تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وتبع هذا الفتح المبين ، ورود البشرى الثانية من أسد الدين ، باجتماع العدد الكثير إليه من شجعان التركمان ، وأنه قد ظفر من المشركين بسرية وافرة ، ظهرت من معاقلهم من ناحية الشمال ، فانهزمت ، وتخطف التركمان منهم من ظفروا به ، ووصل أسد الدين الى بعلبك في العسكر (١٨٤ ظ) من مقدمي التركمان وأبطالهم للجهاد في أعداء الله المشركين ، وهم في العدد الكثير ، والجم الغفير ، واجتمع بالملك العادل نور الدين في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول ، من السنة ، وتقررت الحال على قصد بلاد المشركين لتدويخها ، وإقامة فرض الغزو والجهاد لمن بها ، والابتداء بالنزول على بانياس ، والمضايقة لها ، والجهاد في افتتاحها ، والله يسهل ذلك بلطفه ويعجله بمعونته.

ووصل نور الدين الى البلد المحروس في يوم الخميس السابع والعشرين من شهر ربيع الأول ، لتقرير الأمر في إخراج آلات الحرب ، وتجهيزها الى العسكر ، بحيث يقيم أياما يسيرة ، ويتوجه في الحال الى ناحية العساكر المجتمعة من التركمان والعرب للجهاد في الكفرة الاضداد ، والله يسهل أسباب الإدالة منهم ، ويعجل البوار والهلاك لهم ، إن شاء الله تعالى.

وفي وقت وصوله شرع في انجاز ما وصل لأجله ، وأمر بتجهيز ما يحتاج إليه من المناجيق والسلاح الى العسكر المنصور ، بالنداء في البلد المحروس ، في الغزاة والمجاهدين ، والأحداث والمتطوعة من فتيان البلد والغرباء ، بالتأهب والاستعداد لمجاهدة الأفرنج أولي الشرك والإلحاد ، وبادر بالمسير في الحال الى عسكره المنصور ، مغذا غير متلوم ، ولا متريث في يوم السبت انسلاخ شهر ربيع الأول ، وتبعه من الأحداث والمتطوعة والفقهاء والصوفية والمتدينين العدد الكثير الدثر المباهي في الوفور ، والكثرة فالله تعالى يقرن آراءه وعزماته بالنصر المشرق المنار ، والظفر بإخراب المردة الكفار ، ويعجل لهم أسباب الهلاك والبوار ، بحيث لا تبقى لهم باقية ، ولا يرى لهم رائحة ، ولا غادية ، وما ذلك على الله تعالى القادر القاهر بعزيز.

٥٢١

ولما كان يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر ، تالي اليوم المقدم ذكره ، عقيب نزول الملك العادل نور الدين على بانياس في عسكره المنصور ، ومضايقته لها بالمنجنيقات والحرب ، سقط الطائر من العسكر المنصور بظاهر بانياس ، يتضمن كتابه الإعلان بورود المبشر من معسكر أسد الدين بناحية هونين في التركمان والعرب ، بأن الافرنج خذلهم الله أنهضوا سرية من أعيان مقدميهم وأبطالهم ، تزيد على مائة فارس سوى أتباعهم ، لكبس المذكورين ظنا منهم أنهم في قل ، ولم يعلموا أنهم في ألوف ، فلما دنوا منهم وثبوا إليهم كالليوث الى فرائسها ، فأطبقوا عليهم بالقتل والأسر والسلب ، ولم يفلت (١٨٥ و) منهم إلا اليسير ، ووصلت الأسرى ، ورؤوس القتلى ، وعددهم من الخيول المنتخبة والطوارق والقنطاريات الى البلد في اليوم الإثنين تالي اليوم المذكور ، وطيف بهم فيه فسرت القلوب بمشاهدتهم ، وأكثروا الشكر لله على هذه النعمة المتسهلة بعد الأولى المتكملة ، والله المأمول لتعجيل هلاكهم وبوارهم ، وما ذلك على الله بعزيز ، وتتلو هذه الموهبة المجددة سقوط الطائر من المعسكر المحروس ببانياس في يوم الثلاثاء يتلوا المذكور ، بذكر افتتاح مدينة بانياس قهرا ، على مضي أربع ساعات من يوم الثلاثاء المذكور عند تناهي النقب ، واطلاق النار فيه ، وسقوط البرج المنقوب ، وهجوم الرجال فيه ، وبذل السيف في قتل من فيه ، ونهب ما حواه ، وإنهزام من سلم الى القلعة وانحصارهم بها ، وأن أخذهم بمشيئة الله تعالى لا يبطىء ، والله يسهله ويعجله.

واتفق بعد ذلك للأقضية المقدرة أن الأفرنج تجمعوا من معاقلهم ، عازمين على استنقاذ الهنفري ، صاحب بانياس ، ومن معه من أصحابه الأفرنج المحصورين بقلعة بانياس ، وقد أشرفوا على الهلاك ، وبالغوا في السؤال للأمان للمولى نور الدين ، ويسلمون ما في أيديهم من القلعة ، وما حوته لينجو سالمين ، فلم يجبهم الى ما سألوه ورغبوا فيه ، فلما وصل ملك الأفرنج في جمعه من الفارس والراجل من ناحية الجبل على حين غفلة من العسكرين

٥٢٢

النازلين : على بانياس لحصارها ، والنازل على الطريق لمنع الواصل إليها ، اقتضت السياسة الاندفاع عنها ، بحيث وصلوا إليها واستخلصوا من كان فيها ، فحين شاهدوا ما عم بانياس من خراب سورها ، ومنازل سكانها ، يئسوا من عمارتها بعد خرابها ، وذلك في أيام من العشر الأخير من شهر ربيع الآخر.

