تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

القصر ، وبرجوان يبكي ويقول لهم : يا عبيد مولانا احفظوا العزيز في ولده ، وارعوا فيه ما تقدّم من حقه ، وهم يبكون لبكائه.

وركب الحسن بن عمار في كتامة ومن انضاف إليهم من القبائل ، وغيرهم وخرج إلى الصحراء وتبعوه وتبعه وجوه البلد ، فصار في عدد كثير ، وفتح برجوان خزائن السلاح ، وفرّقه على الغلمان والرجال ، وأحدقوا ومن معهم بالقصر من المشارقة والعامة (٣٤ ظ) بقصر الحاكم ، وعلى أعلاه الخدم والجواري يصرخون ، وبرز منجوتكين وبارجتكين وينال الطويل ، وخمسمائة فارس من الغلمان ، ووقعت الحرب بينهم وبين الحسن إلى وقت الظهر ، وحمل الغلمان عليه ، فانهزم ، وزحفت العامة إلى داره فانتهبوها ، وفتحوا خزائنه ، وتفرقوا ما فيها ، والتجأ الحسن إلى بعض العامة فاستتر عنده ، وتفرق جميع من كان معه ، وفتح برجوان باب القصر ، وأجلس الحاكم وأوصل إليه الناس ، وأخذ له بيعة مجددة على الجند ، فما اختلف عليه أحد وكتب الامانات لوجوه كتامة وقواد الدولة ، وراسلهم بما تطيب به نفوسهم من إقامة عذرهم فيما كان منهم ، فحضرت الجماعة وأعطت أيمانها على السمع والطاعة ، فاستقام الأمر لبرجوان ، وكتب الكتب إلى أشراف دمشق ووجوه أهلها ، يأمرهم بتطييب نفوسهم ، ويبعثهم على القيام على القائد أبي تميم سلمان بن جعفر بن فلاح والإيقاع به ، وكتب إلى مشارقة الأجناد بالاجتماع معهم على المذكور ، والإعانة لهم عليه.

* * *

٨١

شرح أسباب ولاية القائد سلمان بن فلاح

المقدم ذكره لدمشق وما آلت إليه حاله وحال أخيه في ذلك

في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة

قد تقدم من شرح ولاية القائد المذكور لدمشق ، والسبب لذلك ، وما آلت الحال إليه ما في معرفته الغناء والكفاية ، ولما وردت المكاتبات من مصر عقيب انجلاء فتنة القائد أبي محمد الحسن بن عمار شيخ كتامة بتجديد البيعة للحاكم بأمر الله بما يطيب قلوب أهل البلد ، ويبعثهم على الوثوب على سلمان ، وكان هذا القائد المذكور مشهورا بالكفاية والغناء ، وتوقد اليقظة في أحواله والمضاء ، لكنه كان مستهترا بشرب الراح واستماع الغناء ، والتوفّر على اللذة ، ولما وردت الملطفات (١) المصرية بما اشتملت عليه في حقّه وهو منهمك في لهوه لم يشعر إلا بزحف العامة والمشارقة إلى قصره وهجومهم عليه ، فخرج هاربا على ظهر فرسه ، فنهبت خزائنه وأمواله وعدده ، وأوقعوا بمن كان في البلد معه من كتامة ، وقتلوا منهم عدة وافرة ، وعادت الفتنة ثائرة ، واقتسم رؤساء الأحداث حال البلد ، وكان يكتب لبرجوان فهد بن إبراهيم النصراني ، فلما صار الأمر (٣٥ و) إليه استوزره ، وكان من أبناء القبط بريف مصر ، واستكتب أبا الفتح أحمد بن أفلح على ديوان الرسائل ، ولم يزل برجوان يتلطف للحسن ابن عمار إلى أن أخرجه من استتاره ، وأعاده إلى داره وأجراه على رسمه في راتبه واقطاعاته بعد أن شرط عليه إغلاق بابه ، وألا يداخل نفسه فيما كان يداخلها فيه ، ولا يشرع في فساد على الحاكم ، ولا على برجوان ، وأخذ العهد عليه بذلك واستحلفه بأوكد الأيمان وبالغ في التوثق منه.

__________________

(١) في الأصل : «المطلقات» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا ، والملطفات الرسائل السرية.

٨٢

وكان أهل صور في هذه السنة التي هي سنة سبع وثمانين قد عصوا وأمّروا عليهم رجلا ملّاحا من البحرية يعرف بالعلاقة ، وقتلوا أصحاب السلطان. واتفق أن المفرج بن دغفل قد نزل على الرملة ونهب ما كان في السواد ، وأطلق يد العيث في البلاد ، وانضاف إلى هاتين الحادثتين خروج الدوقس عظيم الروم في عسكر كثير إلى الشام ، ونزوله على حصن أفامية ، فاصطنع برجوان القائد جيش بن الصمصامة ، وقدمه وجهز معه ألف رجل ، وسيره إلى دمشق وأعمالها وبسط يده في الأموال ، ورد إليه تدبير الأعمال ، فسار جيش ونزل على الرملة والوالي عليها وحيد الهلالي ومعه خمسة آلاف رجل ، ووافاه ولاة البلد وخدموه وصادف القائد أبا تميم سلمان بن فلاح في الرملة فقبض عليه قبضا جميلا ، وندب أبا عبد الله الحسن بن ناصر الدولة وياقوت الخادم ومن معه من عبيد الشراء لقصد صور ومنازلتها وفتحها ، وكان قد وليّ جماعة من الخدم السواحل ، وأنفذوا إليها ، وأنفذ في البحر تقدير عشرين مركبا من الحربية المشحونة بالرجال إلى ثغر صور ، وكتب إلى علي بن حيدرة والي طرابلس بالمسير اليه في أصطوله ، والى ابن الشيخ والي صيدا بمثل ذلك ، والى جماعة من الجهات بحيث اجتمع الخلق الكثير على باب صور ، ووقعت الحرب بينها وبين أهلها ، واستجار العلاقة بملك الروم ، وكاتب يستنصره ويستنجده ، وأنفذ إليه عدّة مراكب في البحر مشحونة بالرجال المقاتلة ، والتقت هذه المراكب مراكب المسلمين فاقتتلوا في البحر قتالا شديدا ، فظفر المسلمون بالروم ، وملكوا مركبا من مراكبهم وقتلوا من فيه ، وكانت عدتهم (٣٥ ظ) مائة وخمسين رجلا ، وانهزمت بقية المراكب ، فضعفت نفوس أهل صور ، ولم يكن لهم طاقة بمن اجتمع عليهم من العساكر برّا وبحرا ، ونادى المغاربة : «من أراد الأمان من أهل الستر والسلامة فليلزم منزله» ، فلزموا ذلك ، وفتح البلد ، وأسر العلّاقة وجماعة من أصحابه ، ووقع النهب وأخذ من الأموال والرجال الشيء الكثير ، وكان هذا الفتح أول فتح على يد برجوان

