تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

الجندارية الى الحمام بالقلعة ، في يوم الأحد مستهل ذي القعدة من السنة ، وضربت عنقه صبرا ، وأخرج رأسه ونصب على حافة الخندق ، ثم طيف به والناس يلعنونه ويصفون أنواع ظلمه وتفننه في الأدعية والفساد ، ومقاسمة اللصوص ، وقطاع الطريق على أموال الناس المستباحة بتقريره ، وحمايته ، وكثر السرور بمصرعه ، وابتهج بالراحة منه ، ثم رجعت العامة والغوغاء ، ومن كان من أعوانه على الفساد من أهل العيث والافساد الى منازله وخزائنه ، ومخازن غلته وأثاثه وذخائره ، فانتهبوا منها ما لا يحصى ، وغلبوا أعوان السلطان وجنده عليها بالكثرة ، ولم يحصل للسلطان من ذلك إلا النزر (١٧٦ و) اليسير ، وردّ أمر الرئاسة والنظر في البلد في اليوم المقدم ذكره الى الرئيس رضي الدين أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي ، وطاف في البلد مع أقاربه ، وسكن أهله ، وسكنت الدهماء ، ولم يغلق في البلد حانوت ولا اضطرب أحد ، واستبشر الناس قاطبة من الخاص والعام والعسكرية ، وعامة الرعية ، وبولغ في إخراب منازل الظالم ، ونقل أخشابها ، وهذه عادة الباري تعالى في الظالمين ، والفسقة المفسدين ، (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١).

وفي ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وردت الأخبار من ناحية بغداد ، بورود الأخبار إليها من ناحية الشرق باضطراب الأحوال في الأعمال الخراسانية ، وانفلال عسكر السلطان سنجر ، والاستيلاء عليه والقهر ، والاستظهار ، وحصره في دار مملكته بلخ ، والتضييق عليه ، واستدعاء ما في خزائنه من الأموال ، والآلات والذخائر والأمتعة ، والجواهر بخلق عظيم من الغز والتركمان ، تجمعوا من أماكنهم ومعاقلهم ، وحللهم في الأعداد الدثرة ، والتناهي في الاحتشاد والكثرة ، ولم يكن للسلطان سنجر مع كثرة عساكره

__________________

(١) القرآن الكريم ـ هود : ١٠٢.

٥٠١

وأجناده [بهم] طاقة ، ولا لدفعهم (١) قوة ، فقهروه وغلبوه وحصروه ، وقيل إن نيسابور (٢) وتلك الأعمال حدث فيها من الفساد والخلف ، والقتل والنهب ، والسلب ما ترتاع النفوس باستماع مثله ، وتفرق من قبح فعله ، ونهبت بلخ بالمذكورين المقدم ذكرهم أشنع نهب ، وأبشع سلب ، فسبحان مدبر بلاده وعباده ، كما يشاء ، إنه على كل شيء قدير.

وفي الشهر المذكور حدث بمدينة دمشق إرتفاع السعر ، لعدم الواصلين إليها بالغلات في بلاد الشمال ، على جاري العادة ، بتقدم نور الدين صاحب حلب ، بالمنع من ذلك ، وحظره ، فأضر ذلك بأهلها من المستورين والضعفاء والمساكين ، وبلغ سعر الغرارة الحنطة خمسة وعشرين دينارا ، وزاد على ذلك ، وخلا من البلد الخلق الكثير ، ولقوا من البؤس والشدة والضعف ما أوجب موت جماعة وافرة في الطرقات ، وانقطعت الميرة من كل الجهات ، وذكر أن نور الدين عازم على قصد دمشق بمنازلتها ، والطمع لهذه الحال في مملكتها ، وذلك مستصعب عليه لقوة سلطانها ، وكثرة أجنادها (١٧٦ ظ) وأعوانها ، والله تعالى المرجو لقرب الفرج ، وحسن النظر بخلقه بالرأفة والرحمة ، كما جرت عوائد إحسانه وفضله فيما تقدم.

وفي أواخر ذي القعدة استدعي الرئيس رضي الدين إلى القلعة المحروسة ، وشرف بالخلع المكملة ، والمركوب بالسخت والسيف المحلي ، والترس ، وركب معه الخواص وأصحاب الركاب الى داره ، وكتب له المنشور بالتقليد والإقطاع ، ولقب بالرئيس الأجل رضي الدين وجيه الدولة ، سديد الملك ، فخر الكفاة ، عز المعالي شرف الرؤساء ، وكان عطاء الخادم ، المقدم ذكره ،

__________________

(١) في الأصل وأجناده كافة ولا لدفعه عنه ، وقد أضيف ما بين الحاصرتين وقوم النص كيما يستقيم السياق.

(٢) في الأصل : نيشاوور ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

٥٠٢

قد استبد بتدبير الأمور ، ومد يده في الظلم ، وأطلق لسانه بالهجر ، وأفرط في الاحتجاب عن الشاكي والمشتكي ، بالغلمان والحجاب ، وقصر في قضاء الحوائج تقصيرا منكرا ، واتفق للأقضية المقدرة والمكافأة المقررة ، أن تقدم مجير الدين باعتقاله وتقييده ، والاستيلاء على ما في داره ، ومطالبته بتسليم بعلبك ، وما فيها من مال ، وغلال ، وسرت بمصرعه النفوس ، ونهب العوام والغوغاء بيوت أصحابه وأسبابه ، وأرسل الله تعالى الغيث المتدارك ، بحيث افترت الأرض عن نضارتها ، وأبانت عن اخضرارها وغضارتها.

ولما كان في يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة من السنة ، أمر مجير الدين بضرب عنق عطاء الخادم المذكور ، لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه.

