تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

في العسكر إلى الرحبة (١) ، وقد كان كاتب قسيم الدولة صاحب حلب ، ومؤيد الدولة يغي سغان (٢) صاحب أنطاكية يستدعي منهما المساعدة ، ويبعثهما على المؤازرة والمرافدة ، فسارا نحوه ، واجتمعا معه ، فقوي أمره بهما ، واستظهر بعسكرهما ، ونزل على الرحبة وضايقها الى أن ملكها بالأمان ، وأحسن الى أهلها وأجمل السيرة فيها ، وكان قد نذر على نفسه أنه متى ملكها بالأمان والقهر شهر فيها السيف ، فعند ذاك شهر سيفه عند دخوله إليها ، وأغمده عند استقرار أمرها ، ووفى بنذره ، ورحل عنها بعد أن قرر أمرها ، ورتب المستحفظين من قبله فيها قاصدا ناحية (٦٧ و) نصيبين.

وقد كان بعد وفاة السلطان ملك شاه قد رجع إبراهيم بن قريش إلى بلاده ، وتسلم الموصل وأعمالها ، وجمع العرب والأكراد ونزل في بلاد بني عقيل الموصل وما والاها ، وغلب ولد أخيه شرف الدولة محمدا ، وأبعده عن الولاية ، ولما وصل تاج الدولة الى نصيبين وصل إليه الأمير بوزان صاحب الرها ، وخرج إليه والي نصيبين يبذل الطاعة له والمناصحة في الخدمة ، فامتنع أهل البلد من الجند الذين بها من أصحاب إبراهيم بن قريش ، فقاتلها وهدم بعض سورها ، وملكها بالسيف ، وقتل فيها تقدير ألفي رجل ، وقتل كل من التجأ إلى جامعها ومساجدها ، وأخذت الحرم ، وهتكت البنات وعوقبوا بأنواع العقوبات ، إلى أن أظهرن كل مذخور ، وأبرزن كل مستور ، وفعل في أمرهم ما لا يستحله مسلم ، ولا يستحسنه كافر ، وأطلق بعد ذلك من كان في الأسر من الرجال والنسوان إلا من بقي في أيدي الأتراك ، وذلك في صفر سنة ست وثمانين وأربعمائة ، وحكى بعض من حضر هذه الكائنة القبيحة أنه

__________________

(١) كذا وفي هذه الرواية اختصار مخل ، انظر تفصيل خبر ما حدث في كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٢١ ـ ٢٢٦ ، وكتابي تاريخ العرب والاسلام. ط. بيروت : ١٩٨٢ ص : ٣٣٢ ـ ٣٣٥.

(٢) يرسم أحيانا «ياغي سيان».

٢٠١

شاهد امرأة تحت [واحد من](١) الأتراك يطلب منها الفاحشة ، وهي تصيح وتستغيث وتتمنع أشد التمنع «فجئته وحاولت تخليصها منه فلم يفعل ، فجرحته فتخلى عنها وإذا بها امرأة من وجوه الأشراف ، وأخرجتها الى المخيم الى أن سكنت الفتنة ، وأعدتها سالمة إلى دارها دون كل بنت هتكت ، وأحرزت ثوابها ، وحسن الذكر بين أشراف نصيبين».

سنة ست وثمانين وأربعمائة

في هذه السنة عاد السلطان تاج الدولة عن نصيبين بعد ما جرى فيها طالبا لابراهيم بن قريش ، فلما عرف خبره ، جمع وحشد واستصرخ واستنجد ، وحصل في خلق عظيم ونزل بهم في المنزل المعروف بشرقي الهرماس ، ونزل السلطان تاج الدولة على دارا (٢) ، فلما كان يوم الاثنين الثاني من شهر ربيع الأول من السنة التقى الجيشان على نهر الهرماس (٣) ، واختلط الفريقان واشتد القتال ، وانكشفت الوقعة عن قتل جماعة من الأتراك والعرب ، وعاد كل فريق منهما إلى مكانه ، فلما استقر بالعرب المنزل ، عاد عسكر تاج الدولة إليهم وهم غارون ، وحمل عليهم وهم غافلون ، فانهزمت العرب ، وأخذهم السيف ، فقتل منهم (٦٧ ظ) العدد الكثير ، والأكثر من الرجالة المقيمين في المخيم ، وقتل الأمير إبراهيم بن قريش وجماعة من الأمراء ، والمقدمين من بني عقيل وغيرهم ، وقيل إن تقدير القتلى من الفريقين عشرة آلاف رجل ، واستولى النهب والسلب والسبي على من وجد في المخيم وامتلأت الأيدي من الغنائم والسواد والمواشي والكراع ، بحيث بيع الجمل بدينار واحد والمائة شاة بدينار واحد ، ولم يشاهد أبشع من هذه الوقعة ، ولا أشنع

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

(٢) بلد ديار ربيعة ، بينها وبين نصيبين خمسة فراسخ ، ولها قلعة مشرفة ، ويليها بمقدار نصف مرحلة مدينة ماردين. الروض المعطار.

(٣) هو نهر الخابور. الروض المعطار.

٢٠٢

منها في هذا الزمان ، وقتل بعض النسوان العرب أنفسهن اشفاقا من الهتيكة والسبي ، ولما عادوا بالأسرى والسبي ، وحصلوا بشاطىء الفرات ألقى جماعة من الأسرى أنفسهم في الفرات فهلكوا (١).

وقصد السلطان تاج الدولة ديار بكر ، ونزل على آمد وضايقها وملكها من ملكة ابن جهير المقيم بها مع الجزيرة ، وولّا [٥] نصيبين عوضا عن الجزيرة وملك آمد من ابن مروان وتسلم ميافارقين وأعمالها وقرر أمرها (٢) وانفذ ولاته إلى الموصل وسنجار ، وملك الأعمال ، وانهزم بنو عقيل من منازلهم وبلادهم ، وتوجهوا نحو السلطان بركيارق بن ملك شاه ، وكان علي ابن شرف الدولة مسلم بن قريش ووالدته خاتون بنت السلطان محمد بن داود (٣) عمة السلطان ملك شاه يشكون ما نزل بهما من السلطان تاج الدولة.

