تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

(٥٤ و) فيها وردت الأخبار من ناحية العراق بانعقاد أمر الوصلة (١) بين الإمام القائم بأمر الله ، وبين بنت الملك داود أخي السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك ، وكان العقد أولا لولده ذخيرة الدين ، فلما قضى الله عليه بالوفاة ، نقل العقد إلى الخليفة القائم بأمر الله في يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم من السنة ، ووصلت البنت المذكورة من مدينة الريّ إلى بغداد في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة.

وفي هذه السنة ولد الإمام المقتدي بالله عبد الله بن ذخيرة الدين بن القائم بأمر الله في ليلة الأربعاء الثاني من جمادى الأولى من السنة (٢).

__________________

(١) أي الزواج بين خديجة ابنة جغري بك واسمها التركي «أرسلان خاتون» والخليفة القائم [٤٢٢ ـ ٤٦٧ ه‍ / ١٠٣١ ـ ١٠٧٥ م]. وقد أورد تفاصيل ذلك غرس النعمة محمد بن هلال بن المحسن الصابي ، في كتابه عيون التواريخ الذي ذيل به على تاريخ أبيه ، وكان أبوه قد ذيل على تاريخ خاله ثابت بن سنان ، وكان ثابت قد كتب أكثر من كتاب في التاريخ منها كتاب «مفرد في أخبار الشام ومصر في مجلد واحد» وكما هو مرجح فإن ابن القلانسي قد ذيل على كتاب ثابت هذا بعد ما ذيل عليه هلال بن المحسن ، وكما فعل ابن القلانسي حين بدأ كتابه بحوادث سنة / ٤٤٨ ه‍ / كذلك فعل غرس النعمة ، وهنا يلاحظ أن غرس النعمة أولى حوادث العراق جل اهتمامه وجاء بعد العراق الشام والجزيرة ، ونجد في المقابل ابن القلانسي يهتم بالشام أولا وبمصر ثانيا ، ومحصلة هذا أنه صنع الآن ذيلان لتاريخ آل الصابىء يتممان بعضهما البعض ، انما يختلفان من حيث طول المدة المؤرخ لها ؛ ولم يصلنا تاريخ غرس النعمة بشكل مباشر ، إنما وصلنا بشكل غير مباشر بكامله في كتاب مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي ، وهذا الكتاب محقق لدي ، وسأدفعه للمطبعة مع ابن القلانسي إن شاء الله تعالى ؛ وقد أورد سبط ابن الجوزي حادثة الزواج في أخبار سنة / ٤٤٨ / ه.

(٢) ولي الخلافة بعد جده القائم وكانت خلافته ما بين ٤٦٧ ـ ٤٨٧ ه‍ / ١٠٧٥ ـ ١٠٩٤ م.

١٤١

وفيها وردت الأخبار من مصر بقلة الأقوات وغلاء الأسعار ، واشتداد الأمر في ذلك إلى أوان زيادة النيل ، فظهر من القوت ووجوده ما طابت به النفوس وصلحت معه الأحوال.

سنة تسع وأربعين وأربعمائة

في هذه السنة وردت الأخبار بتسلم الأمير مكين الدولة قلعة حلب من معزّ الدولة (١) ، وحصل فيها في يوم الخميس لثلاث بقين من ذي القعدة منها ، وأقام بها مدة أربع سنين يخطب فيها للمستنصر بالله صاحب مصر.

وفيها توفي القاضي أبو الحسين عبد الوهاب بن أحمد بن هرون.

سنة خمسين وأربعمائة

فيها وصل الأمير ناصر الدولة ، وسيفها ذو المجدين أبو محمد الحسن بن الحسين بن حمدان إلى دمشق واليا عليها ، دفعة ثانية بعد أولى في يوم الإثنين النصف من رجب منها ، وأقام يسوس أحوالها ويستخرج أموالها ، إلى أن ورد عليه الأمر من الحضرة بمصر بالمسير في العسكر إلى حلب فتوجّه إليها في العسكر في السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة واتفقت الوقعة المشهورة المعروفة بوقعة الفنيدق بظاهر حلب في يوم الاثنين مستهل شعبان من السنة بين ناصر الدولة المذكور وعسكره ، وبين جميع العرب الكلابين ومن انضم إليهم ، فكسرت العرب عسكر (٢) ناصر الدولة واستولوا عليهم ونكوا فيهم ، وأفلت ناصر الدولة منهزما مجروحا مفلولا وعاد إلى مصر.

__________________

(١) مكين الدولة هو الحسن بن علي بن ملهم ، أحد الأمراء الكبار أيام المستنصر. ومعز الدولة هو ثمال بن صالح بن مرداس أمير حلب ، وجاء تنازل ثمال عن حلب أثناء ثورة البساسيري : انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٩٨ ـ ١٢٢ ، ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

(٢) انظر كتابي امارة حلب (بالانكليزية) : ١٥٩ ـ ١٦١.

١٤٢

ولم تزل الأخبار متواترة من ناحية العراق بظهور (٥٤ ظ) المظفر أبي الحارث أرسلان الفساسيري (١) ، وقوة شوكته ، وكثرة عدته وغلبة أمره على الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين ، وقهر نوابه وامتهان خاصته وأصحابه ، وخوفهم من شره حتى أفضى أمره إلى أن يأخذ الجاني من حرم الخلافة ، ويفعل ما يشاء ، ولا يمانع له ، ولا يدافع عنه.

