تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

حقّت الحقائق أشار علينا بالهرب ، وإذا هربنا فأيّ وجه يبقى لنا عند الملوك ، وزوجة من يهرب اليوم طالق ليس الا السيف فإما لنا وإما علينا ، وسمع ابن المغربي ما قاله ابن الخفّاني ، فخاف بكجور ، وقد كان واقف بدويا من شيوخ بني كلاب يعرف بسلامة بن بريك على أن يحمله إلى الرقة متى كانت هزيمة ، وبذل له ألف دينار على ذلك ، فلما استشعر من بكجور ما استشعره ، سامه (٢٦ ظ) تسييره قبل الوقت الذي أعده له فأوصله إلى الرقة.

وعمل بكجور على ما فيه من قوة النفس ، وفضل الشجاعة على أن يعمد إلى الموضع الذي فيه سعد الدولة من مصافّه ، ويهجم عليه بنفسه ، ومن يقتحمه معه من صناديد غلمانه ويوقع به ، واعتقد أنه إذا فعل ذلك وكبس الموضع وانهزم الناس ، ملك (١).

فاختار من غلمانه من ارتضاه ووثق به بحسن البلاء منه وقال لهم : قد تورطنا من هذه الحرب ما عرفتموه ، وحصلنا على شرف الهزيمة ، وذهاب النفوس ، وقد عزمت على كذا وكذا ، فإن ساعدتموني رجوت أن يكون الفتح على أيديكم والأثر لكم ، فقالوا : نحن طوعك وما نرغب بنفوسنا عن نفسك ، وبادر واحد ممن سمع الكلام منه إلى لؤلؤ الجراحي ، فاستأمن إليه ، وأعلمه بالصورة ، فأسرع لؤلؤ إلى سعد الدولة ، وأخذ الراية من يده ، ووقف في موضعه ، وقال : تهب لي يا مولاي هذا المكان اليوم ، وتنتقل إلى مكاني عنه ، فإن بكجور أيس من نفسه وقد حدثها بأن يقصدك ويقع عليك ، ويوقع بك ، ويجعل ذلك طريقا إلى فل عسكرك ، وقد عرفت ذلك من جهة لا أشك فيه (٢) ،

__________________

(١) في الأصل : «وملك» وهذا يعني وجود بقية للكلام سقطت من الأصل أو أن الواو زائدة ، ونظرا لعدم توفر ما يساعد على البت في هذا الأمر في المصادر المتوفرة ، آثرت حذف الواو كيما يستقيم السياق. انظر تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكي : ١٧٣. زبدة الحلب : ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) كذا في الأصل ، والأصح «فيها».

٦١

وسيفعل ولئن أفديك بنفسي وأكون وقاية لك ولدولتك أولى من التعريض بك ، فانتقل سعد الدولة والعمارية (١) في ظهره والراية في يده ، وجال بكجور في أربعمائة فارس من الغلمان عليهم الكذاغندات والخوذ وبأيديهم السيوف وعلى خيلهم التجافيف وحمل في عقب جولته حملة أفرجت له بها العساكر واللتوت ولم يزل يضرب بالسيف حتى وافى الى لؤلؤ فضربه على الخوذة في رأسه ووقع لؤلؤ إلى الأرض ، وحمل العسكر على بكجور ، وبادر سعد الدولة الى مكانه مظهرا نفسه لغلمانه ، فلما رأوه قويت نفوسهم وثبتت أقدامهم ، واشتدوا في القتال حتى استفرغ بكجور جهده ووسعه ، ولم يبق له قدرة ولا حيلة انهزم في سبعة نفر من غلمانه صوب حلب ، واستولى القتل والأسر على أصحابه وتم على الهزيمة ، وقد رمى عن نفسه جوشنه وعن فرسه تجافيفه وقد فعل من كان معه مثل فعله ، وكان الفرس الذي تحته من الخيول التي أعدها لمثل (٢٧ و) ما حصل فيه وثمنه عليه ألف دينار ، ووافى إلى رحا تعرف بالقيريمي على فرنسخ من حلب مقابلي (٢) قنسرين ، ولها ساقية تحمل إليها سعتها قدر ذراعين (٣) في سمك ذراع ، فحمل الفرس على أن يعبرها خوضا ووثبا فلم يكن فيه وأجهده ، ووقف به وناداه غلمانه : «إن الخيل قد أدركتنا» ، ولحقهم عشرة فوارس من العرب فأرجلوهم عن دوابهم ، وسلبوهم ثيابهم ، ولم يعرفوا بكجور وعادوا عنهم ، وبقي بكجور وغلمانه عراة فلجأوا إلى الرحا واستجاروا بصاحبها فأدخلهم إليها ، وجاءت سرية أخرى من العرب تطلب النهب فظنوا أن مع الغلمان الذين في الرحا ما يغنمونه منهم ، فطالبوا صاحبها بتسليمهم فأعلمهم أنهم عراة ، فقالوا : إن شاهدنا هم على ما ذكرت تركناهم وإلا أحرقنا الرحا ،