وفي يوم الأربعاء السابع وعشرين من ذي الحجة ، استدعى مجير الدين أبا الفضل ، ولد نفيس الملك ، المستوفي لجده تاج الملوك رحمه‌الله ، ورد إليه استيفاء ديوانه على عادة أبيه ، ولقبه لقب أبيه وجيه الدين نفيس الملك ، وتقرر اشراف الديوان للعميد سعد الدولة أبي الحسن علي بن طاهر الوزير المزدقاني.

ودخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

أولها يوم الاربعاء ، مستهل المحرم ، والطالع للعالم الجوزاء ، وفي العشر الثاني من المحرم منها وصل الأمير الأسفهلار أسد الدين شيركوه ، رسولا من نور الدين صاحب حلب ، الى ظاهر دمشق ، وخيم بناحية القصب من المرج ، في عسكر يناهز الألف ، فأنكر ذاك ، ووقع الاستيحاش منه ، وإهمال الخروج إليه ، لتلقيه والاختلاط به ، وتكررت المراسلات فيما اقتضته الحال ، ولم تسفر عن سداد ولا نيل مراد.

٥٠٣

وغلا سعر الأقوات (١٧٧ و) لانقطاع الواصلين بالغلات ، ووصل نور الدين في عسكره الى شيركوه في يوم الأحد الثالث من صفر ، وخيم بعيون الفاسريا عند دومة ، ورحل في الغد ، ونزل بأرض الضيعة المعروفة ببيت الابار (١) من الغوطة ، وزحف الى البلد من شرقية ، وخرج إليه من عسكريته وأحداثه الخلق الكثير ، ووقع الطراد بينهم ، ثم عاد كل من الفريقين الى مكانه ، ثم زحف يوما بعد يوم ، فلما كان يوم الأحد العاشر من صفر ، للأمر المقدر المقضي ، والأمر الماضي ، وسعادة نور الدين الملك ، وأهل دمشق ، وكافة الناس أجمعين ، باكر الزحف ، وقد احتشد ، وتهيأ لصدق الحرب ، وظهر إليه العسكر الدمشقي على العادة ، ووقع الطراد بينهم ، وحملوا من الجهة الشرقية من عدة أماكن ، فاندفعوا بين أيديهم حتى قربوا من سور باب كيسان والدباغة من قبلي البلد ، وليس على السور نافخ ضرمة من العسكرية والبلدية ، لسوء تدبير صاحب الأمر ، والأقدار المقدرة ، غير نفر يسير من الأتراك المستحفظين ، لا يؤبه لهم ، ولا يعول عليهم في أحد الأبراج ، وتسرع بعض الرجالة الى السور ، وعليه امرأة يهودية ، فأرسلت إليه حبلا ، فصعد فيه ، وحصل على السور ، ولم يشعر به أحد ، وتبعه من تبعه ، واطلعوا علما نصبوه على السور ، وصاحوا : نور الدين يا منصور ، وامتنع الأجناد والرعية من الممانعة ، لما هم عليه من المحبة لنور الدين ، وعدله ، وحسن ذكره ، وبادر بعض قطاعي الخشب بفأسه الى الباب الشرقي ، فكسر أغلاقه ، وفتح فدخل منه العسكر على رعب ، وسعوا في الطرقات ولم يقف أحد بين أيديهم ، وفتح باب توما أيضا ، ودخل الناس منه ثم دخل الملك نور الدين وخواصه ، وسر كافة الناس ومن الأجناد والعسكرية لما هم عليه من الجوع وغلاء الأسعار ، والخوف من منازلة الأفرنج الكفار.

__________________

(١) بليدة خربت ، كان من عملها المنيحة وجرمانا ودير هند وبيت سابر ، والغالب أنها التل الكبير الماثل للعيان شرقي جرمانا ، غوطة دمشق : ٢٢٣.

٥٠٤

وكان مجير الدين لما أحس بالغلبة والقهر ، قد انهزم في خواصه الى القلعة ، وأنفذ إليه وأومن على نفسه وماله ، وخرج الى نور الدين ، فطيب نفسه ، ووعده الجميل ، ودخل القلعة في يوم الأحد المقدم ذكره ، وقد أمر نور الدين في الحال بالمناداة بالأمان للرعية ، والمنع من انتهاب شيء من دورهم ، وتسرع قوم من الرعاع والأوباش الى سوق علي (١) وغيره ، فعاثوا ونهبوا ، وأنفذ المولى الملك نور الدين الى أهل البلد بما طيب (١٧٧ ظ) نفوسهم ، وأزال نفرتهم ، وأخرج مجير الدين ما كان له في دوره بالقلعة والخزائن من المال ، والآلات ، والأثاث على كثرته الى الدار الأتابكية ، دار جده ، وأقام أياما ، ثم تقدم إليه بالمسير الى حمص في خواصه ، ومن أراد الكون معه من أسبابه وأتباعه ، بعد أن كتب له المنشور بإقطاعه عدة ضياع بأعمال حمص برسمه ، ورسم جنده وتوجه الى حمص على القضية المقدرة (٢) ، ثم أحضر بعد ذلك اليوم أماثل الرعية من الفقهاء ، والتجار ، وخوطبوا بما زاد في إيناسهم ، وسرور نفوسهم ، وحسن النظر لهم بما يعود بصلاح أحوالهم ، وتحقيق آمالهم ، فأكثر الدعاء له ، والثناء عليه ، والشكر لله على ما أصاروه إليه ، ثم تلا ذلك ابطال حقوق دار البطيخ ، وسوق البقل وضمان الأنهار ، وأنشأ بذلك المنشور ، وقرئ على المنبر بعد صلاة الجمعة ، فاستبشر الناس بصلاح الحال ، وأعلن الناس من التناء والفلاحين ، والحرم

__________________

(١) على مقربة من القلعة ، حيث قام ما عرف باسم سوق الخيل الى امتداد منطقة البحصة الحالية.