وقد شرح الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي (٢) ، رحمه‌الله في أخبار أهل بغداد ، ما قال فيه : ولم يزل أمر القائم بأمر الله أمير المؤمنين مستقيما إلى أن قبض عليه أرسلان الفساسيري في سنة خمسين وأربعمائة ، وهو واحد من الغلمان الأتراك عظم أمره (٣) ، واستفحل شأنه ، لعدم نظرائه من الغلمان الأتراك والمقدمين والأسفهسلارية ، إلا أنه استولى على العباد والأعمال ، ومد يده في جباية الأموال ، وشاع بالهيبة أمره ، وانتشر بالقهر ذكره وتهيبته العرب والعجم ودعي له على كثير من منابر الأعمال

__________________

(١) أرسلان التركي ، «منسوب إلى بسا بلدة بفارس والعرب تسميها فسا ، وينسبون إليها فسوي ، وأهل فارس يقولون : بسا بين الباء والفاء ، وينسبون إليها البساسيري» ، بحثت في ثورته في كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٩٥ ـ ١٢٤ ونشرت في ملاحق هذا الكتاب : ٢٥٥ ـ ٢٦٤ ترجمة موسعة له انتزعتها من كتاب بغية الطلب لابن العديم.

(٢) صاحب تاريخ بغداد ، لم يترجم للبساسيري في كتابه ، خرج من بغداد إثر حركة البساسيري خشية على نفسه ، ذلك أنه كان من أصدقاء الوزير ابن المسلمة عدو البساسيري الأول ، والكتاب الذي أشار إليه ابن القلانسي هو غير كتاب تاريخ بغداد ، انظر موارد الخطيب البغدادي ، لأكرم ضياء العمري ط. دمشق ١٩٧٥ : ٤٣ ، ولحسن الحظ أن ابن العديم حفظ لنا بخط يده رواية الخطيب البغدادي عن ثورة البساسيري ، وعليها قمت بضبط نص ابن القلانسي. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٥٧ ـ ٢٦٢.

(٣) في رواية ابن العديم : وكان السبب في ذلك أن أرسلان التركي المعروف بالبساسيري ، كان قد عظم أمره.

١٤٣

العراقية (١) ، وبالأهواز ونواحيها ، ولم يكن القائم بأمر الله يقطع أمرا دونه ، ولا يمضي رأيا إلا بعد إذنه ورأيه.

ثم صحّ عنده سوء عقيدته ، وخبث نيته (٢) ، وانتهى ذلك إليه من ثقات من الأتراك لا يشك في قولهم ولا يرتاب ، وانتهى إليه أنه بواسط قد عزم على نهب دار الخلافة ، والقبض على الخليفة ، فكاتب السلطان طغرلبك أبا طالب (٣) محمد بن ميكائيل وهو بنواحي الري يعرفه صورة حال الفساسيري ، ويبعثه على الغدو (٤) إلى العراق ويدرك أمر هذا الخارجي قبل تزايد طمعه ، وإعضال خطبه.

وعاد الفساسيري من واسط وقصد دار الخلافة في بغداد ، وهي بالجانب الغربي في الموضع المعروف بدار اسحق ، فهجمها ونهبها وأحرقها ونقض أبنيتها (٥) ، واستولى على كل ما فيها.

__________________

(١) في رواية ابن العديم : «لعدم نظرائه من مقدمي الأتراك المسمين الاصفهسلارية ، واستولى على البلاد ، وانتشر ذكره ، وطار اسمه ، وتهيبته أمراء العرب والعجم ، ودعي له على كثير من المنابر العراقية ...».

(٢) إثر تحالفه مع الخلافة الفاطمية لخدمة أغراض الدعوة الاسماعيلية في اسقاط الخلافة العباسية.

(٣) في الأصل : أبا محمد لب ، وهو تصحيف قوم من رواية ابن العديم ومما هو مثبت في العديد من المصادر حول طغرلبك ، ومفيد هنا الاشارة إلى وجود بعض الفوارق بين رواية ابن العديم ورواية ابن القلانسي.

(٤) في الأصل : العود ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا أو كما روى ابن العديم «يستنهضه على المسير إلى العراق» ذلك أن طغرلبك لم يكن جاء بغداد بعد.

(٥) كذا في الأصل وفيه تداخل ، ويدل على اضطراب في الرواية ، فالبساسيري لم يعد إلى بغداد ، ودار الخلافة ليست في المكان المحدد في النص ، بل هي دار البساسيري ، ودار الخلافة نهبت بعد حوالي ثلاث سنوات ، ورواية ابن العديم أصح من هذه الرواية ونصها : «وانفض أكثر من كان مع البساسيري ، وعادوا إلى بغداد ، ثم أجمع رأيهم على أن قصدوا دار البساسيري ، وهي بالجانب الغربي ، في الموضع المعروف بدرب صالح ، بقرب الحريم الطاهري ، فأحرقوها وهدموا أبنيتها».