__________________

(١) غالبا ما كانت عبارة عن دمية أو ما يشبهها تمثل سيدة ـ ظعينة ـ مزينة بالذهب والحلي المختلفة توضع على ظهر جمل ويجلس تحت ثوبها أو خلفه أحد السادة يحركها حركات خاصة ، ويلتف حولها الفرسان للدفاع عنها والقتال دونها ، وما تزال عادة حمل العمارية قائمة ، شاهدتها مرارا في مدينة حماه.

(٢) كذا بالأصل وقد تكون تصحيف «مما يلي».

(٣) في زبدة الحلب : ١ / ١٧٩ «على نهر قويق».

٦٢

ففتح الباب وأخرجهم إليهم فلما رأوا حالهم خلوا عنهم ، ومضى بكجور وغلمان معه من غلمانه إلى براح (١) فيه زرع حنطة ، فطرح نفسه فيه ، ومرّ قوم من العرب ، فظنوا أن معهم ما يفوزون به ، فعدلوا إليهم ، وكان فيهم رجل من قطن يعرفه بكجور ، فقال له : أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أذمم لي حتى أعرّفك نفسي ، فأذم له ، قال له ، أنا بكجور فاصطنعني واحملني إلى الرقة فإنني أوقر بعيرك ذهبا وأعطيك كل ما تقترحه ، قال : أفعل ، فأردفه وحمله إلى بيته وكساه قميصا وفروا وعمامة ، وكان سعد الدولة قد بث الخيل في طلب بكجور ونادى : «من أحضر بكجور فله مطلبه» ، فلما حصل بكجور في بيت البدوي ساء ظنه به ، وطمع فيما كان سعد الدولة بذله فيه ، واستشار ابن عم له في أمره ، فقال له : هو رجل بخيل ، فربما غدر ولم يف بوعده ، والصواب أن تقصد سعد الدولة وتأخذ منه عاجلا ما يعطيك ، فركب البدوي إلى عسكر سعد الدولة وصاح «نصيحة» فأحضر إلى حضرته ، فقال له : ما نصيحتك؟ قال : ما جزاء من يسلم بكجورا؟ قال : حكمه ، قال : فهو عندي وأريد عنه مائتي فدان زراعة ومائة ألف درهم ومائة راحلة تحمل حنطة ، وخمسين قطعة ثيابا ، قال سعد الدولة : وكل ذلك لك ، قال : وثق لي منه ، وعرف لؤلؤ الجراحي خبر البدوي ، فتحامل وهو مثخن بالضربة التي أصابته ، ومشى متوكّيا على غلمانه حتى حضر بين يدي (٢٧ ظ) سعد الدولة ، فقال : يا مولاي ما يقول هذا؟ قال : يقول إن بكجور عنده ، وقد طلب ما أجبناه إليه ، وهو ماض لإحضاره ، فقبض لؤلؤ على يد البدوي ، وقال له : أين أهلك؟ قال : في المرج على فرسخ ، فاستدعى جماعة من الغلمان وقدم عليهم إقبالا الشفيعي وأمرهم أن يرتقوا رؤوس الجبال حتى يوافوا الحلّة ، ويقبضوا على بكجور ويحملوه وهو قابض على يده ، والبدوي يستغيث بسعد الدولة ، ثم تقدم الى سعد الدولة وقال : يا مولانا لا تنكر عليّ فعلي ، فإنه كان مني عن استظهار في خدمتك ،

__________________

(١) الأرض الظاهرة ـ النهاية لابن الأثير.