٨٣

الحاكمي وحمل العلّاقة وأصحابه إلى مصر ، فسلخ حيّا وصلب بظاهر المنظر (١) ، بعد أن حشي جلده تبنا وقتل أصحابه.

وولي أبو عبد الله الحسن بن ناصر الدولة بن حمدان صور ، وأقام بها وسار جيش بن الصمصامة على مقدمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه ، فهرب بين يديه حتى لحق بجبلي طيء (٢) وتبعه حتى كاد يأخذه ، ثم رماه ابن جراح بنفسه وعجائز نسائه ، وعاذ منه بالصفح وطلب الأمان فأمنه ، وشرط عليه ما التزمه ، وعفا عنه جيش ، وكف عنه واستحلفه على ما قرره معه ، وعاد إلى الرملة ورتب فيها واليا من قبله ، وانكفأ إلى دمشق طالبا لعسكر الروم النازل على أفامية ، فلما وصل إلى دمشق استقبله أشرافها ورؤساء أحداثها مذعنين له بالطاعة ، فأقبل على رؤساء الأحداث وأظهر لهم الجميل ، ونادى في البلد برفع الكلف واعتماد العدل والأنصاف ، وإباحة دم كل مغربي يتعرض لفساد ، فاجتمع إليه الرعية يشكرونه ويدعون له ، وسألوه دخول البلد والنزول فيه بينهم ، فأعلمهم أنه قاصد الجهاد في الروم ، وأقام ثلاثة أيام وخلع على رؤساء الأحداث وحملهم ووصلهم ونزل حمص ، ووصل إليه أبو الحسن عبد الواحد بن حيدرة في جند طرابلس والمتطوعة من عامتها ، وتوجه الى الدوقس عظيم الروم النازل على حصن أفامية فصادف أهله قد اشتد بهم الحصار وبلغ منهم عدم الأقوات ، وانتهى أمرهم إلى أكل الجيف والكلاب ، وابتاع واحد واحدا بخمسة عشرين درهما ، فنزل بإزاء الروم وبينه وبينهم النهر المعروف بالمقلوب ، والتقى الفريقان وتنازعا الحرب والمسلمون في عشرة آلاف رجل ومعهم ألف فارس من (٣٦ و) بني كلاب فحمل الروم على القلب وفيه بدر العطّار والديلم والسواد فكسروه ، ووضعوا السيف في

__________________

(١) انظر اتعاظ الحنفا للمقريزي : ٢ / ١٨ ـ ١٩ ، ٣ / ٢٦٨.

(٢) أجأ وسلمى شرقي مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويمر بهما حجاج الكوفة ـ تقويم البلدان : ٦٧ ـ ٦٨.

٨٤

من كان فيه ، وانهزمت الميسرة وفيها ميسور الصقلبي والي طرابلس ، ولحقتها الميمنة وفيها جيش بن محمد بن الصمصامة المقدم ووحيد الهلالي ، وركب الروم المسلمين ، وقتلوا منهم ألفي رجل ، واستولوا على سوادهم وسلاحهم وكراعهم ، ومال بنو كلاب على أكثر من ذلك فانتهبوه ، وثبت بشارة الاخشيدي في خمسمائة غلام ، وشاهد أهل أفامية من المسلمين ما نزل بالناس فأيقنوا بالهلاك ، وابتهلوا إلى الله الكريم اللطيف بعباده ، وسألوا الرحمة والنصر ، وكان ملك الروم قد وقف رابية بين يديه ولدان له ، وعشرة نفر من غلمانه ، ليشاهد ظفر عسكره وأخذه ما يأخذه من الغنائم ، فقصده كردي يعرف بأبي الحجر أحمد بن الضحاك السليل على فرس جواد ، وعليه كزاغند وخوذة وبيده اليمنى خشت (١) وباليسرى العنان وحشت آخر ، فظنه الدوقس مستأمنا له ومستجيرا به ، فلم يحفل به ولا تحرز منه ، فلما دنا منه حمل عليه والدوقس متحصن بلأمته فرفع يده ليتقي ما يرميه به فرماه بالزوبين (٢) الذي في يمناه رمية أصابت خللا في الدرع ، فوصل إلى جسده ، وتمكن منه في أضلاعه فسقط إلى الأرض ميتا ، وصاح الناس «ان عدو الله قد قتل ، فانهزمت الروم ، وتراجع المسلمون ، وعادت العرب ، ونزل من كان في الحصن فأعانوهم واستولى المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم ، وكانت الوقعة في مرج افيح يطيف به جبل يعرف بالمضيق لا يسلكه إلا رجل في إثر رجل ، ومن جانبه بحيرة أفامية ونهر المقلوب ، فلم يكن للروم مهرب في الهزيمة ، وتصرم النهار وقد احتز من رؤوس القتلى عشرة آلاف رأس ، وبات المسلمون مبيت المنصورين الغانمين المسرورين بما منحهم الله اياهم من الكفاية ووهب لهم من الظفر ، ووافى العرب من غد بما نهبوه من دواب المسلمين عند الهزيمة ، فمنهم من رد ومنهم من باع

__________________

(١) الكزاغند كلمة مركبة من : كز أو قز وهو الحرير ، وغند مبطن ، والكزاغند ثوب حريري أو قطني مبطن يلبسه المقاتل لوقاية جسمه ، والخشت هو نبل قصير أو ما يشبه الحربة القصيرة.