وفي يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى سقطت الأطيار بالكتب من المعسكر المحروس النوري ، تتضمن الإعلام بأن الملك العادل نور الدين ، أعز الله نصره ، لما عرف أن معسكر الكفرة الأفرنج على الملاحة بين طبرية وبانياس ، نهض في عسكره المنصور من الأتراك والعرب ، وجد في السير ، فلما شارفهم ، وهم غارون ، وشاهدوا راياته قد أظلتهم ، بادروا بلبس السلاح والركوب ، وافترقوا أربع فرق ، وحملوا على المسلمين ، فعند ذلك ترجل (١٨٥ ظ) الملك نور الدين ، وترجلت معه الأبطال ، وأرهقوهم بالسهام وخرصان الرماح ، فما كان إلا كلا ولا ، حتى تزلزلت بهم الأقدام ، ودهمهم البوار والحمام ، وأنزل الله العزيز القهار نصره على الأولياء الأبرار ، وخذلانه على المردة الكفار ، وتمكنا من فرسانهم قتلا وأسرا ، واستأصلت السيوف الرجالة ، وهم العدد الكثير ، والجم الغفير ، ولم يفلت منهم على ما حكاه الخبير الصادق غير عشرة نفر ، ممن ثبطه الأجل ، وأطار قلبه الوجل ، وقيل إن ملكهم لعنهم الله فيهم ، وقيل إنه في جملة القتلى ، ولم يعرف له خبر ، والطلب مجد له ، والله المعين على الاظفار به ، ولم يفقد من عسكر الإسلام سوى رجلين أحدهما من الأبطال المذكورين ، قتل أربعة من شجعان الكفرة ، وقتل عند حضور أجله ، وانتهاء مهله ، والآخر غريب لا يعرف ، فكل منهما مضى شهيدا ، مثابا مأجورا ، رحمهما‌الله ، وامتلأت أيدي العسكرية من خيولهم ، وعددهم وكراعهم ، وأثاث سوادهم الشيء الذي لا يحصى كثرة ، وحصلت كنيستهم في يد الملك نور الدين بآلاتها المشهورة ، وكان فتحا من الله القادر

٥٢٣

الناصر عزيزا ، ونصرا مبينا ، أعز الله بهما الإسلام وأهله ، وأذل الشرك وحزبه.

ووصلت الأسرى ورؤوس القتلى الى دمشق ، في يوم الأحد تالي يوم الفتح ، وقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ، ومعهما راية من راياتهم منشورة ، وفيها من جلود رؤوسهم بشعرها عدة ، والمقدمون منهم ، وولاة المعاقل والأعمال ، كل واحد منهم على فرس ، وعليه الزردية والخوذة ، وفي يده راية ، والرجالة من السرجندية والدركبولية (١) كل ثلاثة وأربعة وأقل وأكثر في حبل ، وخرج من أهل البلد الخلق الذي لا يحصى لهم عدد ، من الشيوخ والشبان والنسوان والصبيان ، لمشاهدة ما منح الله تعالى ذكره ، كافة المسلمين ، من هذا النصر المشرق الأعلام ، وأكثروا من التسبيح ، ومواصلة التقديس لله تعالى مولى النصر لأوليائه ، ومديلهم من أعدائه ، وواصلوا الدعاء الخالص للملك العادل نور الدين ، المحامي عنهم ، والمرامي دونهم ، والثناء على مكارمه ، والوصف لمحاسنه ، ونظم في ذلك أبيات في هذا المعنى وهي : (١٨٦ و).

مثل يوم الفرنج حين علتهم

ذلة الأسر والبلا والشقا

وبراياتهم على العيس زفّوا

بين ذلّ وحسرة وعناء

بعد عزّ لهم وهيبة ذكر

في مصاف الحروب والهيجاء

هكذا هكذا هلاك الأعادي

عند شن الإغارة الشعواء

شؤم أخذ الجشار كان وبالا

عمهم في صباحهم والمساء

نقضوا هدنة الصلاح بجهل

بعد تأكيدها بحسن الوفاء

فلقوا بغيهم بما كان فيه

من فساد بجهلهم واعتداء

لا حمى الله شملهم من شتات

بمواض تفوق حدّ المضاء

فجزاء الكفور قتل وأسر

وجزاء الشكور خير الجزاء

فلرب العباد حمد وشكر

دائم مع تواصل النعماء

__________________

(١) فرسان خفاف غالبا ما كانوا من المرتزقة.

٥٢٤

وشرع في قصد أعمالهم لتملكها وتدويخها ، والله المعين والموفق لذلك بمنه ولطفه ومشيئته.

وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الأولى وافت زلزلة عظيمة بعد مضي ثلاث ساعات منه اهتزت لها الأرض هزات ، ثم وافت بعدها ثانية قريب بعد مضي ست ساعات من اليوم ، ثم بعد مضي ثماني ساعات من هذا اليوم المذكور ، وافت ثالثة أشد من الأوليين ، وأزعج ، فسبحان محركهن بقدرته ، ومسكنهن بحكمته ، تعالى علوا كبيرا.

وفي آخر هذا اليوم وافت زلزلة رابعة لما تقدم بين العشائين من ليلته مروعة هائلة ، أزعجت وأقلقت ، وضج الناس بالتهليل والتسبيح والتقديس ، وفي ليلة الأحد الرابع من جمادى الآخرة من السنة في آخرها عند صلاة الغداة ، وافت زلزلة هائلة ، وجاء بعدها أخرى دونها ، وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال ، بأن هذه الزلازل أثرت في حلب تأثيرا أزعج أهلها وأقلقهم ، وكذلك في حمص ، وهدمت مواضع فيها وفي حماة وكفر طاب وأفامية ، وهدمت فيها ما كان من هدم ما بني من المهدوم بالزلازل الأول ، وحكي عن تيماء ان هذه الزلازل أثرت في مساكنها ، تأثيرا مهولا.

