تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وقطعت يد أخيه الآخر ، ووصل بعد الفل الى دمشق ، فسرت نفوس الناس بمصابه وتحكم السيوف في أتباعه وأصحابه ، وأملوا مع هذه الحادثة سرعة هلاكه وذهابه.

وفي هذه السنة توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان بن أبي الحديد السّلمي ، رحمه‌الله.

سنة سبعين وأربعمائة

فيها وردت الأخبار بوصول السلطان تاج الدولة أبي سعيد تتش بن السلطان العادل ألب أرسلان أخي السلطان ملك شاه أبي الفتح ، إلى الشام ، واجتماع العرب من بني كلاب إليه ، ووصول شرف الدولة مسلم بن قريش إليه من عند أخيه السلطان العادل ملك شاه لمعونته على افتتاح الشام بأمره له في ذلك (١).

وفيها توفي أبو نصر الحسين بن محمد (٦٣ و) بن أحمد بن طلاب الخطيب رحمه‌الله.

__________________

غزة وقتل كل من فيها فلم يدع بها عينا تطرف ، وجاء إلى العريش فأقام فيه ، وبعث سرّية فنهبت الريف وعادت ، ثم مضى إلى يافا فحصرها ، وكان بها رزين الدولة فهرب هو ومن كان فيها إلى صور فهدم أتسز سورها ، وجاء كتابه إلى بغداد بأنه على نية العود إلى مصر وأنه يجمع العساكر ، ثم عاد إلى دمشق».

(١) حدث انشقاق في أوساط قبيلة كلاب قاد إلى صراعات مع سابق بن محمود بن نصر أمير حلب ، وأدى إلى ذهاب بعض زعماء القبيلة إلى السلطان ملكشاه «فشكوا حالهم ، وسألوا منه أن يعينهم على سابق ، فوعدهم ، وأقطعهم في الشام ، وأقطع الشام أخاه تتش» وقام تتش بمحاصرة حلب ، والتحق به وهو على حلب مسلم بن قريش العقيلي أمير الموصل ، وتظاهر بمساعدته ، وعمل ضمنا على رأب الصدع بين المتصارعين من كلاب وتوحيد كلمة القوى العربية ضد التركمان ، ونجحت مساعية ، مما أجبر تتش على رفع الحصار عن حلب ، والتوجه بأنظاره نحو دمشق .... انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٦٨ ـ ١٧٥.

١٨١

وفي هذه السنة نزل عسكر مصر على دمشق مع ناصر الدولة الجيوشي ، وأقام عليها مدة يسيرة ، ولم يتم له فيها مراد ، فرحل عنها عائدا الى مصر.

وفيها نزل تاج الدولة السلطان على حلب ، ومعه وثاب وشبيب ابنا محمود بن صالح ، ومبارك بن شبل ، ورحل عنها في ذي القعدة ، ثم نزل عليها ثانية ولم يتم له فيها مراد ، فرحل عنها.

سنة إحدى وسبعين وأربعمائة

في هذه السنة خرج من مصر عسكر كبير مع ناصر الدولة الجيوشي ، ونزل على دمشق محاصرا لها ومضيقا عليها (١) ، واستولى على أعمالها وأعمال فلسطين ، وأقام عليها مدة مضايقا لها ، وطامعا في تملكها ، وأصر على منازلتها إصرارا اضطر أتسز صاحبها إلى مراسلة تاج الدولة يستنجده ، ويستصرخ به ، ويعده بتسليم دمشق إليه ويكون في الخدمة بين يديه ، فتوجه نحوه في عسكره ، فلما عرف ناصر الدولة الخبر ، وصح عنده قربه منه رحل عنها مجفلا ، وقصد ناحية الساحل ، وكان ثغرا صور وطرابلس في أيدي قضاتهما (٢) قد تغلبا عليهما ، ولا طاعة عندهما لأمير الجيوش ، بل يصانعان الأتراك بالهدايا والملاطفات ، ووصل السلطان تاج الدولة إلى عذراء في عسكره لإنجاد دمشق وخرج أتسز إليه وخدمه ، وبذل له الطاعة والمناصحة ، وسلم البلد إليه ، فدخلها وأقام بها مديدة ، ثم حدثته نفسه بالغدر باتسز ، ولاحت له منه

__________________

(١) في ترجمة أتسز للمقريزي في كتابه المقفى أن الحصار الثاني كان سنة سبعين فبعدما تحدث عن اخفاق حملة أتسز على مصر ذكر أن بدر الجمالي ندب العساكر «مع ناصر الدولة الجيوشي ، وبعثه إلى دمشق فحاصرها أياما ، وعاد في سنة سبعين ، فلما خاف أتسز من ظفر أهل مصر به ، راسل تاج الدولة تتش ابن ألب أرسلان يستنجده ، فتحرك لذلك ، وسأل أخاه السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان أن يوليه الشام ، فأقطعه السلطان أبو الفتح ملك شاه بن ألب أرسلان الشام».

(٢) في صور آل عقيل وفي طرابلس آل عمار. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٧١ ـ ٧٢.

١٨٢

أمارات استوحش بها منه مستهله ، فقبض عليه في شهر ربيع الأول منها ، وقتل أخاه أولا ، ثم أمر بخنقه بوتر في المكان المعتقل فيه ، وملك تاج الدولة دمشق ، واستقام له الأمر فيها ، وأحسن السيرة في أهلها وفعل بالضد من فعل أتسز فيها ، وملك أعمال فلسطين.

وفي هذه السنة قتل أحمد شاه مقدم الأتراك في الشام (١).

وفيها برز تاج الدولة من دمشق ، وقصد حلب في عساكره ، ونزل عليها ، وأقام عليها أياما ، ورحل عنها في شهر ربيع الأول ، وعبر الفرات مشرقا ، ثم عاد إلى الشام بعد أن وصل إلى ديار بكر في ذي الحجة ، وملك حصن بزاعة والبيرة (٢) وأحرق ربض عزاز ، ورحل عنها عائدا إلى دمشق.

سنة إثنتين وسبعين وأربعمائة

(٦٣ ظ) فيها تسلم شرف الدولة مسلم بن قريش حلب (٣) ، وفيها رخصت الأسعار في الشام بأسره ، وفيها هلكت فرقة من الأتراك ببلاد الروم كانوا غزاة ، فلم يفلت منهم أحد.

__________________

(١) أثناء حصار تتش لمدينة حلب ، ولقد نشرت ترجمة أحمد شاه كما أوردها ابن العديم في كتابه بغية الطلب في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ، وتحدثت عن دوره في امارة حلب في نفس الكتاب ، انظر ص : ١٦٦ ـ ١٧٣ ، ٢٥١ ـ ٢٥٣.

