تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

ولاية القائد أبي صالح مفلح اللحياني المقدم ذكره

وشرح الحال في ذلك لدمشق في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة

وصل القائد أبو صالح مفلح الخادم المعروف باللحياني إلى دمشق واليا عليها في المحرم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة فتولى أمرها وأمر ونهى في أهلها ، وكان القائد طزملت المصروف عنها قد برز إلى داريا فلم يلبث إلا قليلا واعتل فيها علّة قضى نحبه فيها في يوم الاثنين الثاني من صفر من السنة ، وأقام القائد أبو صالح واليا عليها وسائسا لأمور أهلها (٤٢ و) والأحوال مستقيمة على نهج الصواب والسداد ، وقضية المراد إلى أن صرف بالقائد حامد بن ملهم ، وسيأتي شرح ذلك في موضعه.

وقيل إن منصور بن عبدون الناظر في الدواوين بمصر ، لم يزل بنو المغربي المقدم ذكرهم مستمرين على الوقيعة فيه ، والتضريب بالسعاية عليه ، وافساد رأي الحاكم فيه ، وهو يعتمد فيهم مثل ذلك ، ويغريه بهم ، ويحمله على قتلهم حتى تقدم إلى جعفر الصقلبي ، وكان قد قام مقام مسعود السيفي في القتل أن يحضر عليا ومحمدا ابني المغربي ، ويدخلهما الحجرة ، ويضرب أعناقهما ، ففعل ذلك ، ثم أمره أن يحضر أبا القاسم الحسين بن علي المغربي وأخويه ويقتلهم ، فأما الأخوان فإنهما أخذا بعد ثلاثة أيام وقتلا ، وأما أخوهما أبو القاسم الحسين بن (١) علي فاستتر ، وأعمل الحيلة في النجاة ، وهرب مع بعض العرب ،

__________________

(١) من أكبر شخصيات عصره سياسيا وثقافيا ، حاول اقامة خلافة حسنية في الرملة ، وزر في حلب ثم في ميافارقين ، ترجم له ابن العديم في بغية الطلب ترجمة مطولة ، أورد فيها نص أمان الحاكم له ، وصلنا من كتبه قطعة من كتاب «أدب الخواص» الايناس في علم الأنساب ، وشرح سيرة ابن هشام ، وهي جميعا مصورة لدى.

١٠١

وحصل بحلّة حسان بن المفرج بن دغفل بن الجراح فاستجار فأجاره ، وأنشده عند دخوله عليه وايمانه ممن يطلبه منه ما يستنهض عزيمته فيه من الإجارة له ، والذب عنه ، والمراماة دونه :

امّا وقد خيّمت وسط الغاب

فليقسونّ على الزمان عتابي

يترنّم الفولاذ دون مخيّمي

وتزعزع الخرصان دون قبابي

واذا بنيت على الثنيّة خيمة

شدّت إلى كسر القنا اطنابي

وتقوم دوني فتية من طيء

لم تلتبس أثوابهم بالعاب

يتناثرون على الصّريخ كأنّهم

يدعون نحو غنائم ونهاب

من كل أهرت (١) يرتمي حملاقه

بالجمر يوم تسايف وضراب

يهديهم حسّان يحمل بزّه

جرداء تعليه جناح عقاب

يجري الحياء على أسرة وجهه

جري الفرند بصارم قضّاب

كرم يشق على التلاد وعزمة

تغتال بادرة الهزبر الضّابي

ولقد نظرت إليك يابن مفرج

في منظر ملء الزمان عجاب

والموت ملتفّ الذوائب بالقنا

والحرب سافرة بغير نقاب

فرأيت وجهك مثل سيفك ضاحكا

والذعر يلبس أوجها بتراب

(٤٢ ظ) ورأيت بيتك للضيوف ممهدا

فسح الظّلال مرفّع الأبواب

يا طيء الخيرات بين خلالكم

أمن الشريد وهمّة الطلّاب

سمكت خيامكم بأسنمة الرّبا

مرفوعة للطّارق المنتاب

وتدلّ ضيفكم عليكم أنور

شبّت بأجذال قهرن صعاب

متبرجات باليفاع وبعضهم

بالجزع يكفر ضوءه بحجاب

كلأتكم ممن يعادي هيبة

أغنتكم عن رقبة وجناب

__________________

(١) مكثر مشداق ، النهاية لابن الأثير.

١٠٢

فيسير جيشكم بغير طليعة

ويبيت حيّكم بغير كلاب

تتهيّبون وليس فيكم هائب

وتوثبون على الرّدي الوثاب

ولكم اذا اختصم الوشيج لباقة

بالطعن فوق لباقة الكتاب

فالرمح ما لم ترسلوه أخطل

والسيف ما لم تعملوه ناب

يا معن قد اقررتم عين العلي

بي مذ وصلت بحبلكم أسبابي

جاورتكم فملأتم عيني الكرى

وجوانحي بغرائب الاطراب

من بعد ذعر كان احفز أضلعي

حتى لضاق به عليّ إهابي

ووجدت جار ابي الندى متحكما

حكم العزيز على الذليل الكابي

فليهنه منن على متنزه

لسوى مواهب ذي المعارج آب

قد كان من حكم الصنائع شامسا

فاقتاده بصنيعة من عاب

فلأنظمنّ له عقود محامدي

تبقى جواهرها على الأحقاب

لا جاد غيركم الربيع ولا مرت

غزر اللقاح لغيركم بحلاب

أنا ذاكم الرجل المندد ذكره

كالطود حلّي جيده بشهاب

ولقد رجوت ولليالي دولة

أني أجازيكم بخير ثواب

فلما سمع حسان بن الجراح هذه الأبيات ، هشّ لها ، وجدّد القول له بما سكن جأشه وأزال استيحاشه.