وفي العشر الثاني من جمادى الاخرة تواصلت (١٨٦ ظ) الأخبار بوصول ولد السلطان مسعود في خلق كثير للنزول على أنطاكية ، وأوجبت الصورة تقرير المهادنة بين الملك العادل نور الدين وملك الأفرنج ، وتكررت المراسلات بينهما ، والاقتراحات والمشاجرات ، بحيث فسد الأمر ، ولم يسفر على ما يؤثر من الصلاح ، ومرضي الاقتراح المقرون بالنجاح ، ووصل الملك العادل نور الدين ، أعز الله نصره الى مقر عزه ، في بعض عسكره ، في يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من السنة ، وأقر بقية عسكره ومقدميه مع العرب ، بإزاء أعمال المشركين ، خذلهم الله.

وكانت الأخبار تناصرت من بغداد ، بإظهار أمير المؤمنين المقتفي لأمر

٥٢٥

الله أعز الله نصره على عسكر السلطان [محمد شاه](١) المخالف لأمره ، ومن انضم إليه من عسكر الموصل وغيره ، بحيث قتل منهم العدد الكثير ، والجم الغفير ، ورحلوا عن بغداد مفرقين مفلولين خاسرين ، بعد المضايقة والتناهي في المحاصرة والمصابرة.

وفي يوم الأحد الثالث من رجب توجه الملك العادل نور الدين الى ناحية حلب وأعمالها ، لتجديد مشاهدتها ، والنظر في حمايتها ، بحيث عبث المشركون فيها ، وقرب عساكر الملك ابن مسعود منها ، والله الموفق له فيما يراه ، ويقصده ويتوخاه.

وفي الساعة التاسعة من يوم الاثنين الرابع من رجب سنة اثنتين وخمسين وافت زلزلة عظيمة في دمشق لم ير مثلها فيما تقدم ، ودامت وجفاتها حتى خاف الناس على أنفسهم ومنازلهم ، وهربوا من الدور والحوانيت والسقايف ، وانزعجوا وأثرت في مواضع كثيرة ، ورمت من فص الجامع الكثير الذي يعجز عن إعادة مثله ، ثم وافت عقيبها زلزلة في الحال ، ثم سكنتا بقدرة من حركهما ، وسكنت نفوس الناس من الروعة والخوف برحمة خالقهم ورازقهم ، لا إله إلا هو الرؤوف الرحيم ، ثم تبع ذلك في أول ليلة اليوم المذكور زلزلة ، وفي وسطه زلزلة ، وفي آخره زلزلة أخف من الأولى ، والله تبارك وتعالى لطيف بعباده وبلاده ، وله الحمد والشكر ، رب العالمين ، وتلا ذلك في يوم الجمعة الثامن من رجب زلزلة مهولة أزعجت الناس ، وتلاها في النصف منها ثانية ، وعند انبلاج الصبح ثالثة ، وكذلك (١٨٧ و) في ليلة السبت ، وليلة الأحد ، وليلة الإثنين ، وتتابعت بعد ذلك بما يطول به الشرح.

ووردت الأخبار من ناحية الشمال ، بما يسوء سماعه ويرعب النفوس

__________________

(١) الاضافة من الباهر لابن الأثير : ١١٣.

٥٢٦

ذكره ، بحيث انهدمت حماة وقلعتها ، وسائر دورها ومنازلها على أهلها ، من الشيوخ والشبان والأطفال والنسوان ، وهم العدد الكثير ، والجم الغفير ، بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسير.

وأما شيزر فإن ربضها سلم ، إلا ما كان خرب أولا ، وأما حصنها المشهور فإنه انهدم على واليها تاج الدولة بن أبي العساكر بن منقذ رحمه‌الله ومن تبعه ، إلا اليسير ممن كان خارجا ، وأما حمص فإن أهلها كانوا قد أجفلوا منها الى ظاهرها ، وسلموا وتلفت مساكنهم ، وتلفت قلعتها ، وأما حلب فهدمت بعض دورها ، وخرج أهلها و (أمّا ما) بعد عنها من الحصون والمعاقل الى جبلة وجبيل فأثرت فيها الآ (ثار) المستبشعة ، وأتلفت سلمية وما اتصلت بها الى ناحية الرحبة ، وما جاورها ولو لم تدرك العباد والبلاد رحمة الله تعالى ولطفه ورحمته ورأفته ، لكان الخطب الخطير ، والأمر الفظيع المزعج بحيث نظم في ذلك من قال :

روّعتنا زلازل حادثات

بقضاء قضاه ربّ السماء

هدمت حصن شيزر وحماة

أهلكت أهلها بسوء القضاء

وبلادا كثيرة وحصونا

وثغورا موثّقات البناء

واذا ما رنت عيون اليها

أجرت الدمع عندها بالدماء

واذا ما قضى من الله أمر

سابق في عباده بالمضاء

حار قلب اللبيب فيه ومن ك

ان له فطنة وحسن ذكاء

وتراه مسبحا باكي العين م

مروعا من سخطه وبلاء

جل ربي في ملكه وتعالى

عن مقال الجهال والسفهاء

وأما أهل دمشق ، فلما وافتهم الزلزلة ، من هولها ، أجفلوا من منازلهم والمسقف الى الجامع والأماكن الخالية من البنيان ، خوفا على نفوسهم ووافت بعد ذلك أخرى ، وفتح باب البلد ، وخرج الناس الى ظاهره والبساتين ،

٥٢٧

والصحراء ، وأقاموا عدة ليال (١٨٧ ظ) وأيام على الخوف والجزع. يسبّحون ويهللون ، ويرغبون الى خالقهم ورازقهم في العفو عنهم ، واللطف بهم ، والله تعالى ولي الإجابة ، وقبول الرغبة والانابة.

ووردت الأخبار مع ذلك من ناحية العراق في أوائل رجب سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بوفاة السلطان غياث الدنيا والدين أبي الحارث سنجر ابن السلطان العادل أبي الفتح بن السلطان ألب أرسلان ، وهو سلطان خراسان ، عقيب خلاصه من الشدة التي وقع فيها ، والأسر الذي حصل فيه وكان يحب العدل والانصاف للرعايا ، حسن الفعل ، جميل السيرة ، وقد علت سنّه وطال عمره ، وتولاه الله برحمته وسابغ مغفرته بفضله ورأفته.

