تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وانعقد الأمر بينهما على السداد ، واستقامت الأحوال على المراد ، وأمنت السابلة للمترددين والتجار والسفار الواردين من جميع (١٠٣) الأقطار ، وتوفي رحمه‌الله في عاشر شوال سنة سبع وخمسمائة وقد كان صاحب أنطاكية لما فصل عن الملك بغدوين بعسكره عائدا الى أنطاكية فسخ عنه ولد الملك تكش بن السلطان ألب أرسلان ، وقصد صور ، وأنفذ الى ظهير الدين أتابك في الوصول الى دمشق ، فأجابه بالاعتذار الجميل والاحتجاج المقبول ، ودفعه أحسن دفع ، فلما أيسه توجه الى مصر ، ولقي من الأفضل ما أحب من الإكرام والمزيد من الإحترام والإنعام وإطلاق ما يعود إليه بصالح الحال ، وتحقيق الآمال.

وفي جمادى الآخرة وردت الأخبار من ناحية حلب بمرض عرض للملك فخر الملوك رضوان صاحبها ، وأنه أقام به ، واشتد عليه ، وتوفي رحمه‌الله في الثامن والعشرين من الشهر ، فاضطرب أمر حلب لوفاته ، وتأسف أصحابه لفقده ، وقيل أنه خلف في خزانته من العين والعروض والآلات والأواني تقدير ستمائة ألف دينار ، وتقرر الأمر بعده لولده ألب أرسلان وعمره ست عشرة سنة ، وفي كلامه حبسة وتمتمة ، وأمه بنت الأمير يغي سغان صاحب أنطاكية ، وقبض على جماعة من خواص أبيه ، فقتل بعضا ، وأخذ مال بعض ، ودبّر الأمر معه خادم أبيه لؤلؤ ، فأساء كل واحد منهما التدبير ، وقبض على أخويه ملك شاه من أمه وأبيه ، ومبارك من أبيه وجارية ، وقتلهما (١).

وقد كان أبوه الملك رضوان في مبدأ أمره فعل مثل فعله بقتل أخويه من تاج الدولة : أبي طالب وبهرام شاه ، وكانا على غاية من حسن الصورة ، فلما توفي كان ما فعل بولديه مكافأة عما اعتمده في أخويه.

__________________

(١) في بغية الطلب لابن العديم ترجمة لكل من رضوان بن تتش وابنه ألب أرسلان الأخرس ، وسبق لي نشرهما في ملاحق كتابي مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٩٤ ـ ٢٩٧ ، ٣٨٧ ـ ٣٩٦.

٣٠١

وكان أمر الباطنية قد قوي بحلب ، واشتدت شوكتهم بها ، وخاف ابن بديع رئيس الأحداث بحلب وأعيان البلد منهم ، لكثرتهم وشد بعضهم من بعض ، وحماية من يلجأ إليهم منهم لكثرتهم ، وكان الحكيم المنجم وأبو طاهر الصائغ أول من أظهر هذا المذهب الخبيث بالشام ، في أيام الملك رضوان ، واستمالا إليه بالخدع والمحاولات ، ومال إليهم خلق كثير من الإسماعيلية بسرمين (١) والجزر وجبل السّمّاق وبني عليم ، فشرع ابن بديع رئيس حلب في الحديث مع الملك ألب أرسلان بن رضوان في أمرهم ، وقرر الأمر معه على الايقاع بهم ، والنكاية فيهم ، فقبض على أبي طاهر (١٠٤ و) الصائغ ، وعلى كل من دخل في هذا المذهب ، وهم زهاء مائتي نفس ، وقتل في الحال أبو طاهر الصائغ ، واسماعيل الداعي ، وأخو الحكيم المنجم والأعيان المشار اليهم منهم ، وحبس الباقون واستصفيت أموالهم ، وشفع في بعضهم ، فمنهم من أطلق ، ومنهم من رمي من أعلى القلعة ، ومنهم من قتل ، وهرب جماعة أفلتوا إلى الأفرنج ، وتفرقوا في البلاد.

ودعت الملك ألب أرسلان الحاجة إلى من يدبر أمره ، ويثقف أوده ، فوقع اختياره على ظهير الدين أتابك ، صاحب دمشق ، فراسله في ذلك ، وألقى مقاليده إليه واعتمد في صلاح أحواله عليه ، وسأله الوصول إلى حلب ، والنظر في مصالحها ، وأوجبت الصورة أن خرج الملك نفسه في خواصه ، وقصد أتابك في دمشق ليجتمع معه ، ويؤكد الأمر بينه وبينه ، فوصل إليه في النصف من شهر رمضان من السنة ، فلقيه أتابك بما يجب لمثله من تعظيم مقدمه ، وإجلال محله ، وأدخله إلى قلعة دمشق ، وأجلسه في دست عمه شمس الملوك

__________________

(١) تتبع سرمين الآن محافظة ادلب ، وتبعد عن ادلب مسافة / ٨ كم / والجزر كورة من كور حلب معظمها الآن يتبع محافظة ادلب ، وجبل السماق وبني عليم هو جبل الأربعين في منطقة أريحا ، وقد فصل الحديث عن هذه المناطق ابن العديم في المجلدة الأولى من بغية الطلب وقد حققته ، وهو قيد الطباعة ببيروت الآن.

٣٠٢

دقاق بن تاج الدولة ، وقام هو والخواص في خدمته ، وحمل إليه ما أمكن حمله من تحف وألطاف تصلح لمثله ، وكذلك لجميع من وصل في صحبته ، وأقام أياما على هذه الحال ، وتوجه عائدا الى حلب في أول شوال من السنة ومعه ظهير الدين أتابك في أكثر عسكره ، ووصل الى حلب ، وأقام أياما ، وأشار عليه قوم من أصحابه بالقبض على جماعة من أعيان عسكره ، وعلى وزيره أبي الفضل بن الموصول ، وكان حميد الطريقة مشهورا بفعل الخير ، وتجنب الشر ، ففعل ذلك ، واستخلص ظهير الدين أتابك من جملتهم الأمير كمشتكين البعلبكي مقدم عسكره ، وخالف ما في نفس أتابك من صائب الرأي ، ومحمود التدبير ، فحين شاهد الأمر على غير السداد والصواب ، وبان له فساد التدبير ، واختلال التقدير ، رأى أن الانكفاء الى دمشق أصوب ما قصد ، وأحسن ما أعتمد ، وفي صحبته والدة الملك رضوان لرغبتها في ذلك ، وايثارها له (١).