(٢) ذكر ياقوت بزاعه فقال : هي بلدة من أعمال حلب بين منبج وحلب ، بينها وبين كل واحدة منهما مرحلة ، ووصف البيرة فقال هي بلد قريب سمسياط بين حلب والثغور الرومية ، وهي قلعة حصينة ولها رستاق واسع ، وأما عزار فتبعد الآن عن مدينة حلب مسافة / ٤٦ كم / وهي مركز منطقة تابعة لمحافظة حلب. هذا وقد أورد ابن العديم في زبدة الحلب هذا الخبر فقال بأن تتش أخذ منبج وحصن الفايا وحصن الدير ثم هاجم عزاز ـ الزبدة : ٢ / ٦١ ـ ٦٢.

(٣) جاء تسلم مسلم بن قريش العقيلي لمدينة حلب بعد عدد كبير من الحوادث ، بحثتها في كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٨١ ـ ١٨٦ ، وباستلام مسلم لقلعة حلب أنهى حكم الدولة المرداسية ، وشرع في محاولة بسط سيادته على الشام كله وطرد التركمان منه ومن الجزيرة.

١٨٣

سنة أربع وسبعين وأربعمائة (١)

فيها ملك الأمير أبو الحسن علي بن المقلد بن منقذ حصن شيزر ، في يوم السبت السابع والعشرين من رجب من الأسقف (٢) الذي كان فيه بمال بذله له وأرغبه فيه إلى أن حصل في يده ، وشرع في عمارته وتحصينه والممانعة عنه ، إلى أن تمكنت حاله فيه وقويت نفسه في حمايته والمراماة دونه (٣).

__________________

(١) ليس في الأصل أخبار سنة ثلاث وسبعين ، ولا أدري أمرد ذلك إلى المؤلف أم الناسخ؟

(٢) من أسقف البارة الذي كان يدين بالطاعة للامبراطورية البيزنطية. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٨٦.

(٣) أورد سبط ابن الجوزي خبر سقوط شيزر في أخبار سنة / ٤٧٤ ه‍ / ، وأثبت عن غرس النعمة محمد بن هلال الصابىء فقرات مطولة من كتاب بعث به الأمير علي بن المقلد ـ كما يبدو إلى بغداد ـ تحدث به عن استيلائه على شيزر ، «قال محمد بن الصابىء : وقفت على كتاب بخطه [أي الأمير علي بن المقلد] منه : كتابي هذا من حصن شيزر ، وقد رزقني الله تعالى من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق ، ومن دون هذا الحصن بيض الانوق ، ومن وقف على حقيقة الحال علم اني هاروت هذه الأمة ، وسليمان الجن المردة ، وأنني أفرق بين المرء وزوجته ، وأستنزل القمر من محله ، وأجمع بين الذئب والغنم.

إني نظرت إلى هذا الحصن ، ورأيت أمرا يذهل الألباب ، ويطيش العقول يسع ألف رجل ، ليس عليه حصار ، ولا فيه حيلة لمحتال ، فعمدت إلى تل منه قريب يعرف بتل الحسن ، فعمرته حصنا ، وجعلت فيه عشيرتي وأهلي ، وكان بين التل وشيزر حصن يعرف بالخراص ، فوثبت عليه وأخذته بالسيف.

وحين ملكته أحسنت إلى أهله ولم أكلفهم إلى ما يعجزون عنه ، وخلطت خنازيرهم بغنمي ، ونواقيسهم بأصوات المؤذنين عندي ، وصرنا مثل الأهل مختلطين ، فحين رأى أهل شيزر فعلي مع الروم أنسوا بي ، وصاروا يجيئوني من واحد وإثنين إلى أن حصل عندي نحو نصفهم ، فأجريت عليهم الجرايات ، ومزجتهم بأهلي وحريمهم بحريمي وأولادهم مع أولادي ، وأي من قصد حصنهم أعنتهم عليه ، وحصرهم شرف الدولة مسلم بن قريش ، فأخذ منهم عشرين رجلا فقتلهم ، فدسست إليهم عشرين عوضهم ، ولما انصرف عنهم جاءوا وقالوا : نسلم إليك الحصن ، فقلت : لا ما أريد لهذا الموضع خيرا منكم ، وجرت بينهم وبين واليهم نبوة ، فنفروا منه ، وجاءوا إليّ ، وقالوا : لا بد من تسليم

١٨٤

سنة خمس وسبعين وأربعمائة

فيها توجه السلطان تاج الدولة إلى ناحية الشام (١) من دمشق ، ومعه في خدمته الأمير وثاب بن محمود بن صالح ، ومنصور بن كامل ، وقصد ناحية الروم وأقام هناك مدة ، واتصل به خبر شرف الدولة مسلم بن قريش ، وما هو عليه من الجمع والاحتشاد والتأهب والاستعداد ، واجتماع العرب إليه من بني نمير وعقيل والأكراد والمولدة وبني شيبان للنزول على دمشق والمضايقة لها ، والطمع في تملكها ، فعاد تاج الدولة منكفئا إلى دمشق لما عرف هذا العزم (٢) ووصل إليها في أوائل المحرم سنة ست وسبعين وأربعمائة ، وورد الخبر بوصول

__________________

الحصن إليك فسلموه إلى ونزلوا عنه ، وحصلت فيه ، ومعي سبعمائة رجل من بني عمي ورجالي ، وحصلوا في الربض ، ولم يؤخذ لواحد منهم درهم فرد ، وأعطيتهم مالا له قدر ، وخلعت على مقدّميهم وأعطيتهم واجباتهم لستة أشهر ، وقمت بأعيادهم ونواقيسهم وصلبانهم وخنازيرهم.

وسمع بذلك أهل برزية وعين تاب وحصون الروم فجاءتني رسلهم ورغب كلهم في التسليم إليّ ، فبينا أنا على تلك الحال ، إذ شنت علي الغارات ، وجيشت نحوي الجيوش من ناحية مسلم بن قريش غيظا منه ، لم تسلمت حصن شيزر ، بعد أن حلف لي قبل ذلك ، أنني إذا أخذت حصن شيزر ، أنه لا يقود إليّ فرسا ، ولا يبعث جيشا ، وبالله أقسم لئن لم ينته عني لأعيدنه إلى الروم ، ولا أسلمه إليه ، ولا إلى غيره أبدا».

(١) استخلصت من كتابات هذه الفترة أن عبارة «الشام» غالبا ما صارت تعني الجزء الشمالي من بلاد الشام ، علما بأنها كانت ترفق أحيانا بعبارة «الأعلى».