وفي شهر رمضان من السنة ورد الخبر من ناحية حلب ، بوفاة الشيخ الأمين مخلص الدين أبي البركات عبد القاهر بن علي بن أبي جرادة رحمه‌الله في العشر الثاني منه ، بمرض عرض له ، وهو الأمين على خزائن مال الملك العادل نور الدين سلطان الشام ، فراعني فقده ، والمصاب بمثله ، لأنه كان خيّرا كاتبا بليغا ، حسن البلاغة نظما ونثرا ، مستحسن الفنون من التذهيب البديع ، وحسن الخط المحرر على الأصول القديمة المستظرفة ، مع صفاء الذهن ، وتوقد الفطنة والذكاء ، وكان بيني وبينه مودة محصدة (١) الأسباب في أيام الصبى وبعدها بحكم تردده من حلب الى دمشق ، وأوجبت هذه الحال تفجّعي به ، وتأسفي على مثله ، نظم هذه الأبيات أرثيه بها وأصف محاسنه فيها ، وهي :

فجعت بخل كان يونس وحشتي

تذكره في غيبة وحضور

فتى كان ذا فضل يصول بفضله

وليس له من مشبه ونظير

وقد كان ذا فضل وحسن بلاغة

ونظم كدرّ في قلائد حور

__________________

(١) أي محكمة الأسباب سديدة. القاموس.

٥٢٨

يفوق بحسن اللفظ كل فصاحة

وخط بديع في الطروس منير

وقد كنت ذا شوق إليه إذا نأى

فقد صرت ذا حزن بغير سرور

سأشكو زمانا روعتني صروفه

بفقدي من أهوى بغير مجير

وما نافعي شكوى الزمان وقد غدا

على كل ملك في الزمان خطير

واجناده بالمرهفات تحوطه

وكل شجاع فاتك ونصير (١٨٨ و)

سقى الله قبرا ضمه بمجلجل

بكل أصيل حادث وبكور

ليصبح كالروض الأنيق إذا بدا

بزهر يروق الناظرين نضير

برحمة من يرجى لرحمة مثله

وغفران رب للعباد غفور

وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان من السنة ، وافت في دمشق زلزلة روعت الناس وأزعجتهم لما قد وقع في نفوسهم ، مما قد جرى على بلاد الشام من تتابع الزلازل فيها ، وهدم ما هدمت منها ، ووافت الأخبار من ناحية حلب بأن هذه الزلزلة المذكورة جاءت في حلب هائلة قلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير ، وأجفل منها أهلها الى ظاهرها خوفا على نفوسهم ، وأنها كانت بحماة أعظم ما كانت في غيرها ، وأنها هدمت ما كان عمّر فيها من بيوت يلتجأ إليها ، وأنها دامت فيها أياما كثيرة في كل يوم عدة وافرة من الرجفات الهائلة ، وتتبعها صيحات مختلفات توفي على أصوات الرعود القاصفة المزعجة ، فسبحان من له الحكم والأمر ، ومنه تؤمل الرحمة واللطف ، وهو على كل شيء قدير ، وتلا بعد ذلك رجفات متوالية ، أخف من غيرهن ، فلما كان في ليلة السبت العاشر من شوال وافت زلزلة هائلة بعد صلاة العشاء الآخرة أزعجت وأقلقت ، وتلاها في إثرها هزة خفيفة ، ثم سكنهما محركهما بقدرته ورأفته بأهل دمشق ورحمته فله الحمد والشكر رب العالمين.

وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من شوال من السنة ورد الخبر من ناحية بصرى ، باستشهاد واليها فخر الدين سرخاك غيلة في مقره من حصنها ، بتدبير

٥٢٩

تقرر بين الأمير علي بن جولة زوج ابنته ، ومن وافقه من أعيان خاصته وأماثل بطانته ، وكان فيه إفراط من التحرز واستعمال التيقظ ولكن القضاء لا يغالب ولا يدافع ، والمحتوم النافذ لا يمانع.

وفي أول ليلة الأحد العشرين من شوال من السنة ، توفي الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن سلامة السكوني بمرض عرض له ، وقد علت سنه ، وبلغ سبعا وتسعين سنة ، المعروف بابن الحراسي ، وكان شيخا ظريفا ، حسن الهيئة ، نظيف اللبسة ، أديبا فاضلا حسن المحاضرة عند (١٨٨ ظ) المباثثة والمذاكرة ، وكان أكثر زمانه مقيما بشيزر بين آل منقذ مكرّما محترما رحمه‌الله.

وفي ليلة السبت العاشر من ذي القعدة من السنة ، وافت أولها زلزلة ، رجفت لها الأرض ووجلت لها القلوب ، وتبعها عدة أخف من الأولى ، وفي غد هذا اليوم بعد مضي تقدير ساعتين منه ، وافت زلزلة وأخرى في إثرها ، وسكنهن المحرك لهن بقدرته وحكمته ، وسلم منهن برحمته ورأفته ، سبحانه وتعالى الرؤوف الرحيم.

وكان الغيث قد احتبس وسميّه عن العادة المعروفة ، واحتاج ما بذر من الغلال الى سقيه ، وضاقت الصدور لذلك ، وقنطت النفوس ، ثم بعث الله برحمته لخلقه ، في أول ذي القعدة منه ما روى الوهاد والآكام ، وعم حوران وسائر البقاع ، وسرت بذلك النفوس ، وانحط سعر الغلة بعد ارتفاعه ، فلله الحمد على انعامه على عبيده ، وله الشكر.

وفي ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة التالي لما تقدم بعد مضي ساعة منها ، وافت زلزلة روعت القلوب ، وهزت المنازل والمساكن ، ثم سكّنها محركها بقدرته القاهرة ، ورحمته الواسعة ، فله الحمد والشكر رب العالمين.