ولما حصل في دمشق اتصلت المراسلة بينه وبين بغدوين ملك الافرنج في ايقاع المهادنة والموادعة والمسالمة ، لتعمر الأعمال بعد الإخراب ، وتأمن (١٠٤ ظ) السوابل من شر المفسدين والخرّاب ، فاستقرت هذه الحال بينهما ، واستحلف كل منهما صاحبه على الثبات والوفاء وإخلاص المودة والصفاء ، وأمنت المسالك والأعمال ، وصلحت الأحوال وتوفر الاستغلال.

وفي هذه السنة ورد الخبر من شيزر بأن جماعة من الباطنية من أهل أفامية وسرمين ومعرة النعمان (ومعرّة) مصرين في فصح النصارى ، وثبوا في حصن شيزر على غفلة من أهله في مائة راجل ، فملكوه وأخرجوا جماعة ، وأغلقوا باب الحصن ، وصعدوا الى القلعة فملكوها وأبراجها ، وكان بنو منقذ أصحابها قد خرجوا لمشاهدة عيد النصارى ، وكان هذا أمر قد

__________________

(١) انظر زبدة الحلب : ٢ / ١٦٧ ـ ١٧١.

٣٠٣

رتب في المدة الطويلة ، وقد كانوا أحسنوا إلى هؤلاء المقدمين على الفساد كل الإحسان ، فبادر أهل شيزر قبل وصولهم إلى الباشورة ، ورفع الحرم [الرجال](١) بالحبال من الطاقات وصاروا معهم ، وأدركهم الأمراء بنو منقذ أصحاب الحصن ، وصعدوا إليهم ، وكبروا عليهم ، وقاتلوهم حتى ألجأوهم إلى القلعة ، فخذلوا وذلوا وهجموا إليهم وتكاثروا عليهم ، وتحكمت سيوفهم فيهم ، فقتلوهم بأسرهم ، وقتل كل من كان على رأيهم في البلد من الباطنية ، ووقع التحرز من مثل هذه الحال.

سنة ثمان وخمسمائة

في هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن يايا المعروف بلؤلؤ الخادم ، أتابك الملك تاج الدولة ألب أرسلان ولد الملك رضوان صاحب حلب ، عمل عليه وواطأ جماعة من أصحابه على الايقاع به والفتك به عند وجود الفرصة مستهلة فيه ، فحين لاحت لهم وثبوا عليه فقتلوه في داره بقلعة حلب ، واضطرب الأمر بعده ، وقد كان تدبيره لنفسه وعسكريته ورعيته سيئا فاسدا لا يرجى له صلاح ولا إصلاح فمضى لسبيله غير مأسوف عليه ، ولا محزون لفقده (٢).

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين لتدارك سقط ألم بالنص ، وجاء في مرآة الزمان : ١ / ٤٦ : «ودلى الحرم بالحبال من القلعة وأصعدوا الرجال وفتحوا الأبواب ، وصعد الأمراء ...» ولعل هذه الواقعة ما أشار إليه أسامة بن مرشد بن منقذ في كتابه الاعتبار. ط. برنستون ١٩٣٠ : ١٢٣ ـ ١٢٥.

(٢) في ترجمة ألب أرسلان في بغية الطلب : «وساءت سيرة ألب أرسلان بحلب ، وانهمك في المعاصي ، واغتصاب الحرم ، خافه لؤلؤ اليايا ، فقتله بقلعة حلب في الثامن من شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وخمسمائة ، ونصب أخا له طفلا عمره ست سنين ، وبقي لؤلؤ بحلب الى أن قتل في آخر سنة عشر وخمسمائة». مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٩٦.

٣٠٤

وفيها توفي الشريف نسيب الدولة أبو القاسم علي بن ابراهيم بن العباس ابن الحسن الحسيني ، رحمه‌الله ، في ليلة الأحد الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر ، ودفن بعد صلاة الظهر في التربة الفخرية بدمشق (١) (١٠٥ و).

وفي هذه السنة حدثت زلزلة بالشام عظيمة ، وارتجت لها الأرض ، وأشفق الناس ، وسكنت لها النفوس بعد الوجيب والقلق ، وقرت القلوب بعد الانزعاج والفرق.

وفي هذه السنة نزل الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق على حمص ، وفيها خيرخان بن قراجا ، وكان عادة نجم الدين إذا شرب الخمر ، وتمكن منه أقام منه عدة أيام مخمورا ، لا يفيق لتدبير ، ولا يستأمر في أمر ولا تقرير ، وقد عرف خيرخان منه هذه العادة المستبشعة ، والغفلة المستبدعة ، فحين عرف أنه على تلك القضية ، خرج من قلعة حمص في رجاله ، وكبسه في مخيمه ، وانتهز الفرصة فيه ، وقبض عليه ، وحمله إلى حمص ، وذلك في شعبان منها ، وضاق صدر ظهير الدين أتابك لما انتهى الخبر بذلك إليه ، وكاتب خيرخان بالإنكار عليه ، والاكبار لما أجرى عليه ، وتغيرت نيته فيه ، وأقام أياما في اعتقاله إلى أن أطلقه ، وخلى سبيله.

وفيها وردت الأخبار من ناحية الأفرنج بهلاك ملكهم بغدوين بعلة هجمت عليه ، مع انتقاض جرح كان أصابه في الوقعة الكائنة بينه وبين المصريين ، فهلك بها ، وقام مقامه من بعده من ارتضى به (٢).