(٢) حربة قصيرة ذات حدين.

٨٥

بالثمن البخس لأن جيش بن الصمصامة المقدم نادى في معسكره بألا يبتاع أحد من العرب إلا ما عرفه ، وكان مأخوذا منه فلم (٣٦ ظ) يجد الا ما أخذه أصحابه ، وحصل ولدا الدوقس في أسر بعض المسلمين ، فابتاعهما جيش بن الصمصامة المقدم منه بستة آلاف دينار وأخذهما إليه ، وأقام على حصن أفامية أسبوعا ، وحمل إلى مصر عشرة آلاف رأس وألفي رجل من الأسرى إلى باب أنطاكية ، ونهب الرساتيق ، وأحرق القرى وانصرف منكفئا إلى دمشق ، وقد عظمت هيبته فاستقبله اشرافها ورؤسائها وأحداثها مهنئين وداعين له ، فتلقاهم بالشماسية وزادهم من الكرامة وخلع عليهم [وعلى](١) وجوه الأحداث ، وحملهم على الخيل والبغال ، ووهب لهم الجواري والغلمان ، وعسكر بظاهر البلد ، وخاطبوه في الدخول والجواز في الأسواق ، وقد كانوا زينوها إظهارا للسرور به ، والتقرب إليه ، فلم يفعل ، وقال : معي عسكر وإن دخلت دخلوا معي ، ولم آمن أن يمدوا أيديهم الى ما يثقل به الوطأة منهم ، والتمس أن يخلوا له قرية على باب دمشق تعرف ببيت لهيا (٢) ليكون نزوله بها فأجابوه إلى ذلك.

__________________

(١) زيد ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

(٢) قال عنها ياقوت في معجمعه : قرية مشهورة بغوطة دمشق ، وذكرها كرد علي في كتابه «غوطة دمشق» ص : ٢٢٤ فقال : تسمى بيت ألاهيه ، كانت من أعمر القرى ، أشبه ببلدة ، وهي على طريق بغداد القديم بين البساتين حوالي جسر ثورة ، في البقعة التي يقوم عليها المستشفى الانكليزي في القصاع ـ مستشفى الزهراوي حاليا.

٨٦

ولاية بشارة الاخشيدي لدمشق

في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة والسبب الداعي إلى ذلك

وما آلت إليه الحال

لما تقرر الحال بمصر مع برجوان الحاكمي على تجهيز جيش بن الصمصامة إلى الشام ، لتلافي ما حدث فيه ، وتدبير الأعمال وتسديد الأحوال والدفع لشر الروم الواصلين إلى أعماله ، اقتضت الحال والسياسة رد ولاية دمشق بعد إخراج القائد أبي تميم سلمان بن جعفر بن فلاح منها على ما تقدم الذكر له إلى القائد بشارة الاخشيدي ، فسار ووصل إليها ودخلها ونزل في قصر الولاة (١) بها ، وشرع في البناء فيه ، على عادة الولاة في ذلك في يوم الاثنين النصف من شوال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وتوجه القائد بشارة الوالي المذكور مع جيش بن الصمصامة إلى الجهاد في الروم ، فلما أظفر الله بهم ، ونصر عليهم ، وانكفأ المسلمون منصورين ظافرين مسرورين ، وعاد بشارة الوالي في الجملة ، صادف الأمر قد ورد من مصر بصرف القائد بشارة عن ولاية دمشق وإقرارها على القائد جيش بن محمد (٣٧ و) بن الصمصامة (٢).

شرح السبب في ذلك وما انتهت إليه حاله وكان مآله

قد تقدم شرح السبب في إخراج القائد جيش في العسكر من مصر إلى الشام ما كفى وأغنى ، وما كان منه في التدبير في افتتاح ثغر صور ، وكسر عسكر الروم ، والعود إلى دمشق وصرف بشارة عن ولايتها.

__________________

(١) من المرجح أنه بني في موقع الدكة على نهر يزيد في سفح جبل قاسيون. انظر مجلة الحوليات م ٢٢ ـ ٢٣ ص : ٤٠ ـ ٤٣.

(٢) انظر ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٠٦ ـ ٣٠٨ ، ٣٤٥ ـ ٣٤٨ ، حيث ترجمة لكل من بشارة الاخشيدي وجيش بن الصمصامة نقلا عن المقفى للمقريزي.

٨٧

واتفق ذاك وقد قوض الصيف خيامه ، وطوى بعد النشر أعلامه ، والشتاء قد أقبل بصره وهريره وقرّة وزمهريرة ، فالتمس من أهل دمشق على ما تقدم ذكره اخلاء (١) بيت لهيا ، فأجيب إلى ما طلب ، فنزل فيها وشرع في التوفر على استعمال العدل ، ورفع الكلف واحسان السيرة والمنع من الظلم ، واستخص رؤساء الأحداث وقدمهم واستحجب جماعة منهم ، وجعل يعمل لهم السمط في كل يوم يحضرهم للأكل عنده ويبالغ في تأنيسهم واستمالتهم بكل حال ، فلما مضت على ذلك برهة من الزمان أحضر قواده ووجوه أصحابه ، وتقدم إليهم بالكون على أهبة واستعداد لما يريد استخدامهم ، وتوقع لما يوصل إليهم من رقاعه المختومة بخاتمه والعمل به ، وقسم البلد وكتب إلى كل قائد بذكر الموضع الذي يدخل فيه ، ويضع السيف في مفسديه ، ثم رتب في حمام داره مائتي راجل من المغاربة بالسيوف ، وتقدم إلى المعروف بالباهري العلوي وكان من خواصه وثقاته بأن يراعي حضور رؤساء الأحداث الطعام فإذا أكلوا وقاموا إلى المجلس الذي جرت عادتهم بغسل أيديهم فيه أغلق عليهم بابه ، وأمر من رتّب في الحمام بوضع السيف في أصحابهم ، وكان كل رجل منهم يدخل ومعه جماعة من الأحداث معهم السلاح ، وحضر القوم على رسمهم ، فبادر جيش بالرقاع إلى قواده ، وجلس معهم للأكل ، فلما فرغوا نهض فدخل في حجرته ونهضوا الى المجلس وأغلق الفراشون بابه ، وكانت عدتهم اثني عشر رجلا يقدمهم المعروف بالدهيقين ، وخرج من بالحمام فوضعوا السيف في أصحابهم فقتلوهم بأسرهم ، وكانوا تقدير مائتي رجل ، وركب القواد ودخلوا البلد وقتلوا فيه (٣٧ ظ) قتلا ذريعا وثلموا السور من كل جانب ، وفتحوا أبوابه ورموها ، وأنزل المغاربة دور الدمشقيين ، وجرد إلى الغوطة والمرج قائدا يعرف بنصرون وأمره بوضع السيف في من بها من الأحداث ، فيقال أنه قتل ألف رجل منهم لأنهم كانوا كثيرين ، ودخل دمشق فطافها فاستغاث الناس وسألوا العفو