٥٣٠

وفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من الشهر المذكور ، التالي ليوم الجمعة المقدم ذكره وافت في أوائلها زلزلة أزعجت وأقلقت ، ثم تلاها ثانية عند انتصافها أعظم منها ، نفر الناس من هولها الى الجامع والأماكن المنكشفة ، وضجوا بالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء الى الله تعالى والتضرع إليه ، ثم وافى بعد تلك الثانية ثالثة دونها ، عند تصرم الليل ، ثم وافى بعد الثالثة رابعة دونها ، ثم خامسة ، وسادسة ، ثم سكنت بقدرة محركها ، ولم تؤثر أثرا منكرا في البلد ، فلله الحمد تعالى أمره ، وعظم شأنه.

وفي أوائل ذي القعدة من هذه السنة ، ورد الخبر من حمص ، بوفاة واليها الأمير الملقب بصلاح الدين ، وكان في أيام شبوبيته قد حظي في خدمة عماد الدين أتابك زنكي صاحب حلب والشام ، رحمه‌الله ، وتقدم عنده بالمناصحة وسداد التدبير ، وحسن السفارة وصواب الرأي ، ولما علت سنّه ضعفت قوته وآلته عن السعي إلا في ركوب الخيل ، وألجأته الضرورة الى الحمل في المحفة لتقرير الأحوال ، والنظر في (١٨٩ و) الأعمال ، ولم ينقص من حسه وفهمه ما ينكر عليه الى حين وفاته ، وخلفه من بعده أولاده في منصبه وولايته.

وفي يوم الجمعة انسلاخ ذي القعدة من السنة ، بعد مضي تقدير ساعتين منه ، وافت زلزلة رجفت بها الأرض ، وانزعج الناس لها ، ثم سكنت بقدرة المحرك لها ، وحكمته البالغة ، فله الحمد على لطفه بعباده ، تبارك الله رب العالمين.

وفي أيام من شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ، ورد الى دمشق أمير من أئمة فقهاء بلخ ، في عنفوان شبابه ، وغضارة عوده ، ما رأيت أفصح من لسانه ببلاغته العربية والفارسية ، ولا أسرع من جوابه ببراعته ، ولا أطيش من قلمه في كتابته ، فقلت ما ينبغي أن يهمل اثبات اسم هذا الأمير الإمام في هذا التاريخ المصنف لأنني ما رأيت مثله ، ولا شاهدت شبيها له ، فالتمست

٥٣١

نعوته التي بها يعرف ، وإليه تنسب فأنفذ إليّ كتابا قد كتب عن السلطان غياث الدنيا والدين أبي شجاع محمود بن محمد بن ممدود قسيم أمير المؤمنين في الطغراء ، وكتاب وزيره محمود بن سعد بن عبد الواحد مخلص أمير المؤمنين الى الملك العادل نور الدين ملك الشام ، وكلاهما ينطق بحسن صفاته ، واحترامه ، والوصية المؤكدة بإكرامه ووصفه بنعوته المكملة ، وهي : الأمير الإمام الأجل العالم المحترم الأخص ، الحميد الأعز ، نظام الدين ، عماد الاسلام ، تاج الملوك والسلاطين ، ملك الكلام ، بستان العالم ، أفصح العرب والعجم ، أعجوبة الدهر ، كريم الأطراف ، فخر الأسلاف ، افتخار ما وراء النهر ، تاج العراق ، سراج الحرمين ، مقتدى الأئمة ، مرتضى الخلافة ، رئيس الأصحاب شرقا وغربا ، مهذب الأئمة والأفاضل ذو المناقب والفضائل ، نادر الزمان ، نسيب خراسان ، أبو الحياة محمد بن أبي القاسم بن عمر البلخي ، (ووعظ) في جامع دمشق عدة أيام ، والناس يستحسنون وعظه ، ويستطرفون فنه ، وسلاطة لسانه ، وسرعة جوابه ، وحدة خاطره ، وصفاء حسه ، ونظمت في صفاته هذه الأبيات :

نظام الدين أفضل من رأينا

من العلماء في عرب وعجم

وأبهى منهم لفظا وخطا

بحسن بلاغة وصفاء فهم (١٨٩ ظ)

يفوق فصاحة قسا ويوفي

عليه عند منثور ونظم

إذا رام البديع من المعاني

أتاه مسرعا كالغيث يهمي

فليس له مجار في فنون

حوى احسانها من كل علم

إذا وعظ الامام سمعت وعظا

يحط العصم من قال الأشم

ويخرق حسن منطقه إذا ما

تكرر حسنه سمع الاصم

له الشرف الرفيع إذا تناهت

مفاخرة الشراف يكل قرم

وما ألفيت من يحظى بمدح

سواه إذ مضى في المدح عزمي

٥٣٢

وما سمحت لغير علاه نفسي

على ضني به عن كل فدم

فلا زالت مطايا المدح تسري

إليه وقد خلا من كل ذمّ

مدى الأيام ما هتفت هتوف

على غصن بغض النور ينمي

قد تقدم من ذكر الملك العادل نور الدين في نهوضه من دمشق في عساكره الى بلاد الشام ، عند انتهاء الخبر إليه ، بتجمع أحزاب الأفرنج خذلهم الله ، وقصدهم لها ، وطمعهم فيها ، بحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة بها ، وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها ، لحمايتها ، والذب عنها ، وايناس من سلم من أهل حمص وشيزر ، وكفرطاب ، وحماة وغيرها ، بحيث اجتمع إليه الخلق الكثير ، والجم الغفير ، من رجال المعاقل والأعمال ، والتركمان ، وخيم بهم بإزاء جمع الأفرنج في الأعداد الدثرة ، والتناهي في الكثرة بالقرب من أنطاكية ، وحصرهم بحيث لم يقدر فارس منهم على الإقدام على الإفساد.