(٢) في مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٧٥ ه‍ ـ : «وفيها سار تتش إلى حلب ، فأخذ من غلاتها ما باعه بثمن بخس ، عجلة وسرعة ، وقيل إن ملك شاه كتب له بمال على ابن قريش فمطله ، فسار بنفسه ، وباع ما قدر عليه ، وأنفذ مسلم أصحابه لحفظ حلب ، فغاظ تتش وأقام بجسر الحديد ، وما يقارب حلب ، وأمر أرتق بك بشن الغارات على حلب ، .... ووردت كتب السلطان إلى أخيه بأن يرجع إلى دمشق ولا يقيم ببلد حلب ، وإلى أرتق بك بالعود إلى بابه ، ففارقه أرتق بك من جسر الحديد ، وسار تتش إلى دمشق ، وحل بها وضعفت نفسه لمفارقة أرتق بك ، وعبر مسلم في العرب والأكراد وراء تتش ، فنزل على فرسخين منها».

١٨٥

شرف الدولة في حشده إلى بالس أيضا في المحرم ، ووصله جماعة من بني كلاب ، ونهض بالعسكر مسرعا في السير إلى أن نزل على دمشق ، ووصل إليه جماعة من عرب قيس واليمن ، وقاتل أهل دمشق في بعض الأيام ، وخرج إليه عسكر تاج الدولة من دمشق ، وحمل على عسكره حملة صادقة فانكشف وتضعضع عسكره ، وعاد كل فريق إلى مكانه ، وعاد عليهم بحملة أخرى ، وانهزمت العرب وثبت شرف الدولة مكانه وأشرف على الأسر ، وتراجع أصحابه ، وكان شرف الدولة قد اعتمد على معونة عسكر المصريين على دمشق ، ومعاضدته بالعسكر المصري على أخذها ، فوقع التثاقل عليه بالانجاد والتقاعد عنه بالاسعاد اشفاقا من ميل الناس إليه ، وعظم شأنه بتواصلهم ووفودهم عليه فلما وقع يأسه مما أمله ورجاه وخاب ما تمناه ، وورد عليه من أعماله ما شغل خاطره في تدبيره واعماله (١) ، وتواترت الأخبار بما أزعجه (٦٤ و) وأقلقه ، رأى أن رحيله عن دمشق إلى بلاده وعوده إلى ولايته لتسديد أحوالها وإصلاح اختلالها أصوب من مقامه على دمشق ، وأوفق من شأنه ، فأوهم أنه سائر مقتبلا لأمر مهم عليه ، وأرب مطلوب نهد إليه ، فرحل عن دمشق ، ونزل مرج الصفر وعرف من بدمشق ذلك ، فقلقوا لذلك واضطربوا ثم رحل مشرقا في البرية وجلا ، وجدّ في سيره مجفلا وواصل السير ليلا ونهارا فهلك من المواشي والدواب للعرب ما لا يحصيه عدد ، ولا يحصر كثرة من العطش ، وتلف وانقطع من الناس خلق كثير ، وخرجت به الطريق إلى وادي بني حصين قريبا من سلمية ، فأنفذ وزيره أبا العز (بن) صدقة إلى خلف بن ملاعب المقيم بحمص ليجعله بين الشام وبين السلطان تاج الدولة لما يعلمه من نكايته

__________________

(١) لقد كان الذي أزعج مسلم وأقلقه ، وجعله يقلع عن متابعة حصار دمشق هو خبر قيام ثورة في حران ضده ، ويقول الذهبي : «عصا أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش ، وأطاعوا قاضيهم ابن جبلة الحنبلي ، وعزموا على تسليم حران إلى جبق أمير التركمان ، لكونه سنيا ولكون مسلم رافضيا». انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٩٠ ـ ١٩٢.

١٨٦

في الأتراك وفتكه بمن يظفر به من أبطالهم الفتاك ، فأقام أبو العز الوزير بحمص إلى حين عوده فخلع عليه شرف الدولة ، وأكرمه وقرر معه (١) حفظ الشام ، وطيّب بنفسه.

وسار بعد ذلك السلطان تاج الدولة إلى ناحية طرابلس ، وافتتح انطرطوس ، وبعض الحصون ، وعاد إلى دمشق.

وورد الخبر بنزول السلطان العادل ملك شاه أبي الفتح بن ألب أرسلان على حلب في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان من السنة ، وضايقها إلى أن ملكها مع القلعة (٢).

وفي يوم الخميس الثاني من المحرم توجه شرف الدولة إلى بلد أنطاكية للقاء الفردوس ملك الروم (٣).

__________________

(١) سنسمع الكثير من أخبار خلف بن ملاعب ولابن ملاعب ترجمة مطولة في كتاب بغية الطلب لابن العديم ، نشرتها في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٨٠ ـ ٣٨٥.

(٢) ليس مكان هذا الخبر هنا ، بل بعد الحديث عن مقتل مسلم بن قريش ، وما استجد إثر ذلك في حلب. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٩٤ ـ ٢٠٥.

(٣) في مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٧٥ ه‍ ـ : «لما صعد ـ مسلم ـ إلى الشام طالب الفردوس والي أنطاكية بمال الهدنة ، وهو ثلاثون ألف دينار ، في كل سنة ، فلم يحمل إليه شيئا ، وكاتبه أهل أنطاكية ، وقرروا معه فتحها وتسليمها إليه ، وكان من سوء رأي مسلم وتخلفه أنه كان له كاتب نصراني ، فكان يدع عنده مكاتباتهم ، ثقة به ، وتحقق الكاتب فتح أنطاكية ، فهرب إليها ومسلم بحلب ، ودفع تلك الكتب إلى الفردوس ، فلما وقف عليها أحضرهم ، وكانوا ثلاثمائة انسان ، فقتلهم بين يديه صبرا ، وكاشف مسلم ، وكتب إلى السلطان بأنه يكاتب صاحب مصر ، وينفذ له الخلع والأموال ، واستقر أن الفردوس يحمل إلى السلطان كل سنة مال الهدنة».

١٨٧

وفيها وصل الأمير شمس الدولة سالم بن مالك (١) بالخلع السلطانية إلى شرف الدولة إلى حلب (٢).

وتقرر (٣) الصلح بين شرف الدولة وابن ملاعب بحمص ، وفيها وصل أبو العز بن صدقة ، وزير شرف الدولة ، في عسكر كثيف ، لإنجاد حلب على تاج الدولة ، فلما وصل إليها رحل تاج الدولة ، في الحال عنها (٤).