ولما تهيأ لتاج الدولة ما تهيأ ، وما أمله من ملكة البلاد وطاعة العباد ، قويت شوكته وكثرت عدته وعدته ، وحدث نفسه بالسلطنة ، وتوجه إلى ناحية خراسان ، وليس يمر ببلد ولا معقل من المعاقل إلا خرج إليه أهله ، وبذلوا له الطاعة والمناصحة في الخدمة ، وأمره يستفحل وشأنه يعظم.

وفصل عنه قسيم الدولة صاحب حلب ، وعماد الدولة بزان صاحب الرها مغاضبين ، وقصدا ناحية السلطان بركيارق بن ملك شاه مخالفين له وعاصيين عليه ، واقتضت الحال عود تاج الدولة إلى ديار بكر ، ونزل على مدينة سروج (٤) فملكها وولّى فيها ، وفي الجزيرة من ارتضاه من ثقات

__________________

(١) تعرف هذه المعركة باسم معركة المضيع أيضا. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٢) ابن مروان هو ناصر الدولة منصور بن مروان ، وابن جهير هو الكافي ابن جهير ، انظر تاريخ ميافارقين. ط. القاهرة ١٩٥٩ : ٢٣٣ ـ ٢٣٧.

(٣) محمد بن داود هو السلطان ألب أرسلان بن جغري بك.

(٤) بلد من أرض الجزيرة ، وبمقربة من ملطية ، وهي رستاق كثير القرى والكروم في بطن بين جبال. الروض المعطار.

٢٠٣

خواصه ، واتصل به خبر وصول الأمير قسيم الدولة آق سنقر صاحب حلب ، ومؤيد الدولة ابن صاحب الرها اللذين (١) كانا فارقاه الى السلطان بركيارق ، ودخولهما عليه وإكرامه لهما وحسن موقع وصولهما منه وسروره بمقدمهما عليه ، وأنهما شرعا في الوقوع في ناحية تاج الدولة والتحذير من (٦٨ و) الاهمال لأمره ، والتحريض على معاجلته قبل إعضال خطبه ، وتمكنه من الغلبة على السلطنة والإستيلاء على أعمال المملكة ، وأشارا عليه بالمسير في هذا الوقت ، وطلبا منه من يسير معهما لإيصالهما الى بلديهما حلب والرها ، فسار معهما لإيصالهما إلى الموصل ، وردّ بني عقيل إليهم وقدم عليا بن شرف الدولة مسلم بن قريش عليهم ، ولقبه سعد الدولة ، فوصل قسيم الدولة الى حلب في شوال سنة ست وثمانين وأربعمائة ومعه جماعة من بني عقيل ، وبعض عسكر السلطان بركيارق بحيث وصل الى حلب ، وانتهى الخبر بذاك إلى تاج الدولة ، فنهض في العسكر من ناحية الرحبة إلى الفرات ، وقصد بلد أنطاكية وأقام بها ، وورد عليه الخبر بانكفاء السلطان من الرحبة إلى بغداد ، وأن عزمه أن يشتو بها ، وأقام تاج الدولة بأنطاكية مدة فقلت الأقوات وارتفعت الأسعار ، وخوطب في العود إلى الشام ، فلم يفعل ، وعاد الى دمشق آخر ذي الحجة من السنة ، وفي جملته الأمير وثاب بن محمود بن صالح وبنو كامل وجماعة من العرب لم يجسروا على الإقامة بالشام خوفا من قسيم الدولة صاحب حلب.

وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كبير إلى ثغر صور لما عصى واليها الأمير منير الدولة الجيوشي ، وقد كان أهل صور أنكروا عصيانه ، وكرهوا خلفه لسلطانه أمير الجيوش بدر ، وعرف ذلك من نياتهم ، فحين اشتد القتال عليها نادوا بشعار المستنصر بالله وأمير الجيوش ، فهجم العسكر المصري على

__________________

(١) قبل قليل قال بأن عماد الدولة بوزان نفسه لا ابنه مؤيد الدولة هو الذي ذهب برفقة قسيم الدولة إلى بركيارق.

٢٠٤

البلد ، ولم يدافع عنه مدافع ، ولا مانع دونه ولا ممانع ، ونهب وأسر منه الخلق الكثير ، وأخذ في الجملة منير الدولة الوالي وخواصه وأجناده وحملوا الى مصر في يوم الرابع عشر من جمادى (١) سنة ست وثمانين وأربعمائة وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار أجحفت بأحوالهم ، واستغرقت جلّ أموالهم ، ولما وصل الوالي منير الدولة ومن معه من أجناده وأصحابه ، تقدم أمير الجيوش بضرب أعناقهم ففعل ذلك ، ولم يعف عن واحد منهم.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من العراق بابطال مسير الحاج لأسباب دعت إلى ذاك ، والخوف عليهم في مسيرهم ، وسار الحاج من دمشق والشام في هذه السنة صحبة الأمير الخاني أحد مقدمي أتراك السلطان (٦٨ ظ) تاج الدولة بعد العقد له بولايته ، وتأكيد خطابه بحمايتهم ووصيته ، فلما وصلوا وقصدوا مناسكهم وفروض حجهم ، تلوموا عن الانكفاء أياما خوفا من أمير الحرم ابن أبي شيبة (٢) إذ لم يصل إليه من جهتهم ما يرضيه ، فلما رحلوا من مكة تبعهم في رجاله ، ونهبهم قريبا من مكة ، فعادوا إلى مكة ، وشكوا إليه وتضوروا لديه مما نزل بهم مع بعد دارهم ، فرد عليهم البعض من جمالهم ، وقتل في الوقعة أخو الأمير الخاني المقدم ، فلما أيسوا من رد المأخوذ لهم ساروا من مكة عائدين على أقبح صفة ، فحين بعدوا عنها ظهر عليهم قوم من العرب من عدة جهات ، فأحاطوا بهم فصانعوهم على ما دفعوه إليهم ، هذا بعد أن قتل من الحجاج جماعة وافرة ، وهلك قوم بالضعف والانقطاع ، وجرى عليهم من العرب المكروه ، وعاد السالم منهم على أقبح حال ، وأكسف بال.