١٤٤

ووصل السلطان طغرلبك الى بغداد في شهر رمضان سنة سبع وأربعين وأربعمائة وتوجه الفساسيري إلى الرحبة حين عرف وصول طغرلبك على الفرات ، وكاتب المستنصر بأمر الله صاحب مصر ، يذكر له كونه في طاعته ، واخلاصه في موالاته ، وعزمه على إقامة الدعوة له في العراق ، وأنه قادر على ذلك وغير عاجز عنه ، فأنجده وساعده بالأموال ، وكتب له بولاية الرحبة.

وأقام السلطان طغرلبك ببغداد سنة كاملة ، وسار منها إلى ناحية الموصل ، وأوقع بأهل سنجار ، وعاد منها (٥٥ و) إلى بغداد فأقام برهة ، ثم عاد إلى الموصل ، وخرج منها متوجها إلى نصيبين (١) ومعه أخوه ابراهيم ينال وذلك في سنة خمسين وأربعمائة ، وحدث بين السلطان طغرلبك وأخيه ابراهيم خلف أوجب انفصاله عنه بجيش عظيم ، وقصد ناحية الري ، وقد كان الفساسيري كاتب ابراهيم ينال أخا السلطان طغرلبك يبعثه على العصيان لأخيه ، ويطمعه في الملك ، والتفرد به ، ويعده المعاضدة عليه ، والمؤازرة والمرافدة والشد منه ، وسار طغرلك في أثر أخيه (٢) مجدّا ، وترك عساكره من ورائه ، فتفرقت غير أن وزيره عميد الملك الكندري وربيبه أنوشروان وزوجته خاتون وصلوا بغداد في من بقي معهم من العسكر في شوال سنة خمسين وأربعمائة ، واتصلت الأخبار بلقاء طغرلبك وأخيه ابراهيم بناحية همذان ، وورد الخبر بذاك على خاتون وولدها والوزير ، وأن ابراهيم استظهر عليه وحصره في همذان ، فعند ذلك عزموا على المسير إلى همذان لإنجاد السلطان ، فحين شاع الخبر بذاك اضطرب

__________________

(١) هي ديار بكر حاليا في تركية.

(٢) معنى كلمة «انيال أو نيال» ولي عهد «اليبغو» وهو [اليبغو] «لقب من كان بعد الخاقان بدرجتين «والخان هو الملك الأعظم» للترك وهو الخاقان ، واليبغو هو زعيم الغز ، فعلى هذا كان ابراهيم ينال ، وهو أخ لطغرلبك ، من أمه ، حين ثار يطالب بحقه في زعامة السلاجقة ، أي أن يكون محل طغرلبك في السلطنة. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ، ٣٣ ، ١١٦ ـ ١١٩.

١٤٥

أمر بغداد إضطرابا شديدا ، وخاف من بها ، وكثرت الأراجيف باقتراب أرسلان الفساسيري.

وتوقف الكندري الوزير عن المسير فأنكرت خاتون ذلك عليه ، وهمت بالايقاع به وتوقف ابنها لتوقّفهما عن المسير والانجاد للسلطان طغرلبك ، فنهضا للجانب الغربي من بغداد ، وقطعا الجسور من ورائهما وانتهبت دورهما (١) واستولى من كان مع الخاتون من الغزّ على ما فيها من الأموال والأمتعة والأثاث والسلاح ، وتوجهت خاتون في العسكر إلى ناحية همذان ، وتوجه الوزير الكندري على طريق الأهواز.

فلما كان يوم الجمعة السادس من ذي القعدة ورد الخبر بأن أرسلان الفساسيري بالأنبار ، وسعى الناس إلى صلاة الجمعة بجامع المنصور ، فلم يحضر الإمام وأذن المؤذن في المنارة ، ونزل منها ، وأعلم الناس أنه رأى العسكر عسكر الفساسيري بإزاء شارع دار الرقيق فبادرت (٢) إلى أبواب الجامع ، وشاهدت قوما من أصحاب الفساسيري يسكنون الناس ، بحيث صلوا في هذا المكان اليوم في جامع المنصور الظهر أربعا من غير خطبة ، وفي يوم السبت تاليه وصل نفر من عسكر الفساسيري ، وفي غدوة يوم الاحد (٥٥ ظ) دخل الفساسيري بغداد ومعه الرايات المصرية (٣) ، فضرب مضاربه على شاطىء دجلة ، واجتمع أهل الكرخ والعوام من أهل الجانب الغربي على مضافرة الفساسيري ، وكان قد جمع العيّار وأهل الفساد وأطمعهم في نهب دار الخلافة ،

__________________

(١) في رواية ابن العديم : «فبطل عزم الكندري على المسير ، فهمت خاتون بالقبض عليه وعلى ابنها لتركهما مساعدتها على انجاد زوجها ، ففرا إلى الجانب الغربي من بغداد ، وقطعا الجسر وراءهما ، وانتهبت دارهما».

(٢) في الأصل «فبادروا» والتقويم من رواية ابن العديم ومن سياق الخبر.

(٣) في الأصل «السود» وهو خطأ صوابه ما أثبتناه من رواية ابن العديم علما بأن السواد شعار بني العباس والبياض شعار الاسماعيلية وبقية أحزاب الشيعة.