سنة ست وسبعين وأربعمائة

فيها عمل على مدينة حرّان ، وأخذت من ملكة شرف الدولة مسلم بن قريش في سابع صفر ، وعاد إليها حين عرف خبرها ، فنزل عليها في عسكره ،

__________________

(١) ابن عم لمسلم بن قريش ، كلفه مسلم بحكم قلعة حلب ، وصار بعد مقتل مسلم وسقوط حلب للسلطان ملكشاه سيدا لقلعة جعبر ، مما أهله وآله من بعده إلى شغل دور كبير في أحداث الحروب الصليبية. له ترجمة في كتاب بغية الطلب نشرتها في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٤٠٥ ـ ٤٠٧.

(٢) لدى معرفة السلطنة بخبر وجود علاقات بين مسلم بن قريش والخلافة الفاطمية ، بعث إليه الوزير نظام الملك يعاتبه ، فأجابه مسلم : «إن كانت الكتب مني إلى صاحب مصر ، توجه العتب عليّ ، وإن كانت منه إليّ ، فاحفظوا صاحبا لكم ، يرغب فيه صاحب مصر ، ولا تخرجوه عن أيديكم ، وارغبوا فيه ، كما رغب فيه غيركم». وبناء على هذا وصلته الخلع السلطانية. مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٧٥ ه‍.

(٣) في الأصل «وقرر» وهي مصحفة صوابها ما أثبتنا ، ففي مرآة الزمان أخبار سنة ٤٧٥ ه‍ ـ : «وعاد مسلم إلى حمص ، فخرجت نساء ابن ملاعب وحريمه ، فتعلقن بذيل مسلم ، فاستحى منهن ، وذم له ، وأبقاه على حاله ، ولم يطالبه بما تقرر عليه ، واستحلفه ، وحلف له ، وعاد إلى حلب».

(٤) حصل هذا قبل حملة مسلم بن قريش على دمشق ، وفي سوق الخبر هكذا مع سواه دليل جديد على طبيعة عمل ابن القلانسي ، من أنه أخذ من مصادر مختلفة وأثبت مواده دونما تنسيق.

١٨٨

وضايقها وواظبها إلى أن افتتحها ، وملكها ، ورتب أمرها واحتاط عليها ، واعتمد على الثقات في حفظها (١).

__________________

(١) نقل سبط ابن الجوزي ـ أخبار سنة ٤٧٦ ه‍ ـ عن غرس النعمة محمد بن هلال الصابىء خبر ثورة حران والقضاء عليها فقال : «ووصل الخبر إلى مسلم بأن أهل حران عصوا عليه ، فرجع كارا إلى حمص ، وصالح في طريقه ابن ملاعب وحالفه وأعطاه مضافا إلى حمص : رفنية وسلمية ، وأقطع شبيب بن محمود بن الزوقلية حماة ، واستخلفه في تلك الأعمال ، وعاجل حران ، فوصلها يوم الجمعة ثامن ربيع الأول ، فوجد قاضيها ابن جبلة الحنبلي قد استغوى أهلها ، وأدخل إليها جماعة من بني نمير ، مع ولد صغير لمنيع بن وثاب ، وأنفذ ابن عطير ، أحد وجوه بني نمير إلى جبق أمير التركمان ، فكان قريبا ، فاستدناهم إليه ليسلم إليهم البلد ، وشرع القاضي يعلم مسلما ، ويمنيه خديعة منه ليصل التركمان ، وعلم مسلم فحاربهم ، ورمى قطعة من السور ، وبينا هو كذلك وصل التركمان ، فترك أقواما يقاتلون البلد ، وركب هو بمن معه ، فأشرف على التركمان ، واتصل الطراد ، وقال للعرب املكوا عليهم النهر ، المعروف بالجلاب ، واجعلوه وراءكم ، وحولوا بين التركمان وبينه ، ففعلوا ، وعطشوا وخيلهم ، وهجرت الشمس عليهم ، فمالوا بجمعهم طالبين رأس الماء ، على أن يشربوا ، ويسقوا خيولهم ، ويعودوا على العرب ، فلما عطفوا خيولهم ، لم يشك العرب أنها هزيمة ، فالقوا نفوسهم عليهم ، فانهزموا ، فتبعوهم وغنموهم ، وقتلوا وأسروا ، وأقام مسلم على حصار حران ، وكان كلما رمى قطعة من السور ، نصب ابن جبلة بإزاء الثلمة مجانيق وعرادات ، منعت من يروم القرب منهما ، وراسله : إنك كلما رميت قطعة من السور ، جعلت مكانها مجانيق وعرادات ورجالا أشد منها ، فتوقف عن حربهم ، وتربص.

واتفق أنه استأمن إلى مسلم من أهلها ثلاثة إخوة ، فأخذ القاضي أباهم ، وكان شيخا كبيرا ، فأصعده إلى السور ، وقتله ، ورمى برأسه إلى مسلم ، فلما أحضر الرأس بين يديه ، وعلم الحال ، قال : غدا أفتح البلد إن شاء الله تعالى ، فهذا بغي أرجو من الله النصر في جوابه ، وأنفذ إلى العرب وأمرهم بالبكور للقتال ، فجاءوا ولبسوا السلاح ، وتقدم مسلم وعليه السلاح ، وكان قد بعث رجالا في الليل ، ينظفون الحجارة من الطريق ، لأجل الخيل ، فسئل أن يكاتب ابن جبلة ، ويعطيه الأمان لئلا يهلك الناس ، وينهب البلد ، فلما كتب ، أعاد جوابه على رأس الورقة :

١٨٩

وفي هذه السنة تنكر شرف الدولة على وزيره أبي العز بن صدقة (٦٤ ظ) لأسباب أنكرها منه ، وأحوال بلغته عنه ، فقبض عليه واعتقله ، وأقام أياما ، وقرر أمره وأطلقه وطيّب نفسه.

سنة سبع وسبعين وأربعمائة

في هذه السنة شرع سليمان بن قتلش (١) في العمل على مدينة أنطاكية ، والتدبير لأمرها والاجتهاد في أخذها والتملّك لها ولم يزل على هذه القضية إلى أن تم له ما أراده فيها ، وملكها سرقة في يوم الأحد العاشر من شعبان ، ورتّب أمرها بمن اعتمد عليه في حفظها من ثقات ولاته (٢).

__________________

السيف أصدق أنباء من الكتب .........

فتقدم إلى العرب بالدخول إلى الفتحة ، فما منهم من أقدم ، فجمع عبيده وخواصه وهجمها ، وتبعته العرب حينئذ ، فدخل البلد ، وصعد ولد ايتكين السليماني ، ونزل من السور ، وفتح الباب فأقطعه قرقيسياء ، ثم طلب القاضي فوجد في كندوج فيه قطن ، فأخذ وولداه ، فقبض على أعيان أهل حران ، ونهب البلد إلى آخر النهار ، ثم رفع النهب وصلب القاضي وولديه ، وأعيان الحرانيين على السور ، وقتل خلقا من العوام ، وعاد إلى منازله بأرض الموصل.