وهذا أبو القاسم الحسين بن علي المغربي كان ذا علم وافر وأدب ظاهر ، وذكاء وصناعة مشهورة في الكتابة ومضاء ، فأقام عنده ما أقام محترما (٤٣ و) مكرما ، وجرى له ما يذكر في موضعه (١) ، ثم رحل إلى ناحية العراق ، وتقدم

__________________

(١) قال أبو القاسم المغربي لحسان بن المفرج : إن الحسن بن جعفر الحسني صاحب مكة لا مطعن في نسبه ، والصواب أن ننصبه إماما ، فأجابه ، فمضى أبو القاسم إلى مكة ، وأقنع أميرها وجلبه إلى الرملة حيث أعلنه خليفة باسم الراشد بالله ، وسعى الحاكم بأمر الله إلى تدارك الموقف فاشترى حسان بن المفرج ، فتخلى عن الخليفة الجديد هذا ، وبصعوبة تمت اعادته إلى مكة ، وهرب ابن المغربي نحو شمال بلاد الشام.

١٠٣

هناك في الأيام القادرية ووزر للأمير قرواش أمير بني عقيل ، ووزر لابن مروان صاحب ديار بكر ، وكان مستقلا بصناعتي الكتابة والانشائية والحسابية ، وحين مرض وأشفي ، وصى بحمل تابوته إلى الكوفة ودفنه في المشهد بها ، وفعل به ذلك.

ثم تغير الحاكم لمنصور بن عبدون فنكبه وقتله ، وقلّد مكانه زرعة بن نسطوس الوزير ولقبه بالشافي ، وذلك في سنة أربعمائة (١).

وفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وردت الأخبار بالوقعة الكائنة بين الفضل صاحب الحاكم ، وبين أبي ركوة الخارج عليه ، وظفر الفضل به وأخذه وحمله إلى القاهرة وشهره بها وقتله فيها ، وقيل إن أبا ركوة لقب غلب عليه بركوة كانت معه في أسفاره على مذهب الصوفية ، واسمه الوليد أموي من أولاد هشام بن عبد الملك بن مروان ولنوبته في ذلك شرح يطول ، إلا أن أبا ركوة هذا لما انهزم في الوقعة قصد صاحب النوبة ، وتردد من الحاكم إليه بسببه مراسلات إلى أن أنفذه إليه مع أصحابه ، وأنفذ معه صاحبا له بهدايا إلى الحاكم ، وتسلم أبا ركوة أخو الفضل ، وحمله إلى أخيه الفضل ، فسار [به] وكان الفضل يقبل يد أبي ركوة ويعظمه تأنيسا لئلا يقتل نفسه قبل إيصاله وإنزاله في مضاربه ، وأخدمه نفسه وأصحابه ، وكتب [إلى] الحاكم بخبر حصوله ووصوله ، وكان الفضل يدخل عليه في غداة كل يوم إلى خركاة قد ضربت له خيمة ، ويصحبه ويقبل يده ، ويقول له : كيف يا مولاي؟ فيقول : بخير يا فضل أحسن الله جزاءك ، ويحضره شرابا فيشرب بين يديه ، ثم يناوله إياه ويفعل مثل ذلك في طعامه إلى أن وصل الى الجيزة ، فلما حصل بها راسله الحاكم بأن يعبر هو والعسكر الذي معه ، وينزل على رأس الجسر ، ويصل إلى القاهرة ، ففعل ذاك

__________________

(١) هو ابن الوزير عيسى بن نسطورس ، وهو من القلائل الذين أفلتوا من غضب الحاكم ، فلم يقتله. انظر الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي : ٢٤٨.

١٠٤

وكان لا يمشي خطوات إلا وقد تلقته الخدم بالتشريف والحملان ، وهو ينزل عن فرسه ويقبل الأرض ، ويعود إلى ركوبه ، ولم يزل على هذه الحال إلى أن وصل إلى القصر ، ودخل الى القصر على الحاكم ، فخدمه ودعا له ، وشرح حاله إلى أن ظفر بالعدو ، وخرج بعد ذلك الى داره ، وتقدم وجوه القواد وشيوخ الدولة بالمصير الى أبي ركوة ومشاهدته ، ويقال (٤٣ ظ) أن الحاكم قد مضى من غد ذلك اليوم ، وقد رسم أن يشهر ويطاف به في مصر (١) واتفق دخول القائد ختكين الداعي ، وكان قديما صاحب دواة الملك عضد الدولة ، فسلم عليه ، وقال له : ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ فقال له : من أنت؟ قال : فلان ، قال : عرفت حالك وسدادك وأريد أن توصل لي رقعة إلى أمير المؤمنين ، فقال : اكتبها وهاتها ، فاستدعى أبو ركوة دواة من أصحاب الفضل ، ودرجا ، وكتب فيه : يا أمير المؤمنين إن الذنوب عظيمة والدماء حرام ما لم يحلها سخطك ، وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي ، وسوء عملي أوبقني ، وأنا أقول :

فررت ولم يغن الفرار ومن يكن

مع الله لا يعجزه في الأرض هارب

ووالله ما كان الفرار لحاجة

سوى جزع الموت الذي أنا شارب

وقد قادني جرمي اليك برمتي

كما أخر ميتا في رحا الموت سارب

واجمع كلّ الناس أنك قاتلي

ويا ربّ ظنّ ربّه فيه كاذب

وما هو إلّا الانتقام تريده

فاخذك منه واجبا لك واجب

__________________

(١) كانت ثورة أبي ركوة ـ الذي أدعى أنه من ولد هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الداخل ـ أعظم الثورات ضد الفاطميين في مصر ، تفجرت بين قبائل بني قره في الأراضي الليبية الحالية المصاقبة للحدود المصرية ، وقد انضم للثورة قبائل زناته البربرية ، وأخفقت أكثر من حملة وجهها الحاكم للقضاء عليها ، ويبدو أن بعض المساعدات وصلت إلى أبي ركوة من ملك النوبة ، لهذا فرّ إليه عندما أخفقت ثورته ، وقام هذا الأخير بتسليم أبي ركوة كيما يغطي على تواطئه معه. انظر تاريخ دولة الكنور الاسلامية للدكتور عطية القوصي ـ ط. القاهرة ١٩٧٦ : ٤٩ ـ ٥٦.