١٤٦

والناس إذ ذاك في ضرّ وجهد ، قد توالى عليهم الجدب ، وغلاء السعر وعزت الأقوات وأقام الفساسيري بمكانه ، والقتال في كل يوم متصل بين الفريقين في السفن بدجلة.

فلما كان يوم الجمعة الثاني (١) دعي للمستنصر بالله صاحب مصر على المنبر بجامع المنصور ، وزيد في الأذان «حي على خير العمل». وشرع في بناء الجسر بعقد باب الطاق (٢) وكفّ الناس عن المحاربة أيّاما ، وحضر يوم الجمعة الثاني من الخطبة ، فدعي لصاحب مصر في جامع الرصافة ، وخندق الخليفة القائم بأمر الله حول داره ، ورم ما تشعث منها ، ومن أسوار المدينة ، فلما كان يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشد الفساسيري أهل الجانب الغربي والكرخ (٣) ، ونهض بهم إلى محاربة الخليفة ونشبت الحرب بين الفريقين يومين ، وقتل منهما الخلق الكثير.

وأهل هلال ذي الحجة ، فزحف الفساسيري إلى ناحية دار القائم الخليفة ، فأضرم النار من الأسواق بنهر معلّى وما يليه ، وعبر الناس لانتهاب دار الخليفة ، فنهب منها ما لا يحصى كثرة وعظما ، ونفّذ الخليفة الى قريش بن بدران العقيلي (٤) ، وكان قد ظاهر الفساسيري ، فأذم للخليفة في نفسه ، ولقيه قريش أمير بني عقيل ، فقبل الأرض دفعات ، وخرج الخليفة من الدار راكبا ، وبين يديه راية سوداء وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة ، وعلى رأسه

__________________

(١) في رواية ابن العديم : «الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة».

(٢) في رواية ابن العديم : «وشرع البساسيري في اصلاح الجسر ، فعقده بباب الطاق ، وعبر عسكره عليه ، وأنزله بالزاهر».

(٣) في رواية ابن العديم : «أهل الجانب الغربي عموما ، وأهل الكرخ خصوصا» ذلك أن جل أهل الكرخ كانوا من الشيعة.

(٤) في الأصل : مؤنس بن بدر الصقلبي ، وهو تصحيف ، صوابه ما أثبتنا من رواية ابن العديم ومما هو معروف في المصادر حول ثورة البساسيري وتاريخ الدولة العقيلية بالموصل.

١٤٧

عمامة تحتها قلنسوة والأتراك [في](١) أعراضه وبين يديه ، وضرب له قريش خيمة في الجانب الغربي فدخلها وأحدق به خدمه.

وماشى الوزير رئيس الرؤساء أبا القاسم بن المسلمة الفساسيري ويده قابضة على يده وكمّه ، وقبض على قاضي القضاة الدامغاني ، وجماعة معه ، وحملوا إلى الحريم الطاهري ، وقيّد الوزير والقاضي ، فلما كان يوم الجمعة الرابع (٢) من ذي الحجة ، لم يخطب بجامع الخليفة ، وخطب في سائر الجوامع للمستنصر صاحب مصر ، وفي هذا اليوم انقطعت الدعوة لبني العباس في بغداد.

ولما كان (٥٦ و) اليوم التاسع من ذي الحجة ، وهو يوم عرفة أخرج الخليفة القائم بأمر الله من الموضع الذي كان فيه ، وحمل الى الأنبار ومنها إلى حديثة عانة على الفرات ، فحبس هناك ، وكان صاحب الحديثة الأمير مهارش هو المتولي لخدمة الخليفة فيها بنفسه ، وكان حسن الطريقة.

ولما كان يوم الإثنين من ذي الحجة شهر الوزير رئيس الرؤساء وزير الخليفة على جمل ، وطيف به في محال الجانب الغربي ، ثم صلب [حيا](٣) بباب الطاق وخراسان وجعل على فكيه كلابان من حديد [وعلق](٤) على جذع ، فمات رحمه‌الله بعد صلاة العصر ، وأطلق القاضي الدامغاني بمال قرر عليه.

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من رواية ابن العديم.

(٢) في الأصل «الرابع عشر» وهو خطأ صوابه ما أثبتنا اعتمادا على رواية ابن العديم ، وعلى سياق الخبر في أول المقطع التالي.

(٣) في الأصل : «إلى الحديثة في الفرات» وفيه عدم وضوح ، لذلك تم اعتماد رواية ابن العديم.

(٤) أضيف ما بين الحاصرتين من رواية ابن العديم.

١٤٨

قال أبو بكر الخطيب رحمه‌الله : ثم خرجت يوم النصف من صفر سنة إحدى وخمسين وأربعمائة من بغداد ، ولم يزل الخليفة في محبسه بالحديثة إلى أن عاد السلطان طغرلبك من ناحية الري إلى بغداد بعد أن ظفر بأخيه ابراهيم ينال وكسره وقتله ، ثم كاتب الأمير قريشا باطلاق الخليفة [واعادته](١) إلى داره.

وذكر أن الفساسيري عزم على ذلك لما بلغه أن طغرلبك متوجه إلى ناحية العراق ، وأطلع الفساسيري أبا منصور عبد الملك بن محمد بن يوسف (٢) على ذلك ، وجعله السفير بينه وبين الخليفة فيه ، وشرط أن يضمن الخليفة للفساسيري صرف طغرلبك عن وجهته.