(١) مؤسس دولة سلاجقة الروم ، كان أبوه قتلمش بن أرسلان بن سلجوق من أبناء عم طغرلبك أول سلاطين الدولة السلجوقية ، نشط سليمان لحسابه الخاص في آسية الصغرى ، فتمكن من احتلال «نيقية ، وهي بلد بالساحل تضاهي أنطاكية ، ـ كما استولى على ـ جميع ما يليها من طرسوس وأذنه ، ومصيصة وعين زربة» أي مناطق الثغور الاسلامية البيزنطية التي كانت بيزنطة قد انتزعتها في منتصف القرن العاشر من امارة حلب ، وبعد هذا توجه سليمان بأنظاره نحو أنطاكية التي كانت أيضا قد انتزعتها بيزنطة من إمارة حلب في نفس الفترة. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٩ ، ٦٢ ، ١٠٧ ـ ١١٠ ، ١٩٦ ـ ١٩٨.

(٢) يقدم لنا ابن العديم رواية مفصلة حول احتلال سليمان لأنطاكية جاء فيها : «وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة [١٠٨٤ م] شرع سليمان بن قتلمش في العمل على أنطاكية والاجتهاد في أخذها إلى أن تم له ما أراد ، فأسرى من نيقية في عسكره وعبر الدروب ، وأوهم أن الفلاردوس (الحاكم البيزنطي لأنطاكية).

١٩٠

وفي شهر ربيع الأول من السنة ، كانت وقعة بين عسكر شرف الدولة ، وعسكر الأتراك بأرض آمد من ديار بكر ، واستظهر الأتراك على عسكر شرف الدولة فهزموه.

وفي رجب منها توجه شرف الدولة مسلم بن قريش إلى دركاه السلطان العادل ملك شاه بن ألب أرسلان ودخل عليه ووطئ بساطه ، فأكرمه واحترمه ، وخلع عليه وقرر أمره على ما يهوى من إصلاح أحواله ، والإقرار على أعماله ، وإزالة ما كان يخشاه ، وعاد مسرورا بما لقي ، ومحبورا بنيل مبتغاه (١).

__________________

استدعاه ، وأسرع السير إلى أن وصل أنطاكية ليلا ، فقتل أهل ضيعة تعرف بالعمرانية جميعهم لئلا ينذروا به ، وعلقوا حبالا في شرفات السور بالرماح ، وطلعوا مما يلي باب فارس ، وحين صار منهم على السور جماعة نزلوا إلى باب فارس وفتحوه ، ودخل هو وعسكره من الباب وأغلقوه ، وكانوا مائتين وثمانين رجلا .... ولم يشعر بهم أهل البلد إلى الصباح ، وصاح الأتراك صيحة واحدة ، فتوهم أهل أنطاكية أن عسكر الفلاردوس قد قاتلوهم فانهزموا ، وعلموا أن البلد قد هجم ، فبعضهم هرب إلى القلعة ، وبعضهم رمي بنفسه من السور فنجا» ، وبعد أن أصبح سليمان سيد مدينة أنطاكية توارد إليه التركمان ، فحاصر قلعة أنطاكية قرابة شهر ففتحها ، واتخذ سليمان أنطاكية مقرا له «وفتح الحصون المجاورة لها بعضها عن طوع ، وبعضها عن استدراج» ثم أخذ يتطلع نحو مدينة حلب للاستيلاء عليها. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٩٨ ـ ١٩٩

(١) في سنة ٤٧٦ ه‍ / ١٠٨٣ م فوض ملكشاه إلى الوزير فخر الدولة ابن جهير قيادة جيش سلجوقي نحو الجزيرة ، جعل على رأسه آق سنقر قسيم الدولة ـ الذي كان أول حاكم سلجوقي لحلب ـ ثم أردفه بجيش آخر بقيادة أرتق ، وفي محاولة للتصدي لهذه الحملة تحالف مسلم بن قريش مع الدولة المروانية لميافارقين ، وعسكر قرب آمد ، وتراسل مسلم بن قريش مع ابن جهير لتجنب القتال ، ولم يرض هذا التركمان وقالوا : «نحن جئنا من البلاد البعيدة لطلب النهب ، .... وركبوا نصف الليل .. وأشرفوا .. على العرب ، وكانوا أضعاف الغزّ فأخذوهم باليد من غير طعن ولا ضرب» وهرب مسلم إلى آمد ، وكسب التركمان ما لا يحصى من الغنائم ، وقام ابن جهير بمحاصرة مسلم في

١٩١

سنة ثمان وسبعين وأربعمائة

في هذه السنة كان مصاف الحرب بين الملك سليمان بن قتلمش وبين الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش في اليوم الرابع والعشرين من صفر على نهر عفرين (١) في موضع يقال له قرزاحل فكسر عسكر شرف الدولة ، وقتل ، ورحل سليمان بعد ذلك في جمعه ونزل على حلب محاصرا لها ومضايقا عليها في مستهل شهر ربيع الأول وأقام منازلا لها مدة ، ولم يتهيأ له ما أراده فيها ، فرحل عنها في الخامس من شهر ربيع الآخر منكفئا إلى بلاده (٢).

__________________

آمد ، وكتب إلى السلطان ملكشاه بخبر ما حصل ، فسارع بالقدوم نحو الموصل ، وقبل وصوله تمكن مسلم من النجاة من آمد بعدما دفع مبلغا كبيرا من المال إلى أرتق ، وفي الموصل سمع ملكشاه بنجاة مسلم ، وعلم بقيام أخيه تكش بثورة ضده في خراسان ، فقرر العودة لتلافي مخاطر الثورة هذه ، لذلك راسل مسلم بن قريش واستقبله وصالحه ، ثم غادر الموصل نحو أصفهان. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية.

(١) في الأصل «سفين» وهي تصحيف صوابه ما أثبتنا ، انظر مادة عفرين في معجم البلدان. زبدة الحلب : ١ / ٩١. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٠٠.