فلما مضت أيام من شهر رمضان من سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة عرض للملك العادل نور الدين ابتداء مرض حاد ، فلما اشتد به ، وخاف منه على نفسه ، استدعى أخاه نصرة الدين أمير ميران ، وأسد الدين شيركوه ، وأعيان الأمراء ، والمقدمين ، وأوصى إليهم ما اقتضاه رأيه واستصوبه ، وقرر معهم كون أخيه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده ، والساد لثلمة فقده لإشتهاره بالشهامة وشدة البأس ، ويكون مقيما بحلب ، ويكون أسد الدين في دمشق في نيابة (١٩٠ و) (١) نصرة الدين ، واستحلفت الجماعة على هذه القاعدة ، فلما تقررت هذه القاعدة ، اشتد به المرض ، فتوجه في المحفة الى حلب ، وحصل في قلعتها ، وتوجه أسد الدين الى دمشق لحفظ أعمالها من

__________________

(١) زيد ما بين الحاصرتين من الروضتين : ١ / ١١٤.

٥٣٣

فساد الأفرنج ، وقصد أعمال الملاعين في أواخر شوال من السنة ، وتواصلت عقيب هذه الحال الأراجيف بالملك نور الدين ، فقلقت النفوس ، وانزعجت القلوب ، فتفرقت جموع المسلمين ، واضطربت الأعمال ، وطمع الأفرنج ، فقصدوا مدينة شيزر ، وهجموها وحصلوا فيها فقتلوا وأسروا ، وانتهبوا ، وتجمع من عدة جهات خلق كثير من رجال الإسماعيلية وغيرهم ، فاستظهروا عليهم ، وقتلوا منهم ، وأخرجوهم من شيزر.

واتفق وصول نصرة الدين الى حلب ، فأغلق والي القلعة مجد الدين في وجهه الأبواب ، وعصى عليه فثارت أحداث حلب ، وقالوا : هذا صاحبنا وملكنا بعد أخيه ، وزحفوا في السلاح الى باب البلد ، فكسروا أغلاقه ، ودخل نصرة الدين في أصحابه ، وحصل في البلد ، وقامت الأحداث على والي القلعة باللوم والإنكار والوعيد ، واقترحوا على نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسمهم ، في التأذين «بحي على العمل ، محمد علي خير البشر» ، فأجابهم الى ما رغبوا فيه ، وأحسن القول لهم ، والوعد ، ونزل في داره ، وأنفذ والي القلعة الى نصرة الدين والحلبيين ، يقول : مولانا الملك العادل نور الدين حي في نفسه ، مقيم في مرضه ، وما كان الى ما فعل حاجة تدعو الى ما كان ، فقيل الذنب في ذاك الى الوالي ، وكتم الحال ، وصعد الى القلعة من شاهد نور الدين حيا يفهم ما يقول ، وما يقال له ، فأنكر ما جرى ، وقال : الآن أنا أصفح للاحداث عن هذا الخطل ، ولا أواخذهم بالزلل ، وما طلبوا إلا صلاح حال أخي ، وولي عهدي من بعدي.

وشاعت الأخبار وانتشرت البشارات في الأقطار ، بعافية الملك نور الدين ، فأنست القلوب بعد الاستيحاش ، وابتهجت النفوس بعد القلق والانزعاج ، وتزايدت العافية ، وصرفت الهمم الى مكاتبات المقدمين بالعود الى جهاد الملاعين ، وكان نصرة الدين قد ولي مدينة حران وأضيف إليها ، وتوجه نحوها ، وكان الغيث قد أمسك عن أعمال حوران ، وعزم أهلها على (١٩٠ ظ)

٥٣٤

النزوح من ضياعها لعدم ماء شربهم ، وبعده عنهم ، وكذلك سائر الأعمال ، فلطف الله تعالى بعباده وبلاده ، فأرسل عليهم في العشر الآخر من كانون الثاني من السنة الشمسية ، والموافق للعشر الآخر من ذي الحجة من السنة القمرية ، سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة من الغيث الهطال المتدارك ، والثلج المتتابع ، ما روى الوهاد والآكام ، وجرت به أودية حوران ، ودارت أرحيتها ، وانتعشت زروعها ، وأنبتت بالغيث سباخها ، فلله تعالى الحمد على هذه النعمة التي لا يحصى لها عدد ، ولا يحصر لها أمد.

ولما تناصرت الأخبار بالبشائر الى أسد الدين بدمشق بعافية الملك العادل نور الدين ، واعتزامه على استدعاء عساكر الاسلام لجهاد أعداء الله والمقيمين بالشام ، سارع بالنهوض من دمشق الى ناحية حلب ، ووصل إليها في خيله ، واجتمع مع الملك العادل نور الدين ، فأكرم لقياه ، وشكر مسعاه ، وشرعوا في حماية الأعمال من شر عصب الكفر والضلال ، بما يعود بصلاح الأحوال ، والله المسهل لنيل المباغي والآمال ، بمنه وفضله ، ونظمت هذه الأبيات في هذا المعنى :

لقد حسنت صفاتك يا زماني

وفزت بما رجوت من الأماني

فكم أصبحت مرعوبا مخوفا

فبدلت المخافة بالأمان

فكم من وحشة وافت وزالت

وهدّمت الرفيع من المباني

وجاءتنا أراجيف بملك

عظيم الشأن مسعود الزمان

فروعت القلوب من البرايا

وصار شجاعها مثل الجبان

وثارت فتنة تخشى أذاها

على الإسلام في قاص ودان

ووافى بعد ذاك بشير صدق

بعافية المليك مع التهاني

فولى الخوف مهدوم المباني

وعاد الأمن معمور المغاني

٥٣٥

ودخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

وأولها يوم الاثنين أول المحرم ، والطالع الجدي ، وفي أوائله تناصرت الأخبار من ناحية الأفرنج ، خذلهم الله ، المقيمين في الشام ، في مضايقتهم لحصن حارم ، ومواظبتهم على رميه (١٩١ و) بحجارة المناجيق الى أن أضعف ، وملك بالسيف ، وتزايد طمعهم في شن الغارات في الأعمال الشامية ، وإطلاق الأيدي في العيث والفساد ، في معاقلها وضياعها ، بحكم تفرق العساكر الاسلامية والخلف الواقع بينهم باشتغال الملك بعقابيل المرض العارض له ، ولله المشيئة التي لا تدافع ، والأقضية التي لا تمانع.