وكاتب طغرلبك مهارشا في أمر الخليفة وإخراجه من محبسه ، فأخرجه وعبر به الفرات ، وقصد به تكريت في نفر من بني عمه ، وقد بلغه أن طغرلبك بشهر زور فلما قطع الطريق عرف أن طغرلبك قد حصل ببغداد ، فعاد راجعا حتى وصل النهروان ، فأقام الخليفة هناك ، ووجّه طغرلبك مضارب في الحال وفروشا برسم الخليفة ، ثم خرج لتلقيه بنفسه ، وحصل الخليفة في داره ، ونهض طغرلبك في عسكر نحو الفساسيري وهو بسقي الفرات ، فحاربه إلى أن أظفره الله به ، وقتله وحمل رأسه إلى بغداد ، وطيف به فيها ، وعلّق بإزاء دار الخلافة (٣).

__________________

(١) أضيف ما الحاصرتين من رواية ابن العديم.

(٢) في الأصل : «إلى داره ، إلى ناحية العراق ، وجعل السفير بينه وبين طغرلبك في ذلك أبا منصور عبد الملك بن محمد بن يوسف ، وشرط أن يضمن الخليفة».

(٣) زاد ابن العديم في روايته «في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة سنة احدى وخمسين».

١٤٩

سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

في هذه السنة كان هلاك أرسلان الفساسيري ، وعود الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى داره على ما تقدم شرحه من أمره.

وفيها أيضا كان ظفر السلطان طغرلبك بأخيه إبراهيم ينال ، على باب همذان.

سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة

(٥٦ ظ) فيها وصل الأمير المقدم تمام الدولة ، قوام الملك ، ذو الرئاستين ، سبكتكين المستنصري إلى دمشق ، وبقي فيها غير وال عليها إلى أن وصل القائد موفق الدولة جوهر الصقلبي من مصر في يوم الأربعاء الثاني من ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ، ومعه الخلع وسجل الولاية لدمشق بألقابه والدعاء له : «سلمه الله ووفقه» ، والناظر في الأعمال ، وحفظ الأموال سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن حسن الماشكي ، على ما كان عليه سبكتين [فأقام](١) واليا على دمشق إلى أن توفى بها في ليلة الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ، فكانت ولايته ثلاثة شهور وسبعة عشر يوما.

وفي هذه السنة نزل الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس على حلب محاصرا لها ، ومضيقا عليها ، وطامعا في تملّكها ، ومعه منيع بن سيف الدولة (٢) ، فأقام عليها مدة فلم يتسهل له فيها أرب ولا تيسر طلب ، فرحل عنها ، ثم حشد بعد مدة وجمع وعاد منازلا لها ومضايقا لأهلها ومراسلا لهم ، وتكررت المراسلات منهم إلى أن تسهل أمرها ، وتيسر خطبها ، فتسلمها

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق ، حيث أن هناك سقط ما.

(٢) منيع بن مقلد من كبار أمراء كلاب. انظر زبدة الحلب : ١ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

١٥٠

في يوم الاثنين مستهل جمادى (١) الآخرة ، وضايق القلعة إلى أن عرف وصول الأمير ناصر الدولة بن حمدان في العساكر المصرية لإنجادها ، فخرج منها في رجب سنة اثنتين ونهب حلب بعسكر ناصر الدولة (٢) واتفقت وقعة الفنيدق المشهورة ، وانفلال ناصر الدولة وعوده إلى مصر منهزما مخذولا (٣) فعاد محمود بجمعه إلى حلب وحصل بها ، وأقبل عمه معز الدولة (٤) واستقام أمره فيها.

وفي هذه السنة قصد الأمير عطية فيمن جمعه وحشده مدينة الرحبة ، ولم يزل نازلا عليها ومضايقا لأهلها ومراسلا لهم إلى أن تسهل الأمر فيها ، وسلّمت إليه ، وحصل بها في صفر من السنة.

__________________

(١) في الأصل «يوم الاثنين من جمادى» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا اعتمادا على زبدة الحلب لابن العديم : ١ / ٢٧٦. انظر أيضا كتابي : امارة حلب (بالانكليزية) : ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٢) في هذه الرواية شيء من اللبس ، وجاء في زبدة الحلب لابن العديم ومصادر أخرى أن محمود أدخل مدينة حلب وحاصر في قلعتها مكين الدولة ابن ملهم ، ولدى وصول جيش ناصر الدولة انسحب محمود من المدينة ، فنزل مكين الدولة وأصحابه إليها فنهبوها ، ووصل ناصر الدولة إلى حلب وأراد نهبها فقيل له : «أصحاب مكين الدولة قد سبقوك ولم يبق لك ولأصحابك إلّا الاسم بلا فائدة» فامتنع عن النهب ، وانسحب نحو الفنيدق حيث تل السلطان ، وهناك حدثت معركة الفنيدق. انظر زبدة الحلب : ١ / ٢٧٨. امارة حلب : ١٥٧ ـ ١٦٠.

(٣) وقع ناصر الدولة في أسر محمود وظل أسيرا حتى سنة ٤٥٣ حيث أطلق سراحه ثمال بن صالح.

