر؟ قال : مولانا أعرف بوجه الرأي والتدبير ، فقال : صدقت كاتبتها نبهتنا على ما كنّا على غلط فيه وغفلة (٢٥ و) عنه ، وتقدّم في الحال بالقبض على عيسى بن نسطورس وسائر الكتّاب النصارى وإنشاء الكتب الى الشام بالقبض على منشا بن الغرار والمتصرفين من اليهود ، وأن ترد الأعمال في الدواوين إلى الكتّاب المسلمين ، ويعول في الاشراف عليهم على القضاة في البلاد ، ثم ان عيسى طرح على ست الملك بنت العزيز ، وكان يحبها حبا شديدا (١) ولا يرد لها قولا ، واستشفع بها في الصفح عنه ، وتجديد الاصطناع له ، وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار ، وكتب إلى العزيز رقعة يذكر فيها بخدمته ، وحرمته فرضي عنه وأعاده إلى ما كان عليه ، وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله.

* * *

__________________

(١) أي العزيز.

٥٧

سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة

كان بكجور قد خاف من عيسى بن نسطورس الوزير المقدم ذكره أن يعمل عليه لأسباب تقدمت بينه وبينه أوجبت ذاك ، فكتب إلى العزيز يذكر له جلالة حلب وكثرة ارتفاعها وأنها دهليز العراق ، وإذا حصلت له كان ما بعدها في يده ، وأن العسكر الذي بها قد كاتبه وبذل الطاعة له والمساعدة ، ويستدعي منه الانجاز والمعونة ، فأجابه بكل ما أراد ، وكتب إلى نزّال والي طرابلس بالمسير إليه متى استدعاه من غير استئذان ولا معاودة استئمار ، وكان نزال هذا من وجوه قواده ، وصنائع عيسى الوزير وخواصه ، فكتب إليه عيسى سرا بأن «تتقاعد ببكجور ، وتظهر له المساعدة والمسارعة وتستعمل معه التعليل والمدافعة ، فإذا تورط مع مولاه وقاربه تأخر عنه وأسلمه» ، فلم يشك بكجور في مسير نزّال إليه وسار عن الرقة ، وكتب إلى نزال بأن يسير من طرابلس ليكون وصولهما إلى ظاهر حلب في وقت واحد ، فأجابه نزّال ووعده ، ونزل بكجور على بالس (١) وفيها غلمان سعد الدولة أبي المعالي صاحب حلب وعدّة من الديلم ، فقاتلهم وقاتلوه ورحل بكجور ، وتباطأ نزّال في مسيره وواصل مكاتبة بكجور في منزل بعد منزل وقرب الأمر عليه في وصوله إليه ، وأقام بكجور على بالس خمسة أيام ، فلما لم يجد فيها مغمزا فارقها وطلب حلب ، وكان أبو المعالي كاتب بسيل (٢) عظيم الروم وأعلمه عصيان بكجور (٢٥ ظ) عليه ،

__________________

(١) هي مسكنة الحالية في سورية على الفرات.

(٢) باسيل الثاني امبراطور بيزنطة ، نفذ بشكل كامل سياسة امبراطوريته تجاه حلب ، فقد أراد من حلب أن تكون دولة حاجزة بينه وبين الخلافة الفاطمية وسوقا تجاريا مفتوحا ، لذلك خف إلى حمايتها شخصيا أو بارسال قواته كلما تهددت من قبل الفاطميين.