(٢) في ظهيرة يوم السبت ٢٤ صفر ٤٧٨ ه‍ / ٢١ حزيران ١٠٨٥ اشتبكت قوات سليمان بقوات مسلم فانتصرت عليها ، لأن الشمس كانت في وجوه أصحاب مسلم ، ولأن المرتزقة الغز في جيشه مع رجال القبائل تخلوا عنه ، وتركوه يعاني مصيره ، ولم يصمد معه سوى ستمائة من أحداث حلب ، وحاول مسلم الانسحاب إلى حلب ، وجهد الاحداث في تغطية انسحابه فسقط منهم أربعمائة ، وأخفق مسلم في تأمين طريق للنجاة ، وتلقى ضربة أفقدته حياته ، وحمل سليمان ابن قتلمش جثة مسلم وأتى بهما فطرحها أمام سور حلب ، وكان يأمل بأن تسلم المدينة له ، لكن شيئا من هذا لم يحصل. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ١٩٩ ـ ٢٠١.

١٩٢

وفيها شرع في عمارة قلعة الشريف بحلب ، وترميم ما كان هدم منها ، وإعادتها الى ما كانت عليه في حال عمارتها (١).

وفيها وردت الأخبار من ناحية المغرب بأن الأفرنج استولوا على بلاد الأندلس ، وتملكوها ، وفتكوا بأهلها ، وأن صاحب طليطلة (٢) استصرخ بالملثمين واستنجد بهم على الأفرنج ، فأجابوه الى الإنجاد ، ونهضوا للإغاثة والإسعاد ، وطلب الجهاد ، ووصلوا إليه في خلق عظيم ، وجيش كثيف ، وصاففوا الأفرنج وهم في الأعداد الدثرة ، والعدد الغاية في الكثرة ، فكسروا عسكر الأفرنج كسرة عظيمة أجلت عن قتل الأكثر منهم ، ولم يفلت إلا من سبق جواده ، وأخر في أجله بحيث أحصي القتلى فكانوا (٦٥ و) عشرين ألفا ، فجمعت رؤوسهم وبني بها أربع منائر للتأذين في غاية الإرتفاع ، وأذن المسلمون فيها ، وعاد عسكر الملثمين إلى بلادهم سالمين ظافرين مسرورين مأجورين ، وامتنعوا من استخلاص ما كان ملكه الأفرنج من بلاد الأندلس ، وبقي في أيديهم على حاله.

__________________

(١) في الأصل «عمارة القلعة الشريف» وفي العبارة على هذا الشكل بعض اللبس ، فعندما قتل مسلم بن قريش كان ابن عمه سالم بن مالك مقيما في قلعة المدينة متحكما بها ، وفي نفس الوقت كانت أمور المدينة بيد الأحداث ، الذين كان زعيمهم الشريف حسن بن هبة الله الحتيتي ، وبعد مقتل مسلم لما لم يكن للحتيتي سيطرة على قلعة حلب ، وكان بحاجة إلى موقع دفاعي حصين ، يتخذه مقرا له ، قام ببناء ـ أو اعادة بناء ـ قلعة لنفسه وأحداثه داخل المدينة ، ولا يزال موقع هذه القلعة معروفا ، فأحد أحياء حلب الواقعة جنوبي القلعة الكبيرة يعرف الآن باسم «قلعة الشريف». مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٠١.

(٢) كذا بالأصل ، وهو خطأ صوابه ـ اشبيلية ـ والخطأ الثاني هنا أن ما يشير إليه كان في السنة التالية ، فهو يتحدث عن معركة الزلاقة ، حين عبر يوسف بن تاشفين على رأس جيوش المرابطين ـ الملثمين ـ إلى الأندلس بناء على دعوة المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية ومعاضدة بقية أمراء الأندلس. انظر الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية بتحقيقي. ط. الدار البيضاء : ١٩٧٩ ص : ٢٣ ـ ٦٦. حيث تعليل عدم استغلال نصر الزلاقة وذلك بالاضافة إلى الوصف التفصيلي لها.

١٩٣

سنة تسع وسبعين وأربعمائة

فيها تقدم السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح بن السلطان ألب أرسلان رحمه‌الله بإبطال أخذ المكوس من سائر التجار عن جميع البضائع في العراق وخراسان ، وحظر تناول شي منها في بلد من البلاد الجارية في مملكته ، فكثر الدعاء له من كافة الناس في سائر الأعمال وتضاعف الثناء عليه من الخاص والعام (١).

وفيها وردت الأخبار من ناحية المغرب بوصول الانبرت ابن ملك الافرنج في عسكره الى مدينة المهدية ، ونزوله عليها ومضايقته لها إلى أن ملكها بالسيف قهرا ، وقتل رجالها وسبى ، كافة من كان بها من أهلها (٢).

وفيها جمع الملك سليمان شاه ، بن قتلمش (٣) وحشد وقصد بلد حلب ، ونزل عليها محاصرا لها ومضايقا عليها وطامعا في تملكها ، فوردت عليه أخبار السلطان تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان باحتشاده ، وتأهبه لقصدها ، واستعداده فرحل عنها ، والتقى عسكره وعسكر تاج الدولة في موضع يعرف بعين سليم (٤) في يوم الأربعاء الثامن عشر من صفر ، فكسر عسكر تاج الدولة عسكر سليمان ، فقتل في الهزيمة ، وملك تاج الدولة عسكره وسواده ، ونزل

__________________

(١) في مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٧٥ ه‍ ـ أن هذا كان سنة خمس وسبعون وأربعمائة ، وأنه اقتصر على قافلة الحج صادرة وواردة.

(٢) كانت المهدية لتميم بن المعز بن باديس ، وقد هاجمها اسطول جنوي في ثلاثمائة سفينة تحمل ثلاثين ألف مقاتل نورماندي وقد ظلت المهدية تحت الاحتلال النورماندي حتى استخلصها الموحدون. انظر البيان المغرب لابن عذاري. ط. بيروت ١٩٥٠ : ١ / ٤٣٢ ـ الحلل الموشيه : ١٥٢ ـ ١٥٤. خلاصة تاريخ تونس لحسن حسني عبد الوهاب. ط. تونس : ١٩٦٨ : ١١٥.

(٣) في الأصل «شاه بن قتلمش» وأضفنا عبارة سليمان ليتضح السياق.

(٤) في معجم لبلدان لياقوت : عين سليم على ثلاثة أميال من حلب.

١٩٤

على حلب ، وضيق عليها إلى أن تسلمها في شهر ربيع الأول ، سلمها إليه المعروف بابن البرعوني الحلبي (١).

وفيها وصل السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح إلى الشام ، وانهزم تاج الدولة من حلب ، وملكها السلطان العادل ودخلها في شهر رمضان ، وخرج منها ، وقصد أنطاكية ، وملكها وخيم على ساحل البحر أياما ، وعاد إلى حلب وعيد بها عيد الفطر ، ورحل عنها وقصد الرها ، ونزل عليها وضايقها وملكها.