(٤) في الأصل : «وقتل عمه معز الدولة» وهذا خطأ يوحي بحدوث سقط في الخبر ، ذلك أن معز الدولة ثمال بن صالح لم يكن بحلب أثناء سقوطها لمحمود بل كان في مصر ، ومن هناك صرفه المستنصر وفوض إليه حكم حلب ، فأقبل إليها واستطاع انتزاعها من ابن أخيه محمود ، انظر زبدة الحلب : ١ / ٢٨٠ ـ ٢٨٦. امارة حلب : ١٦١ ـ ١٦٢.

١٥١

سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة

في هذه السنة وصل الأمير حسام الدولة ابن البجناكي إلى دمشق ، واليا عليها في يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الأولى منها ، ونزل في المزة ، وأقام مدة ، وورد الكتاب بعزله ، فانصرف عن الولاية ، وتوجّه نحو حلب في شهر رمضان من السنة.

ثم وصل بعد ذلك عدة الدين والدولة ناصر الدولة (١) (٥٧ و) بن حمدان إلى دمشق واليا عليها في يوم الجمعة الثامن عشر من رمضان من السنة ، وحصل بها وقرىء سجل ولايته وأمر فيها ونهى.

وفي هذه السنة استقر الصلح والموادعة بين معز الدولة صاحب حلب وابن أخيه محمود بن شبل الدولة.

وفيها ندب أبو محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الشاعر للمسير من حلب إلى القسطنطينية رسولا في المحرم منها.

وفيها توفي الأمير معز الدولة بحلب في يوم الجمعة لسبع بقين من ذي القعدة ، ودفن في المسجد بالقلعة ، وملكها أخوه عطية (٢).

وفي هذه السنة وصل الأمير المؤيد معتز الدولة حيدرة بن عضب الدولة إلى دمشق واليا عليها دفعة ثانية بعد أولى ، في يوم الإثنين الثامن عشر من ذي القعدة منها ، ونزل في أرض المزة وفي هذا اليوم سار عدة الدولة ابن حمدان عن الولاية منصرفا إلى مصر ، وأقام المؤيد بها في الولاية ما أقام وانصرف عنها معزولا في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وأربعمائة.

__________________

(١) في الأصل : ابن ناصر الدولة ، وابن زيادة ، انظر زبدة الحلب : ١ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٢) لم يطل حكمه بها ، وانتزعها منه ابن أخيه محمود بن نصر. انظر زبدة الحلب : ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٦.

١٥٢

سنة أربع وخمسين وأربعمائة

في المحرم منها قلد الأمير مكين الدولة طبرية وثغر عكا ، من قبل الامام المستنصر بالله وأمر على جماعة بني سليم وبني فزارة ، وفيها توفي القاضي الشريف مستخص الدولة أبو الحسين ابراهيم بن العباس بن الحسن الحسيني بدمشق يوم السبت التاسع والعشرين من شعبان رحمه‌الله.

وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان طغرلبك وقيام ولد (١) [أخيه] ألب أرسلان في المملكة بعده في مدينة الري (٢).

__________________

(١) في الأصل ولده وهو خطأ ، فطغرلبك لم ينجب ، وألب أرسلان كان ابن أخيه ، وهو الذي ساعده على سحق ثورة ابراهيم ينال ، انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٢٤.

(٢) قرب مدينة طهران الحالية.

١٥٣

سنة خمس وخمسين وأربعمائة

وفيها ولاية أمير الجيوش بدر لدمشق

وصل الأمير تاج الأمراء المظفر ، مقدم الجيوش شرف الملك ، عدة الامام ، ثقة الدولة ، بدر إلى دمشق واليا عليها في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة ، ونزل بأرض المزة ، ومعه الشريف القاضي ثقة الدولة ذو الجلالين أبو الحسن يحيى بن زيد الحسني الزيدي ناظرا في الأعمال ونفقات الأموال ، وأقام بها مدة مدبرا لها وآمرا وناهيا فيها ، ثم حدث من أمره بها والخلف الجاري بينه وبين عسكريتها ورعيتها ، ووقعت بينهما محاربات عرف معها عجزه عن المقام بينهم ، والثبات معهم (٥٧ ظ) وخاف على نفسه منهم ، فسار عنها كالهارب منها في ليلة الثلاثاء لاربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وخمسين (١).

وفي هذه السنة نزل الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح على حلب ، وحصر عمه عطية فيها ، في النصف من شعبان ، وقتل منيع بن كامل بحجر المنجنيق ، ولم يتمكن من غرضه فيها ، ولا تسهل له أرب منها فرحل عنها.

__________________

(١) انظر ترجمته في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٩٨.

١٥٤

سنة ست وخمسين وأربعمائة

وفيها ولاية الأمير حيدرة بن منزو

لمّا انصرف أمير الجيوش بدر عن ولاية دمشق هاربا ، ندب لولايتها الأمير حصن الدولة حيدرة بن منزو بن النعمان ، واليا عليها ، ووصل إليها في شهر رمضان من السنة ، وأقام بها ، وأمر ونهى على عادة أمثاله من الولاة لها.