__________________

(١) موقع حي القصاع الحالي بدمشق.

٨٨

والإبقاء ، فكف عنهم ورتب أصحابه المصالح (١) في المحال والمواضع ، وعاد إلى القصر في وقته فاستدعى الأشراف استدعاء حسن معه ظنّهم فيه ، فلما حضروا أخرج رؤساء الأحداث فضرب رقابهم بين أيديهم ، وأمر بصلب كل واحد منهم في محلته ، حتى إذا فرغ من ذلك قبض عليهم وحملهم إلى مصر ، وأخذ أموالهم ونعمهم ، ووظّف على أهل البلد خمسمائة ألف دينار.

وجاءه أمر الله تعالى الذي لا يدفع نازله ، ولا يرد واصله ، فهلك ، وكان سبب هلاكه ناسور خرج في سفله ، ولم يزل يستغيث من الألم ، ويتمنى الموت ويطلب أن يقتل نفسه فلا يتمكّن ولا يمكّن ، ويسأل في قتله فلا يقتل إلى أن هلك على هذه الحال (٢) ، وكانت مدة هذه الولاية والفتنة تسعة شهور ، وقيل إن عدة من قتل من الأحداث ثلاثة آلاف رجل.

مكانه (٣) ، وانتهى الخبر إلى مصر بهلاكه ، فقلد ولده محمد بن جيش

وقد استقامت الأمور بمصر والشام ، واستمال برجوان المشارقة واستدعاهم من البلاد ، فاجتمع عنده منهم تقدير ثلاثة آلاف رجل ، وكان يواصل النظر في قصر الحاكم نهاره أجمع إلى أن ينتصف الليل ويجاوز الانتصاف ، ويوفي السياسة حقها ، وبين يديه أبي العلاء فهد بن إبراهيم من يمشي الأمور ويحسن تنفيذها.

__________________

(١) كذا في الأصل ولعلها مصحفة صوابها «المسالح».

(٢) روى المقريزي سببا آخر لوفاته فقال : وكان به طرف جذام ، فتزايد به حتى تمعط [سقط] شعره ورشح بدنه واسود ، ثم اتحتت سحنة وجهه ، وداد كله. ونتن جميع جسده ، فصار يصيح : ويحكم اقتلوني ، أريحوني ، إلى أن هلك يوم الأحد لسبع خلون من ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة ، وكان مقامه على دمشق ستة عشر يوما. انظر كتابي : مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص : ٣٤٧.

(٣) الذي ذكره المقريزي هو أن جيش أوصى بتركته إلى الحاكم ، فحملها ابنه أبو عبد الله إلى قصر الخلافة ، فقام الحاكم بالاطلاع على الوصية ومنح ما تركه جيش لأولاده ـ المصدر أعلاه : ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

٨٩

وراسل برجوان بسيل ملك الروم على لسان أبي العلاء ، ودعاه إلى المهادنة والموادعة ، وحمل إليه هدايا سلك فيها سبيل التألّف والملاطفة ، فقابل بسيل ذلك منه بأحسن قبول ، وتقررت الموادعة عشر سنين ، وأنفذ بسيل في مقابلة الهدية ما جرت به عادة مثله.

وصلحت الحال مع العرب وأحسن إلى بني قرّة وألزمهم شرائط الطاعة وسيّر عسكرا إلى برقة وطرابلس الغرب فأخذها وعول في ولايتها على يانس الصقلبي ، وكان لفرط اشفاقه على الحاكم يمنعه من الركوب في غير وقت ركوبه والعطاء لغير (٣٨ و) مستحقة ، وفعل وذلك يفعله من باب السياسة والحفظ لنفسه وهيبته وماله ، وهو يسر ذلك في نفسه (١) أنه من الاساءة إليه والتضييق عليه ، وكان مع الحاكم خادم يعرف بزيدان الصقلبي (٢) وقد خص به وأنس إليه في شكوى ما يشكوه من برجوان إليه ، وإطلاعه على ما يسره في نفسه له ، وزاد زيدان في الحمل عليه والإغراء به ، وقال له فيما قال : إن برجوان يريد أن يجري نفسه مجرى كافور الاخشيدي ، ويجريك مجرى ولد الاخشيدي في الحجر عليك والأخذ على يدك ، والصواب أن تقتله وتدبر أمرك منفردا به ، فقال له الحاكم : إذا كان هذا رأيك والصواب عندك فأريد منك المساعدة عليه ، فبذلها له ، فلما كان في بعض أيام شهور سنة تسع وثمانين وثلاثمائة أشار زيدان على الحاكم بأن ينفذ إلى برجوان في وقت الظهر بعد انصرافه إلى داره وتفرّق الناس عنه ، للركوب إلى الصيد ، وأن يقف له في البستان الذي داخل القصر ، فإذا حضر أمر بقتله ، فأرسل إليه بالركوب ،

__________________

(١) أي الحاكم.