٦٣

ولو عاد هذا البدوي إلى أهله وأحس بكجور بما فيه لأعطاه الرغائب على تخليصه ولا نأمن أن يقبل ذاك منه ، والذي طلبه هذا البدوي مبذول له ، وما ضرّنا الإحتياط في التمسك به إلى أن يوافينا فنعطيه حينئذ ، ونفي له بما وعدناه ، فقال : أحسنت يا أبا محمد لله درك ، ولم يمض ساعات حتى عادت النجب مبشرة بحصول بكجور ، ووافى بعدها إقبال الشفيعي وهو معه ، فوقف به من وراء السرادق ، واستأذنه في إدخاله إليه وأنفذ سعد الدولة إلى لؤلؤ وقال له : ما رأيك في بكجور؟ قال : ضرب عنقه لوقته لو جاءت سناء الزينة ستّ الناس ـ يعني أخت سعد الدولة ـ واستوهبته منك فوهبته لها لكان لنا شغل مجدد ، فأمر سعد الدولة فرجا العدلي وكان سيافه فضرب عنقه وعنق ابن الخفاني ، وكان قد حصل في الأسر وحملهما إلى الموضع المعروف بحصن الناعورة فصلبهما بأرجلهما ، وسار سعد الدولة إلى الرقة فنزل عليها وفيها سلامة الرشيقي وأبو الحسن المغربي ، وأولاد بكجور وحرمه وأمواله ، وأرسل سلامة بتسليم البلد فأجابه «فإني عبدك وعبد عبدك إلا أن لبكجور عليّ عهودا ومواثيق لا مخلص لي عند الله منها إلا بأحد أمرين إما أن تذمّ لأولاده على نفوسهم وأموالهم وتقتصر فيما تأخذه على آلات الحرب والعدد ، وتحلف لي ولهم على ذلك ، وإما أن أبلي عذرا عند الله عزوجل فيما عقدته لبكجور» فأجابه سعد الدولة إلى ما اشترطه ، وحلف له يمينا عملها أبو الحسن ابن المغربي ، وكان سعد الدولة قد أباح دمه ، فهرب الى الكوفة ، وأقام بمشهد أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، ولما توثق سلامة (٢٨ و) سلم حصن الرافقة ، وخرج القوم ومعهم من المال والرحل الشيء الكثير ، وسعد الدولة يشاهدهم من وراء سرادقه وبين (يديه) (١) ابن أبي حصين القاضي ، فقال له : ما ظننت

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستعيم الخبر ، وفي زبدة الحلب : ١ / ١٨٠ ـ ١٨١ «وزيره أبو الهيثم بن أبي حصين ... وكان قاضي حلب في أيامه أبا جعفر أحمد بن اسحق».

٦٤

أن حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه الأموال والأثقال ، فقال له : أي شيء اعتقد الأمير في ذاك؟ قال له : وهل بقي في هذا الأمر موضع اعتقاد؟ قال له ابن أبي حصين : إن بكجور وأولاده مماليك ، وكل ما ملكوه فهو لك ولا حرج عليك فيما تأخذه منه ولا حنث في الأيمان التي حلفت بها ، ومهما كان فيها من وزر وإثم فعليّ دونك ، فلما سمع هذا القول منه ، غدر بهم وتقدم بردهم والقبض عليهم وجميع ما معهم ، وكتب أولاد بكجور إلى العزيز بما تم عليهم وعلى والدهم ، وسألوه مكاتبة سعد الدولة بالكف عنهم والإبقاء عليهم ، فكتب إليه كتابا يتوعده فيه ويأمره بإزالة الاعتراض عن المذكورين وتسييرهم إلى مصر موفورين ، ويقول له في آخره : «إنك متى خالفتنا في ذلك واحتججت فيه ، كنا الخصوم له ، وجهزنا العسكر إليك» ، وأنفذه مع فائق الصقلبي أحد خواصه ، وسيره على نجيب ، فوصل فائق إليه وقد عاد من الرقة وهو بظاهر حلب ، وأوصل إليه الكتاب ، فلما وقف عليه جمع وجوه قواده وغلمانه وقرأه عليهم ، ثم قال لهم : ما الرأي عندكم فيه؟ قالوا : نحن عبيدك وغلمانك ومهما أمرتنا به وندبتنا له ، كانت عندنا الطاعة والمناصحة فيه ، وتقدم عند ذاك باحضار الرسول ، فلما مثل بين يديه أمر باعطائه الكتاب ، ولطمه حتى يأكله ، فقال له : أنا رسول وما عرف من الملوك معاملة الرسل بمثل ذلك وهذا الفعل ما لا يجوز ، فقال له : لا بدّ أن تأكله ، فلما مضغه قال له : عد إلى صاحبك وقل له : لست ممن تخفي أخبارك عنه ، وتمويهاتك عليه ، وما بك حاجة إلى تجهيز العساكر إليّ فإنني سائر إليك ليكون اللقاء قريبا منك ، وخبري يأتيك من الرملة.