(٢) أورد ابن الأثير في كتابه الباهر : ١٠٨ «وأما مجير الدين فإنه أقام بحمص ، وراسل أهل دمشق في اثارة الفتنة ، فأنهي الأمر الى نور الدين ، فخاف أن يحدث ما يشق تلافيه ، بل ربما تعذر ، لا سيما مع مجاورة الفرنج ، فأخذ حمص من مجير الدين ، وعوضه عنها مدينة بالس ، فلم يرضها ، وسار عن الشام الى العراق ، فأقام ببغداد ، وابتنى دارا تجاور المدرسة النظامية ، وتوفي بها».

٥٠٥

والمتعيشين برفع الدعاء الى الله تعالى بدوام أيامه ، ونصرة أعلامه ، والله سبحانه وليّ الإجابة بمنة وفضلة.

وقد كان مجاهد الدين بزان قد أطلق يوم الفتح من الإعتقال ، وأعيد الى داره ، ووصل الرئيس مؤيد الدين المسيب الى دمشق مع ولده النائب عنه في صرخد الى داره ، معولا على لزومها ، وترك التعرض لشيء من التصرفات والأعمال ، فبدا منه من الأسباب المعربة عن إضمار الفساد ، والعدول عن مناهج السداد والرشاد ، ما كان داعيا الى فساد النية فيه ، وكان في احدى رجليه فتح قد طال به ونسر ، ثم لحقه معه مرض وانطلاق متدارك أفرط عليه ، وأسقط قوته مع فهاق متصل ، وقلاع في فيه زائد ، فقضى نحبه في الليلة التي صبيحتها يوم الأربعاء الرابع من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين ودفن في داره ، واستبشر الناس بمهلكه ، والراحة منه ، ومن سوء أفعاله ، بحيث لو عدت مخازيه مع جنونه واختلاله ، لطال بها الشرح ، وعجز عنها الوصف.

وفي أواخر المحرم من السنة ، ورد الخبر من ناحية ماردين ، بوفاة صاحبها الأمير حسام الدين بن ايل غازي بن أرتق ، رحمه‌الله ، في أول المحرم ، وكان مع شرف قدره في التركمان ، ذكيا محبا لأهل العلم والأدب ، مميزا عن أمثاله بالفضيلة.

وفي شهر ربيع الأول من السنة وردت الأخبار من ناحية مصر ، بأن الإمام الظافر بالله أمير المؤمنين (١٧٨ و) صاحبها ، كان ركن الى أخويه يوسف وجبريل ، والى ابن عمهم صالح بن حسن ، وأنس بهم في أوقات مسراته ، فعملوا عليه ، واغتالوه وقتلوه ، واخفوا أمره في يوم الخميس انسلاخ صفر سنة تسع وأربعين وحضر الإمام ، العادل عباس الوزير ، وولده ناصر الدين ، وجماعة من الأمراء والمقدمين للسلام على الرسم ، فقيل لهم : إن أمير المؤمنين ملتاث الجسم ، فطلبوا الدخول عليه لعيادته فاحتج عليهم ، فلم يقبلوا ، وألحوا في الطلب ، فظهر الأمر وانكشف ، واقتضت الحال

٥٠٦

المسارعة الى قتل الجناة في الوقت والساعة ، وإقامة ولد الظافر عيسى ، وهو صغير يناهز ثلاث سنين ، ولقبوه الفائز بنصر الله ، وأخذ البيعة على الأجناد والعسكرية وأعيان الرعية على جاري العادة ، والعادل عباس الوزير ، وإليه تدبير الأمور ، واستمرت الأحوال على المنهاج (١).

ثم ورد الخبر بعد ذلك بأن الأمير فارس المسلمين ، طلائع بن رز بك ، وهو من أكابر الأمراء المقدمين ، والشجعان المذكورين ، لما انتهى إليه الخبر ، وهو غائب عن مصر ، قلق لذاك ، وامتعض ، وجمع واحتشد ، وقصد العود الى مصر ، فلما عرف عباس الوزير بما جمع ، خاف الغلبة والإقدام على الهلكة ، إذ لا طاقة له بملاقاته في حشده الكثير ، ولم يمكنه المقام على الخطار بالنفس ، فتأهب للهرب في خواصه وأسبابه ، وحرمه ووجوه أصحابه ، وما تهيأ من ماله وتجمله وكراعه ، وسار مغذا ، فلما قرب من أعمال عسقلان وغزة ظهر اليه جماعة من خيالة الأفرنج ، فاغتر بكثرة من معه ، وقلة من قصده ، فلما حملوا عليه قتل أصحابه وأعانوا عليه ، وانهزم أقبح هزيمة هو وولد له صغير ، وأسر ابنه الكبير الذي قتل ابن السلار مع ولده وحرمه وماله وكراعه ، وحصلوا في أيدي الأفرنج ، ومن هرب لقي من الجوع والعطش ، ومات العدد الكثير من الناس والدواب ، ووصل الى دمشق منهم من نجاه الهرب ، على أشنع صفة من العدم والعري والفقر ، في أواخر شهر ربيع الآخر من السنة ، وضاقت صدور المسلمين بهذه المصيبة المقضية بيد الأفرنج ، فسبحان من لا يرد له قضاء ، ولا محتوم أمر (٢).

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل انظر اتعاظ الحنفا : ٣ / ٢٠٨ ـ ٢١٤.

(٢) يروي المقريزي دخول طلائع الى القاهرة ويذكر : «وأما عباس فإنه سار بمن معه يريد أيلة ليسير منها الى بلاد الشام ، فأرسلت أخت الظافر الى الفرنج بعسقلان رسلا على البريد تعلمهم الحال ، وتبذل لهم الأموال في الخروج الى عباس ، واباحتهم جميع ما معه ، وأن يبعثوا به الى القاهرة ، فأجابوا الى ذلك». اتعاظ الحنفا : ٣ / ٢١٥ ـ ٢٢٠.

٥٠٧

وفي آخر شهر ربيع الأول ، وصل الأمير الاسفهسلار مجد الدين أبو بكر (١) محمد نائب المولى (١٧٨ ظ) الملك نور الدين في حلب الى دمشق ، عقيب عوده من الحج ، وأقام أياما وعاد منكفئا الى منصبه في حلب ، وتدبير أعمالها وتسديد أحوالها.