__________________

(١) لم يبين أي الجمادين الأولى أم الثانية؟

(٢) كان شريف مكة هو الأمير تاج المعالي محمد بن جعفر ، هاشمي من بني موسى الجون ، حسني علوي ، قيل بأنه مات سنة ٤٨٧. انظر عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ، لأحمد بن علي الداودي. ط. بيروت دار الحياة : ١١١ ـ ١١٢.

٢٠٥

وفيها توفي الإمام أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن الحنبلي رحمه‌الله ، في يوم الأحد الثامن والعشرين من ذي الحجة بدمشق ، وكان وافر العلم متين الدين حسن الوعظ ، محمود السمت (١).

سنة سبع وثمانين وأربعمائة

في هذه السنة ورد الخبر من العراق بوفاة الخليفة الإمام المقتدي بأمر الله ، أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله ، أمير المؤمنين ، فجأة في ليلة السبت انتصاف المحرم ، وعمره ثمان وثلاثون سنة وتسعة أشهر وأيام ، مولده ليلة الأربعاء الثاني ، ويقال الثامن من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ، وكانت مدة خلافته تسع عشرة (٢) سنة ، وخمسة أشهر ، وكان حسن السيرة ، جميل السريرة ، وولي الأمر بعده وليّ عهده ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله أمير المؤمنين بن المقتدي بالله أمير المؤمنين ، وبويع له بالخلافة بعد أبيه في يوم الثلاثاء الثامن عشر من المحرم من السنة ، واستقام له الأمر ، وانتظمت بتدبيره الأحوال على قبض السداد ، وكنه المراد ، وعند ذلك قبض على أخوته واعتقلهم عنده ، وكان السلطان بركيارق عند وفاة المقتدي بالله رحمه‌الله مقيما ببغداد ، وبقي فيها مقيما إلى آخر السنة.

وفي شهر ربيع الآخر منها برز السلطان تاج الدولة من دمشق في العسكر ، وتوجه إلى الشام ، وقطع العاصي في شهر ربيع الآخر (٦٩ و) ، وتقدم إلى العسكرية برعي الزراعات ، ونهب المواشي والعوامل ، ولما اتصل الخبر بذاك

__________________

(١) ترجم له سبط ابن الجوزي في وفيات سنة / ٤٨٦ / وقال أنه هو الذي نشر المذهب الحنبلي في دمشق ، ودفن بالباب الصغير.

(٢) يمكن الربط بين حوادث وفاة كل من نظام الملك ، وملكشاه ، والخليفة المقتدي ، وذلك على أرضية الصراعات بين هؤلاء الأقطاب. انظر مدخل إلى تاريخ الصليبية : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٢٠٦

الى قسيم الدولة صاحب حلب ، شرع في الجمع والاحتشاد ، والتأهب لدفعه والاستعداد ، وأجمع على لقائه ، وانتهى الخبر الى تاج الدولة بذاك ، ووصول بزان صاحب الرها إليه في عسكره ، لإسعاده عليه ، وانجاده ، وكذلك وصول كربوقا صاحب الموصل ويوسف [بن آبق](١) صاحب الرحبة في ألفين وخمسمائة فارس ، وحصول الجميع في حلب لمعونته ومؤازرته ، فرحل من منزله بكفر حمار (٢) الى الحانوتة ، ثم منها الى الناعورة ، وغارت الخيل على المواشي بها ، وأحرقوا بعض زرعها ، ورحل منها إلى ناحية الوادي [وادي بزاعا](٣) ورحل قسيم الدولة في جمعه من العسكر ، وتقديره نحو من عشرين ألفا ، وزيادة على ذلك ، لكنهم (٤) في أحسن زي وهيئة ، وأتم آلة وعدة وقطع سواقي نهر سبعين (٥) قاصدا عسكر تاج الدولة ، وكان بروزه من حلب في يوم الجمعة الثامن من جمادى

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين توضيحا. انظر مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٢) كذا في الأصل ، ولم أجد هذا الموقع في أي من المصادر الجغرافية على كثرتها ، هذا ولاحظت في ترجمة آق سنقر في بغية الطلب أن ابن العديم ينقل رواية مطابقة لرواية ابن القلانسي مع فرق ببعض التفاصيل فقط ، ولم يذكر ابن العديم هذا الموقع ، ونقل ابن العديم عدة روايات حول المعركة بين تتش وآق سنقر وناقش متون بعض الروايات وانتهى إلى القول بأن المعركة كانت بموقع اسمه «كارس» من أرض نقرة بني أسد قرب نهر اسمه سبعين. انظر مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٠ ـ ٢٧٥. الباهر في الدولة الأتابكية. ط. القاهرة ١٩٦٣ : ١٥.

(٣) زيد ما بين الحاصرتين من رواية ابن العديم ـ انظر الحاشية السابقة ـ مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٧٢.

(٤) كذا في الأصل ، ويحتمل أنها تصحيف صوابه «كلهم».

(٥) في الأصل «سفيان» وهي تصحيف صوابه ما أثبتنا ، وقال ابن العديم أن سبعين «قرية من قرى حلب من نقرة بني أسد على نهر الذهب» وعلى هذا فالنهر هو نهر الذهب الذي يصب بمملحة الجبول ، والموقع هو قرية سبعين حيث تمر بعض سواقي هذا النهر. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٧١.