* * *

__________________

(١) ضايق سليمان بن قتلمش مدينة حلب ، فقام الشريف الحتيتي بتوجيه الدعوة للسلطان ملكشاه ليأتي فيتسلمها ، ولما طال أمد وصول السلطان ، وضاق الأمر بالحتيتي راسل تتش وعرض عليه تسليمه المدينة ، ولبى تتش فاصطدم بسليمان وقتله ، وجاء ليتسلم المدينة فرفض الحتيتي ، وأخبره أنه لن يسلمها إلّا للسلطان ، وكان الحتيتي قد عهد بأمر أحد أبراج المدينة إلى رجل عرف باسم ابن البرعوني ، فقام هذا بمراسلة تتش واتفق معه على تسليمه البرج ، وهكذا تسلم تتش المدينة لكنه ما كاد يدخلها حتى عرف بوصول طلائع جيش أخيه السلطان ملكشاه (كانون أول ١٠٨٦ م) لهذا آثر الانسحاب من حلب والعودة إلى دمشق ، متجنبا الاصطدام بأخيه أو حتى الاجتماع به. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٠١ ـ ٢٠٦.

١٩٥

سنة ثمانين وأربعمائة (١)

في هذه السنة تقررت ولاية حلب للأمير قسيم الدولة أق سنقر من قبل السلطان ملك شاه أبي الفتح ، ووصل إليها وأحسن السيرة فيها ، وبسط العدل في أهليها ، وحمى السابلة للمترددين فيها ، وأقام (٦٥ ظ) الهيبة ، وأنصف الرعية ، وتتبع المفسدين فأبادهم ، وقصد أهل الشر فأبعدهم ، وحصل له بذلك من الصيت ، وحسن الذكر ، وتضاعف الثناء والشكر ما أخباره مذكور ، وأجاره فيه منشور ، فعمرت السابلة للمترددين من السفار ، وزاد ارتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار.

سنة إحدى وثمانين وأربعمائة

في هذه السنة توجه السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح إلى سمرقند طمعا في ملكتها بعد فراغ قلبه من الشام ، وبلاد الروم ، والجزيرة ، والرها ، وديار بكر ، وديار بني عقيل.

وفيها خرج الأمير قسيم الدولة آق سنقر من حلب لتوديع تابوت زوجته خاتون ، داية السلطان ملك شاه ، وقيل أنها كانت جالسة معه في داره بحلب ، وفي يده سكّين فأومى بها إليها على سبيل المداعبة والمزاح ، فوقعت في مقتلها للقضاء المكتوب عليها ، غير متعمد ، فماتت وحزن عليها حزنا شديدا ، وتأسف لفقدها على هذه الحال ، وحملها إلى الشرق لتدفن في مقابر لها هناك في مستهل جمادى الآخرة (٢).

__________________

(١) تعد هذه السنة بداية مرحلة جديدة في تاريخ بلاد الشام ، فللمرة الأولى تغيبت القوى العربية عن مسرح السياسة والحكم والحرب ، وآل هذا كله إلى التركمان.

(٢) في بغية الطلب لابن العديم ترجمة مطولة لآق سنقر قسيم الدولة ، نشرتها في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ، كما أني بحثت في نفس الكتاب في فترة حكم قسيم الدولة بشكل شامل. انظر ص : ٢٠٧ ـ ٢٢٨ ، ٢٦٩ ـ ٢٧٧.

١٩٦

وفي يوم الثلاثاء ، مستهل رجب نزل قسيم الدولة على شيزر وحصرها ونهب ربضها ، وضايقها الى أن تقرر أمرها والموادعة بينه وبين صاحبها (١) ورحل عنها عائدا الى حلب.

سنة إثنتين وثمانين وأربعمائة

في هذه السنة وردت الأخبار من ناحية الشرق بافتتاح السلطان ملك شاه مدينة سمرقند وأسر ملكها (٢) ، وكانت أخته مع السلطان ملك شاه وله منها ثلاثة أولاد ، فجعل الولاية بها لأحدهم وهو الملك أحمد ، وأمر بالخطبة له على المنابر ، وذكر أن الملك أحمد المذكور توفي في سنة أربع وثمانين وأربعمائة ، والابنة منهم زوجها للإمام الخليفة المقتدي بأمر الله.

وفيها خرج عسكر مصر منها مع مقدميه ، وقصد الساحل ، وفتح ثغري صور وصيدا ، وكان في صور أولاد القاضي عين الدولة (ابن) أبي عقيل بعد موته ، ولم يكن قوة لهم تدفع ، ولا هيبة تمنع ، فسلموها ، وكذلك صيدا ، وقرروا أمرهما ، ثم رحل العسكر عنهما ونزل على ثغري جبيل وعكا فافتتحهما.

وفيها عمرت منارة الجامع بحلب (٣) ، وفيها نهض قسيم الدولة صاحب حلب في أثر الحرامية قطاع الطريق ، ومخيفي السبيل ، فأوقع بهم واستأصل شأفتهم قتلا وأسرا (٦٦ و) فأمنت السابلة ، واطمأنت السافرة ، وكتب إلى سائر الأطراف والأعمال بتتبع المفسدين ، وحماية المسافرين ، وبالغ في ذلك مبالغة حسن ذكره بها ، وعظمت هيبته بسببها ، وشاع له الصيت باعتمادها ،

__________________

(١) في زبدة الحلب : ٢ / ١٥. : «وجرى خلف بين أهل لطمين وبين نصر بن علي ابن منقذ في سنة احدى وثمانين ، فخرج أق سنقر إلى شيزر ، وقاتلها ، وقتل من أهلها مائة وثلاثين رجلا ، وعاد إلى حلب بعد أن نهب ربضها ، واستقرت الموادعة بينه وبين نصر صاحب شيزر.

(٢) لعله شمس الملوك تكين بن طمغاج الذي سبق لألب أرسلان أن غزاه سنة مقتله. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٩٠.

(٣) انظر مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٠٩.

١٩٧

واحترز كلّ من كان في ضيعة أو معقل من أن يتم على أحد من المجتازين به أمر يؤخذ به ، ويهلك بسببه (١).

سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة

في هذه السنة نزل السلطان تاج الدولة على حمص ، في عسكره ومعه الأمير قسيم الدولة صاحب حلب في عسكره ، والأمير بوزان صاحب أنطاكية وفيها خلف بن ملاعب فضايقوها وصابروها الى أن ملكوها بالأمان ، وخرج ابن ملاعب منها ، وسلمها ووفوا له بما قرروه معه ، وأطلقوا سراحه فتوجه إلى مصر ، فأقام بها مدة ، وعاد الى الشام ، وأعمل الحيلة والتدبير على حصن أفامية الى أن ملكه ، وحصل بيده (٢).