وفي شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، ثار في دمشق مرض مختلف الحميات منه ما يقصر ومنه ما يطول ، وأعقبه بعد ذلك موت في الشيوخ والشباب والصبيان ، ثم تقاصر ذلك.

وفي أيام من جمادى الأولى من السنة ورد الخبر من ناحية مصر ، بأن عدة وافرة من مراكب الأفرنج ، من صقلية وصلت الى مدينة تنيس ، على حين غفلة من أهلها فهجمت عليها ، وقتلت وأسرت وسبت وانتهبت ، وعادت بالغنائم بعد ثلاثة أيام وتركها صفرا (٢) وبعد ذلك عاد من كان هرب منها في البحر بعد الحادثة ، ومن سلم ، واختفى ، وضاقت الصدور ، عند استماع هذا الخبر المكروه.

وفي شهر رمضان ورد الخبر من ناحية حلب ، بوفاة القاضي فخر الدين أبي منصور محمد بن عبد الصمد الطرسوسي ، رحمه‌الله ، وكان ذا همة ماضية ، ويقظة مضيئة ، ومروءة ظاهرة في داره وولده ومن يلم به من غريب ووافد ، وقد نفذ أمره وتصرفه في أعمال حلب في أيام الملكية النورية ، وأثر في الوقوف أثرا حسنا ، توفر به ارتفاعه ثم انعزل عن ذلك أجمل اعتزال.

__________________

(١) هو ابن الداية ، وكان نور الدين كثير الاعتماد عليه وعلى أخوته ، ويرد ذكرهم كثيرا في الأيام النورية. الروضتين ١ / ٩٩.

(٢) في الأصل : «وهي صفر». وهي تصحيف قوّم من الروضتين : ١ / ٩٩ ، حيث رواية ابن القلانسي.

٥٠٨

وفي يوم الثلاثاء الثامن من شهر رمضان سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، توفي الحكيم أبو محمد بن حسين الطبيب المعري ، رحمه‌الله ، وكان حسن الطريقة والصناعة ، كثير التجربة ، ثاقب المعرفة ، فكثر التأسف عليه ، وعند فقد مثله.

ودخلت سنة خمسين وخمسمائة

وأولها يوم الاثنين مستهل المحرم ، والطالع العقرب عشرون درجة وثلاثون دقيقة وثمان وأربعون ثانية ، وفي اليوم الرابع والعشرين من ربيع الأول من السنة ، تقررت أسباب الموادعة بين الملك العادل نور الدين ، صاحب دمشق ، وبين ملك الأفرنج تقدير السنة ، وتمهدت القاعدة على هذه الحال الى آخر المدة المستقرة ، وبعد أيام قلائل من ذلك خرج الأمر الملكي النوري بالقبض على ضحاك والي بعلبك ، وطلب منه تسليمها ، فأجاب الى ذلك ورحل العسكر المنصور إليها لتسلمها ، وفي يوم الخميس السابع من (١٧٩ و) شهر ربيع الأول من السنة كان تسليمها (١) ، ورتب فيها من سلمت إليه ، واعتمد في حفظها عليه ، وفي يوم الاثنين الحادي وعشرين من رجب من السنة توجه الأمير أسد الدين شيركوه الى حلب ، عند استدعاء الملك العادل نور الدين له.

وفي أيام من شعبان من السنة ، ورد الخبر من ناحية مصر بأن المنتصب في الوزارة فارس الاسلام ابن رزيك ، لما استقام له الأمر عزم على مصالحة الأفرنج وموادعتهم ، واستكفاف شرهم ، ومصانعتهم بمال يحمل إليهم من

__________________

(١) في الروضتين : ١ / ٩٩ : «ورأيت بعض المؤرخين قد ذكر أن مجير صاحب دمشق ، أنزل نجم الدين من القلعة ، وجعله في البلد ـ بعلبك ـ وولى القلعة رجلا يقال له ضحاك ، فلما ملك نور الدين دمشق ، خرج الى بعلبك ، واستنزل منها ضحاكا».

٥٠٩

الخزانة ، وما يفرض على اقطاع المقدمين من الأجناد ، فحين شاورهم في ذلك أنكروه ، ونفروا منه ، وعزموا على عزله والاستبدال به من يرتضون به واختاروا مقدما يعرف بالأمير .. (١) مشهورا بالشهامة والبسالة وحسن السياسة ، وارتضى لتولية الأسطول المصري مقدما من البحرية شديد البأس ، بصيرا بأشغال البحر ، فاختار جماعة من رجال البحر يتكلمون بلسان الأفرنج ، وألبسهم لباس الأفرنج ، وأنهضهم في عدة من المراكب الأسطولية ، وأقلع في البحر لكشف الأماكن والمكامن والمسالك المعروفة بمراكب الروم ، وتعرف أحوالها ، ثم قصد ميناء صور ، وقد ذكر له أن فيه شختورة رومية كبيرة ، فيها رجال ، ومال كبير وافر ، فهجم عليها وملكها ، وقتل من فيها ، واستولى على ما حوته ، وأقام ثلاثة أيام ثم أحرقها ، وعاد عنها في البحر ، فظفر بمراكب حجاج افرنج ، فقتل وأسر وانتهب ، وعاد منكفئا الى مصر بالغنائم والأسرى.

وفي الشهر المذكور ، ورد الخبر من ناحية حلب ، بوقوع الخلف بين أولاد الملك مسعود بعد وفاته ، وبين أولاد قتلمش ، وبين أولاد قلج أرسلان ، وأن الملك العادل نور الدين صاحب دمشق وحلب دخل بينهم للصلح والاصلاح ، والتحذير من الخلف المقوي للأعداء من الروم والأفرنج ، وطمعهم في المعاقل الاسلامية ، وبالغ في ذلك بأحسن توسط ، وبذل التحف والملاطفات ، وصلحت بينهم الأحوال.