٥٨

وسأله مكاتبة البرجي صاحبه بأنطاكية بالمسير إليه متى دعته حاجة إلى انجاده ومعونته ، فكاتب عظيم الروم بذاك ، وأكد القول عليه ، فلما وافى بكجور ، كاتب سعد الدولة البرجي ، فرحل ونزل مرج دابق وهو على فرسخين من حلب ، ووصل بكجور إلى النقرة ونزل في ناحية تعرف بالناعورة ، وامتد عسكره إلى تلّ اعرن ومنها الى حلب أربعة فراسخ ، وبرز سعد الدولة في غلمانه وأصحابه فكانوا ستة آلاف رجل من الروم والأرمن والديلم والأتراك ، ولم يكن معه من عسكر العرب الا عمرو بن كلاب وعدتهم خمسمائة رجل إلا أنهم أولو بأس وقوة ، ومن سواهم من بطون العرب بني كلاب مع بكجور ، بعد أن حصل حرمه وأولاده في القلعة بحلب ، ولما برز وسار عسكره ، وكان لؤلؤ الجراحي الكبير يحجبه ، أعجبه ما رأى من عدته وعدته فنزل الى الأرض وصلى وعفّر ودعا الله بنصره وادالته من بكجور وغدره ، وفعل أصحابه مثل فعله ، واجتمعوا إليه ، وقالوا له : نفوسنا بين يديك والله لنبذلنّها في طاعتك والمدافعة عنك ، فشكرهم وقال لهم : أنتم الأولاد والعدة ، وهذه الدولة لكم وأنا فيها واحد منكم ، واستدعى كاتبه المعروف بالمصيصي وأمره أن يكتب إلى بكجور يستعطفه ويذكره الله ويخوفه ويبذل له أن يقطعه من باب حمص إلى الرقة ، ويدعوه إلى الكف والموادعة ، ورعاية حق الرق والعبودية ، ويعلمه أنه متوقف عن حربه ولقائه إلى أن يعود إليه من جوابه ما يعول عليه ، وسار فنزل بالموضع المعروف بالنيرب على ميل من حلب ، وعسكر الروم بإزائه ووافى رسول سعد الدولة إلى بكجور ، فأوصل اليه الكتاب ، فلما وقف عليه ، قال له : قل له الجواب ما تراه عيانا لا ما أرسل اليك كتابا ، فعاد الرسول وأعاد على سعد الدولة قوله وأعلمه أنه سائر على أثره ، فتقدم سعد الدولة الى الموضع المعروف بدير الزبيب ، وقدم على مقدمته شجعان غلمانه وأنجادهم من عمرو بن كلاب الذين قدمنا ذكرهم ، وقد جعل بكجور على مقدمته يارخ

٥٩

ورشيقا (٢٦ و) غلامية في مائة غلام ، ووقع التطارد وكان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد إليه وطعن وجرح خلع عليه وأحسن إليه ، وكان بكجور بضدّ ذلك بخلا ، وإذا عاد إليه رجل على هذه الحال أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفا في أمره ، وقد كان سعد الدولة كاتب العرب الذين مع بكجور وأمنهم وأرغبهم ووعدهم الاقطاعات الكثيرة والعطايا الفاضلة الفائضة وألا يؤاخذهم بالانحياز إلى بكجور والحصول معه ، فلما حصلت أماناته وتوقيعاته في أيديهم ، عطفوا على سواد بكجور فنهبوه ، وانصرفوا عنه واستأمنوا إلى سعد الدولة ، ونزلوا عليه ، ورأى بكجور ما تمّ عليه من تقاعد نزّال وغدر العرب وتأخر غلمان سعد الدولة الذين كانوا كاتبوه ووعدوه الانحياز إليه إذا عاينوه ، فاستدعى أبا الحسن كاتبه المعروف بابن المغربي (١) ، وقال له : غرّرتني وأوهمتني أن العزيز يجئني ويعاونني ، وأن العرب تخلص لي وتناصحني ، وأن العرب توافيني ويستأمنوا إليّ ، وما كان لشيء من ذلك حقيقة فما الرأي الآن ، فإن بإزائنا عسكرا عظيما لا طاقة لنا به؟ قال : صدقت أيها الأمير فيما قلته وو الله ما أردت غشّك ولا فارقت نصحك ، والصواب مع هذه الأسباب العارضة أن ترجع إلى الرقة وتكاتب العزيز بما عاملك به نزّال وتعاود استنجاده ، فإنه ينجدك ويستظهر في أمرك ، وكان في عسكر بكجور قائد من قواده يجري مجراه في التقدم يعرف بابن الخفّاني ، فقال له وقد سمع ما جرى بينه وبين ابن المغربي ، فقال : ما عندك فيما قاله وأشار به ، فقال له : هذا كاتبك يقول إذا جلس في دسته : الأقلام تنكّس الأعلام ، فإذا

__________________

(١) علي بن الحسين المغربي الكاتب ، من وجوه الدولة الفاطمية أيام الحاكم بأمر الله ، كان من أصحاب سيف الدولة الحمداني ، ترك مدينة حلب في أيام سعد الدولة بن سيف الدولة ، التحق بمصر سنة ٣٨١ ه‍ ، فولي نظر الشام وتدبير الرجال والأموال سنة ٣٨٣ ، وصار من جلساء الحاكم ، ثم تغير عليه فقتله سنة ٤٠٠. ه / ١٠١٠ م. الاشارة إلى من نال الوزارة : ٤٧. زبدة الحلب : ١ / ١٨٨.

٦٠