وقدم سعد الدولة قطعة من عساكره أمامه إلى حمص ، وعاد فائق إلى العزيز فعرفه ما سمعه وشاهده فأزعجه ذلك ، وبلغ منه ، وأقام سعد الدولة بظاهر حلب أياما على أن يرتب أموره ويتلو من تقدمه من عسكره ، فاتفق أن عرض له قولنج شفي منه ، وكان له طبيبان (٢٨ ظ) عارفان أحدهما

٦٥

يعرف بالتفليسي والآخر يوانيس ، فأشارا عليه بدخول البلد وملازمة الحمام فامتنع عليهما ، وقال لهما : أنا بإزاء وجه أريد قصده وإذا عدت وقع الارجاف بي وكان في العود طيرة عليّ ، ثم زاد ما يجده ، فدخل فعالجاه فأبل واستقل وكتب إلى أصحابه يذكر عافيته ، فأوصل الناس إليه حتى شاهدوا حاله وهنوه بالسلامة ، وكان المستولي على أمره والمقدم عنده في رأيه لؤلؤ الكبير الذي تقدم ذكره ، فلما كان في اليوم الثالث من أكله الفروج (١) ، زين له البلد ليركب فيه من غد ويعود إلى العسكر ، فاتفق أن حضرت عند فراشه ليلة اليوم الذي عمل على الركوب فيه جارية تسمى إنفراد وكان يتحظاها ويقومها على سواها من سرياته وهن أربعمائة جارية ، فتتبعتها نفسه ، وواقعها فلما فرغ سقط عنها وقد جف نصفه ، وبادرت الجارية إلى أخته فأعلمتها صورته ، فدخلت إليه وهو يجود بنفسه ، واستدعت طبيبيه فحضرا وشاهداه ، وتعرفا المسبب فيما لحقه فعرفاه (٢) ، وأشارا بسجر (٣) الند والعنبر حوله إلى أن يفيق قليلا وتثوب قوته ، فلما كان ذلك عادا إليه ، وقال له التفليسي : أعطني أيها الأمير يدك لآخذ مجستك ، فأعطاه اليسرى ، فقال : يا مولانا اليمين ، فقال : يا تفليسي ما تركت لي اليمين يمينا ، ومضت عليه ثلاث ليال قضى بعد أن قلّد

__________________

(١) لم يذكر المؤلف من قبل أكلة الفروج هذه ، فلعل الأصل ألم به سقط ، ولدى العودة إلى المصادر الأخرى لم أجد لها ذكرا ، ورأيت في مخطوط مرآة الزمان ، وفيات سنة ٣٨١ «وكان مستولي على أمره لؤلؤ الكبير وقد ذكرناه ، وزين البلد ، ولم يبق إلا أن يصبح فيركب ، وكان له أربعمائة سرية ...» ويستفاد من جملة الخبر أن سعد الدولة بعد اصابته بالقولنج أدخل البلد لمعالجته داخل الحمّام وأنه أطعم بعد شفائه لحم فروج ، وأستبعد أن يكون قد ألم بالعبارة أي تصحيف كالقول : «اليوم الثالث من ابلائه عزم على الخروج ، فزين له ...» انظر تاريخ يحيى بن سعيد : ١٧٤. ذيل تجارب الأمم : ٢١٦. زبدة الحلب : ١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) أي سألا عن السبب فأوضح لهما.

(٣) في الأصل «بشجر الند» وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه ، أي أشارا باحراق الند.

٦٦

عهده أبا الفضائل ولده ، ووصى إلى لؤلؤ الكبير به وبأبي الهيجاء ولده الآخر ، وست الناس أخته ، وحمل تابوته إلى الرقة ودفن في المشهد ظاهرها.