١٠٥

فمضى ختكين الى الحسين بن جوهر فعرفه ما جرى ، وأعطاه الرقعة فوقف عليها الحاكم ، ثم ركّب جملا وعليه طرطور ، وخلفه قرد معلم يصفعه بالدرة ، وكان الحاكم قد جلس في منظرة على باب من أبواب القصر يعرف بباب الذهب ، فلما وقف به استغاث وصاح بطلب العفو ، فتقدم إلى مسعود السيفي بأن يخرجه إلى ظاهر القاهرة ويضرب عنقه على تل بازاء مسجد زيدان ، فلما حمل هناك وأنزل وجد ميتا ، فقطع رأسه وحمله إلى الحاكم حتى شاهده ، وأمر بصلب جثته ، وكان الفضل قد قطع رؤوس من قتل في الوقعة ، فقيل إنها كانت ثلاثين ألف رأس ، فلما شهرت عبّيت في السلال ، وسيّرت مع خدم شهروها في الشام حتى انتهوا بها إلى الرحبة (١) ، ثم رميت في الفرات ، وقدم الحاكم الفضل وأقطعه وبالغ في اكرامه إلى أن عاده في علة عرضت له دفعتين ، فاستعظم الناس فعله معه ، فلما عوفي عمل عليه وقتله.

* * *

__________________

(١) رحبة مالك بن طوق على الفرات ، خرائبها في أحواز بلدة الميادين الحالية في سورية.

١٠٦

ولاية القائد حامد بن ملهم

المذكور أولا في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة

(٤٤ و) وصل القائد حامد بن ملهم إلى دمشق واليا عليها لست بقين من رجب من السنة ، وقد كان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستوليا على الجند نافذ الأمر في البلد ، فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان من السنة ، وكانت مدة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة أشهر ونصف شهر.

ثم تولى الأمر بعده القائد أبو عبد الله بن نزال ، فدخل إلى دمشق وقرىء سجله على منبر المسجد الجامع ، وأقام المدة اليسيرة ، ثم وافاه كتاب العزل في يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان سنة أربعمائة ، فعزل وولى غلام القائد منير ، فأقام المدة اليسيرة ، ثم أتاه كتاب العزل ، فعزل ، وولّى القائد مظفر في يوم الاثنين أول شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعمائة فأقام في الولاية ستة أشهر وتسعة أيام ، ثم عزل وولى مكانه القائد بدر العطار ، فأقام في الولاية شهرين وعشرة أيام وعزل ، وولّى القائد لؤلؤ ولقب منتجب الدولة وتولى الأمر في يوم الأحد لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة ، ونزل في بيت لهيا وانتقل منها الى الدكة ثم الى مرج الأشعرين (١) ، فأقام فيه أياما ، ودخل القصر في الليل ، فلما أصبح دخل البلد ، وقرىء سجل ولايته على منبر الجامع ، ووافى كتاب عزله ، فعزل وانصرف.

__________________

(١) كان شمالي قلعة دمشق وهو يشمل سوق التبن ، وخان البطيخ ، وخان الباشا إلى سويقة صاروجا. غوطة دمشق : ٢٤٤.

١٠٧

وقيل في أخبار الحاكم بأمر الله أنه أمر في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة بهدم بيعة القمامة في بيت المقدس وهي بيعة عند النصارى جليلة في نفوسهم يعظمونها ، والسبب في ذلك ما اتصل به من هدم الكنائس والبيع بمصر والشام وألزم أهل الذمة الغيار (١) ما قيل أن العادة جارية بخروج النصارى بمصر في كل سنة في العماريات (٢) إلى بيت المقدس لحضور فصحهم في بيعة قمامة ، فخرجوا في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة على رسمهم في ذلك ، متظاهرين بالتجمل الكبير على مثل حال الحاج في خروجهم ، فسأل الحاكم ختكين العضدي الداعي ، وهو بين يديه ، عن أمر النصارى في قصدهم هذه البيعة وما يعتقدونه فيها ، واستوصفه صفتها وما يدعونه لها ، وكان ختكين يعرف أمرها بكثرة تردده الى الشام وتكرره في الرسائل عن الحاكم إلى (٤٤ ظ) ولاتها ، فقال : هذه بيعة تقرب من المسجد الأقصى تعظمها النصارى أفضل تعظيم ، وتحج إليها عند فصحهم من كل البلاد ، وربما صار إليها ملوك الروم وكبراء البطارقة متنكرين ، ويحملون إليها الأموال الجمّة والثياب والستور والفروش ، ويصوغون لها القناديل والصلبان والأواني من الذهب والفضة ، وقد اجتمع فيها من ذاك على قديم الزمان وحديثه الشيء العظيم قدره ، المختلفة أصنافه فإذا حضروا يوم الفصح فيها ، وأظهروا مطرانهم ، ونصبوا صلبانهم ، وأقاموا صلواتهم ونواميسهم ، فهذا الذي يدخل في عقولهم ، ويوقع الشبهة في قلوبهم ، ويعلقون القناديل في بيت المذبح ، ويحتالون في إيصال النار إليها بدهن البلسان وآلته ، ومن طبيعته حدوث النار فيه مع دهن الزنبق ، وله ضياء ساطع وإزهار لامع ، يحتالون بحيلة يعملونها بين كل قنديل وما يليه حديدا ممدودا كهيئة

__________________

(١) أي ألزمهم بتغيير ملابسهم وارتداء ما يميزهم عن المسلمين من حيث الزي والألوان وحمل بعض العلامات الخاصة.