__________________

(١) ترجم له سبط ابن الجوزي بين وفيات سنة ٥٠٩ : ١ / ٥٤ ـ ٥٥ ، ونقل عن ابن عساكر قوله : «وكانت له جنازة عظيمة ودفن بالباب الصغير».

(٢) كذا ، وهذا التاريخ مبكر ، فوفاته كانت سنة ٥١٢ ه‍ / ١١١٨ م ، وسيذكره المؤلف ثانية في أخبار سنة / ٥١٢ / وبعدما توفي خلفه بلدوين الثاني صاحب الرها. انظر حول هذا كله تاريخ وليم الصوري ـ بالانكليزية : ١ / ٥١٤ ـ ٥٢٢. الكامل لابن الأثير : ٨ / ٢٨٤.

٣٠٥

وفيها توفي الشيخ أبو الوحش سبيع بن مسلم الضرير ، المعروف بابن قيراط المقري المجود بالسبعة رحمه‌الله ، في يوم السبت الحادي عشر من شعبان منها ، ودفن بباب الصغير ، بين قبور الشهداء رضي‌الله‌عنهم ، وكان ملازما لجامع دمشق يقرأ إلى أن توفي على أحسن طريقة (١).

سنة تسع وخمسمائة

في هذه السنة قويت شوكة الأفرنج في رفنية ، وبالغوا في تحصينها وشحنها بالرجال ، وشرعوا في الفساد والتناهي في العناد ، فصرف ظهير الدين همه إلى الكشف عن أحوالهم والبحث عن مقاصدهم في أعمالهم ، وترقب الفرصة فيهم ، ومعرفة الغرة منهم ، وتقدم إلى وجوه العسكر ومقدميه بالتأهب والاستعداد ، لقصد بعض الجهات لاحراز فضيلة الجهاد ، والنهوض (١٠٥ ظ) لأمر من المهمات ، ثم أسرى إليهم مغذا ، حتى أدركهم وهم في مجاثمهم غارون ، فلم يشعروا إلا والبلاء قد أحاط بهم من جميع جهاتهم ، فهجمت الأتراك عليهم البلد ، فملكوه وحصل كل من كان فيه في قبضة الأسر ، وربقة الذل والقهر ، فقتل من قتل ، وأسر من أسر ، وغنم من المسلمون سوادهم وكراعهم وأثاثهم ما امتلأت به الأيدي ، وسرّت به النفوس ، وقويت بمثله القلوب ، وذلك في يوم الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة من السنة ، وانكفأ المسلمون إلى دمشق ظافرين مسرورين غانمين لم يفقد منهم بشر ، ولا عدم شخص ، ومعهم الأسرى ورؤوس القتلى ، فأطيف بهم في البلد بحيث تضاعف بمشاهدتهم السرور ، وانشرحت الصدور ، وقويت من الجند في الجهاد والغزو الظهور.

__________________

(١) ترجم له ابن عساكر في تاريخه ، وذكر وفاته سنة «خمس وخمسمائة». تهذيب تاريخ دمشق الكبير للشيخ عبد القادر بدران. ط بيروت ١٩٧٩ : ٦ / ٦٦.

٣٠٦

ولما شاع ذكر ظهير الدين أتابك في الأعمال العراقية ، والدركاه السلطانية بما أعطاه الله من شدة البأس في محاربة الأفرنج الأرجاس ، ومنحه من النصر عليهم ، والنكاية فيهم ، والذب عن أهل الشام ومراماته دونهم ، ومحاماته عنهم وإحسان السيرة فيهم ، بحيث دعي له في محافل الرعايا والتجار ، وشكر بين الرفق من سفار الأقطار ، فحسده قوم من مقدمي الدركاه السلطانية الغياثية ، وراموا القدح فيه والطعن عليه ، طلبا لإفساد حاله ، واعتمادا لعكس آماله ، وحطّا لرتبته بالحضرة السلطانية ، وتشعيث الآراء الجميلة الغياثية ، وظهر الأمر بذاك وانتشر ، وشاع من كل صوب واشتهر ، وكتب اليه بذلك من يؤثر صلاحه من الأصدقاء ، ويشفق عليه ، فأحدث ذاك له استيحاشا دعاه إلى التأهب والاستعداد لتوجه ركابه إلى الباب الإمامي المستظهري ، والباب السلطاني الغياثي بمدينة السلام بغداد للمثول بهما ، والخدمة لهما ، والتقرب بالسعي إليهما ، وإنهاء حاله إليهما ، وإزالة ما وقع في النفوس ظنة بالقدوم عليهما ، وأشير عليه بترك ذلك وإهماله ، وحذر منه وبعث على إغفاله ، فلم يصخ الى هذا المقال ، ولا أعاد على أحد جواب سؤال ، بل تأهب للمسير ، وبالغ في الجد فيه (١٠٦ و) والتشمير ، وأعد ما يصحبه من أنواع التحف المستحسنة من أواني البلور والمصاغ ، وأجناس الثياب المصرية ، والخيول السّبّق العربية ، مما يصلح أن يتقرب بمثله إلى تلك المناصب العلية ، وسار في خواصه ، وأهل ثقته من غلمانه ، في يوم الأحد لست بقين من ذي القعدة من السنة.