ونصب لؤلؤ ولده أبا الفضائل في الأمر ، وأخذ له البيعة على الجند بعد أبيه في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، وتراجعت العساكر عند ذلك إلى حلب واستأمن منها الى العزيز بالله وفيّ (١) الصقلبي في ثلاثمائة غلام ، وبشارة الاخشيدي في أربعمائة غلام [ورباح السيفي](٢) وقوم آخرون فقبلهم وأحسن إليهم ، وولي بشارة طبرية ورقي عكا ورباحا قيسارية ، وقد كان أبو الحسن بن المغربي بعد حصوله في المشهد في الكوفة كاتب العزيز وصار بعد المكاتبة إلى حضرته ، فلما حدث لسعد الدولة حادث الوفاة عظّم أمر حلب عنده ، وكبّر في نفسه أحوالها ، وهون عليه حصولها (٣) [٢٩ و].

* * *

__________________

(١) في الأصل : رقي ، وهو تصحيف صوابه من مرآة الزمان ـ حوادث سنة ٣٨١ ـ.

(٢) زيد ما بين الحاصرتين من مرآة الزمان ـ حوادث سنة ٣٨١ ـ.

(٣) في مرآة الزمان ـ حوادث سنة ٣٨١ ـ «وهون عليه حصونها» وهو وجه مرجح على ما جاء في المتن.

٦٧

ولاية القائد منير الخادم ومنجوتكين دمشق

والسبب في ذلك وما آلت إليه أحوالها في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وما بعدها

قد تقدم من شرح السبب في ولاية القائد منير دمشق ما فيه كفاية عن إعادة القول فيه ، ومن دخوله في يوم الخميس السابع عشر من رجب سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ، ولما توفي الوزير أبو الفرج يعقوب بن كلس كان قد بقي له من أصحابه على ماله ومال السلطان رجل يعرف بابن أبي العود الصغير ، وكان شديد المعاندة للقائد منير الوالي يرفع عليه إلى مصر بأنه عاص يكاتب سلطان بغداد وصاحب حلب ، فلما كثرت سعايته إلى العزيز اصطنع بعض غلمانه الأتراك رجلا يقال له منجوتكين ، فقدمه وأعطاه مالا وآنية وسلاحا ورجالا وولاه الشام ، فلما صحّ عند منير الخادم ذاك من ابن أبي العود أنفذ إليه من قتله وكاشف بالعصيان والخلاف للضرورة القائدة له إلى ذلك ، وكان لابن أبي العود عند العزيز رتبة متمكنة ومنزلة متمهدة ، فلما خرج العسكر مع منجوتكين من مصر ووصل إلى الرملة ، ووصل إليه بشارة والي طبرية في عسكره ، ووصل إلى دمشق وكان منير قد جمع رجالة من أحداث البلد من حمّال السلاح وطلاب الشر والفساد واستعد للحرب وتأهب للقاء.

وبلغ منجوتكين وهو بالرملة أن أهل دمشق يريدون القتال مع منير الوالي فجمع النفّاطين بالرملة على أن يسيروا معه إلى دمشق لحرقها ، فلما وصل نزّال (١) الى دمشق من طرابلس أخذ في الجبال عرضا ، فخرج من مرج عذراء وأرسل إلى منير «إني لم أصل إلا لإصلاح أمرك» ، فعلم منير أنه يريد

__________________

(١) يفيد هذا أن القاهرة كتبت إلى واليها في طرابلس لمساندة حملتها ضد دمشق.

٦٨

الحيلة عليه والمكر به ليصل العسكر من الرملة ويحيط به ، وقد كان نفذ كتاب ابن أبي هشام (١) من دمشق إلى منشا بن الغرار كاتب الجيش ، يقول : «جدّوا في السير لأخذ البلد» ، وكان مراده بذاك المداراة من خوف الشر ، فلما وصل الكتاب إلى منشا أنفذه الى العزيز منجوتكين (٢) ووقف عليه فوجد فيه خلاف ما ذكر عن أهل دمشق فنهاهم عن احراقها ، وسار منجوتكين من الرملة وقرب من طبرية ، وجمع منير (٢٩ ظ) عسكره ، وخرج يريد نزالا ، فالتقوا بمرج عذراء ، فانهزم منير ، وأتت المغاربة على الرّجالة الذين كانوا معه ، وذلك في يوم الاثنين التاسع عشر من شهر رمضان سنة احدى وثمانين فلما انهزم منير أخذ في الجبال حتى أخرج إلى أرض جوسية يريد قصد حلب ، فخرج عليه عرب من الأحلاف فأخذوه ووصلوا به إلى دمشق ، فوجدوا منجوتكين قد نزل عليها فسلموه إليه لطلب الجائزة ، فشهره على جمل وقرن به قردا ومعه من أصحابه نحو من مائة رجل على الجمال وعليهم الطراطير لأنهم انقطعوا فأخذهم والي بعلبك يقال له جلنار ، فأرسلهم إلى منجوتكين.