(٢) في الأصل «الغيارات» وهو تصحيف قومته من مرآة الزمان حوادث سنة / ٣٩٨ ه‍ /.

١٠٨

الخيط متصلا من واحد إلى الآخر ، ويطلونه بدهن البلسان طليا يخفونه عن الأبصار حتى يسري الخيط إلى جميع القناديل ، فإذا صلوا وحان وقت النزول ، فتح باب المذبح ، وعندهم أن مهد عيسى عليه‌السلام فيه ، وانه عرج به إلى السماء منه ، ودخلوا وأشعلوا الشموع الكثيرة ، واجتمع في البيت من أنفاس الخلق الكثير ما يحمي منه الموضع ويتوصل بعض القوام إلى أن يقرب النار من الخيط فيعلق به ، وينتقل بين القناديل من واحد إلى واحد ، ويشعل الكل ، ويقدره من يشاهد ذلك أن النار قد نزلت من السماء ، فاشتعلت تلك القناديل.

فلما سمع الحاكم هذا الشرح استدعى بشر بن سور كاتب الانشاء ، وأمره بأن يكتب كتابا إلى والي الرملة وإلى أحمد بن يعقوب الداعي بقصد بيت المقدس ، واستصحاب الأشراف والقضاة والشهود ووجوه البلد ، وينزلا على بيت المقدس وقصد بيعة قمامة وفتحها ونهبها ، وأخذ كل ما فيها ونقضها وتعفيه أثرها ، فإذا نجز الأمر في ذلك يعملا به محضرا وفيه الخطوط ، وينفذانه إلى حضرته. ووصل الكتاب اليهما فتوجها للعمل بما مثل إليهما.

وقد كانت النصارى بمصر عرفوا ما تقدم في هذا الباب ، فبادروا إلى بطرك البيعة ، وأعلموه الحال وأنذروه ، وحذروه ، فاستظهر باخراج ما كان فيها من الفضة والذهب والجواهر والثياب ، ووصل بعد ذلك أصحاب الحاكم (٤٥ و) فأحاطوا بها وأمروا بنهبها ، وأخذوا من الباقي الموجود ما عظم قدره ، وهدمت أبنيتها وقلعت حجرا حجرا ، وكتب بذلك المحضر ، وكتبت الخطوط فيه كما رسم وأنفذ إلى الحاكم (١).

__________________

(١) أثارت مسألة النور هذه خيال الكتاب في الماضي ، وقد كتب سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان في حوادث سنة / ٣٩٨ / : سكنت في البيت المقدس عشر سنين ، وكنت أدخل إلى قمامه في يوم فصحهم وغيره ، وبحثت عن اشعال القناديل في يوم الأحد عيد النور ، وفي وسط قمامه قبة فيها قبر يعتقد النصارى أن المسيح

١٠٩

وشاع هذا الخبر بمصر ، فسرّ المسلمون به ، ودعوا للحاكم دعاء كبيرا

__________________

عليه‌السلام لما صلب دفن فيه ، ثم ارتفع إلى السماء ، فإذا كان ليلة السبت في السحر دخلوا إلى هذه القبة ، فغسلوا قناديلها ، ولهم فيها طاقات مدفونة في الرخام ، وفي الطاقات قناديل قد أوقدوها من السحر ، وللقبة شبابيك فإذا كان وقت الظهر اجتمع أهل دين النصرانية ، وجاء الأقساء فدخلوا القبة ، وطاف النصارى من وقت الظهر حولها يتوقعون نزول النور ، فإذا قارب غروب الشمس تقول الأقساء : إن المسيح ساخط عليكم فيضجون ويبكون ، ويرمون على القبر الذهب والفضة والثياب ، فتحصل جملة كثيرة ، ويردد القسيس هذا القول وهم يبكون ويضجون ويرمون ما معهم ، فإذا غربت الشمس أظلم المكان ، فيغافلهم بعض الأقساء ، ويفتح طاقة من زاوية القبة بحيث لا يراه أحد ، ويوقد شمعة من بعض القناديل ، ويصيح قد نزل النور ، ورضي المسيح ، ويخرج الشمعة من بعض الشبابيك ، فيضجون ضجة عظيمة ويوقدون الفوانيس ، ويحملون هذه النار إلى عكا وصور وجميع بلد الفرنج حتى رومية والجزائر ، وقسطنطينية وغيرها تعظيما لها.

وحدثني جماعة من المجاورين بالقدس قالوا : لما فتح صلاح الدين رحمه‌الله القدس ، وجاء يوم الفصح جاء بنفسه فدخل القبة ، وقال : أريد أشاهد نزول النور ، فقال له البطرك تريد أن تضيع عليك وعلينا أموالا عظيمة لقعودك عندنا ، فإن أردت المال فقم ودعنا ، فقام فما بلغ باب القبة حتى صاحوا : نزل النور ، فقال بعض الحاضرين :