فلما قرب من بغداد ، وأنهي خبر وصوله تلقاه من خواص الدار العزيزة النبوية المستظهرية ، والدركاه السلطانية الغياثية ، ووجوه الدولة وأعيان الرعية ، من بالغ في إكرامه وتناهى في احترامه ، وقوبل من ذاك ما زاد في مسرة أوليائه ، والفت في أعضاد حساده وأعدائه ، وأوضح حاله فيما قصد لأجله ، فما سمع إلا ما عاد ببسط عذره ، وإحماد فعله ، وإطراء أمره ، وتطييب نفسه ، وإبعاد

٣٠٧

استيحاشه ، وتأكيد أنسه ، وحين عزم على الانكفاء إلى دمشق ، وأذن له في ذلك ، شرف بالخلع السنية ، والكرامات الهنية ، وكتب له المنشور العالي السلطاني الغياثي بولاية الشام حربا وخراجا ، وإطلاق يده في ارتفاعه على إيثاره وإختياره بإنشاء الطغرائي أبي اسماعيل الأصفهاني (١) وهو إذ ذاك فريد زمانه في الكتابة والبلاغة ، ووحيد عصره في الآداب والبراعة ، وقد أثبت نسخته في هذا المكان ، ليعرف الواقف عليه فضل منشئه ، وعلو مرتبة من كتب له ، وأحسن وصفه فيه وهو :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا منشور أمر بإنشائه السلطان المعظم غياث الدنيا والدين ، أطال الله بقاءه ، وأعز أولياءه ، ونصر لواءه : للأمير الأصفهسلّار الأجل ، الكبير ، ظهير الدين أتابك ، أدام الله تأييده ، لما بان تمسكه من الطاعة بأحكم علائقها ، واعتصامه من الخدمة بأوكد وثائقها ، وانتهاجه من المشايعة أقوم مسالكها ، واعتماده أفضل طرائقها ، وأجلت التجارب منه عين الناصح الأريب ، والمهذب اللبيب ، المتدرج في مراقي الرتب السنية ، بالمساعي الرضية ، والمحرز أحاظي القرب الخطيرة بالآثار الشهيرة ، المشهودة موافقة في قود الجماهير العظام ، والذب عن حوزة الإسلام ، والتجرد لمظافرة الأولياء ، ومقارعة الأعداء والاستقلال (١٠٦ ظ) بمعضلات الأعباء ، الجامع إلى خصائص هذه الأسباب والالمام بخدمة الأبواب ، والتحقق بزمر الحشم والأصحاب ، المستقل بنصحه ، المنخول بدلائه المقبول ، ووسائله المشفوعة توالدها بالطوارف ، وشوافعه المنصورة سوالفها بالأوانف ، أن يزاد في الإنافة بقدره ، والاشادة بذكره ، ويستخلص

__________________

(١) صاحب لامية العجم ، ينتهي بنسبة الى أبي الأسود الدؤلي ، توفي سنة ٥١٤ ه‍ / ١١٢٠ م ترجم له سبط ابن الجوزي في وفيات سنة ٥١٤. مرآة الزمان : ١ / ٩٢ ـ ٩٤.

٣٠٨

تخلية صدره ، بتفخيم أمره ، وتجدد الصنيعة عنده بما يكون لواجب حقوقه قضاء ، ولمصالح مساعيه كفاء ، ولمحله المرموق لائقا ، ولموضعه من الدولة مضاهيا مطابقا ، فرأيناه أحق من أفضيت عليه ملابس الانعام ، وحبي من الكرامة بأوفر الأقسام ، ورفع من مراتب الاحتباء والاختصاص الى الذروة والسنام ، ورشح لكفاية المهام ، وتدبير الأمور الجسام ، وأوطئ عقبة الكماة الأنجاد ، ورد إلى إيالته الأمصار والأجناد ، رسمنا أن نجدد له هذا المنشور بإمارة الشام ، ونقرر عليه جميع ما دلت عليه المناشير المنشأة المتضمنة لأسامي البلاد الموجبة له ، صارت رسمه مهما يجري معها ، ويضاف إليها من النواحي والضياع والحصون والقلاع ، حسب ما أورد ذكره مفصلا في هذا المثال ، وجعلناها نعمة مصونة من الارتجاع ، وطعمه محمية من الانتزاع ، قلدناه في عامة تلك البقاع : أعمال الحرب ، والمعاون ، والأحداث (١) ، والأخرجة والأعشار ، وسائر وجوه الجبايات (٢) والعروض والإعطاء ، والنفقة في الأولياء ، والمظالم والأحكام ، وسائر المستظهر عليه بنظر الولاة الكفاة ، والنصحاء الثقاة ، رعاية لحقوقه اللازمة ، ومحافظة على أذمته المتقادمة ، وثقة منه باستدامة النعمة ، وارتباطها بالتوفر على شرائط الخدمة ، واستدعاء مزيد الإحسان ، واستيفاء عوائد الاصطناع بدوام النصح ، وفضل الاستقلال والاضطلاع ، والله تعالى يجزينا على أحسن عوائده ، بإصابة شاكلة الصواب في اختيار الأولياء ، ويلهمنا الرشد في مرامي الأفكار ، ومواقع الآراء ، ولا يخلينا في اصطفاء من نصطفيه واجتباء من نجتبيه من مساوقة التوفيق لما نرتاده ونرتئيه.

أمرناه بتقوى الله وطاعته ، واستشعار خيفته ومراقبته (١٠٧ و) والالتجاء منها إلى الحصن الأمنع ، والظل الأمتع ، والاستظهار منها بالذخر الأتقى ،

__________________

(١) أي الجيش والشرطة وقوات الأحداث (الميليشيا البلدية).

(٢) في الأصل «الجنايات» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

٣٠٩

والحرز الأوقى ، والاحتراس من هواجس الهوى باعتلاق عروتها الوثقى ، وادراع شعارها الأتقى ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١) وأمرناه أن يسير فيمن قبله من الأولياء والحشم أجمل سيرة ، ويحملهم بحسن السياسة على أفضل وتيرة ، ويسلكهم مسلكا وسطا بين اللين والخشونة ، والسهولة والوعورة ، ويشعر قلوبهم من الهيبة ما يقبض المتبسط ، ويردع المتسلط ، ويرد غرب الجامح ، ويقيم صعر الجانح ، ويخص منهم ذوي الرأي والحنكة والثبات والمسكة بالمشاورة والمباحثة ، ويستخلص نخائل صدورهم ، عند طروق الحوادث بالمفاوضة والمنافثة (٢) ، ويستعين بثمار ألبابهم ، ونتائج أفكارهم على دفاع الملم ، وكفاية المهم ، ويتناول سفهاءهم وذوي العيث والفساد منهم بالتقويم والتهذيب ، والتعريك والتأديب ، ويردهم عن غلوائهم بالقول ما كفى ، واحراز النصح ما أجدى وأغنى ، ومن زاده الأناة والحلم والاحتمال والكظم تماديا في العدوان ، وتتابعا في الطغيان عركه عرك الأديم وتجاوز به حد التقويم الى التحطيم ، متيقنا أن إعطاء كل طبقة ممن تشمله رعايته ، وتكنفه إيالته حقها من قوانين السياسة إرهاقا لبصيرة القارح المتماسك وكفا لغرب الحرج المتهالك ، قال الله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٣).