__________________

(١) ذكر ابن العديم بأن آق سنقر : «كان قد شرط على أهل كل قرية في بلاده متى أخذ عند أحدهم قفل ، أو أحد من الناس ، غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير ، فكانت السيارة إذا بلغوا قرية من بلاده ألقوا رحالهم وناموا ، وقام أهل القرية يحرسونهم إلى أن يرحلوا ، فأمنت الطرق .. ـ ونادى أق سنقر ـ في بلد حلب لا يرفع أحد متاعه ولا يحفظه في طريق لما حصل من الأمن في بلاده .... فخرج يوما يتصيد ، فمر على قرية من قرى حلب ، فوجد بعض الفلاحين قد فرغ من عمل الفدان ، وطرح عن البقر النير ، ورفعه على دابة ليحمله إلى القرية ، فقال له : ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحد متاعا ولا شيئا من موضعه؟! فقال له : حفظ الله قسيم الدولة قد أمنا في أيامه ، وما نرفع هذه الآلة خوفا عليها أن تسرق ، ولكن هنا دابة يقال لها ابن آوى تأتي إلى النير فتأكل الجلد الذي عليه ، فنحن نحفظه منها ، ونرفعه لذلك ، فعاد قسيم الدولة من الصيد ، وأمر الصيادين فتتبعوا بنات آوى في بلد حلب ، فصادوها حتى أفنوها من بلد حلب». مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢١٠.

(٢) كذا في الأصل ، والذي حصل أن السلاجقة اقتحموا مدينة حمص واعتقلوا ابن ملاعب ، وسيروه «في قفص حديد إلى السلطان ملكشاه ، فأطلق حمص لأخيه تتش ، وحبس ابن ملاعب ، وبقي في حبسه إلى أن أطلقته خاتون امرأة السلطان ملكشاه» بعد وفاته ، فمضى آنذاك إلى مصر. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢١٧ ، ٣٨٠.

١٩٨

سنة أربع وثمانين وأربعمائة

في ليلة الثلاثاء التاسع من شعبان من السنة حدث في الشام زلزلة عظيمة هائلة ، لم يسمع بمثلها ووافق هذا اليوم كونه من تشرين الأول ، وخرج الناس من دورهم خوفا من عودها ، وحكي أن دورا كثيرة خربت بأنطاكية ، واضطربت كنيسة السيدة فيها ، وهلك خلق كثير بالردم ، وانهدم بها تقدير سبعين برجا من سورها ، وبقيت على حالها إلى أن أمر السلطان ملك شاه بعمارتها ، ولم ما تشعث منها.

وفيها نزل الأمير قسيم الدولة صاحب حلب على حصن أفامية ، فملكه ، وأبعد خلف بن ملاعب عنها ، ورتب نائبه في حفظها ، في ثالث رجب ، وعاد الى حلب (١).

وفيها وردت الأخبار من المشرق بوفاة الملك أحمد بن السلطان ملك شاه المرتب في مملكة جده في سمرقند ، وخطب له على المنابر حسب ما تقدم ذكره ، فعاجله القضاء الذي لا يدافع ، والمحتوم الذي لا يمانع.

سنة خمس وثمانين وأربعمائة

في هذه السنة اقترن المريخ وزحل في برج السرطان ، وقت الظهر من يوم الإثنين النصف من شهر ربيع الأول وهو السادس والعشرون من نيسان ، وذكر أهل المعرفة من أهل صناعة النجوم أن هذا القران لم يحدث مثله في هذا البرج منذ مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى هذه الغاية.

__________________

(١) كذا وفي الخبر بعض اللبس : فالذي حدث أن أق سنقر التحق بتتش وساعده في حملة طرابلس ، وأثناء الحصار تخاصم معه وانسحب عائدا نحو حلب ، وفي طريقه إلى حلب استولى على أفامية التي كانت من أملاك ابن ملاعب ، وبعد ذلك سلمها لنصر بن علي المنقذي صاحب شيزر. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢١٧ ـ ٢١٨.

١٩٩

وفيها توجه السلطان العادل (٦٦ ظ) ملك شاه من أصفهان إلى بغداد معولا على قصد مصر لتملّكها ، فلما وصل إلى همذان وثب رجل ديلمي من الباطنية على وزيره خواجه برزك نظام الملك أبي علي الحسن بن اسحق الطوسي ، فقتله رحمه‌الله (١) ، وهرب من ساعته ، فطلب فلم يوجد ولا ظهر له خبر ولا بان له أثر ، فأسف الناس ، وتألموا لمصابه وتضاعف حزنهم لفقد مثله ، لما كان عليه من حسن الطريقة ، وإيثار العدل والنصفة والاحسان الى أهل الدين والفقه والقرآن والعلم ، وحب الخير ، وحميد السياسة ، وكان قد اثر الاثارات الحسنة في البلاد من المدارس والرباطات بالعراق وبلاد العجم ، بحيث كان رزقه يجري على اثني عشر ألف انسان من فقيه إلى غيره ، وحزن السلطان ملك شاه عليه ، وأسف لفقده ، وأسرع السير الى أن وصل الى بغداد في أيام قلائل من شوال من السنة ، وأقام مديدة ، وخرج إلى المتصيد ، وعاد منه وقد وجد فتورا في جسمه ، واشتد به المرض الحاد ، فتوفي رحمه‌الله في ليلة الأربعاء السادس من شوال من السنة ، وكان بين وفاته ، ومقتل خواجه برزك ثلاثة وثلاثون يوما ، وأقام مقامه في المملكة ولده السلطان بركيارق ، وانتصب في منصبه ، وأخذت له البيعة ، ودعي على المنابر باسمه ، واستقام أمره وانتظمت الحال على مراده.

وكان السلطان تاج الدولة تتش قد توجه من دمشق الى بغداد ، للقاء أخيه السلطان ملك شاه ، والخدمة له ، والتقرب إليه ، وورد الخبر عليه بوفاته ، فانكفأ راجعا ، ونزل على الرحبة وضايقها ، وراسل المقيم بها يلتمس تسليمها إليه فلم يتم له فيها أمر ولا مراد ، فرحل عنها الى دمشق ، وجمع وحشد وعاد

__________________

(١) قتل بتخطيط وأمر من حسن الصباح مؤسس الدعوة الاسماعيلية الجديدة ، وربما كان هناك شي من التواطؤ من قبل ملكشاه. انظر الدعوة الاسماعيلية الجديدة ـ ط. بيروت ١٩٧١ : ٦٢ ـ ٦٣. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٤٩ ـ ٣٧٣.

٢٠٠