لقد زعم القسيس أن الهه

ينزل نورا بكرة اليوم أو غد

فإن كان نورا فهو نور ورحمة

وإن كان نارا أحرقت كل معبدي

يقربها القسيس من شعر ذقنه

فإن لم تحرقها وإلّا اقطعوا يدي

وحدثني جماعة من أصحاب صلاح الدين رحمه‌الله أنه عزم لما أخذ الفرنج عكا على أن يخرب قمامة ويعفي آثارها ، وقال : يحضر البطرك والأقساء والنصارى ويحفر مكان القبر حتى يطلع الماء ، ويرمي التراب في البحر ، ويقول هذا تراب إلهكم لتنقطع أطماعهم عن زيارته ويستريح منهم ، فقال له أعيان دولته إن أطماعهم لا تنقطع بهذا ، وليس مرادهم مكان القبر ، إنما هم يعتقدون في نفس القدس ، وقمامة عندهم أفضل من غيرها ، وربما أخربوا الجامع الذي بالقسطنطينية والمساجد التي في بلادهم ، وقتلوا من عندهم من المسلمين ، ثم إنهم إنما يصانعونك على القدس لأجل قمامه ، فإذا فعلت هذا زال ما يصالحونك لأجله ، ثم تبطل عليك أموال عظيمة ، فتنضر وهم لا ينضرون فسكت عن خرابها.

١١٠

على ما فعله ورفع أصحاب الأخبار إليه ما الناس من هذه الحال عليه ، ففرح بذلك وتقدم بهدم ما يكون في الأعمال من البيع والكنائس ، ثم حدث من الأمور والانكار لمثل هذه الأعمال والاشفاق على الجوامع والمساجد والمشاهد في سائر الجهات والأعمال من هدمها ، والقصد بمثل العمل لها ، فوقف الأمر في هذا العزم (١).

__________________

(١) أثارت سياسة الحاكم الدينية هذه جدلا كبيرا ، ويلاحظ مما قاله ابن القلانسي أنها وإن مورست أولا ضد غير المسلمين ، إلّا أن ذلك كان مقدمة فقط ، حيث خشي المسلمون بعدها على انفسهم ومساجدهم ، ويمكن أن نرى أعمال الحاكم من زاوية التمهيد لإعلان قيامة عظمى حسب مضمون المذهب الاسماعيلي ، والقيامة العظمى هي الغاء لجميع الشرائع والأديان واحلال دين القيامة محلها ، وملاحظ أن الحاكم لاقى صعوبات جمة في سبيل عمله هذا وكان كل ما تمخض عن مجهوداته تأسيس عقيدة التوحيد أو الديانة الدرزية. انظر مادة الحاكم في كتابي مائة أوائل من تراثنا ، وكتابي أخبار القرامطة : ٤٠ ـ ٤٢ من مدخل الكتاب.

١١١

ولاية الامير وجيه الدولة أبي المطاع

ابن حمدان لدمشق بالأمر الحاكمي

وصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان ، المعروف بذي القرنين إلى دمشق ، واليا عليها في يوم الجمعة عيد النحر من سنة إحدى وأربعمائة فصلى بالناس القائد لؤلؤ الوالي العيد ، وصلى بهم الجمعة الأمير وجيه الدولة ، وانصرف القائد لؤلؤ عن الولاية فكانت مدة اقامته فيها ستة أشهر وثلاثة أيام ، وقرىء سجل الولاية على المنبر ، وأقام المدة التي أقامها ، ووصل القائد بدر العطار إلى دمشق واليا على الغوطتين والشرطة وجبل سنير (١).

وعزل عنها وجيه الدولة بن حمدان في يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الأولى من السنة ، فأقام فيها مديدة ، ووصل القائد أبو عبد الله بن نزال عقيب وصوله الى دمشق واليا عليها ، ونزل في المزة ، ودخل القصر في يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى من السنة ، فدامت ولايته إلى أن ورد كتاب عزله عنها ، وسار منها في يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة سنة ست وأربعمائة فكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما.

ووصل الأمير شهم الدولة شاتكين إلى دمشق واليا عليها في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة سبع وأربعمائة وأقام في الولاية ، ووصل القائد يوسف بن ياروخ ، وهو ابن زوجة الأمير شاتكين الوالي ، إلى دمشق واليا عليها وقرىء (٤٥ ظ) سجلّه بالولاية في ذي القعدة من السنة ، وسار شهم الدولة شاتكين الوالي إلى مصر لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعمائة ووصل

__________________

(١) هو جبل القلمون الحالي ، وهو فرع من فروع جبل لبنان الشرقي. انظر غوطة دمشق لكرد علي : ١٤.

١١٢

الأمير سديد الدولة أبو منصور والي دمشق واليا عليها ، في يوم الأحد لخمس بقين من ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة فنزل المزة ، ودخل القصر في غد ذلك اليوم ، فما شعر إلا وكتاب العزل قد وافاه يوم الأحد لخمس خلون من ربيع الآخر من سنة تسع وأربعمائة فبرز من يومه إلى المزة ، وسار من غده.

ووصل كتاب ولي عهد المسلمين عبد الرحمن بن الياس أخي الحاكم ، إلى القائد بدر العطار في يوم السبت لليلة خلت من جمادى الأولى سنة عشر وأربعمائة يأمره بضبط البلد ، ووصل بعد ذلك أبو القاسم عبد الرحمن ، وقيل عبد الرحيم (١) ولي عهد المسلمين ابن الياس بن أحمد بن العزيز بالله إلى دمشق في يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الأولى سنة عشر وأربعمائة فنزل في المزة ، فأحسن تلقيه ، وبولغ في إكرامه والإعظام له ، والسرور بمقدمه وكان ذلك يوما مشهودا موصوفا ، ودخل القصر في يوم الإثنين مستهل رجب ، فاقام فيه إلى يوم الأحد لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وأربعمائة ، فلم يشعر إلا وقوم قد جردوا إليه من مصر ، فهجموا عليه ، وقتلوا جماعة من أصحابه وساروا به في يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر ربيع الأول ، وعاد بعد ذلك إلى دمشق في رجب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ، ونزل في القصر ، وأكثر الناس في التعجب من اختلاف الآراء في تدبير هذه الولايات ، وتنقل الأغراض والأهواء فيها ، ولم يشعروا وهم يتعجبون من هذه الأحوال ، واستمرار الاختلال إلا وقد وصل من مصر المعروف بابن داود المغربي ، على نجيب مسرع ومعه جماعة من الخدم في يوم الأحد في يوم عرفة بسجل إلى ولي عهد المسلمين المذكور ، ودخلوا عليه القصر ، وجرى بينه وبينهم كلام طويل ، إلا أنهم أخرجوه من القصر وضرب وجهه ، وأصبح الناس في يوم العيد لم يصلوا صلاة العيد في المصلى ، ولا في الجامع ، ولا خطب خطيب ،