ثم اقتضى الرأي المستنصري صرفه عنها بشهاب الدولة دري المستنصري ، ووصل إليها وتولى الولاية فيها.

وفي هذه السنة عاد محمود بن شبل الدولة بن صالح إلى حلب مضايقا لها ولعطية عمه ، فاستصرخ (١) بالأمير ابن خان التركي ، فأنجده عليه فلما أحس (٢) بوصوله ، رحل عنها منهزما ثم خاف عطية من الأمير ابن خان ، فأمر أحداث حلب بنهب عسكره فنهبوه ، ورحل ابن خان منهزما ، وأنفذ إلى الأمير محمود يعتذر إليه من المساعدة عليه ، وتوجه معه إلى طرابلس ، وعاد معه إلى حلب لحصرها في هذه السنة.

وفيها وصل الأمير شهاب الدولة دري المستنصري إلى دمشق واليا في العشر الأخير من ذي القعدة من السنة ، ثم تجدد الرأي في صرفه ، فانصرف وتوجه إلى الرملة لأن سجل ولايته لها ورد عليه ، وأقام بها آمرا وناهيا إلى أن قتل بها في شهر ربيع الآخر سنة ستين وأربعمائة وأقامت دمشق خالية من الولاة إلى أن وصل إليها أمير الجيوش بدر واليا عليها دفعة ثانية في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.

__________________

(١) أي عطية ، وكان ابن خان أول زعيم تركماني يدخل إلى حلب ويتدخل في أمورها بشكل فعال ، مما نجم عنه أخطر النتائج. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٢٨ ـ ١٣٠.

(٢) محمود بن نصر.

١٥٥

سنة سبع وخمسين وأربعمائة

في هذه السنة نزل الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح على حلب ثالث دفعة ، ومعه الأمير ابن خان التركي ، وأقام عليها إلى انتصاف شهر رمضان ، ولم يزل مضايقا (٥٨ و) لها إلى أن تسهل أمرها ، وملكها ، فلما حصل بها فارقه ابن خان بعسكره نحو العراق ، ولم يدخلها اشفاقا من أحداث حلب ، لما فعلوه في تلك النوبة من القيام عليه ، والنهب لأصحابه.

* * *

١٥٦

سنة ثمان وخمسين وأربعمائة

وفيها ولاية أمير الجيوش بدر الثانية

وصل أمير الجيوش سيف الإسلام بدر إلى دمشق واليا ثانية ، وعلى الشام بأسره في يوم الأحد السادس من شعبان منها ونزل في مرج باب الحديد أياما ، وبلغه قتل ولده بعسقلان ، فدخل القصر وأقام فيه إلى أن تحركت الفتنة الثائرة بينه وبين عسكرية دمشق وأهلها ، واستيحاش كل منهم من صاحبه ، فخرج من القصر ، ونشبت الحرب بينهم في يوم الجمعة التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة ستين وأربعمائة وقد كان القصر أخرب بعضه في تلك النوبة الحادثة الأولى ، ونهب ما كان فيه ، فلما عاد بعد ذلك في هذه النوبة ، ومعه العساكر الجمة من العرب وسائر الطوائف ، ونزل على مسجد القدم في رمضان سنة ستين ، واتفق رحيله عنها ، فخرج من في البلد من العسكرية والأحداث إلى القصر فأحرقوا ما كان سالما منه ونقضوا أخشابه بحيث شمله الخراب من كل جهاته.

وفي هذه السنة فادى الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح نساء بني حمّاد والنمريين من أسر الروم ، ولم يزل مبالغا في ذلك ومجتهدا فيه إلى أن حصلوا في حلب.

سنة تسع وخمسين وأربعمائة

فيها وردت الأخبار من ناحية مصر باجتماع العبيد في الصعيد ، وكبسهم عسكر الأمير ناصر الدولة أبي علي الحسن بن حمدان ، وانفلال العرب المجتمعة معه ، واستظهار العبيد على جانب من عسكره نهبوه ، واستولوا عليه ، ثم عادوا عليهم واستعادوا ما أخذ لهم وزيادة عليه ، وقتل جماعة منهم.

وفيها سأل الأمير ناصر الدولة المستنصر بالله في حميد بن محمود بن جراح ، وحازم بن علي بن جراح فأطلقهما من خزانة البنود ، وخلى سبيلهما. (٥٨ ظ).

١٥٧

سنة ستين وأربعمائة

وفيها ولاية الأمير بارزطغان لدمشق

وصل الأمير قطب الدولة بارزطغان إلى دمشق واليا عليها في شعبان منها ، ووصل معه الشريف السيد أبو طاهر حيدرة بن مستخص الدولة أبي الحسين ، ونزل قطب الدولة في دار العقيقي (١) وأقام مدة ثم خرج منها ومعه الشريف المذكور في شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وأربعمائة.

وورد الخبر بأن أمير الجيوش بدر ظفر بالشريف السيد المذكور ، وكان بينهما إحن بعثته على الاجتهاد في طلبه والارصاد له إلى أن اقتنصه ، فلما حصل في يده قتله سلخا ، فعظم ذلك على كافة الناس ، وأكبروا هذا الفعل واستبشعوه في حق مثله (٢).