(٢) كانت وظيفة زيدان حمل المظلة ، وكانت وظيفة سامية لما للمظلة من مكانة خاصة لدى الخلفاء الفاطميين ، ذلك أنها كانت من رموز الامامة الخاصة نبعت فكرتها مما جاء في أخبار السيرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تظله غمامة ، وظهر أثر المظلة حتى في الأبنية الدينية ، وهذا ما شاهدت آثاره في جامع المهدية في تونس الذي بني أيام المهدي الفاطمي.

٩٠

وقال : أريد أن ترتب الخدم في جانبي البستان فإني أقف على بابه ، وأنت بين يدي ، فإذا حضر برجوان دخلت البستان وتبعني وكنت في أثره فإذا نظرت إليك فاضربه بالسكين في ظهره ، وواقف الخدم أن يضعوا عليه ، فبينما هما في الحديث إذ دخل برجوان ، فقال للحاكم : يا أمير المؤمنين الحر شديد والبزاة في مثله لا تصيد ، فقال : صدقت ولكنا ندخل البستان ونطوف فيه ساعة ونخرج ، وأنفذ برجوان إلى شكر ، وكان قد ركب بأن يسير مع الموكب إلى المقس ، والمقس ظاهر القاهرة ، ويقف عند القنطرة «فإن مولانا يخرج من البستان ويتبعك» ، ففعل ودخل الحاكم البستان وبرجوان خلفه وزيدان بعده ، وكان برجوان خادما أبيض اللون ، تام الخلقة ، فبدره زيدان فضربه بين أكتافه بسكين أطلعها من صدره ، فقال : يا مولانا غدرت ، فصاح الحاكم : يا عبيد خذوا رأسه ، وتكاثر الخدم عليه فقتلوه ، وخرج الخدم الكبار مسرعين على ظهور الخيل إلى الجانب ، وبغال الموكب والجوارح ، فردوا جميعها ، فقال لهم شكر : ما السبب في ذلك؟ فلم يجيبوه ، فجاء الناس من هذا الحادث ما لم يكن في الحساب ، وعاد شكر بالموكب وشهر (٣٨ ظ) الجند سيوفهم ، وهم لا يعلمون ما الخبر ، غير أنهم خائفون على الحاكم من حيلة تتم عليه من الحسن بن عمار ، ورجع أكثرهم إلى دورهم ، فلبسوا سلاحهم ووافوا إلى باب القصر ، وتميّز المغاربة والمشارقة وأحدق شكر ، ومن معه من الأتراك والمشارقة بالقصر ، وعلا على شرف القصر الخدم في أيديهم السيوف والتراس ، وعظم الأمر ، واجتمع القواد وشيوخ الدولة ، وأبو العلاء الوزير على باب القصر الزمرد ، فلما رأى الحاكم زيادة الاختلاط ظهر من منظرة على الباب ، وسلم على الناس ، فترجلوا عن دوابهم إلى الأرض وقبلوها بين يديه ، وضربت البوقات والطبول ، وفتح باب القصر واستدعى أصحاب الرسائل ، وسلمت إليهم رقعة قد كتبها بيده إلى شكر وأكابر القواد ، يقول فيها : إنني أنكرت

٩١

على برجوان أمورا أوجبت قتله ، فالزموا الطاعة وحافظوا على ما فيها في رقابكم من البيعة المأخوذة ، فلما قرئت عليهم قبلوا الأرض وقالوا : الأمر لمولانا.

واستدعى الحسين بن جوهر ، وكان من شيوخ الدولة فأمره بصرف الناس فصرفهم ، وعاد الحاكم الى قصره ، وكل من القواد إلى داره والنفوس خائفة من فتنة تحدث بين المشارقة والمغاربة ، وشاع قتل برجوان ، وركب مسعود الحاكمي إلى داره فقبض على جميع ما فيها من أمواله ، وجلس الحاكم وقت العشاء الأخير واستدعى الحسين بن جوهر وأبا العلاء فهد بن ابراهيم الوزير (١) ، وتقدم إليه بإحضار سائر كتّاب الدواوين والأعمال ، ففعل وحضروا وأوصلهم إليه ، وقال لهم : إن هذا فهدا كان أمس كاتب برجوان عبدي وهو اليوم وزيري فاسمعوا له وأطيعوا ووفوه شروطه في التقدم عليكم ، وتوفّروا على مراعاة الأعمال وحراسة الأموال ، وقبل فهد الأرض وقبلوها ، وقالوا : السمع والطاعة لمولانا ، وقال لفهد : أنا حامد لك وراض عنك ، وهؤلاء الكتاب خدمي فاعرف حقوقهم وأجمل معاملتهم ، واحفظ حرمتهم ، وزد في واجب من يستحق الزيادة بكفايته وأمانته ، وتقدم بأن يكتب إلى سائر ولاة البلاد والأعمال بالسبب الواجب لقتل برجوان ، فكتب بما نسخته بعد التصدير ، وما جرت العادة (٣٩ و) بمثله في الخطاب :

أما بعد فإن برجوان أرضى أمير المؤمنين حينا فاستعمله ، ثم أسخطه فقتله ، وأعلمك أمير المؤمنين ذاك لتعلمه وتجري على سننك الحميد في خدمته ، ومذهبك الرشيد في طاعته ومناصحته ، وتسديد ما قبلك من الأمور ، وطالعه بما يتجدد لديك من أحوال الجمهور إن شاء الله.

ونفذت الكتب بذاك ، واستقامت الأحوال على سنن الصواب ، وزال ما خيف من الاختلال والاضطراب.

__________________

(١) حين تسلم برجوان شؤون الدولة مكان ابن عمار صار كاتبه هو أبو العلاء فهد بن ابراهيم بلقب الرئيس. انظر الاشارة إلى من نال الوزارة : ٢٧.