وتناصرت الأخبار في هذا الأوان من ناحية العراق بأن الامام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين ، قد اشتدت شوكته ، وظهر واستظهر على كل مخالف له وعادل عن حكمه ، ولم يبق له مخالف مشاقق ولا عدو منافق ، وأنه مجمع على قصد (١٧٩ ظ) الجهات المخالفة لأمره.

__________________

(١) فراغ بالأصل ، وقد أتى المقريزي على ذكر هذا الخبر دون أن يذكر اسم هذا الأمير أو المقدم ولربما كان هو الأمير الأوحد بن تميم. انظر اتعاظ الحنفا : ٣ / ٢٢٤.

٥١٠

وفي يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة خمسين وخمسمائة عاد الملك العادل نور الدين الى دمشق من حلب ، وقد كان ورد الخبر قبل ذلك بأن الأمير قرا أرسلان بن داود بن سكمان بن أرتق (١) ورد على الملك العادل نور الدين ، وهو بأعمال حلب ، فبالغ في الإكرام له ، والسرور بمقدمه ، ولاطفه وألطفه بما جل قدره ، وعظم أمره من التحف والعطاء ، ثم عاد عنه الى عمله ، مسرورا شاكرا.

وورد الخبر أيضا في شهر رمضان سنة خمسين بأن الملك العادل نور الدين نزل في عسكره بالأعمال المختصة بالملك قلج أرسلان بن الملك مسعود بن سليمان بن قتلمش ملك قونية ، وما والاها ، فملك عدة من قلاعها وحصونها بالسيف والأمان ، وكان الملك قلج أرسلان وأخواه ذو النون ودولات مشتغلين بمحاربة أولاد الدانشمند ، واتفق أن أولاد الملك مسعود رزقوا النصر على أولاد الدانشمند والاظهار على عسكره في وقعة كانت على موضع يعرف بأقصرا في شعبان سنة خمسين وخمسمائة ، فلما عاد قلج أرسلان ، وعرف ما كان من العادل نور الدين في بلاده ، عظم عليه هذا الأمر ، واستبشعه مع ما بينهما من الموادعة والمهادنة والصهر ، وراسله بالمعاتبة والإنكار عليه ، والوعيد والتهديد ، وأجابه بحسن الاعتذار وجميل المقال ، وبقي الأمر بينهما مستمرا على هذه الحال.

ودخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

وأولها يوم الجمعة مستهل المحرم ، والطالع الدلو خمس عشرة درجة ، وست عشرة دقيقة [وبعد](٢) وصول الحجاج يوم الجمعة السادس من

__________________

(١) في الأصل : «فلما عرف وعاد ما كان» ، وفي العبارة بتر وتقديم وتأخير تم تقويم ذلك من الروضتين : ١٠٠١ حيث الرواية عن ابن القلانسي.

(٢) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

٥١١

صفر من السنة توجه الملك العادل نور الدين الى ناحية حلب ، في بعض عسكره في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من صفر من السنة ، عند انتهاء خبر الأفرنج إليه بعيثهم في أعمال حلب ، وافسادهم ، وصادفه في طريقة المبشر بظفر عسكره في حلب بالأفرنج المفسدين على حارم ، وقتلهم جماعة منهم وأسرهم ، ووصل مع المبشر عدة وافرة من رؤوس الأفرنج المذكورين ، وطيف بها في دمشق.

وفي يوم الثلاثاء الثالث من شهر ربيع الأول من السنة توفي الشيخ الفقيه الزاهد أبو البيان نبا بن محمد المعروف بابن الحوراني رحمه‌الله وكان حسن الطريقة مذ نشأ (١٨٠ و) صيّتا الى أن قضى ، مدينا ثقة عفيفا ، محبا للعلم والأدب ، والمطالعة للغة العرب ، وكان له عند خروج سريره لقبره في مقابر الباب الصغير المجاورة لقبور الصحابة من الشهداء رضي‌الله‌عنهم ، يوم مشهود من كثرة المتأسفين له والمتأسفين عليه (١).

وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الشريف السيد بهاء الدين أبي الحسن الهادي بن المهدي بن محمد الحسيني الموسوي ، رحمه‌الله ، في اليوم السابع عشر من رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ، وكان حسن الصورة فصيح اللسان بالعربية والفارسية ، جميل الأخلاق والخلال ، مشكور الأفعال ، كريم النفس ، مليح الحديث ، واسع الصدر ، مكين المحل من الملك العادل نور الدين ، ركن الاسلام والمسلمين ، سلطان الشام أدام الله علاه ، وناله من الحزن لفقده والتأسف عليه ما يقتضيه مكانه المكين عنده ، ونظم فيه هذه

__________________

(١) ذكره سبط ابن الجوزي في وفيات سنة ـ ٥٥١ ه‍ ـ ونقل ما أورده ابن القلانسي وزاد عليه : «وحكى لي بعض مشايخي بدمشق أن أبا البيان ، دخل يوما من الساعات الى جامع دمشق ، فنظر الى أقوام في الحائط الشمالي ، وهم يثلبون أعراض الناس ، فاستقبل القبلة ، ورفع يديه وقال : اللهم كما أنسيتهم ذكرك فأنسهم ذكري». مرآة الزمان : ١ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

٥١٢

الأبيات رثاه بها من كان بينه وبينه مودة مستحكمة أوجبت ذاك أن رأيت إثباتها في هذا الموضع ، مع ذكره وهي :