وأقام منجوتكين بدمشق بقية سنة احدى وثمانين فقوي بها ، وصار عسكره ثلاثة عشر ألفا ، فعم الناس البلاء في جميع الأحوال ، وصارت أفعالهم وسيرتهم إباحة الأموال والأنفس وسوء الأعمال ، ثم إنهم طمعوا في ملكة حلب بحكم موت أبي المعالي بن سيف الدولة صاحبها ، وقد كان العزيز لما انتدب منجوتكين أكرمه وعظمه وأمر القواد وطبقات الناس بالترجل له وتوفيته من الحق ما يوفى عظماء الأمراء والاسفهسلارية ، واستكتب له أحمد بن محمد القشوري وولي الشام ، وضمّ إليه أبا الحسن علي بن الحسين بن المغربي ليقوم بالأمر والتدبير ولما وصل الى حلب وكان نزوله عليها في ثلاثين ألفا من

__________________

(١) ليس بالمتيسر من المصادر ما يبين هويته ويعرفنا به.

(٢) كذا وفيها لبس والمقصود أن منجوتكين أنفذ الكتاب إلى الخليفة العزيز.

٦٩

أصناف الرجال ، وتحصن أبو الفضائل ابن سعد الدولة ولؤلؤ بالبلد ، وأغلقا أبوابه واستظهرا بكل ما أمكنهما الاستظهار به ، وقد كان لؤلؤ عند معرفته بتجهيز العساكر المصرية إلى حلب كاتب بسيل عظيم الروم ، ومت إليه بما كان بينه وبين سعد الدولة من المساعدة والمعاقدة ، وبذل له عن ولده السمع والطاعة والجري على تلك العادة ، وحمل إليه هدايا وألطافا كثيرة ، وسأله المعونة والنصرة ، وأنفذ بالكتاب والهدايا ملكونا (١) السرياني ووصل إليه وهو بازاء ملك البلغر وعلى قتاله ، فقبل ورد فيه ، وكتب إلى البرجي (٢) صاحب أنطاكية من قبله بأن يجمع عساكر الروم ويقصد حلب ويدفع المغاربة عنها فسار البرجي إليه في خمسة آلاف (٣) رجل ونزل بالموضع المعروف بجسر الحديد بين أنطاكية وحلب ، فعرف منجوتكين (٣٠ و) وابن المغربي ذلك ، فجمعا القواد والمعرفين خبر الروم واستشارهم فيما يكون العمل به والاعتماد عليه ، فأشار ذوو الرأي والحصافة منهم بالانصراف عن حلب وقصد الروم والابتداء بهم ومناجزتهم لئلا يحصلوا بين عدوين ، ووقع العمل على ذلك وساروا مع عدة أخرى كثيرة انضافت إليهم من أهل الشام وبني كلاب ، ونزلوا تحت حصن أعزاز ، وقاربوا الروم ، وبينهم النهر المعروف بالمقلوب (٤) وهو نهر يجري مجرى الفرات في قرب من عرضه ، فلما بصر المسلمون بالروم رموهم بالنشاب وناوشوهم القتال ، وحصل الناس والروم على أرض واحدة ومنجوتكين يردهم فلا يرتدون ، وأنزل الله النصر وولت الروم وأعطوا ظهورهم ، وركبهم المسلمون ، ونكوا فيهم النكاية الوافية قتلا وأسرا وفلا وقهرا ، وأفلت

__________________

(١) في الأصل «ملكويا السيرافي» وهو تصحيف صوابه ما أثبتا اعتمادا على مرآة الزمان ـ حوادث سنة ٣٨١ ـ.

(٢) اسمه عند يحيى بن سعيد : ١٧٤ «ميخائيل البرجي».