__________________

(١) وهذا هو الأشهر وربما الأصح.

١١٣

وساروا بولي العهد في اليوم المذكور إلى مصر ، (١) فزاد عجب الناس وحاروا فيما هم فيه ، وتشاكوا ما ينزل بهم من الأحوال المضطربة (٤٦ و) والأعمال المختلفة.

فوصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان إلى دمشق واليا عليها دفعة ثانية بعد أولى ، وكان أديبا فاضلا شاعرا سائسا مدبرا ، في يوم السبت لست خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فأقام في الولاية مدة ، ووصل الأمير شهاب الدولة شحتكين إلى دمشق واليا عليها في يوم الثلاثاء لسبع خلون من رجب من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة ، فكانت ولايته سنتين وأربعة أشهر ويومين.

__________________

(١) ارتبط الاستدعاء الأول لعبد الرحيم بن الياس بمسألة تولية الحاكم له لولاية عهده والصراعات داخل قصر الخلافة في القاهرة وخارجه حول اعلان القيامة ، وأما الاستدعاء الثاني فجاء بعد اختفاء الحاكم بأمر الله واعلان ابنه إماما جديدا باسم «الظاهر» ، ومعنى هذا نهاية القيامة دين الباطن والعودة إلى الأحكام الظاهرة ، هذا وأورد سبط ابن الجوزي [حوادث سنة ٤١١] معلومات غنية جمعها من مختلف المصادر حول مشكلة مقتل الحاكم ، ثم ختم هذه المعلومات بقوله : وكان ولي عهده [الحاكم] بدمشق واسمه الياس ، وقيل عبد الرحمن وقيل عبد الرحيم بن أحمد ، وكنيته أبو القاسم ، ويلقب بالمهدي ، ولاه الحاكم العهد سنة أربع وأربعمائة.

وقال القضاعي : أنها [ست الملك أخت الحاكم] لما كتبت إلى دمشق بحمل ولي العهد إلى مصر لم يلتفت ، واستولى على دمشق ، ورخص للناس ما كان الحاكم حظره عليهم من شرب الخمر ، وسماع الملاهي ، فأحبه أهل دمشق ، وكان بخيلا ظالما ، فشرع في جمع المال ومصادرات الناس ، فأبغضه الجند وأهل البلد ، فكتبت أخت الحاكم إلى الجند فقبضوه ، وبعثوا به مقيدا إلى مصر ، فحبس في القصر مكرما ، وأقام مدة. ثم روى أنه اغتال نفسه في رواية وفي رواية أخرى قتل بأمر من ست الملك.

١١٤

ووصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان إلى دمشق واليا عليها دفعة ثالثة في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وأربعمائة ، فأقام في الولاية ما أقام مع اختلاف الأحوال إلى أن تقررت الولاية لأمير الجيوش التزبري (١) في سنة تسع عشرة وأربعمائة.

__________________

(١) كذا في الأصل «التزبري» والأشهر «الدزبري» نسبة إلى مولاه الذي كان ضابطا ديلميا ، اشتراه في دمشق فنسب إليه ، هذا وسبق لي أن تعرضت لشخصية الدزبري وحياته وأعماله في كتابي «إمارة حلب ـ ١٠٠٤ ـ ١٠٩٤ م (بالانكليزية) ص : ١٢٩ ـ ١٣٩ ، هذا وسيرد اسمه في بقية الكتاب «الدزبري».

١١٥

ولاية أمير الجيوش الدزبري الختلي

لدمشق في سنة تسع عشرة وأربعمائة وشرح حاله

وابتداء أمره والسبب في توليته ، وذكر شيء من أخباره إلى إنتهاء مدته ، بحكم تميزه عن الولاة المذكورين : بالشجاعة والشهامة ، وحسن السياسة ، وإجمال السيرة والنصفة في العسكرية والرعية ، وحماية الأعمال بهيبته المشهورة وبفطنته المشكورة ، وتشتيت شمل أولي الفساد من الأعراب ، واستقامة الأمور بإيالته على قضية الإيثار والمراد.

هو الأمير المظفر ، أمير الجيوش ، عدة الإمام ، سيف الخلافة ، عضد الدولة ، شرف المعالي أبو منصور أنوشتكين ، مولده ما وراء النهر في بلد الترك ، في البلد المعروف بختل ، وسبي منه ، وحمل إلى كاشغر ، وهرب إلى بخارى وملك بها وحمل إلى بغداد ، ثم إلى دمشق ، وكان شتيم (١) الوجه ، بيّن التركية ، وكان وصوله سنة أربعمائة فاشتراه القائد تزبر» (٢) بن أونيم الديلمي ، وكان ندبه لحماية أملاكه وصونها من الأذى ، فكفاه ذلك بشهامته ، وصرامته فاشتهر بذاك أمره ، وشاع ذكره ، وسئل مولاه أن يهديه للإمام الحاكم بأمر الله ، وقيل بل وصله الأمر بحمله ، فحمل في جملة غلمان في سنة ثلاث وأربعمائة (٤٦ ظ) فاستطرف من بينهم ، وجعل في الحجرة ، فقهر من بها من الغلمان ، وطال عليهم باليقظة والذكاء ، وجعل يلقب كل غلام بما يليق به ، فشكوه إلى المتولي فضربه ، وتزايد أمره ، فأخرج منها في سنة خمس وأربعمائة ولزم الخدمة ، وجعل يتقرب إلى الخاص والعام بكل ما يجد السبيل

__________________

(١) أي كريه الوجه مثل الأسد ـ لسان العرب ، فلعله كان من أصل مغولي.