نعى الناعي بهاء الدين لما

أتاه نازل القدر المتاح

فروّع كل ذي علم وفضل

من الأدباء والعرب الفصاح

بكته غزالة الآفاق حزنا

وأظلم رزؤه ضوء الصباح

واسيلت العيون دما عليه

كذلك عادة المقل الصحاح

فكم متفجع يبكي عليه

بحرقة موجع دامي الجراح

وينشر فضله في كل ناد

بألفاظ محبرة فصاح

على حسناته تبكي المعالي

بدمعة ثاكل خور رداح

فلو رام البليغ لها صفات

لقصر عن مراث وامتداح

له خلق صحيح لا يضاهى

ووجه مشرق الأرجاء صاح

وكفّ جودها كالغيث يهمي

على العافين كالجود المباح

له شرفان في عرب وفرس

وقد صالا بمرهفه الصفاح

فأضحى لا يساجل في جلال

ولا شرف ينير ولا سماح

على أمثاله عند الرزايا

تقط جيوب أرباب البطاح (١٨٠ ظ)

ومن كان الحسين أباه قدما

فقد نال المعلّى في القداح

لئن واراه في حلب ضريح

بعيد عن مواطنه الفساح

وأصبح فيه منفردا غريبا

عن الأهلين في غلس وضاح

فهذا الرسم جار في البرايا

بلا قصد يكون ولا اقتراح

فلا برحت عمائم كل نوء

تروضه بأنوار الأقاحي

ورحمة محيي الأموات تسري

عليه في الغدو وفي الرواح

صدى الأيام ما ناحت هتوف

ولاح بقفره بيض الاداحي

٥١٣

وفي اليوم الخامس والعشرين توفي الشيخ أبو طالب شيخ الصوفية بدمشق رحمه‌الله ، وكان خيرا تقيا عفيفا ، حسن الطريقة ، مشكور الخلال.

شرح الزلازل الحادثة في هذه السنة المباركة وتواليها

في ليلة الخميس التاسع من شعبان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ، الموافق لليوم السابع والعشرين من ايلول ، في الساعة الثانية منها ، وافت زلزلة عظيمة ، رجفت بها الأرض ثلاث أو أربع مرات ، ثم سكنت بقدرة من حركها وسكنها ، سبحانه وتعالى من مليك قادر قاهر ، ثم وافى بعد ذلك ليلة الأربعاء الثاني وعشرين من شعبان المذكور ، زلزلة هائلة وجاءت قبلها وبعدها مثلها في النهار وفي الليل ، ثم جاء بعد ذلك ثلاث دونهن ، بحيث أحصين ست مرات ، وفي ليلة السبت الخامس وعشرين من الشهر المذكور ، جاءت زلزلة إرتاع الناس منها ، في أول النهار وآخره ، ثم سكنت بقدرة محركها ، سبحانه وتعالى.

وتواصلت الأخبار من ناحية حلب وحماة ، بانهدام مواضع كثيرة ، وانهدام برج من أبراج أفامية بهذه الزلازل الهائلة (١) ، وذكر أن الذي أحصي عدده منها تقدير الأربعين ، على ما حكي والله تعالى أعلم ، وما عرف مثل ذلك في السنين الماضية ، والأعصر الخالية ، وفي يوم الأربعاء التاسع وعشرين من الشهر بعينه ـ شعبان ـ وافت زلزلة تتلو ما تقدم ذكره آخر النهار ، وجاءت في الليل ثانية في آخره ، ثم وافى في يوم الاثنين أول شهر رمضان من السنة زلزلة مروعة للقلوب ، وعاودت ثانية ، وثالثة ، ثم (١٨١ و) وافى بعد ذلك في يوم الثلاثاء ثلاث زلازل ، إحداهن في أوله هائلة ، والثانية والثالثة دون الأولى ، وأخرى في وقت الظهر مشاكلة لهن ، ووافى بعد ذلك أخرى هائلة ، أيقظت النيام ، وروعت القلوب ، انتصاف الليل ، فسبحان

__________________

(١) في الأصل «المباركة» وهي تصحيف مرده الى الناسخ ، لعل صوابه ما أثبتنا.

٥١٤

القادر على ذلك ، ثم وافى بعد ذلك في الساعة التاسعة من ليلة الجمعة النصف من شهر رمضان من السنة زلزلة عظيمة هائلة أعظم مما سبق ، ولما كان عند الصباح من الليلة المذكورة ، وافت أخرى دونها ، وتلا ما تقدم في ليلة السبت أولها ، وجاءت أخرى آخرها ، ثم تلا ذلك في يوم الاثنين زلزلة هائلة ، وتلا ذلك في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان في الثلث الأول منها زلزلة عظيمة مزعجة ، وفي غداة يوم الأحد ثاني شوال من السنة تالي ما تقدم ذكره ، وافت زلزلة أعظم مما تقدم ، روعت الناس وأزعجتهم وفي يوم الخميس سابع شوال المذكور ، وافت زلزلة هائلة في وقت صلاة الغداة ، وفي يوم الأحد الثالث عشر منه ، وافت زلزلة هائلة ، في وقت صلاة الغداة ، وفي يوم الإثنين تلوه وافت زلزلة أخرى مثلها ، ثم أخرى بعدها دونها ، ثم ثالثة ، ثم رابعة ، وفي ليلة الأحد الثاني والعشرين من شوال ، وافت زلزلة عظيمة روعت النفوس ، ثم وافى عقيب ذاك ما أهمل ذكره لكثرته ، ودفع الله تعالى عن دمشق ، وضواحيها ما خاف أهلها من توالي ذلك وتتابعه ، برأفته بهم ، ورحمته لهم ، فله الحمد والشكر ، لكن وردت الأخبار من ناحية حلب بكثرة ذلك فيها ، وانهدام بعض مساكنها ، إلا شيزر فإن الكثير من مساكنها انهدم على سكانها ، بحيث قتل منهم العدد الكثير ، وأما كفرطاب فهرب أهلها منها خوفا على أرواحهم ، وأما حماة فكانت كذلك ، وأما باقي الأعمال الشامية فما عرف ما حدث فيها من هذه القدرة الباهرة (١).

وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة احدى وخمسين وخمسمائة ، وصل المولى الملك نور الدين أعز الله نصره الى بلده دمشق ، عائدا من ناحية حلب وأعمال الشام بعد تهذيبها وتفقد أحوالها سالما في النفس والجملة ، بعد استقرار الموادعة بينه وبين ولد السلطان مسعود صاحب قونية (١٨١ ظ) وزوال ما كان حدث بينهما.

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل ، انظر الروضتين : ١ / ١٠٣ ـ ١٠٥.

٥١٥

وفي شوال تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبين ملك الأفرنج مدة سنة كاملة أولها شعبان ، وأن المقاطعة المحمولة إليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية ، وكتبت المواصفة بذلك بعد تأكيدها بالأيمان بالمواثيق المشددة ، وكان المعروف بأبي سالم بن همام الحلبي قد ولي مشارفة الديوان بدمشق ، بعناية الأمير أسد الدين النائب عن الملك العادل نور الدين ، فظهر منه خيانات اعتمدها ، وتفريطات قصدها بجهله وسخافة عقله وتقصيره ، فأظهرها قوم من المتصرفين عند الكشف عنها ، والتحقيق لها ، فاقتضت الحال القبض عليه والاعتقال له إلى أن يقوم بما وجب عليه ، فلما كان في يوم الأحد السادس عشر من شوال سنة إحدى وخمسين وخمسمائة خرج الامر السامي النوري بالكشف عن سعاياته في فضول كان غنيا عنها ، فاقتضت الحال بأن تحلق لحيته ويركب حمارا مقلوبا ، وخلفه من يعلوه بالدرة ، وأن يطاف به في أسواق دمشق بعد سخام وجهه ، وينادي عليه : «هذا جزاء كل خائن ونمام» ثم أقام بعد ذلك في الاعتقال أياما ، ثم أمر بنفيه الى حلب بشفاعة من شفع فيه من مقدمي الدولة السعيدة ، فمضى على أقبح صفة من لعن الناس ، ونشر مخازيه ، وتعديد مساويه.

وفي شعبان من السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بارتفاع أسعار الغلة بها ، وقلة وجودها ، وشدة إضرارها بالضعفاء والمساكين وغيرهم ، وأمر المتولي لأمرها التناء والمحتكرين لها ببيع الزائد على أقواتهم على المقلين والمحتاجين ، ووكد الخطاب في ذلك ، وما زادت الحال إلا شدة مع ما ذكر من توفية النيل في السنة.

وفي شعبان وردت الأخبار من ناحية العراق ، بخلاص السلطان سنجر ابن السلطان العادل من ضيق الاعتقال المتطاول به ، بتدبير أعمل على الموكلين به ، ووعود وافية ، بحيث أجابوا الى ذلك ، وعاد الى مكانه من السلطنة ،

٥١٦

ووفى بما وعد المساعدين له على الخلاص ، وقويت شوكته ، واستقامت مملكته (١).

وفي شهر رمضان وردت الأخبار من ناحية الموصل ، بأن السلطان سليمان شاه بن السلطان محمد (٢) عزم على العبور في عسكره الى أعمال الموصل ، فانفذ إليه واليها ومدبرها الأمير زين الدين على كوجك ، يقول له : إنك فعلت وأضررت بالأعمال ، وآذيت أهلها ، وسأله (١٨٣ و) فلم يقبل ، ونهض إليه في عسكره من الموصل ، ومن انضاف إليه وصاففه ، فرزق النصر عليه ، وهزم عسكره أقبح هزيمة ، واستولى على سواده ، وعاد به الى الموصل ظافرا منصورا.

وفي العشر الأخير من ذي الحجة من السنة غدر الكفرة الأفرنج ، ونقضوا ما كان استقر من الموادعة والمهادنة ، بحكم وصول عدة وافرة من الأفرنج في البحر ، وقوة شوكتهم بهم ، ونهضوا الى ناحية الشعراء المجاورة لبانياس ، وقد اجتمع فيها من جشارات خيول العسكرية والرعية وعوامل الفلاحين فلاحي الضياع ومواشي الجلابين والعرب الفلاحين الشيء الكثير ، الذي لا يحصى ، فيذكر ، للحاجة الى الرعي بها ، والسكون الى الهدنة المستقرة ، ووقع من المندوبين لحفظهم من الأتراك تقصير ، فانتهزوا الفرصة ، واستاقوا جميع ما وجدوه وأفقروا أهله منه ، مع ما أسروه من تركمان وغيرهم ، وعادوا ظافرين غانمين آثمين ، والله تعالى في حكمه يتولى المكافأة لهم ، والإدالة منهم ، وما ذلك عليه بعزيز.

__________________

(١) انظر كتابي تاريخ العرب والاسلام : ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، ولقد توفي سنجر بعد نجاته بفترة وجيزة.

(٢) في الأصل «مسعود» وهو وهم صوابه ما أثبتنا ، انظر الخبر بتفاصيله في الباهر لابن الأثير : ١٠٨.

٥١٧

ودخلت سنة إثنتين وخمسين وخمسمائة

أولها يوم الأربعاء مستهل المحرم ، والطالع برج الدلو اثنتين وعشرين درجة وثماني عشرة دقيقة ، وقد تقدم شرح ما حدث من الزلازل الى أواخر سنة إحدى وخمسين ، ما يغني عن ذكره ، ولما كانت ليلة الأربعاء التاسع عشر من صفر سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ، وافت زلزلة عظيمة عند انبلاج الصباح ، فروعت وأزعجت ، ثم سكنها محركها بلطفه ورأفته بعباده ، ثم تلا ذلك أخرى دونها إلى ليلة الخميس تاليه ، بعد مضي ساعات منها ، ووافت بعدهما أخرى بعد صلاة الجمعة تاليه ، وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بعظم تأثير هذه الزلازل الأول منها والأخر ، في مدينة شيزر وحماة ، وكفر طاب وأفامية ، وما والاها الى مواضع من حلب ، والله تعالى ذكره وعز اسمه أعلم وأرحم لخلقه.