٢٠٧

الأولى من السنة ، والتقى الفريقان غداة يوم السبت تاليه عقيب اقتران المريخ وزحل في برج الأسد ، المقدم ذكره بخمسة أيام ، وكان عسكرا كربوقا وبزان لم يتمكنوا من قطع بعض السواقي ، فأقاموا على حالهم (١) ، ولم يثق بمن كان معه من العرب ، فنقلهم في وقت المصاف من الميمنة إلى المسيرة ، ثم جعلهم في القلب فلم يغنوا شيئا ، فنصر الله تعالى تاج الدولة وعسكره عليهم ، فانهزمت العرب وعسكر كربوقا وبزان عند الحملة وعسكر يوسف ، وتحكمت السيوف فيهم ، وأسر قسيم الدولة آق سنقر صاحب حلب وأكثر أصحابه ، وحين أحضروا بين يدي السلطان تاج الدولة (٢) ، فأمر بضرب عنق قسيم الدولة ومن اتفق من أصحابه فقتلوا وتوجه أكثر الفلّ إلى حلب ، واجتمعوا بأهل البلد والأحداث ، وتقرر بينهم الاعتصام بحلب ، والاستنجاد بالسلطان بركيارق ، فوصل تاج الدولة في الحال إلى حلب ، وقد اختلفت الآراء فيها بينهم ، وحاروا فيما يعملون عليه ، فوثب جماعة منهم لم يوبه لهم ، وكسروا باب البلد ، ونادوا بشعار تاج الدولة ، فدخل الأمير وثاب بن محمود بن صالح البلد في مقدمته ، وبادر الوالي (٣) المقيم بقلعة الشريف التي قبلي حلب ، بالظهور إلى تاج الدولة ، ومن باب منها دخل تاج الدولة ، ونزل إليه رسول الأمير نوح صاحب (٦٩ ظ) قلعة حلب وزوجته ، وتوثّقا منه وأخذا الأمان له من تاج الدولة ، وعادا إليه وأعلماه بما كان من تقرير الحال ، وأخذ الأمان ،

__________________

(١) كذا والصواب بالتثنية.

(٢) صيغة الجملة هكذا توحي بوجود سقط ، هذا وذكرت المصادر التي تحدثت عن هذه الواقعة بأن «تاج الدولة تتش قال لقسيم الدولة لما حضر بين يديه : لو ظفرت بي ما كنت صنعت؟ قال : كنت أقتلك ، فقال له تتش : فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي» فأمر ....

(٣) في الأصل : «وبادر إلى المقيم» وإلى إما زائدة ، وإما ـ كما رجحت ـ جزء من كلمة ، ففي زبدة الحلب : : ٢ / ١١٧ «ودخل وثاب بن محمود في مقدمة أصحاب تاج الدولة إلى حلب ، وسكن البلد ، فنزل الوالي بقلعة الشريف ، وسلهما إلى تاج الدولة فدخلها».

٢٠٨

فسلمها إليه ، وحصل بها في يوم الاثنين الحادي عشر من جمادى الأولى ، وسلمت جميع الحصون إليه من الشام ، وكان بزان صاحب الرها في جملة من أسر في الوقعة ، فتقدم تاج الدولة بقتله ، فضربت عنقه صبرا ، وكذلك الأمير كربوقا صاحب الموصل ، كان قد أسر في الوقعة فاعتقل بحلب إلى أن تقرر أمر حلب ورتبت النواب والمستحفظون فيها وقرر أمره.

ورحل السلطان تاج الدولة عن حلب في العسكر إلى ناحية الفرات ، وقطعه وقصد حرّان فاستعادها ، وكذلك سروج والرها ، وقصد ديار بكر ، وعدل عن طريق السلطان بركيارق ، لأنه كان نازلا بأرض الموصل ، طالبا لخاتون زوج السلطان ملك شاه والدة أخيه محمود ، وكانت مستولية على أصفهان وجميع الأموال ، لمكاتبات ومراسلات ترددت بينهما في معنى الوصلة بينها وبينه ، واستقر الملك له ولها ، وكانت قد منعت السلطان بركيارق التصرف في تلك الأعمال والتقود فيها.

وفي هذا الوقت حدثت زلازل في يوم وليلة دفعات لم يسمع بمثلها ، في كل زلزلة منها تقيم وتطول بخلاف ما جرت بمثله العادة.

ورحل تاج الدولة عقيب ذلك ، ولم يتمكن من الاتمام على سمته ، وعرفت خاتون الخبر ، فخرجت من أصفهان في عسكرها للقاء تاج الدولة ، فعرض لها في طريقها مرض حاد ، فتوفيت وتفرق عسكرها إلى جهة السلطان بركيارق والى غيره ، وحين عرف بركيارق ذاك سار في الحال إلى أصفهان ، فدخلها وملكها ، وقد كان أهلها أشرفوا على الهلاك لفرط الغلاء بها وعدم الأقوات فيها ، ووصل من عسكر خاتون إلى تاج الدولة خلق كثير ، وكذلك من عسكر بركيارق ، فتضاعفت عدته ، وقويت شوكته ودعي له على منابر بغداد ، ووصل إلى همذان ، وكاتب ولده فخر الملوك رضوان بدمشق يأمره

٢٠٩

بالمسير إليه في من بقي من الأجناد في الشام ، فسار إلى حلب ، ومن حلب الى العراق ، ومعه الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق ، والأمير وثاب بن محمود بن صالح ، وجماعة من أمراء العرب وأتراك حلب القسيمية (١) ، وتوجه صوب بغداد على الرحبة في أول سنة سبع وثمانين وأربعمائة.

وفي هذه (٧٠ و) السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بمرض أمير الجيوش بدر ، المستولي على أمرها ، وأنه أسكت في مرضه هذا ، ودام به إلى أن اشتد في جمادى الأولى منها ، وتوفي في العشر الأول منه ، وقد كان الأمر تمهد لولده الأفضل ، واستقامت حاله مع المقدمين وسائر الأجناد والعساكرية قبل وفاته ، وأطاعوا أمره ، وعملوا برأيه ، وقيل ان وفاة أمير الجيوش كانت في جمادى الأولى.

وفي هذه السنة أيضا وردت الأخبار من ناحية مصر بمرض الامام المستنصر بالله أمير المؤمنين في العشر الثاني من ذي الحجة ، وإن المرض اشتد به ، وتوفي إلى رحمة الله في ليلة عيد الغدير ، الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة (٢) ، وعمره سبع وستون سنة وستة أشهر ، ومولده سنة

__________________

(١) نسبة إلى قسيم الدولة أق سنقر.