وفي صفر منها ورد الخبر والمبشر ببروز الملك العادل نور الدين من حلب للتوجه الى دمشق ، واتفق للكفرة الملاعين متواتر الطمع ، في شن الغارات على أعمال حوران والاقليم ، واطلاق أيدي الفساد والعيث والإحراق والإخراب في الضياع ، والنهب والأسر والسبي ، وقصد داريا ، والنزول عليها في يوم الثلاثاء ، انسلاخ صفر من السنة ، وإحراق منازلها وجامعها ، والتناهي في إخرابها ، وظهر إليهم من العسكرية والأحداث العدد الكثير ، وهموا بقصدهم والإسراع الى لقائهم ، وكفهم ، فمنعوا من ذلك ، بعد أن قربوا منهم ، وحين شاهد الكفار ، خذلهم الله ، كثرة العدد الظاهرة إليهم ، رحلوا في آخر النهار المذكور الى ناحية الاقليم.

ووصل الملك نور الدين الى دمشق ، وحصل في قلعتها ، غرة يوم الاثنين السادس من شهر ربيع الأول سالما في نفسه وجملته ، ولقي بأحسن زي ، وترتيب ، وتجمل ، واستبشر العالم بمقدمه المسعود ، وابتهجوا ، وبالغوا في شكر الله تعالى على سلامته وعافيته ، والدعاء له ، بدوام أيامه ، ونصر أعلامه ، وشرع في تدبير أمر الأجناد ، والتأهب للجهاد ، والله تعالى يمده بالنصر ، وإدراك كل بغية ومراد.

٥٣٦

وفي أوائل ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين ورد الخبر من ناحية مصر ، بخروج فريق وافر من عسكرها إلى غزة وعسقلان ، وأغاروا على أعمالها ، وخرج إليها من كان بها من الفرنج الملاعين ، فأظهر الله المسلمين عليهم قتلا وأسرا ، بحيث لم يفلت منهم إلا اليسير ، وغنموا ما ظفروا ، وعادوا سالمين ظافرين ، وقيل إن مقدم الغزاة في البحر ظفر بعدة من مراكب المشركين ، وهي مشحنة بالأفرنج ، فقتل وأسر منهم العدد الكثير ، والجم الغفير ، وحاز من أموالهم وعددهم وأثاثهم ما لا يكاد يحصى ، وعاد ظافرا غانما.

وورد الخبر في الخامس عشر (١٩١ ظ) من شهر ربيع الأول من السنة من ناحية حلب ، بحدوث زلزلة هائلة روعت أهلها ، وأزعجتهم ، وزعزعت مواضع من مساكنها ، ثم سكنت بقدرة محركها ، سبحانه وتعالى ذكره ، وفي ليلة السبت الخامس والعشرين من ربيع الأول من السنة ، وافت زلزلة بدمشق ، روعت وأقلقت ، ثم سكنت بقدرة محركها تعالى ذكره.

وفي يوم الأحد التاسع من شهر ربيع الآخر من السنة ، برز الملك العادل نور الدين من دمشق الى جسر الخشب في العسكر المنصور بآلات الحرب ، مجدا في جهاد الكفرة المشركين ، وقد كان أسد الدين قبل ذلك عند وصوله في من جمعة من فرسان التركمان غار بهم على أعمال صيدا وما قرب منها ، فغنموا أحسن غنيمة وأوفرها ، وخرج إليهم ما كان بها من خيالة الأفرنج ورجالتها ، وقد كمنوا لهم فغنموهم ، وقتل أكثرهم ، وأسر الباقون ، وفيهم ولد المقدم المولى حصن حارم ، وعادوا سالمين بالأسرى ، ورؤوس القتلى ، والغنيمة لم يصب منهم غير فارس واحد فقد ، ولله الحمد على ذلك والشكر. وفي يوم الثلاثاء أول شهر تموز الموافق لأول جمادى الآخرة من السنة ، وافى في البقاع مطر هطال ، بحيث حدث منه سيل أحمر ، كما جرت به العادة في تنبوك (١) الشتاء ، ووصل الى بردى ، ووصل الى دمشق ، فكثر التعجب من قدرة الله سبحانه وتعالى حدوث مثل ذلك ، في مثل هذا الوقت.

__________________

(١) انتبك ارتفع. القاموس.

٥٣٧

وفي آخر ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من رجب من السنة ، وافت زلزلة عند تأذين الغداة ، روعت القلوب ، وأزعجت النفوس ، ثم سكنت بقدرة الله الرؤوف الرحيم ، ثم وافت أخرى عقيب الماضية ، في ليلة الخميس وقت صلاة الغداة ، ثم سكنت بقدرة الله تعالى.

وورد الخبر من العسكر المحروس بأن الافرنج خذلهم الله ، تجمعوا ، وزحفوا الى العسكر المنصور ، وأن المولى نور الدين نهض في الحال في العسكر ، والتقى الجمعان ، واتفق ان عسكر الاسلام حدث [فيه](١) لبعض المقدمين فشل ، فاندفعوا وتفرقوا بعد الاجتماع ، وبقي نور الدين ثابتا بمكانه ، في عدة يسيرة من شجعان غلمانه ، وأبطال خواصه ، في وجوه الأفرنج ، وأطلقوا فيهم السهام ، فقتلوا منهم ، ومن خيولهم العدد الكثير ، ثم ولّوا منهزمين خوفا من (١٩٢ و) كمين يظهر عليهم من عسكر الإسلام ، ونجىّ الله وله الحمد نور الدين من بأسهم ، بمعونة الله تعالى له ، وشدة بأسه ، وثبات جأشه ، ومشهور شجاعته ، وعاد الى مخيمه سالما في جماعته ، ولام من كان السبب في اندفاعه بين يدي الأفرنج ، وتفرق جمع الأفرنج الى أعمالهم.