__________________

(١) داخل باب الفراديس مكان المدرسة الظاهرية اليوم. مجلة الحوليات الأثرية : ٢٢ ـ ٢٣ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) كان من خصوم بدر الجمالي ، منعه من دخول دمشق ، ضمن مسلسل من الحوادث المفجعة في مدينة دمشق أدت إلى احراق الجامع الأموي فيها مع أماكن من المدينة كثيرة وهامة ، وقد تحدث غرس النعمة محمد بن هلال الصابىء عن هذه الأحداث بشكل مفصل في أخبار سنة / ٤٦٢ ه‍ / وترجم للشريف المقتول في وفيات هذه السنة فقال : «حيدرة بن ابراهيم أبو طاهر بن أبي الجن الشريف كان عالما فاضلا ، دينا ، قرأ القرآن ، وسمع الحديث ، ولما دخل عسكر بدر الجمالي دمشق هرب منها إلى عمّان البلقاء ، فغدر به بدر بن حازم ، وكان الشريف قد أطلق أباه حازم من خزانة البنود ، وقد ذكرناه.

وقال محمد بن هلال الصابىء لما خرج الشريف وبارز طغان من دمشق يريدان مصر ، أشار عليه بارز طغان بن لا يظهر بعمّان البلقاء ، لأن بها بدر بن

١٥٨

وفي يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الأولى من السنة جاءت زلزلة عظيمة بفلسطين ، هدمت أكثر دور الرملة وسورها ، وتضعضع جامعها ، ومات أكثر أهلها تحت الردم ، وحكي أن معلما كان في مكتبه به تقدير مائتي صبي وقع المكتب عليهم ، فما سأل أحد عنهم لهلاك أهليهم ، وإن الماء طلع من أفواه الآبار لعظم الزلزلة ، وهلك في بانياس تحت الردم نحو من مائة نفس ، وكذلك في بيت المقدس ، وسمع في أيار من هذه السنة رعدة هائلة ما سمع بأعظم منها ولا بأهول من صوتها ، فغشي على جماعة من الرجال والنسوان والصبيان ، وطلع في أثرها سحاب هائل ، ووقع منه برد شديد الوقع أهلك كثيرا من الشجر ، وجاء معه سيل عظيم في بلد الشام قلع ما مر به من الشجر والصخر ، حكي أن ارتفاعه بوادي بني عليم (١) نحوا من ثلاثين ذراعا ، وأنه سحب صخرة عظيمة لا يقلّها خمسون رجلا ذهب بها ، فلم يعرف مستقرها.

وفيها ورد الخبر بقيام ناصر الدولة أبي علي الحسن بن حمدان في جماعة من قواد الأتراك وأمراء مصر على المستنصر بالله بمصر ، وأخذهم شيئا كثيرا من المال اقتسموه ، وكان أمير الجيوش بدر في مبدأ أمره مقيما بالشام ، مظهرا لطاعة المستنصر بالله ، والموالاة له ، والميل إليه ، إلا أنه لا يتمكن من نصرته ، ولا يجد سبيلا إلى مؤازرته ومعاضدته ، وزحف المذكورون إلى دار وزيره

__________________

حازم ، وأن يسير في الليل ، فلم يقبل ، وسار بارز طغان إلى حلة بدر بن حازم وقال : جئنا لتذم لنا ولمن معنا ، فقال : ومن معكم؟ قالوا : الشريف ابن أبي الجن ، فقال : ذم الله لكم إلّا الشريف فانه لا بد من حمله إلى أمير المؤمنين ، وسار إليه وقبض عليه ، ومضى به إلى عكا ، فباعه بذهب وخلع واقطاع ، فأركبه أمير الجيوش جملا وقتله أقبح قتلة ، ثم سلخ جلده ، وقيل سلخه حيا ، وصلبه. ولعن أهل الشام بدر بن حازم والعرب ، وقالوا : ما هذه عادتهم ، ولقد كان الشريف من أهل الديانة والصيانة والعفة والأمانة ، محبا لأهل العلم ، واصطناع المعروف».

(١) على مقربة من دير سمعان المشهور بنواحي حلب. انظرة زبدة الحلب : ١ / ٤٧.

١٥٩

المعروف بابن كدينة فطالبوه بالمال ، فقال لهم : وأي مال بقي بعد نهبكم (٥٩ و) الأموال واقتسامكم الأعمال؟ فألحوا عليه وقالوا : لا بدّ من انفاذك إلى المستنصر بالله وبعثك له على اخراج المال ، وتعريفه في ذلك صورة الحال ، فكتب إليه رقعة بشرح القصة ، وخرج الجواب عنها بخطة ، يقول فيه :

أصبحت لا أرجو ولا أتّقي

إلا إلهي وله الفضل

جدّي نبييّ وإمامي أبي

وقولي التوحيد والعدل

المال مال الله ، والعبيد عبيد الله ، والإعطاء خير من المنع ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١)

وفي هذه السنة خرج متملك الروم من القسطنطينية الى الثغور (٢).

* * *

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الشعراء : ٢٢٧.

(٢) هو الامبراطور رومانوس دايجينوس ، خرج في محاولة لمنع التركمان من الانسياح المدمر في بلاد آسيا الصغرى ، وجاء هذا الخروج في مقدمات معركة مناز كرد التي سيرد ذكرها.

١٦٠