(٢) تذكر مختلف المصادر أن المستنصر أوصى بالامامة من بعده لابنه نزار ، ذلك أنه كان أكبر أولاده ، ولم ينفذ الأفضل أمير الجيوش وصية المستنصر ، واختار المستعلي ، لأنه كان ضعيفا وبلاد سند ، وزوجه أخته ، وفرضه اماما ، وأدى هذا الى فرار نزار الى الاسكندرية حيث حورب وقضي عليه ، والأهم من ذلك أن اسماعيلية ايران وغالبية الشام وأراضي المشرق رفضوا الاعتراف بإمامة المستعلي ، مما أدى الى انشطار الدعوة الاسماعيلية الى : نزارية ومستعلية ، وعرف النزارية فيما بعد باسم الحشيشية ، أو أتباع الدعوة الاسماعيلية الجديدة التي أسسها حسن الصباح. انظر الدعوة الاسماعيلية الجديدة : ٤٨ ـ ٥٠ ، ٦٤.

٢١٠

عشرين وأربعمائة ، ونقش خاتمه «بنصر السميع العليم ينتصر الامام أبو تميم» ومدة أيام دولته ستون سنة وأربعة أشهر ، وكان حسن السيرة ، جميل السريرة ، محبا للعدل والانصاف ، ومني في أكثر عمره من الأجناد بالعناد والاختلاف ، وولي الأمر بعده ولده أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله ، ولقب بالمستعلي بالله أمير المؤمنين ، وأخذ له البيعة على الأمراء والمقدمين من الأجناد والعسكرية ، وأعيان الرعية ، الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش ، ونصبه في منصب أبيه المستنصر بالله ، واستقامت به الأحوال وانتظمت على غاية الايثار والآمال.

وخرج أخواه من مصر خفية : عبد الله ونزار ابنا المستنصر بالله ، فقصد نزار منهما الاسكندرية ، وحصل مع نصر الدولة واليها ، وكان من أكابر الغلمان الجيوشية ، الذين عوّل عليهم أمير الجيوش على إقامته في الأمر من بعده دون ولده.

فاستحكم الخلف بينه وبين الأفضل ، وجرت بينهما حروب ووقائع ، أسفرت عن ظفر الأفضل به ، واستقام له الأمر من بعده ، وصلحت أحوال مصر وأعمالها ، واستقامت بعد اضطرابها واختلالها.

وأما ما يتعلق بمعرفة أحوال السلطان تاج الدولة ، فإنه تمّ في رحيله إلى مدينة الري ، فنزل عليها وضايقها وملكها ، واستولى على البلاد والأعمال والمعاقل من الشام والى الريّ ، وكان قد أنهض عسكرا مع بني عقيل ونمير إلى أعمال بني عقيل ، فاستولوا عليها ما خلا الموصل ، وساءت سيرة الأتراك في الأعمال (٧٥ ظ) وشملها منهم ما عاد عليها بالفساد وسوء الحال ، وأنفذوا مواشي أهلها وأموالهم ، واستغرقوا بالنهب وارتكاب الظلم أحوالهم ، وأجلوهم عن منازلهم في زمن الشتاء وشدة البرد وسقوط الجليد.

٢١١

وبرز السلطان بركيارق من أصفهان في العسكر ، وقصد جهة عمّه السلطان تاج الدولة ، وخاف تاج الدولة من أهل الري أن يخامروا عليه إن أقام ، فرحل عنها ، ونزل في منزل على أربعة فراسخ منها ، ووصل السلطان بركيارق في عساكره وخيم بإزائه ، وحالت بينهما طوالع الفريقين ، وتأهب كل منهما للقاء صاحبه ، ورتبت المصافات للحرب ، والتقى الفريقان في اليوم السابع عشر من صفر سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، فانفلّ عسكر السلطان تاج الدولة ، وتفرّق ونهب سواده وأثقاله ، وأسر أكثره ، وقتل منه الخلق الكثير واستشهد تاج الدولة رحمه‌الله في الجملة ، وقتله (١) بعض أصحاب قسيم الدولة آق سنقر ، صاحب حلب ، بعد اصطناعه إياه وتقريبه له ، وحمل رأسه وطيف به في العسكر ، ثم حمل الى بغداد ، وطيف به فيها.

سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

فيها ورد الخبر الى الملك فخر الملوك رضوان بن تاج الدولة باستشهاد أبيه تاج الدولة ، وانفلال عسكره ، وهو نازل في عانة على الفرات في عسكره يريد الإتمام إلى بغداد ، ثم المصير إلى أبيه تاج الدولة ، حين استدعاه الى الوصول إليه ، فاضطرب لذاك وقلق ، وخاف من وصول من يطلبه ، فحطّ مضاربه في الحال ، وقوضت خيام العسكر في الوقت ، ورحل مجدّا في سيره في نفر من سرعان خيله وغلمانه ، وترك باقي عسكره من ورائه ، ولم يزل مغذا في قصده إلى أن دخل حلب ، وفتح الوزير أبو القاسم (٢) النائب في القلعة أبوابها ، وأصعده إليها ، وأخذوا الأهبة لمن يقصدها.

__________________

(١) في الأصل «وقتل» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

(٢) في بغية الطلب لابن العديم ترجمة جيدة لرضوان بن تتش جاء فيها : «فوصل إلى حلب وتسلمها من وزير أبيه أبي القاسم بن بديع ، في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، وتولى حسين زوج أمه تدبير ملكه». مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٨٧.

٢١٢

ووصل إليه من الفلّ أخوه شمس الملوك دقاق (١) ابن السلطان تاج الدولة ، من ناحية ديار بكر ، وجماعة من خواص عسكره المفلول ، وأقام بحلب مدة يسيرة ، وراسله الأمير ساوتكين الخادم المستناب في القلعة والبلد ، وقرّر له ملكة دمشق سرّا ، فخرج في الحال من حلب من غير أن يعلم به أحد ، وجد في سيره ليله ونهاره ، فلما عرف الملك فخر الملوك خبره (٧١ و) أنهض عدة من الخيل في إثره ، ففاتهم ولم يعرفوا له خبرا ، ولا وجدوا له أثرا ، ووصل إلى دمشق وحصل بها وأجلسه ساوتكين في منصب أبيه السلطان تاج الدولة ، وأخذ له العهد على الأجناد والعسكرية ، واستقام له الأمر ، واستمرت (٢) على السداد الأحوال.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية الحجاز بأن الأمير أصفهذ وصل إلى مكة في أربعمائة فارس من التركمانية ، فقاتل أهلها فقهرهم ، وملكها وقتل خلقا كثيرا من حرابتها من أصحاب ابن أبي شيبة ، وانهزم ابن أبي شيبة ، وجميع الأشراف من مكة ، وحصل بها وأقام بها مديدة يسيرة ورحل عنها.