وأمرناه أن يوكل بأمر الثغور المتاخمة لأعماله والمصاقبة لبلاده عينا كالئة ، وأذنا واعية ، وهمة للصغير والكبير في مصالحها مراعية ، فيشحنها بذوي البأس والنجدة المذكورين بالبسالة والشدة المعروفين بالصريمة والغناء ،

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الأنفال : ٢٩.

(٢) نفث : أوحى وألقى. النهاية لابن الأثير.

(٣) القرآن الكريم ـ الأنفال : ٥٨.

٣١٠

والصبر عند اللقاء ، والبصيرة بمكابدة الأعداء ، ويستظهر لهم باستجادة الأسلحة والآلات والاستكثار من المير والأقوات ، ويناوب بينهم في مقارهم ، مناوبة تجم المكدود ، وتريح المجهود ، وتدر عليهم الأرزاق عند (١٠٧ ظ) الوجوب والاستحقاق ، ليقوم أودهم ، ويقل لددهم ، وتحسن طاعتهم ، وتلين مقادتهم ، ويكثف عددهم وعدتهم ، وتشتد على الأعداء شوكتهم ، ويغيظ الكفار زيهم وشارتهم ، قال الله تعالى : «(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ)(١).

وأمرناه أن يأخذ نفسه وأصحابه بالثبات والصبر عند قراع السيوف بالسيوف ، وذلوف الزحوف بالحروف ، ويرخصوا أنفسهم في ابتغاء مرضاة الله والذب عن حوزة الدين ، والمحاماة عن بيضة الإسلام والمسلمين ، ويحتاط مع ذلك لنفسه وأصحابه ، ولا يقدم بهم على غرر ، ولا يفسح لهم في ركوب خطر إلا بعد الأخذ بالحزم ، واستعمال الرفق في الحذر ، ويكون إقدامهم على بصيرة تامة ، لا يقتحم معها غرة ، ولا تضاع فرصة ، ولا يحجمون إذا احمر الناس ، واشتد المراس عن تورد المعركة ، ولا يلقون بأنفسهم إذا حمي الوطيس ، والتقى الخميس بالخميس إلى التهلكة ، قال الله جل وعلا : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٢).

وأمرناه أن يصل جناح ضمانه بالوفاء ، ويشد أركان عهده بالثبات ، ويصون ذمته عما يحفزها ، ويشفق عليها مما يحيلها ويغيرها ، ويذهب مع دواعي الصدق ، ويصير على تكاليف الحق ، ولا يروع لهم سربا أمّنه ، ولا ينقص شرطا ضمنه ، ولا ينكث عهدا أبرمه ، ولا يخلف وعدا قدمه ، ولا يتجافى عمن يلوذ بعقوته ، ولا يأبى قبول السلم ممن اتقى بصفحته ، قال

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الأنفال : ٦٠.

(٢) القرآن الكريم ـ الحج : ٧٨.

٣١١

الله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (١). وقال جل من قائل : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) (٢).

وأمرناه أن يعم رعاياه القارة والمارة بالأمن العائد عليهم بسكون الجأش ، وسعة المعاش ، ويحوطهم في متوجهاتهم ومتصرفاتهم ، حياطة تكنفهم من جميع جهاتهم ، ويحمي نفوسهم وذراريهم وأموالهم ، ومعائشهم ، حماية ترد كيد الظالم ، وتقبض يد الغارم ، وتخرج ذوي الريب من مظانهم ، وتحول بينهم وبين عدوانهم ، وتجري حكم الله فيهم ، وتقيم حده على من سفك فيهم دما ، وانتهك محرما ، أو أظهر شقاقا وعنادا ، أو سعى في الأرض فسادا ، قال الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ) (١٠٨ و) (خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٣).

وأمرناه أن ينظر في أموال الرعايا أتم نظر وأوفاه ، ويسأل عن ظلاماتهم أبلغ سؤال وأحفاه ، ويستن بالسنة العادلة فيهم ، ويمنع أقوياءهم عن تهضّم مستضعفيهم ، ويحمل من تحت يده على التعادل والتناصف ، ويصدهم عن التغاضب والتظالم ، ويقر الحقوق مقارها ، عند وضوح الحجة ، وارتفاع الشبهة ، ويختار لهم من العمال والولاة أسدهم طرائق ، وأقومهم مذاهب ، وأحمدهم خلائق ، ويأمر كلا منهم أن لا يغير عليهم رسما ، ولا يتوي (٤) لهم حقا ، ولا يسومهم في معاملاتهم خسفا ، ولا يحدث عليهم من يدع الجور رسما ،

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الاسراء : ٣٤.

(٢) القرآن الكريم ـ الأنفال : ٦١.

(٣) القرآن الكريم ـ المائدة : ٣٣.

(٤) أي لا يضيع ولا يهلك. النهاية لابن الأثير.

٣١٢

ولا يرتكب منهم ظلما ، ولا يأخذ منهم برا بأثيم ، ولا بريئا بسقيم ، ويقنع منهم في اخرجاتهم ومقاساتهم وقسوطهم ومقاطعاتهم بالحقوق المستمرة ، ويحملهم في العدل على القواعد المستقرة ، ويستقرىء آثار الولاة قبله ، فما طاب منها ، وحسن اقتفاؤه اقتفره (١) ، وما ذم منها واستنكره أماطه وغيره.