٩٢

ولاية القائد تميم بن اسماعيل المغربي

الملقب بفحل لدمشق في سنة تسعين وثلاثمائة

لما هلك جيش بن محمد بن الصمصامة على ما تقدم الشرح فيه ، عقيب إغراقه في الظلم وإيغاله في سفك الدماء والجور ، وكان هلاكه في يوم الأحد لتسع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة وكانت مدة ولايته التي هلك فيها على ما صح في هذه الرواية دون ما تقدم ذكره ستة عشر شهرا وستة عشر يوما ، وانتهى الخبر إلى مصر بذاك ، وقع الارتياد لمن يختار لولايتها بعد المذكور ، فوقع الاختيار على القائد تميم بن اسماعيل المغربي الملقب بفحل ، فوصل إليها وأقام بها وأمر ونهى وبقي شهورا من سنة تسعين وثلاثمائة وعرضت له علّة هلك بها ومضى لحال سبيله ، فلما انتهى خبر وفاته إلى مصر وقع الاعتماد في ولايتها على القائد علي بن جعفر بن فلاح وقد كان وليها دفعة أولى.

شرح ذلك

وصل القائد علي بن جعفر بن فلاح الى دمشق واليا عليها دفعة ثانية ، فنزل عليها في يوم السبت لليلتين بقيتا من شوال سنة تسعين وثلاثمائة وأقام مدة يتولى أمرها ويدبر أحوالها على عادة الولاة ، إلا أنه لم يبسط يده في مال ولا تعرض لشيء من استغلال ، ثم اقتضت الآراء بمصر أن يصرف عنها ويبدل بغيره في ولايتها.

٩٣

ولاية القائد ختكين الداعي

المعروف بالضيف في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة

وصل القائد ختكين الداعي المعروف بالضيف إلى دمشق واليا عليها من قبل الحاكم بأمر الله في شهر رمضان من السنة ، فدبر أمورها ونظر في أحوال أجنادها ، واقتضى رأيه أن ينقص واجبات الأجناد ويدافع بأعطياتهم ، ويغالطهم ويظهر أمرا من التوفير فلم يتمكن (٣٩ ظ) من بلوغ مرام ، ولا نيل أمل ، واتفق أن يكون القائد علي بن فلاح المقدم ذكره مقيما في عسكره في الشماسية بظاهر دمشق ، فلما طلبت الأجناد أرزاقها منه ، قال لهم : ليس إليّ من أمر أرزاقكم شيء ، فكان على تدبير المال واطلاق الأرزاق رجل من الكتاب نصراني يقال له ابن عبدون ، فشغب الجند في العسكر ، فثاروا يريدون ابن عبدون ، فلحقوا ختكين الوالي في الطريق فنهاهم عن ابن عبدون وشتمهم ، وكان رجلا جاهلا أحمق ، فرجع إليه قوم من الجند فسألوه فلم يجب إلى ما يوافق أغراضهم ويسكن شغبهم ، فثارت الفرسان والرجالة الى دور الكتاب فانتهبوا ما كان فيها ، ونهبوا ما كان في الكنائس ، واجتمع بعد ذلك جماعة من المشارقة والمغاربة فتحالفوا على أن يكونوا يدا واحدة في طلب الأرزاق والمنع ممّن عساه يطالبهم بما فعلوه ، وحلف لهم القائد علي بن فلاح على كونه معهم وشده منهم ، وانتهى الأمر في ذلك إلى الحاكم فقال : هذا قد عصى وخرج عن مشكور السياسة ، وأمر بصرفه عن الولاية والاستبدال به ، وكتب إليه بذلك ، فرحل عنها بنفر يسير من أصحابه في شوال من السنة المذكورة ، وبقي العسكر في دمشق ، فاقتضى الرأي الحاكمي ردّ ولاية دمشق إلى رجل أسود بربري يقال له القائد طزملت بن بكار.

٩٤

ولاية القائد طزملت بن بكار البربري لدمشق

في بقية سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة

وصل القائد طزملت (١) المذكور إلى دمشق واليا عليها من قبل الحاكم بأمر الله في يوم الأحد لست بقين من ذي القعدة من السنة ، وكان هذا طزملت عبدا لابن زيري (٢) والي القيروان ، فولاه طرابلس الغرب فجار على أهلها ، وظلمهم وأخذ أموالهم ، فحصل له منهم مال عظيم ، فلما انتهى خبر ظلمه إلى مولاه طلبه والتمس إشخاصه إلى القيروان لكشف الأمر ، فخافه وانهزم اشفاقا على نفسه وماله ، ووصل إلى مصر وحمل بعض ما كان معه إلى الحاكم ، فتمكنت حاله عنده ، وتأثلت منزلته منه ، وولاه دمشق فأقام واليا عليها إلى المحرم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة فصرف عنها بخادم من خدم الحضرة يقال له القائد مفلح اللحياني وسنشرح حاله في غير هذا المكان.

وكان في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قد اجتمع في مصر أبو طاهر محمود ابن محمد النحوي (٤٠ و) وكان من أهل بغداد ، وطرأ إلى مصر ـ وإليه ديوان الحجاز ـ (و) المعروف بابن العداس المصري ـ وإليه ديوان الخراج ـ على الرفع على أبي العلاء فهد بن إبراهيم الوزير والسعاية به إلى الحاكم وعملا عملا بما اقتطعه وارتفق به ، واشتمل ذلك على جملة كبيرة من المال ، ولقيا الحاكم بالعمل ووقفاه عليه ، وبذلا له القيام بالأمر وتوفير ستة آلاف دينار في كل سنة ، فكان فهد يأخذها لنفسه ، فقال لهما : أنا أقبض عليه وأقلدكما النظر فيما كان ينظر فيه ، فقالا : لا يتم أمر ولا يمشي لنا عمل وفهد حي مأمول

__________________

(١) كذا في الأصل وفي مرآة الزمان وعند الصفدي في كتابه أمراء دمشق ـ ط. دمشق : ١٩٥٥ ، لكن الصفدي نفسه ذكر «وقيل تموصلت» وهذا ما أرجحه لأنه أقرب إلى صيغة الأسماء البربرية.

(٢) في الأصل «ابن وفري» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا ، وكان صاحب تونس في هذه الآونة أبو مناد باديس بن المنصور بن يوسف بن زيري. انظر الخلاصة النقية في أمراء افريقية لمحمد الباجي ، ط. تونس : ١٢٨٣ ه‍ ، ص : ٤٦.