وفي هذه السنة وردت الأخبار بخلاص الأمير ظهير الدين طغتكين أتابك من اعتقاله عقيب الكسرة التاجية ، وتوجه عائدا إلى دمشق ، وخرج صاحبه السلّار حصن الدولة بختيار شحنة دمشق نحوه لتلقيه والعود في خدمته ، وقد كان هذا الأمير المذكور في حداثة سنة ونضارة غصنه ، قد حظي عند السلطان الشهيد تاج الدولة ، ورشحه يحجبه وقدمه على أبناء جنسه من خواصه

__________________

(١) في حاشية الأصل : قلت : دقاق وكنيته أبو نصر ، ويقال فيه تقاق أيضا بالتاء. وهذا صحيح فالاسم أصلا بالتركية يلفظ أولا بحرف وسط بين التاء والدال ، لذلك وجد من عربه بدال ومن عربه بتاء ، وهذه الحال نجدها في غالبية المصادر.

(٢) في تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة قصيرة لدقاق نشرتها في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٨٦.

٢١٣

وبطانته ، وسكن إلى شهامته وصرامته وسداد طريقته ، وردّ إليه بعد ذلك ما أنس منه الرشد وحسن التدبير في الصدر والورد ، والاسفهلارية على عسكريته واستنابه في تدبير أمر دمشق ، وحفظها أيام غيبته ، فأحسن السيرة فيها ، وأنصف الرعية من أهلها ، وبسط المعدلة في كافة من بها ، فكثر الدعاء له والثناء عليه ، فعلت منزلته وامتثلت أوامره وأمثلته ، ولم يلبث أن شاع ذكره بنجابته ، وأشفقت النفوس من هيبته ، فولاه ميافارقين من ديار بكر وهي أول ولايته (١) وسلم إليه ولده الملك شمس الملوك دقاق ، واعتمد عليه في تربيته وكفالته ، فساس أمرها بالهيبة والتدبير ، وأصلح فاسدها في أقرب أوان ومدة ، ونكا في جماعة من مقدميها ، ووجوه أهلها حين عرف منهم خيانة ومخامرة نكاية قامت بها الهيبة ، واستقامت معها أمور الرعية ، وتنقلت به الأحوال إلى أن توجه مع السلطان تاج الدولة إلى الري ، وشهد الوقعة التي استشهد فيها تاج الدولة ، وحصل في قبضة الاعتقال ، مع من أسر من المقدمين وأقام مدة إلى أن أذن الله في الخلاص (٧١ ظ) وصل إلى دمشق في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، فتلقاه الملك شمس الدولة دقاق وعسكره وأرباب دولته ، وبولغ في إكرامه واحترامه ، وردّ إليه النظر في الاسفهسلارية ، واعتمد عليه في تدبير المملكة وسياسة البيضة ، واقتضت الحال فيها بينه وبين الملك وأمراء الدولة العمل على الأمير ساوتكين ، والايقاع به ، وتمم عليه الأمر ، وقتل وعقدت الوصلة بينه وبين ظهير الدين أتابك وبين الخاتون صفوة الملك والدة الملك شمس الملوك دقاق ، ودخل بها ، واستقامت له الحال بدمشق ، وأحسن السيرة فيها ، وأجمل في تدبير أهليها ، وبالغ في الذب عنها ، والمراماة دونها ، وسكنت نفس الملك شمس الملوك إليه ، واعتمد في التدبير عليه.

__________________

(١) انظر تاريخ ميافارقين : ٢٣٧ ـ ٢٤٥.

٢١٤

وقد كان الملك فخر الملوك رضوان بن تاج الدولة صاحب حلب مائلا الى دمشق ، ومحبا لها ، ومؤثرا للعود إليها ، ولا يختار عليها سواها ، لمعرفته بمحاسنها ، وترعرعه فيها ، فجمع وحشد واستنجد بالأمير سكمان بن أرتق ، وبرز طالبا لدمشق والنزول عليها ، وانتهاز الفرصة فيها.

وقد كان الملك شمس الملوك دقاق والعسكر مع الأمير يغي سغان ، والأمير نجم الدين ايل غازي قد غابوا عن دمشق في هذا الوقت ، فوصل الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب في عسكره ، ونزل بظاهر البلد في سنة تسع وثمانين وأربعمائة وزحف في العسكر لقتالها ، وكان في البلد وزير الملك شمس الملوك زين الدولة محمد بن الوزير أبي القاسم ، ونفر قليل من العسكرية ، وانضاف إليهم جماعة من الأجناد وأهل البلد ، وأغلقت الأبواب وارتكبت الأسوار ، وصاحوا ورشقوهم بالسهام ، وكانوا قد بلغوا في الزحف إلى سوق الغنم ، وقربوا من السور وباب الصغير ، وطلب جماعة من العسكرية وأحداث البلد الخروج إليهم ، والدفع لهم عن البلد ، فمنعهم السلار بختيار شحنة البلد ، والرئيس أمين الدولة أبو محمد بن الصوفي رئيس البلد من الخروج ، وقاتلوهم على الأسوار ومنعوهم من الوصول إليها ، واتفق الأمر المقتضى أن حجز المنجنيق وقع في رأس حاجب الملك رضوان وهو قائم يحرض على الحرب فقتله ، فسكنت الحرب واشتغلوا بأمره ، وعادوا إلى مخيمهم لأجله ، ولم يتم لهم أمر ، ولا تسهل لهم غرض ، وبلغهم أن الملك شمس الملوك عائد (٧٢ و) في العسكر إلى دمشق ، فرحل في العسكر عائدا إلى حلب ، خائبا في الأمر الذي طلب ، وطلب في رحيله ناحية مرج الصفر ، وطلب حوران ، فعاث العسكر في أطرافها ، وطلب التوجه إلى بيت المقدس ، وعاد شمس الملوك دقاق لما انتهى إليه الخبر في العسكر ، ووصل الى دمشق ، وتبع عسكر الملك رضوان على إثره ، فوصل وتقارب المدى بين الفريقين ، وفصل الملك رضوان منكفئا إلى حلب ، فوصل إليها في آخر ذي الحجة من السنة.