ويعتقد أنه مسؤول عما اكتسب واجترح ، ومحاسب على ما أفسد وأصلح ، قال الله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٢) فليتلقّى هذه النعمة الكبيرة ، والعارفة الخطيرة بإعظام قدرها ، والقيام بواجب شكرها ، وليتحقق أنها قاطنة بفنائه ما أحسن جوارها بخالصة نصحه وولائه ، وباقية عليه وعلى عقبة ما عملوا بأحكام هذا العهد ، وعنوا بتأكيد أسبابه ، وأعلنوا بشعار الدولة ، واستمروا على السنة المألوفة في إقامة الخطبة والسكة ، وتمسكوا بولاء الدولة العباسية التي هي سنّة متبعة ، وما عداها ضلالة مبتدعة ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ (٣)) وأحسنوا السيرة في عباده وبلاده ، والله تعالى يمدنا وإياه في هذا الرأي الذي رأيناه ، ويزلف من رضاه ويحمد فاتحته وعقباه ، إن شاء الله تعالى.

وكتب في المحرم سنة عشر وخمسمائة.

وتوجه منكفئا إلى دمشق ، على أجمل صفة وأحسن قضية في سلامة النفس والجملة ، وتزايد العز والحرمة ، ودخلها في يوم الاثنين (١٠٨ ظ) لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة.

__________________

(١) أي تتبع أثره ـ النهاية لابن الأثير.

(٢) القرآن الكريم ـ النجم : ٣٩ ـ ٤١.

(٣) القرآن الكريم ـ الحج : ٧٨.

٣١٣

سنة عشر وخمسمائة

في هذه السنة ورد الخبر بأن بدران بن صنجيل (١) ، صاحب طرابلس ، قد جمع وحشد ، وبالغ واجتهد ، ونهض الى ناحية البقاع لإخرابه بالعيث والفساد والإضرار والعناد ، وكان الاصفهسلّار سيف الدين البرسقي ، صاحب الموصل ، قد وصل الى دمشق في بعض عسكره ، لمعونة ظهير الدين أتابك على الأفرنج ، والغزو فيهم ، وبالغ أتابك في الإكرام له والتعظيم لمحله ، وصادف ورد هذا الخبر بنهضة الأفرنج الى البقاع ، فاجتمع رأيهما على القصد لهما جميعا ، وأغذا السير ليلا ونهارا ، بحيث هجموا عليهم ، وهم غارون ، في مخيمهم قارون ، لا يشعرون فأرهقهم العسكر ، فلم يتمكنوا من ركوب خيلهم ، ولا أخذ سلاحهم ، فمنحهم الله النصر عليهم ، وأطلقوا السيف فيهم قتلا وأسرا ونهبا ، فأتوا على الراجل وهم خلق كثير ، قد جمعوا من أعمالهم ، وأسروا وجوه فرسانهم ومقدميهم ، وأعيان شجعانهم ، وقتلوا الباقين منهم ، ولم يفلت منهم غير مقدمهم بدران بن صنجيل والمقدم كند اصطبل ، ونفر يسير معهما ، ممن نجا به جواده ، وحماه أجله ، واستولى الأتراك على العدد الجمة ، والخيول والكراع والسواد ، وذكر الحاكي المشاهد العارف أن المفقود المقتول من الأفرنج الخيالة والسرجندية (٢) الرجالة ، والنصارى الخيالة والرجالة في هذه الوقعة ما يزيد على ثلاثة آلاف نفس.

__________________

(١) كذا في الأصل وهو وهم ، فبرتران كان توفي سنة ٥٠٥ ه‍ / ١١١٢ م وخلفه ابنه بونز وقد سبقت الاشارة الى ذلك ص ٢٨٩ انظر كتاب طرابلس الشام : ١٤٩ ـ ١٥٢.

(٢) حوت جيوش الفرنجة عدة نوعيات من الأسلحة تقدمها سلاح الفرسان الثقال من طبقة النبلاء الاقطاعية ، وتلاهم «السرجندية» وهم رجالة ثقال كانت تجندهم الكنائس والديرة وتنفق هذه المؤسسات عليهم ، وغالبا ما كان السرجندية ضعف عدد الفرسان الثقال ، وبعد هؤلاء جاء الخيالة أو الفرسان الخفاف «التركبول» ثم الرجالة العاديين والحجاج وكان الجزء الأكبر من الصنفيين الأخيرين من المرتزقة. أفضل مصدر حول هذا الموضوع كتاب فن الحرب في الحروب الصليبية (بالانكليزية) تأليف ر. سميل. ط. لندن ١٩٦٧.

٣١٤

وعاد ظهير الدين أتابك ، وسيف الدين (آق) سنقر البرسقي في عسكريهما إلى دمشق مسرورين بالظفر السني ، والنصر الهني ، والغنائم الوافرة ، والنعم المتوافرة ، فلم يفقد من العسكريين بشر ، ولا أصابهم بؤس ولا ضرر ، ووصلا البلد بالأسرى ورؤوس القتلى ، وخرج الناس من البلد لمشاهدتهم ، واستبشروا بمعاينتهم ، وسروا بنظرهم سرورا ، واصلوا معه حمد الله مولي النصر ، ومانح القهر ، وشكروه تعالى على ما سناه من الاستظهار المبين بالاستعلاء المشرق الجبين ، وأقام آق سنقر البرسقي أياما بعد ذلك وتوجه (١٠٩ و) عائدا إلى بلده بعد استحكام المودة بينه ، وبين ظهير الدين ، والمصافاة والموافقة على الاعتضاد في الجهاد ، متى حدث أمر أو حزب خطب.