وفي العشر الأخير من صفر ورد كتاب السلطان غياث الدنيا والدين أبي الحارث سنجر بن السلطان العادل أبي الفتح بن السلطان ألب أرسلان ، أعز الله نصره الى الملك العادل نور الدين ، أدام الله أيامه ، بالتشوق إليه والإحماد (١٨٣ ظ) بخلاله ، وما ينتهي إليه من جميع أفعاله ، وإعلامه ما منّ الله عليه به من خلاصه من الشدة التي وقع فيها ، والأسر الذي بلي به في أيدي الأعداء الكفرة من ملوك التركمان ، بحيلة دبرها وسياسة أحكمها وقررها ، بحيث عاد الى منصبه من السلطنة المشهورة ، واجتماع العساكر المتفرقة عنه إليه ، واذعانها بطاعته ، وامتثالها لأوامره وأمثلته ، واحسان وعده لكافة المسلمين بنصره على أحزاب الضلال من الأفرنج الملاعين.

وتواصلت مع ذلك الى نور الدين رسل أرباب الأعمال والمعاقل والولايات ، بالاستعداد للخفوف الى أعداء الله الملاعين ، وغزو من بإزائه من

٥١٨

المشركين ، الأضداد المفسدين في البلاد ، والناكثين أيمانهم الموكدة في الموادعة والمهادنة ، فعند ذلك أمر المولى نور الدين بزينة البلد المحروس سرورا بهذه الأحوال ، وفعل في ذلك ما لم تجر عادة فيما تقدم في أيام الولاة الخالية ، وأمر مع ذلك بزينة قلعته ودار مملكته بحيث جلل أسوارها بالآلات الحربية من الجواشن والدروع والتراس والسيوف والرماح والطوارق الأفرنجية ، والقنطارات والأعلام والمنجوقات والطبول والبوقات ، وأنواع الملاهي المختلفات ، وهرعت الأجناد والرعايا وغرباء البلاد من المسافرين لمشاهدة الحال فشاهدوا ما استحسن منه ، مدة سبعة أيام فالله تعالى يقرن ذلك بالتوفيق والإقبال ، وتحقيق الآمال في إهمال الكفرة أولي الأفك والضلال ، بمنه وفضله.

وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول ، توجه المولى نور الدين أدام الله أيامه الى ناحية بعلبك ، لتفقد أحوالها وتقرير أمر المستحفظين لها ، وتواصلت الأخبار إليه من ناحية حمص وحماة بإغارة الأفرنج الملاعين على تلك الأعمال ، وإطلاقهم فيها أيدي العيث والفساد ، والله تعالى يحسن الإدالة منهم ويعجل البوار عليهم ، والاهلاك لهم.

وفي يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، توجه زين الحجاج كتب الله سلامته ، الى ناحية مصر رسولا من المولى نور الدين ، لإيصال ما صحبه من المطالعات الى صاحب الأمر فيها ، وصحبته أيضا الرسول الواصل منها.

وفي يوم الأحد الخامس عشر من شهر ربيع الأول ، ورد المبشر من المعسكر المنصور برأس الماء ، بأن نصرة الدين أمير ميران ، لما انتهى إليه خبر الأفرنج الملاعين بأنهم قد أنهضوا سرية وافرة من العدد من أبطالهم (١٨٤ و) الموفورة العدد الى ناحية بانياس لتوليها وتقويتها بالسلاح والمال ،

٥١٩

أسرع النهضة إليهم في العسكر المنصور ، وقد ذكر أن عدتهم سبعمائة فارس من أبطال الاستبارية والسرجندية والداوية ، سوى الرجالة ، فأدركهم قبل الوصول الى بانياس ، وقد خرج إليهم من كان فيها من حماتها ، فأوقع بهم ، وقد كان كمن لهم في مواضع كمناء من شجعان الأتراك ، وجالت الحرب بينهم ، واتفق اندفاع المسلمين بين أيديهم في أول المجال ، وظهر عليهم الكمناء فأنزل الله نصره على المسلمين وخذلانه على المشركين ، فتحكمت من رؤوسهم ورقابم مرهفات السيوف ، بقوارع الحمام والحتوف ، وتمكنت من أجسادهم مشرعات الرماح وصوارم السهام ، بحيث لم ينج منهم إلا القليل ممن ثبطه الأجل ، وأطار قلبه الوجل ، وصاروا بأجمعهم بين قتيل وجريح ومسلوب وأسير وطريح ، وحصل في أيدي المسلمين من خيولهم وعدد سلاحهم وكراعهم وأموالهم وقراطيسهم وأسراهم ، ورؤوس قتلاهم ، ما لا يحد كثرة ، ومحقت السيوف عامة رجالتهم من الأفرنج ، ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم ، وكان ذلك يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول ، ووصلت الأسرى والرؤوس من القتلى والعدد الى البلد المحروس ، في يوم الاثنين تاليه ، وأطيف بهم البلد ، وقد اجتمع لمشاهدتهم الخلق الكثير ، والجم الغفير ، وكان يوما مشهودا مستحسنا ، سرت به قلوب المؤمنين ، وأحزاب المسلمين ، وكان ذلك من الله تعالى ذكره وجل اسمه ، مكافأة على ما كان من بغي المشركين ، وإقدامهم على نكث أيمان المهادنة مع المولى نور الدين ، أعز الله نصره ، ونقض عهود الموادعة ، وإغارتهم على الجشارات ومواشي الجلابين والفلاحين المضطرين الى المرعى في الشعراء ، لسكونهم الى الأمن بالمهادنة ، والاغترار بتأكيد الموادعة ، وكان قد أنفذ المولى نور الدين الى بعلبك جماعة من أسرى المشركين ، فأمر بضرب أعناقهم صبرا «ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم» (١) «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» (٢).

__________________

(١) القرآن الكريم ـ المائدة : ٣٣.

(٢) القرآن الكريم ـ الشعراء ٢٢٧.

٥٢٠