٢١٥

سنة تسع وثمانين وأربعمائة

فيها وصل خلف بن ملاعب ، الذي كان السلطان ملك شاه أبو الفتح أخذه من حمص ، عند أخذها منه ، واعتقله بأصفهان (١) ، وأطلق عند وفاة السلطان المذكور ، وتوجه إلى مصر.

وفيها ورد الخبر بوفاة أبي مسلم وادع بن سليمان ، قاضي معرّة النعمان ، والمستولي عليها في آخر صفر منها ، وكان له همة مشهورة ، وطريقة في اليقظة مشكورة.

وفيها انكفأ الأمير يغي سغان منفصلا عن الملك شمس الملوك دقاق إلى بلده أنطاكية ، في المحرم منها.

سنة تسعين وأربعمائة

في مستهل شهر ربيع الأول منها اجتمع ستة كواكب في برج الحوت وهي : الشمس ، والقمر ، والمشتري ، والزهرة ، والمريخ ، وعطارد ، وذكر أهل صناعة النجوم أنهم لم يعرفوا اجتماع هذه الكواكب في برج ، في قديم الزمان وحديثه ، ولا سمعوا ذاك.

وفي شعبان منها ورد الخبر بأن الأمير جناح الدولة حسين أتابك الملك فخر الملوك رضوان بحلب ، استوحش من الملك استيحاشا خاف معه على نفسه ، وكان زوج والدته ، ففصل عن حلب منكرا لما تم في أمره ، وكان أمر التدبير إليه والمعتمد في الحل والعقد فيها عليه ، ووصل إلى حمص في عسكره وخواصه ، وكان قراجة نائبه فيها ، فسلمها إليه ، وحصل بها ، وشرع في تحصينها ، والإحكام لجهات قلعتها ، ونقل أهله إليها ، وأمن على نفسه

__________________

(١) كذا ، وسبق أن ذكر المؤلف أن تتش هو الذي أخذ ابن ملاعب ، وقد علقنا على ذلك. انظر ص ١٩٨.

٢١٦

باستقراره بها (١) ، ووصل عقيب انفصاله الأمير يغي سغان من أنطاكية إلى حلب وشرع في التدبير والتقرير بها ، والأمر والنهي في عسكريتها وأهليها ، وبرز الملك رضوان ويغي سغان من حلب في (٧٢ ظ) العسكر إلى ناحية شيزر ، عازما على الاحتشاد ، والتأهب والاستعداد لمعاودة النزول على دمشق ، فأقاموا على شيزر تقدير شهر ، ووقع الخلف بين مقدمي العسكر ، فتفرقوا وعاد كل منهم إلى مكانه ، وعاد الملك إلى حلب.

وفي هذه السنة ورد على فخر الملوك رضوان كتاب المستعلي بالله صاحب مصر مع رسوله ، يلتمس منه الدخول في طاعته ، وإقامة الدعوة لدولته ، وكذلك كتاب الأفضل يتضمن مثل هذه الحال ، فأجابهما إلى ما التمساه ، وأمر بأن يدعى للمستعلي على المنبر ، وللأفضل بعده ، ولنفسه بعده ، وأقامت الخطبة على هذه القضية تقدير أربع جمع ، وكان الملك رضوان قد بنى الأمر في ذلك على الاجتماع مع العسكر المصري ، والنزول على دمشق لأخذها من أخيه الملك دقاق ، فوصل الأمير سكمان (٢) بن أرتق ويغي سغان صاحب أنطاكية إلى حلب ، وأنكرا على الملك الدخول في هذا الأمر ، واستبدعاه من فعله ، وأشارا عليه بإبطاله وإطراح العمل به ، فقبل ما أشير به إليه وأعاد الخطبة الى ما كانت عليه.

وفي أول شهر ربيع الأول من السنة ، وردت الأخبار بخروج العسكر المصري من مصر ، ونزوله على ثغر صور عند ظهور عصيان واليه المعروف بالكتيلة ، وخروجه عن الطاعة ، والايثار للخلف والعدول عن المخالصة في الخدمة والعود للمبايعة ، ولم يزل العسكر منازلها ومضيقا عليها إلى أن

__________________

(١) لجناح الدولة ترجمة مفيدة في بغية الطلب لابن العديم ، نشرتها في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٧٦ ـ ٣٧٩.

(٢) في الأصل : شكماز ، وهذا تصحيف واضح صوابه ما أثبتناه.

٢١٧

افتتحها بالسيف قهرا ، وقتل فيها الخلق الكثير ، ونهب منها المال الجزيل ، وأخذ الوالي أسيرا من غير أمان ولا عهد ، وحمل إلى مصر ، فقتل بها.

وفي هذه السنة كان مبدأ تواصل الأخبار بظهور عساكر الأفرنج من بحر القسطنطينية ، في عالم لا يحصى عدده كثرة ، وتتابعت الأنباء بذلك ، فقلق الناس لسماعها وانزعجوا لاشتهارها ، وصحت الأخبار بذاك عند الملك (داود بن) سليمان بن قتلمش وكان أقرب إليهم دارا ، فشرع في الجمع والاحتشاد ، وإقامة مفروض الجهاد ، واستدعى من أمكنه من التركمان للاسعاد عليهم والانجاد ، فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكثير ، وقويت بذاك نفسه ، واشتدت شوكته فزحف إلى معابرهم ومسالكهم وسبلهم (٧٣ و) فأوقع بكل من ظفر به منهم ، بحيث قتل خلقا كثيرا ، وعادوا إليه ، واستظهروا عليه ، وكسروا عسكره ، فقتلوا منهم وأسروا ونهبوا وسبوا ، وانهزم التركمان بعد أخذ أكثر دوابهم ، واشترى ملك الروم من السبي خلقا كثيرا ، وحملهم إلى القسطنطينية ، وتواصلت الأخبار بهذه النوبة المستبشعة في حق الاسلام ، فعظم القلق ، وزاد الخوف والفرق ، وكانت هذه الوقعة لعشر بقين من رجب.