٩٥

الخروج من محبسه والعود إلى أمره ، سيما وكل من بمصر والشام من الولاة والعمال صنائع برجوان ، وقد جرى اصطناعه اياهم على يده ، فامتنع عليهما من قبله ، وكره قتله ، وقال لهما : ما له إليّ ذنب فأقتله به! وراجعاه القول وألحا عليه فيه ، فقال : إذا فعلت ما أردتماه فما التوثقة فيما بذلتماه؟ قالا : أن نكتب خطنا لك بأننا نكفيك أمورك ، ونقوم بتمشيتها على مرادك ، ونقيم لك وجه المال الذي ضمنّا استخراجه لك وتوفيره من الأعمال ، قال : فأيكما يخرج إلى الشام؟ قالا : عبدك ابن النحوي ، ويقيم ابن العداس بحضرتك ، فقرر ذلك معهما وأخذ به خطهما.

وكان من عادة الحاكم أن يطوف ليلا بمصر والقاهرة ، وقد منع التجار وأرباب الدكاكين أن يغلقوا دكاكينهم ، أو ينصرفوا عنها إلى منازلهم حتى صار الليل نهارا في معاملاتهم ، من اشعال السرج والشمع ، وإضاءة المحال والأسواق تقرّبا إليه ، ويطلق لهم المعونة الكثيرة على ذلك ، ويقف على دكاكينهم ، ويجتاز بينهم ولا يقدر أحد أن يقوم له أو يقبّل الأرض بين يديه ، فلما عاد في تلك الليلة سحرا من طوفه ، أمر مسعودا السيفي بأن يمضي إلى فهد بن ابراهيم الوزير يستدعيه ، فإذا دخل الحجرة ضرب عنقه وأحضر رأسه ، وأن يقبض على أبي غالب أخيه ، وكان شريرا مبغضا وإليه ديوان النفقات ، فمضى ووجد فهدا في الحمام ، فانتظره حتى خرج ثم استركبه وأشعره أنه يراد بخير وانزعج أولاده وأهله وساءت ظنونهم فيه ، ووصل مسعود إلى باب الرهومة ، وهو باب من أبواب القصر ، فعدل به الى محجّة العطب ، فلما رأى فهد ذلك أحس (٤٠ ظ) بالهلاك ، فصاح واستغاث وبكى ، ولاذ بالعفو ، وبكى الناس لما شاهدوه من حاله وعرفوه من الأمر الذي يراد به ، وأدخله مسعود إلى الحجرة فأقسم عليه فهد أن يراجع الحاكم في بابه وبذل له ألف دينار ، وتوفير مثلها ، فقال له مسعود : لا سبيل إلى المراجعة بعد ما أمرت به ، وضرب عنقه وأخذ رأسه وحمله إلى حضرة الحاكم ، فلما شاهده أمره أن يخرج رأس كل

٩٦

من يقتله من وجوه الدولة إلى قائد (١) القواد ، فلما رآه أسقط مغشيا عليه ، وعاد مسعود ليقبض على أبي غالب أخيه فوجده قد هرب ، فأعلم الحاكم ذلك فأمر بطلبه حتى ظفر به بعد شهر ، وغيّر حليته وحلق لحيته فألحقه بأخيه ، وأحضر أولاد فهد ، فخلع عليهم ، وكتب لهم سجلا بصيانتهم ، وحماية دورهم وإزالة الاعتراض عنهم ، وعن أسبابهم.

ونظر ابن العداس في الأعمال ، وشرع في تهذيب الأمور وتوفير الأموال ، وتوجه ابن النحوي إلى الشام على القاعدة المقررة مع الحاكم ، وكان قد أعدّ ما يحتاج إليه من آلة السفر والتجمّل ، واستكثر من ذلك ، وتناهى فيه ، وهابه الناس ، وتجنبوه ووصل أولا إلى الرملة ، فقبض على العمال والمتصرفين فيها ، وعسفّهم وألزمهم بمائتي ألف دينار ، ووضع السوط والعصا في المطالبة ، وبث أصحابه ونوابه إلى دمشق وطبرية والسواحل بعد أن واقفهم على أخذ العمال والمتصرفين في الأعمال ومصادرتهم ، وخبط الشام ، وعسف من فيه بطلب المال ، وكان في جملة العمال رجل نصراني يتعلق بخدمة ست الملك أخت الحاكم ، وله منها رعاية مؤكدة ، فكتب إليها يستصرخ بها ، ويشكو ما نزل بالناس من البلاء إليها ، وما شمل الشام وأهله من ابن النحوي ، وما بسط فيه من الظلم والعسف والجور مما لم يجر بمثله عادة في قديم الأزمان ولا حديثها ، فلما وصل الكتاب إليها ووقفت عليه ، دخلت على الحاكم ، وكان يشاورها في الأمور ، ويعمل برأيها ، ولا يخالف مشورة لها ، فعرضت عليه ما تضمنه الكتاب من الشكوى ، وقالت : يا أمير المؤمنين قد ظهر كذب ابن النحوي وابن العداس وإعمالهما على فهد ، وقتله مساعدة للحسين بن جوهر ، وقد أفسد البلاد عليك ، وأوحش الناس منك ، فإن كنت يا أمير المؤمنين (٤١ و) تريد أخذ أموال عبيدك فكل يبذلها لك طوعا ، ويحملها إلى خزانتك تبرّعا بعد أن يكونوا تحت ظل الصيانة وفي كنف الحياطة ، هذا ولم تجر عادات آبائك إطلاق المصادرات ، فأنكر الحاكم أنه لم يسمح لأحد منهما في ذلك ، وكتب إلى وحيد والي الرملة ، وكان الحاكم يكتم السر شديدا :

__________________

(١) الحسين بن جوهر ، وهو سيقتل فيما بعد أيضا.

٩٧

بسم الله الرحمن الرحيم

يا وحيد سلمك الله ساعة وقوفك على هذا الكتاب ، اقبض على محمود بن محمد ، لا حمد الله أمره ، وسيره مع من يوصله من ثقاتك إلى الباب العزيز ، إن شاء الله.