وراسل ملك الأفرنج في طلب الصلح والمهادنة ، وحرص على ذلك ، وترددت المراسلات بين الفريقين ، ولم يستقر حال بينهما ، وأقام العسكر المنصور بعد ذلك مدة ، ثم اقتضى الرأي السعيد الملكي النوري ، الانكفاء الى البلد المحروس ، فوصل إليه في يوم ... (٢) من شعبان من السنة.

ولما كان في أواخر أيام من رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ، تجمع قوم من سفهاء العوام ، وعزموا على التحريض للملك العادل نور الدين على

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من الروضتين : ١ / ١٣٠.

(٢) فراغ بالأصل ، وحين روى صاحب الروضتين : ١ / ١٣٠ الخبر عن ابن القلانسي اختصر نهايته فلم يذكر تاريخ عودة نور الدين الى دمشق.

٥٣٨

إعادة ما كان أبطله ، وسامح به أهل دمشق من رسوم دار البطيخ ، وعرصة البقل والأنهار ، وصانهم من إعنات شر الضمان ، وحوالة الأجناد ، وكرروا بسخف عقولهم الخطاب ، وضمنوا القيام بعشرة آلاف دينار بيضاء ، وكتبوا بذلك ، حتى أجيبوا الى ما راموه ، فشرعوا في فرضها على أرباب الأملاك من المقدمين والأعيان والرعايا ، فما اهتدوا الى صواب ، ولا نجح لهم رأي في خطاب ولا جواب ، وعسفوا الناس بجهلهم ، بحيث تألموا ، وأكثروا الضجيج ، والاستغاثة الى الملك العادل نور الدين ، فصرف همه الى النظر في هذا الأمر ، فنتجت له السعادة ، وايثار العدل في الرعية في إعادة ما أشكل الى ما كان عليه ، فلما كان يوم الاثنين العاشر من شهر رمضان أمر بإعادة الرسوم المعتادة الى ما كانت من أماتتها وتعفية أثرها ، وأضاف الى ذلك تبرعا من نفسه إبطال ضمان الهريسة والجبن واللبن ، ورسم بكتب منشور يقرأ على كافة الناس بإبطال هذه الرسوم جميعها ، وتعفيه ذكرها ، فبالغ العالم في ذلك من مواصلة الأدعية للملك العادل ، والثناء عليه ، والنشر لمحاسنه ، فالله تعالى يستجيب منهم ، ويديم أيامه ويقرن أيامه بالسعادة والنصر ، لأوليائه وأعلامه.

وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رمضان من السنة ، وصل الحاجب محمود المسترشدي (١) من ناحية مصر بجواب ما تحمّله من المراسلات من الملك الصالح متولي أمرها (١٩٢ ظ) ، ومعه رسول من مقدمي أمرائها ، ومعه المال المنفذ برسم الخزانة الملكية النورية ، وأنواع الأثواب المصرية والجياد العربية ، وكانت فرقة من الأفرنج خذلهم الله قد ضربوا لهم

__________________

(١) في الأصل «محمود المولد من ناحية مصر بجواب ما تحملنا» وقد أصاب بعض العبارات تصحيف تمّ تقويمه من الروضتين : ١ / ١٢١. وكان المسترشدي رسول نور الدين ، وبصحبته الأمير عز الدين أبو الفضل غسان بن محمد بن جلب ، وقد جهز الملك الصالح «رسول محمود بن زنكي بجواب رسالته ، ومعه هدية منها من الأسلحة وغيرها ما قيمته ثلاثون ألف دينار ، ومن العين ما مبلغه سبعون ألف دينار تقوية له على جهاد الافرنج». اتعاظ الحنفا : ٣ / ٢٣٣ ـ ٢٣٦.

٥٣٩

في المعابر ، فأظفر الله بهم ، بحيث لم يفلت منهم إلا القليل النزر ، ثم تلا ذلك وورد الخبر من العسكر المصري ، بظفره بجملة وافرة من الأفرنج والعرب تناهز أربعمائة فارس ، وتزيد على ذلك ، في ناحية العريش من الجفار ، بحيث استولى عليهم القتل والأسر والسلب ، وكان فتحا حسنا ، وظفرا مستحسنا ، والله المحمود على ذلك المشكور.

وفي يوم الثلاثاء ثالث شوال من السنة توفي المنتجب أبو سالم بن عبد الرحمن الحلبي ، متولي كتابة الجيش ، وعرض الأجناد في ديوان الملك العادل نور الدين رحمه‌الله ، وكان خيرا حسن الطرية ، مجمعا (١) على شكره والتأسف على فقد مثله ، وتلا مصابه وفاة المهذب أبي عبد الله بن نوفل الحلبي ، في دمشق أيضا ، رحمه‌الله في يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة من السنة ، وكان كاتبا للأمير الاسفهسلار أسد الدين ، ووزيره ، وهو موصوف بالخيرية ، محمود الأفعال ، مشكور المقاصد ، في جميع الأحوال والخلال ، واستخدم ولده في منصبه.

وتلا ذلك ورود الخبر من ناحية حماة في العشر الأخير من ذي الحجة من السنة ، بوفاة رضي الدين أبي المجد مرشد بن علي بن عبد اللطيف المعري بحماة ، رحمه‌الله ، وكان من الرجال الأسداء الكفاة ، فيما كان يستنهض فيه في الأيام الأتابكية ، وكذلك في الأيام النورية ، وكان مع ذلك موصوفا بالخيرية ، وسلامة الطبع ، مستمرا في ذلك على منهاج أسرته.

وكانت الأخبار قد تناصرت من ناحية القسطنطينية ، في ذي الحجة من السنة ، ببروز ملك الروم منها ، في العدد الكثير ، والجم الغفير ، لقصد الأعمال والمعاقل الإسلامية ، ووصوله الى مروج الديباج ، وتخييمه فيها ،

__________________

(١) في الأصل «مجموعا» وما أثبتناه أقوم.

٥٤٠