(٢) كذا بالأصل والأشهر والمعتمد «دزبر».

١١٦

إليه من التودد والاكرام ، لما يريد الله تعالى من اسعاد جده ، وإظهار سعده ، فارتضى الحاكم مذهبه في الخدمة ، وزاد في واجبه ، وقوده وسيّره مع سديد الدولة ذي الكفايتين الضيف في العسكر إلى الشام في سنة ست وأربعمائة ، ودخل إلى البلد دمشق ، ولقي مولاه القائد دزبر ، فترجل له وقبّل يده ، وصار يتودد إلى الكبير والصغير ، ونزل في دار حيّوس بحضرة زقاق عطاف (١) ، ثم عاد إلى مصر ، وجرد إلى الريف في السيارة ، ثم عاد الى مصر ، ولزم الخدمة بالحضرة ، ولزم بعلبك واليا عليها ، وحسنت حاله فيها ، وانتشر ذكره بها ، وصادق ولاة الأطراف وكاتب عزيز الدولة فاتكا ، والي حلب (٢) وهاداه ، ولقب منتجب الدولة ، وورد الأمر عليه بالمسير إلى الحضرة فلما بلغ العريش وصله النجاب بالسجل بولاية قيسارية ، والأمر بالعود إليها فشق ذلك عليه ، وقال : أنقل من ولاية بعلبك إلى ولاية قيسارية ، وكان من حسن سياسته فيها ، وجميل عشرته لأهلها وحمايته لها ، ما ذاع به ذكره ، وحسن به صيته ، وكثر شكره ، وورد الخبر بقتل فاتك والي حلب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة قتله غلام له هنديّ قد رباه واصطفاه ، وتوثق به واجتباه ، وهو نائم عقيب سكره ، بسيفه ، وعمل فيه شاعره المعروف بمفضل بن سعد (٣) قصيدة رثاه بها ، وذكر فيها من بعض أبياتها :

لحمامه المقضي ربّي عبده

ولنحره المفري حدّ حسامه

__________________

(١) داخل باب الجابية هي الآن حي الخيضرية ـ الخيضرية ـ والدار التي نزل بها كانت دار والد ابن حيوس [أبو الفتيان محمد بن سلطان] أكبر شعراء الشام ومصر في القرن الخامس ، وشاعر الدزبري أثناء ولايته في الشام. انظر ديوان ابن حيوس ، ط. دمشق ١٩٥١ : ١ / ٦ ـ ٧.

(٢) من أشهر ولاة الفاطميين لحلب ، كانت له علاقات جيدة مع أبي العلاء المعري وله صنف : «رسالة الصاهل والشاحج» وكتاب «القائف» اغتيل في بداية عهد الظاهر. انظر زبدة الحلب : ٢ / ٢١٥ ـ ٢٢١.

(٣) من شعراء المعرة اختص بعزيز الدولة حتى عرف به فقيل «العزيزي» ، انظر زبدة الحلب : ١ / ٢١٥ ـ ٢٢٠.

١١٧

وكتب الى منتجب الدولة بالمسير إلى الحضرة ، فوصلها وولي فلسطين ، ووصل اليها في يوم الثلاثاء من المحرم سنة أربع عشرة وأربعمائة وبلغ حسان ابن مفرج بن الجراح خبره ، فقلق له وتخوفه ، ثم علا ذكره وظهر أمره وكثرت عدته وعدته ، وقويت شوكته ، وجرت له وقائع مع العرب يستظهر فيها عليهم ويثخن فيهم ، فكبر بذلك شأنه ، ثم حسد وسعي فيه إلى الحضرة ، وكوتب الوزير حسن بن صالح في بابه بأمر قرّره حسان (٤٧ ظ) بن مفرج بن الجراح ونسب إليه كل قبيح ومحال ، فاستؤذن في القبض عليه ، فأذن في ذلك ، فقبض عليه بعسقلان بحيلة دبرت له في سنة سبع عشرة وأربعمائة ، وسأل فيه سعد السعداء فأجيب سؤاله ، لجلالة مكانه ، وأطلق من الاعتقال ، ووصل إلى الحضرة ، وحسنت حالته ، وظهرت هيبته ، وظهرت هيئة إقطاعه وغلمانه ودوابه ، وهو مع ذلك ينفذ رسله إلى الشام وسائر الأعمال ، وتأتيه بالأخبار ويطالع بها ، فكثر تعجب الوزير من يقظته ، ومضاء همته وعزيمته.