وفي النصف من شعبان توجه الأمير يغي سغان صاحب أنطاكية والأمير سكمان بن أرتق والأمير كربوقا في العسكر إلى أنطاكية ، وقد وردت الأخبار بقرب الافرنج منها ، ونزولهم البلانة (١) وخفّ يغي سغان إلى أنطاكية ، وسيّر ولده الى دمشق إلى الملك دقاق ، والى جناح الدولة بحمص ، وإلى سائر البلاد والأطراف بالاستصراخ والاستنجاد ، والبعث على الخفوف إلى الجهاد ، وقصد تحصين أنطاكية ، وإخراج النصارى منها.

وفي اليوم الثاني من شوال نزلت عساكر الأفرنج على بغراس وأغاروا (٢)

__________________

(١) كذا في الأصل ولم أجدها في المظان الجغرافية وسواها.

(٢) كذا بالأصل ، والأصح «وأغارت».

٢١٨

على أعمال أنطاكية ، فعند ذلك عصى من كان في الحصون والمعاقل المجاورة لأنطاكية (١) ، وقتلوا من كان فيها وهرب من هرب منها وفعل أهل أرتاح (٢) مثل ذلك ، واستدعوا المدد من الأفرنج ، وفي شعبان ظهر الكوكب ذو الذؤابة من الغرب وأقام طلوعه تقدير عشرين يوما ، ثم غاب ، فلم يظهر ، وكان قد نهض من عسكر الافرنج فريق وافر يناهز ثلاثين ألفا ، فعاثوا في الأطراف ووصلوا إلى البارة (٣) وقتلوا فيها تقدير خمسين رجلا ، وكان عسكر دمشق وصل إلى ناحية شيزر لانجاد يغي سغان ، فلما نزلت هذه الفرقة المذكورة على البارة ، نهضوا نحوهم ، وتطاردوا وقتل منهم جماعة ، وعاد الافرنج إلى الرّوج (٤) ، وتوجهوا إلى أنطاكية ، وغلا سعر الزيت والملح ، وغير ذلك ، وعدم في أنطاكية ، وتواصل ذلك إليها سرقة ، فرخص فيها ، وجعل الأفرنج بينهم وبين أنطاكية خندقا لكثرة الغارات عليهم من عسكر أنطاكية ، وقد كان الأفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه ، ففتحوا نيقية وهي أول مكان فتحوا ، فلم يفوا له بذلك ولا سلموها إليه على الشرط (٥) ، وافتتحوا في طريقهم بعض الثغور والدروب.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من (٧٣ ظ) ناحية حلب بفساد حال رئيسها المعروف بالمجن لما كان عليه من التمكن والغلبة على الأمر ، وارتكاب

__________________

(١) كثيرون من سكان المنطقة كانوا من غير المسلمين ، من الأرمن.

(٢) حصن منيع في منطقة الثغور كان من أعمال حلب. معجم البلدان.

(٣) مدينة كانت ذات شهرة كبيرة ، فيها آثار كثيرة ، وتتبع البارة اداريا لمنطقة أريحا في محافظة ادلب في سورية.

(٤) من كور حلب المشهورة في غربيها بينها وبين المعرة. معجم البلدان.

(٥) إن الأميرة آناكومينا أفضل من تحدث عن وصول حشود الصليبيين إلى القسطنطينية ووصف علاقاتهم بالامبراطور ألكسيوس كومنين ، ثم قص خبر سقوط نيقية ، وكيف آلت ملكيتها إلى البيزنطيين ، وقد أودعت هذا كله في كتابها عن حياة أبيها الذي حمل عنوان «الألكسياد». انظر ترجمته إلى الانكليزية ـ ط. لندن : ١٩٦٧ ، ص : ٢٤٨ ـ ٢٧٨.

٢١٩

الظلم ، بحيث قبض عليه ، ونهبت داره ، وقتل مع من قتل من أولاده ، واستؤصلت شأفته ، وذلك مجازاة الساعي في قتل النفوس ، وسفك الدماء ، وما هي من الظالمين ببعيد ، وذلك في ذي القعدة (١).

وفي هذه السنة استوزر الملك رضوان أبا الفضل بن الموصول (٢) ، ولقب مشيّد الدين ، بحلب.

سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

في آخر جمادى الأولى منها ورد الخبر بأن قوما من أهل أنطاكية من جملة الأمير يغي سغان من الزرّادين عملوا على أنطاكية وواطوا الافرنج على تسليمها إليهم لإساءة تقدمت منه في حقهم ومصادرتهم ، ووجدوا الفرصة في برج من أبراج البلد ، مما يلي الجبل باعوه للأفرنج ، وأطلعوهم إلى البلد منه في الليل (٣) ، وصاحوا عند الفجر ، فانهزم يغي سغان ، وخرج في خلق عظيم ، فلم يسلم منهم شخص ، ولما حصل بالقرب من أرمناز ، ضيعة بقرب من معرة مصرين ، سقط عن فرسه على الأرض ، فحمله بعض أصحابه وأركبه ، فلم يثبت على ظهر الفرس ، وعاود سقط ، فمات رحمه‌الله.

وأما أنطاكية ، فقتل منها وأسر وسبي من الرجال والنسوان والأطفال ما لا يدركه حصر ، وهرب إلى القلعة تقدير ثلاثة آلاف تحصنوا بها ، وسلم من كتب الله سلامته.

__________________

(١) كان المجن الفوعي مقدما لأحداث حلب ، اصطدم برضوان بن تتش ، انظر تفصيل هذا في كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٢) هو هبة الله بن عبد القاهر بن الموصول ، وكان الوزير قبله هبة الله بن محمد بن بديع. زبدة الحلب : ٢ / ١٣٨.

(٣) انظر مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٣٧.

٢٢٠