وقد كان في هذه السنة وردت الأخبار قبل عود ظهير الدين من العراق ، بالكائنة الحادثة من الباطنية في الدركاه السلطانية ، وقتلهم الأمير أحمد يل فيها ، في المحرم منها ، مع وجاهته ، وتزايد حشمته ، ووفور عدته ، وأكثر الناس التعجب من هذا الاقدام المشهور ، والفعل المذكور ، ولله عاقبة الأمور (١)

وفيها وردت الأخبار من ناحية حلب ، بقتل لؤلؤ الخادم ، الذي كان غلب أمره فيها ، وعمل على قتل ولد مولاه الملك ألب أرسلان بن رضوان ، في ذي الحجة منها ، بأمره دبّره عليه أصحاب الملك المذكور (٢).

__________________

(١) في ترجمة أحمد يل في بغية الطلب قال ابن العديم : «وفي المحرم سنة عشر وخمسمائة كان أحمد يل في مجلس السلطان محمد ، فجاءه رجل ومعه قصة يشكو فيها الظلم وهو ينتحب ، وسأله أن يوصل قصته الى السلطان ، فتناولها منه فضربه بسكين كانت معدة ...» مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٥٤.

(٢) أخذ أموال قلعة حلب وحاول أن يهرب بها الى بلاد الشرق ، فلحقه بعض قادة جند حلب ورشقه بالسهام حتى قتل. مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٩٥.

٣١٥

سنة إحدى عشرة وخمسمائة

في هذه السنة توفي السلار بختيار شحنة دمشق ، ونائب ظهير الدين في تولي أمر البلد ، وسياسة الرعية ، بعلل اختلفت عليه ، وطالت به إلى أن قضى نحبه رحمه‌الله في ليلة النصف من شعبان منها ، فأحزن ظهير الدين فقده ، وأهمه المصاب به ، وتأسف أكثر الناس عليه ، لأنه كان عفيفا في أفعاله غير معترض لخمر ، غني الحال والنفس ، معينا لمن يقصده في دفع مظلمة ، وانقاذ من شدة جميل المناب فيما يعود بصلاح الرعية ، والبعث على العمل بالعدل والسوية ، وأقيم ولده السلّار عمر في منصبه ، فاقتفى آثاره في أشغاله ، وحذا مثاله في أعماله.

وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق ، بوفاة السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه بأصفهان ، رحمه‌الله ، بعلة حدثت به ، وطال مقامها عليه ، إلى أن توفي في الحادي عشر من ذي الحجة منها ، وقام مقامه في السلطنة ولده محمود ، واستقام له الأمر ، واستقرت على صلاح الحال.

وفيها وردت الأخبار من ناحية حلب ، بأن الاصفهسلار يا رقتاش الخادم ، متولي اصفهسلارية حلب ، هادن الافرنج ووادعهم ، وسلم إليهم حصن القبة (١).

وقيل إن الأمير آق سنقر البرسقي ، خرج من الرحبة في عسكره ، وقصد حلب ، ونزل عليها طامعا في تملكها ، فلم يتسهل له ما أمل ورحل (١٠٩ ظ) عنها عائدا الى الموصل.

وورد الخبر أيضا بأن الاصفهسلار يا رقتاش المقدم ذكره أخرج من قلعة

__________________

(١) لم أجد له ذكرا في المصادر الجغرافية ، وذكره ابن العديم في زبدة الحلب : ٢ / ١١٠ ، ١٧٩ ، إنما ليس في نصه ما يساعد على تحديد موقع هذا الحصن.

٣١٦

حلب ، ورد أمر الاصفهسلارية والنظر في الأموال إلى الأمير أبي المعالي (المحسن) (١) بن الملحي العارض الدمشقي ، ودبر الأشغال بها والأعمال فيها.

وفي النصف من المحرم منها هجمت الافرنج على ربض حماة ، في ليلة خسوف القمر ، وقتلوا من أهلها تقدير مائة وعشرين رجلا.

وورد الخبر بهلاك دوقس أنطاكية (٢).

وفي المحرم منها وصل الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق في عسكره إلى حلب ، وتولى تدبير أمرها مدة صفر ، وفسد عليه ما أراده ، فخرج منها ، وبقي ولده حسام الدين تمرتاش.

وفيها وردت الأخبار من القسطنطينية بموت متملك الروم الكرانكس (٣) وقام في الملك بعده ولده يوحنا ، واستقام له الأمر ، وعمل بسيرة أبيه ، وفيها وردت الأخبار بموت بغدوين ملك الأفرنج صاحب بيت المقدس بعلة طالت به وكانت سبب هلاكه في ذي الحجة منها ، وقام بعده في الأمر كند هو [الذي كان] الملك [بالرها](٤).

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من زبدة الحلب : ٢ / ١٧٩.

(٢) قتل في معركة قرب عفرين قادها ضده ايلغازي بن أرتق. الكامل لابن الأثير : ٨ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٣) هو الكسيوس كومونين ، أفضل مصدر عنه كتاب الالكسياد لابنته الأميرة آناكومينا.

(٤) في الأصل «كند هو الملك» وأضيف ما بين الحواصر كيما يستقيم السياق ، هذا وسبق للمؤلف أن ذكر وفاة بلدوين الأول في أخبار سنة / ٥٠٨ /. انظر ص ٣٠٥.

٣١٧

سنة إثنتي عشرة وخمسمائة

في هذه السنة شاعت الآثار والأخبار من ناحية الأفرنج ، بطمعهم في المعاقل والبلاد ، واجماعهم على قصدها بالعيث والإفساد ، لغفلة الاسلام عن قصدهم بالغزو والجهاد ، وأنهم قد شرعوا في التأهب لهذه الحال ، والاستعداد وكاتب ظهير الدين أتابك أرباب الجهات والمناصب ، وبعثهم على التعاون على دفع شر الملاعين ، بالتوازر والتواظب.

وورد الخبر بتوجه الأمير نجم الدين إيل غازي الى دمشق ، في عسكره ، للاجتماع مع ظهير الدين أتابك على إعمال الرأي في التدبير والتشاور في العمل والتقرير ، هذا بعد أن راسل طوائف التركمان بالاستدعاء لأداء فريضة الجهاد والتحريض على الباعث لذاك والاحتشاد.