وكانت العرب بعده قد استولت على الأعمال ، وأفسدت الشام ، وملك حسان أملاك الملاك ، واتفق الخلف الجاري بين أرباب الدولة عقيب وفاة الحاكم ، وترافع القواد والولاة إلى أن تقررت الحال على صرف الوزير ، وتقليد الوزارة لنجيب الدولة علي بن أحمد الجرجرائي ، فنظر في الأعمال وهذب ما كان مستوليا عليها من الإضاعة والاهمال ، واقتضت الآراء وصواب التدبير تجريد العساكر المصرية إلى الشام ، ووقع الاختيار في ذلك على الأمير منتجب الدولة ، فاستدعاه الوزير علي بن أحمد الجرجرائي ، وقال له :

ما تحتاج إليه لخروجك إلى الشام ودمشق؟ فقال : فرسي البرذعية وخيمة أستظل بها ، فعجب الوزير من مقاله ، واستعاد فرسه المذكورة من سعد السعداء ، وردها إليه وأطلق له خمسة آلاف دينار ، وأصحبه صدقة بن يوسف الفلاحي ناظرا في الأموال ونفقة الرجال ، وجردت العساكر معه ، ولقب بالأمير

١١٨

مظفر منتجب الدولة ، وخلع عليه وخرج إلى مخيمه ، وجملة من جرد معه سبعة آلاف فارس وراجل سوى العرب ، وسار في ذي القعدة [سنة تسع عشرة وأربعمائة](١) وودعه الامام الظاهر لإعزاز دين الله ، وعيد بالرملة عيد النحر ، وسار إلى بيت المقدس ، وجمع العسكر ، وقصد صالح بن مرداس وحسان بن مفرج ، وجموع العرب عند معرفته بتجميعهم ، ووقع اللقاء في الأقحوانة (٢) ، والتقى الفريقان فهزمت جموع العرب ، وأخذتهم السيوف ، وتحكمت فيهم ، وكان صالح بن مرداس على فرسه المشهور ، فوقف به من كدّ الهزيمة ، ولم ينهض به ، فلحقه رجل من العرب يعرف بطريف من فزارة ، فضربه بالسيف في رأسه وكان مكشوفا (٤٧ ظ) فصاح ووقع ولم يعرفه ، وتمّ في طلب فرسه ، فمر به رجل من البادية فعرفه فقطع رأسه وعاد يرقص به ، فلقيه الأمير عزّ الدولة رافع (٣) فأخذه منه ، وجاء به إلى الأمير المظفر ، فلما رآه نزل عن فرسه وسجد لله شكرا على ما أولاه من الظفر ، وركب وأخذه بيده ، وجعله على ركبته وأطلق للزبيدي (٤) الذي جاء به ألف دينار ، ولعز الدولة رافع خمسة آلاف دينار ، وأطلق لطريف الذي ضربه بالسيف فرسه وجوشنه وألف دينار ، وأخذ الغلمان الأتراك الزي لصالح نفسه ، وأحسن

__________________

(١) فراغ بألأصل ، ملأته من مختلف المصادر التي تحدثت عن حلف قبائل الشام الثلاث الكبرى : كلب ، طيء ، كلاب ، بزعامة : سنان بن عليان الكلبي ، وحسان بن المفرج الطائي ، وصالح بن مرداس الكلابي ، على اقتسام الشام بعد طرد الفاطميين ، انظر كتابي : امارة حلب ـ ط. بيروت ١٩٧١ : ١٠٠ ـ ١٠١.

(٢) في منطقة طبرية على مقربة من فيق. معجم البلدان.

(٣) رافع بن أبي الليل من أمراء كلب ، انفصل عن عمه سنان بن عليان ، وانضم جهارة إلى صف الفاطميين واشترك إلى صفهم في معركة الأقحوانة. انظر امارة حلب : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٤) أي الرجل «من البادية» الذي تعرف إلى جثة صالح بن مرداس ، هذا ويروى أن الذي تولى قتل صالح هو رافع بن أبي الليل بن عليان نفسه.

١١٩

إليهم ، وتقدم بجمع الرؤوس وأنفذ جثة صالح إلى صيدا لتصلب على بابها ، وأوصل رأسه إلى الحضرة ، وخلع على الواصلين به ، وأعيدوا ومعهم الخلع ، وزيادة الألقاب للامير المنجب ، وقرىء سجله عليه ، وصار يكاتب ويخاطب بالأمير المظفر سيف الإمام ، وعدة الخلافة ، مصطفى الملك ، منتجب الدولة.

وقال فيه الأمير أبو الفتيان محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس من قصيدة امتدحه بها :

فكم ليلة نام عني الرقيب

ونبّهني القمر المرتقب

جمعت بها بين ماء الغمام

وماء الرضاب وماء العنب

كجود المظفّر سيف الامام

وعدته المصطفى المنتجب (١)

ولما توجه عقيب ذلك إلى حلب ، ونزل عليها ظفر بشبل الدولة نصر بن صالح (٢) ، وكان قد انهزم ولحقه رجل فرماه بخشت في كتفه فأنفذه ، ووقع عن فرسه ، ومرّ به أحد الأتراك فقطع رأسه وسلمه إلى رافع ، وأنفذ من يسلم جثته إلى حماة ، فصلبت على الحصن وأمر أمير الجيوش بعد ذاك بإنفاذ ثياب وطيب وتكفين الجثة في تابوت ، ودفنها في المسجد ، وبقيت فيه إلى سنة تسع وثلاثين وأربعمائة ونقلها مقلد بن كامل (٣) لمّا ملك حماة إلى قلعة حلب ، وأنفذ الرأس والتركي والبدوي مع الشريف الزيدي الى الحضرة ، في نصف شعبان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، وعاد أمير الجيوش إلى دمشق ،

__________________

(١) ديوانه : ١ / ٦٦ مع بعض الخلاف.

(٢) حدثت المعركة بين نصر بن صالح والدزبري على مقربة من حماة سنة ٤٢٨ ه‍ / ١٠٣٨ م. انظر امارة حلب : ١٢٣ ـ ١٢٥.

(٣) من أولاد عم نصر بن صالح شغل أكثر من وظيفة هامة أيام الدولة المرداسية. انظر امارة حلب : ١١٠ ، ١١٢ ، ١٣٢ ، ١٤٤.

١٢٠