فلما وقفت أخته على التوقيع ، قالت : يا أمير المؤمنين ، ومن هذا الكلب حتى ترفع من شأنه بحمله إلى حضرتك ، وبطن الأرض أولى به ، فأخذ الكتاب وزاد فيه : بل تضرب عنقه وتنفذ رأسه ، وختم الكتاب ثلاثة ختوم ، وأحضر سعيد بن غياث صاحب البريد ودفعه إليه ، فبادر به من وقته ، ومسافة ما بين القاهرة والرملة مائة فرسخ ، وكانت النوبة توافيها في الساعة الثالثة من اليوم الثالث ، ووصل الكتاب إلى وحيد ، وكان عادته إلى ابن النحوي دائما وربما أوصله أو حجبه (١) ، فلما وقف على الكتاب قال لدرّي غلامه ، الناظر في المعونة (٢) ، وكان أرمنيا فظا غليظا : اركب إلى محمود ـ وكان مخيما بظاهر الرملة ـ ، واستأذن عليه فإذا أوصلك فأبلغه سلامي واسأله الركوب إليّ لأقفه على ما ورد من حضرة السلطان ، فإن قال لك : «لم تجر بذلك عادته» ، فقل : كذا أمرت فيما ورد ، فمضى درّي إليه ، وبين يديه جماعة كثيرة من الرجال ، حتى وافى عسكر محمود ، واستأذن عليه ودخل إليه ، وقال له ما قاله وحيد الوالي ، فقال له : لم تجر بذلك العادة فيما تسومنيه ، وفي غد نجتمع ، فأجابه بما قال له وحيد ، فلما سمعه ضعفت نفسه وساء ظنه ، ولم يمكنه مخالفته ، فركب في موكبه ، وتوجه إلى دار وحيد ، وصار إلى وحيد من أعلمه ركوبه ، فتقدم إلى بعض حجابه ، وصاحب الخبر بالرملة بأن يتلقاه ، فإذا لقياه أنزلاه عن دابته ، وضربا عنقه ، وأخذا رأسه ، ففعلا ما أمرهما ، وحين وصل سوق البزّ صادفاه وأنزلاه بعد تمنّعه ، فأوقعا به وقطعا رأسه وحملاه إلى وحيد ، فأحضر القاضي

__________________

(١) أي كان يعود في أمره إلى ابن النحوي ، الذي كان يعامله باستعلاء.

(٢) أي صاحب الشرطة ، أو ما يقوم مقامها.

٩٨

والشهود وكتب محضرا بأن الرأس رأس محمود ، وصيّره وأنفذه مع المحضر إلى صاحب البريد فأسرع (٤١ ظ) به إلى مصر ، وقبض على أصحابه وأسبابه وأمواله وكراعه ، وسرّ الناس بهلاكه وتباشروا بما كفوه من شره ، ووصل الرأس إلى الحاكم ، فأحضر ست الملك فأراها إياه ، فدعت له وشكرته على ما كان منه ، وأمر مسعود بأن يأخذ ابن العداس من بين يدي قائد القواد الحسين بن جوهر (١) ، فتضرب عنقه بحضرته ، ويأخذ رأسه ويضيفه الى الرأس ففعل ، فلما اجتمع الرأسان بين يديه أمره أن يخرجهما إلى قائد القواد ، فأخرجهما إليه ، فلما شاهدهما جزع جزعا شديدا ، ثم استدعاه الحاكم وسكن منه وأمره أن يستنيب أبا الفتح أحمد بن محمد بن أفلح على النظر في الأمور ، فأقام في النظر سنة ونصفا ، ثم قتل ، وأقيم مقامه يحيى بن الحسين بن سلامة النصراني.

وكثر الكلام على قائد القواد ، والوقائع فيه فتنكر الحاكم عليه ، وتغير له ، وهمّ بالايقاع به ، وصرفه عن الوزارة ، وعوّل فيما كان إليه على علي بن صالح بن علي الروذباري (٢) ، ولقبه بثقة الثقات ، وردّ إليه السيف والقلم ، فنظر في الأمور ، ودبّر الأعمال وحفظ وجوه المال ، والاستغلال تقدير سنتين ، ثم تغيّر له وتأول عليه وقتله ، وقلد مكانه المعروف بمنصور بن عبدون (٣) ، وكان

__________________

(١) شغل الحسين بن جوهر منصب برجوان بعد قتله. انظر الاشارة إلى من نال الوزارة : ٢٨.

(٢) عراقي الأصل ، التحق بخدمة الفاطميين ، تقلد ديوان الشام ، ثم حل محل ابن جوهر ، صرف من عمله بعد قرابة عامين ، وألزم بالبقاء في بيته ثم قتله بعد ثمانية أشهر من عزله في شوال سنة ٤٠٠ ه‍ ، الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٣) كان متسلما لديوان الشام قبل الوزارة ، ويلاحظ مما سبق من أخبار رجال الادارة الفاطمية قلة المسلمين منهم ، مما اتخذه البعض مطعنا في عقيدة الفاطميين ، على أن بعض الباحثين يرى أن السبب هو التخصص والكفاءة ، فالجغرافي المقدسي حين وصف في كتابه أحسن التقاسيم الشام ، عد من معائب البلاد أن المال والادارة بيد أهل الذمة لانصراف المسلمين إلى ما سوى ذلك.

٩٩

رجلا نصرانيا خبيثا جلدا ، وبينه وبين أبي القاسم الحسين بن علي بن المغربي ووالده أبي الحسين علي عداوة قديمة ، ومساعاة ووقائع متصلة ، لأن أبا القاسم صرف به عن ديوان السواد ، فواصل أبو القاسم الوقيعة فيه ، والكلام عليه وعلى الكتّاب النصارى ، إلى أن قبض على جماعتهم ، فلما حصلوا في القبض أمر الحاكم بأن يضرب كل واحد منهم خمسمائة سوط ، فإن مات رمي به للكلاب ، وإن عاش أعيد ضربه إلى أن يموت ، فبذل منهم جماعة مالا عظيما على أن يستبقوا ، فلم يقبل منهم واستمرت الشحناء بينهم.

* * *

١٠٠