ووصل الأمير المذكور إلى دمشق من حلب ، في بعض أصحابه وخواصه ، واجتمعا وتعاهدا وتعاقدا على بذل المكنة والاجتهاد في مجاهدة الكفرة الأضداد ، وطردهم عن الإفساد في هذه المعاقل والبلاد ، ووقع الاتفاق بينهما على [مصير](١) الأمير (١١٠ و) نجم الدين إيل غازي بن أرتق إلى ماردين لإنجاز أمره ، وجمع التركمان من الأعمال ، وحضهم على النكاية في أحزاب الشرك والضلال ، واقتضت الآراء مصير الأمير ظهير الدين معه لتأكيد الحال ، وتسهيل الآمال ، وسارا في العشر الأول من شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ، وعاد ظهير الدين عنه بعد أن قررا مع طوائف التركمان إصلاح أحوالهم والتأهب للوصول إلى الشام بجموعهم الموفورة وعزائمهم المنصورة في صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ليقع الاجتماع على نصرة الدين واصطلام المردة الملحدين ، وأقام ظهير الدين بدمشق إلى حين قرب الأجل المضروب ،

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

٣١٨

والوقت المرقوب ، وسار إلى ناحية حلب في أول شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسمائة.

ووردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة الخليفة الامام المستظهر بالله أمير المؤمنين ، ابن الامام المقتدي بالله أمير المؤمنين ، بعلة عرضت له ، واستمرت به إلى أن قضى نحبه ، إلى رحمة ربه في ليلة الخميس الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ، وكانت مدة خلافته ستّا وعشرين سنة وشهرين وأياما ، وكان جميل السيرة ، محبا للعدل والإنصاف ، ناهيا عن قصد الجور والاعتساف ، وولي الأمر من بعده ولده ولي العهد أبو منصور الفضل ، المسترشد بالله أمير المؤمنين بن أبي العباس أحمد المستظهر بالله أمير المؤمنين ، وجدد له أخذ البيعة ، واستقام له الأمر ، ونفذت المكاتبات إلى سائر الأعمال بالتعزية عن الإمام الماضي ، والتهنئة بالإمام الباقي.

ودخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة

ولما وصل ظهير الدين أتابك إلى حلب للاجتماع مع نجم الدين على الأمر المقرر بينهما ، بعد مضي الأجل المعين بتدبيرهما ، وجد التركمان قد اجتمعوا إليه من كل فج ، وكل صوب في الأعداد الدثرة الوافرة ، والقوة الظاهرة ، كأنهم الأسود تطلب فرائسها ، والشواهين إذا حامت على مكاسرها ، ووردت الأخبار ببروز روجير صاحب أنطاكية منها ، في من جمعه ، وحشده من طوائف الأفرنج (١١٠ ظ) ورجالة الأرمن من سائر أعمالهم وأطرافهم ، بحيث يزيد عددهم على العشرين ألف فارس وراجل ، سوى الأتباع ، وهم العدد الكثير ، في أتم عدة ، وأكمل شكة ، وأنهم قد نزلوا في الموضع المعروف بسرمدا وقيل دانيث البقل بين أنطاكية وحلب ، فحين عرف المسلمون ذلك طاروا إليهم بأجنحة الصقور إلى حماية الوكور ، فما كان بأسرع من وقوع العين على

٣١٩

العين ، وتقارب الفريقين حتى حمل المسلمون عليهم ، وأحاطوا بهم من جميع الجهات ، وسائر الجنبات ضربا بالسيوف ، ورشقا بالسهام ، ومنح الله تعالى ، وله الحمد ، حزب الاسلام النصر على المردة الطغام ، ولم تمض ساعة من نهار يوم السبت السابع من شهر ربيع الأول ، من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ، إلّا والفرنج ، على الأرض سطحة واحدة ، فارسهم وراجلهم ، بخيلهم وسلاحهم ، بحيث لم يفلت منهم شخص يخبر خبرهم ، ووجد مقدمهم روجير (١) صريعا بين القتلى ، ولقد حكى جماعة من المشاهدين لهذه الوقعة ، أنهم طافوا في مكان هذه المعركة ، لينظروا آية الله تعالى الباهرة ، وأنهم شاهدوا بعض الخيول مصرعة كالقنافذ من كثرة النشاب الواقع فيها ، وكان هذا الفتح من أحسن الفتوح ، والنصر الممنوح ، لم يتفق مثله للإسلام ، في سالف الأعوام ، ولا الآنف من الأيام ، وبقيت أنطاكية شاغرة خالية من حماتها ، ورجالها ، خاوية من كماتها ، وأبطالها ، فريسة الواثب ، نهزة الطالب ، فوقع التغافل عنها ، لغيبة ظهير الدين أتابك عن هذه الوقعة ، لتسرع التركمان إليها ، من غير تأهب لها ، للأمر النافذ ، والقدر النازل ، واشتغال الناس بإحراز الغنائم ، التي امتلأت بها الأيدي ، وقويت بها النفوس ، وسرت بحسنها القلوب ، فتلك بيوتهم خاوية ، والحمد لله رب العالمين.

وعاد ظهير الدين أتابك منكفيا الى دمشق ، عقيب هذا الظفر ، ودخلها يوم السبت لليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة فصادف الخاتون صفوة الملك ، والدة الملك شمس الملوك دقاق بن السلطان تاج الدولة تتش ابن السلطان ألب أرسلان ، قد نهكها المرض ، وطال بها ، وقد أشفت على الموت (١١١ و) ، وكانت لقدومه متوقعة ، وإلى مشاهدته متطلعة ، فأدركها وسمع مقالها ، وقبل وصيتها ، وأقامت القليل ، وتوفيت إلى رحمة الله ومغفرته

__________________

(١) سبق للمؤلف أن أشار الى هذه الواقعة باختصار في أخبار السنة الماضية.

٣٢٠