(٣) في مرآة الزمان «في خمسين ألفا» ويتوافق هذا مع سياق الخبر.

(٤) هو نهر العاصي.

٧٠

البرجي في نفر قليل (١) ، وملك عسكرهم وسوادهم ، وغنمت منهم الغنائم الوافرة من أموالهم وكراعهم وسوادهم ، وقد كان معهم ألفا راجل من رجّالة حلب جرّدهم لؤلؤ مع عدة وافرة من الغلمان ، فقتل منهم تقدير الثلاثمائة غلام ، وعاد فلهم إلى حلب ، وجمع من رؤوس قتلى الروم نحو عشرة آلاف رأس أنفذت الى مصر ، وشهرت بها ، وتبع منجوتكين الروم إلى انطاكية ، وأحرق ضياعها ، ونهب رستاقاتها ، وانكفأ راجعا الى حلب ، وكان وقت استغلال الغلات ، فأنفذ لؤلؤ من أحرق ما قرب من البلد منها لمضرّة العسكر المصري ، وقطع مادة الميرة عنهم والتضييق في الأقوات عليهم ، ورأى لؤلؤ أن قد بطل عليه ما كان يرجوه من معونة الروم وقد أظلّه من عسكر مصر ما لا طاقة له به ، فكاتب أبا الحسن بن المغربي والقشوري وأرغبهما بالمال ، وبذل لهما منه ما وسّع لهما فيه ، وسألهما المشورة على منجوتكين بالإنصراف إلى دمشق والمعاودة إلى حلب في العام المقبل وتصيّر السبب في هذا الرأي ما عليه الأمر من عدم الميرة ، وتعذر الأقوات والعلوفات ، فطاوعاه ووعداه ، وخاطبا منجوتكين في ذلك ، فصادف قولهما منه تشوفا إلى دمشق إلى خفض العيش فيها ، ضجرا من طول السفر ، ومباشرة الحرب فكتب وكتبت الجماعة الى العزيز بالله إليه الحال في تعذر الأقوات وأنه لا قدرة للعسكر (٣٠ ظ) على المقام مع هذه الصورة ويستأذنونه في الإنكفاء الى دمشق ، فقبل أن يصل الكتاب ويعود الجواب رحل منجوتكين عائدا.

وعرف العزيز ما كان منه فغاظه ذلك ووجد أعداء ابن المغربي طريقا الى الطعن عليه والوقيعة فيه ، فصرفه وقلّد صالح بن علي الروذباري موضعه ، وأنفذه وأقسم العزيز أنه يمدّ العسكر بالميرة من غلات مصر ، فحمل مائة ألف تليس والتليس قفيزان بالمبدل ، في البحر إلى طرابلس ، ومنها على الظهر

__________________

(١) في مرآة الزمان المزيد من التفاصيل الهامة عن المعركة فيها توضيح لكيفية عبور نهر العاصي (حوادث سنة ٣٨١).

٧١

إلى أفامية ، وعاد منجوتكين في العسكر في السنة الثانية إلى حلب ونزل عليها ، وصالح بن علي المقدم معهم ، وكان يوقع للغلمان بجراياتهم وقضيم دوابهم إلا أفامية ويمضون خمسة وعشرون فرسخا ويعودون بها ، وأقاموا ثلاثة عشر شهرا ، وبنوا الحمامات والأسواق والخانات ، وأبو الفضائل ولؤلؤ قد تحصنا بالبلد وقد اشتد الأمر بها وفقدت الأقوات عندهما ، وكان لؤلؤ يبتاع القفيز من الحنطة بثلاثة دنانير ويبيعه على الناس بدينار واحد رفقا لهم ، ويفتح الباب ويخرج من الناس من أراد من الفقراء من الجوع وطول المقام ، وقد كان أشير على منجوتكين بتتبع من يخرج وقتله ليمتنع الناس من الخروج ويزيد ضيق الأمر عليهم فلم يفعل.

وعند ذلك أعاد لؤلؤ ملكونا الذي أرسله أولا إلى بسيل ملك الروم إليه مجددا له السؤال بالإنجاد على ما دهمه من عسكر مصر والاسعاد ، وأعلمه أنه لم يبق فيه رمق إن لم يبادر بمعونته ونصرته ، وأنه متى أخذت حلب وملكت فأنطاكية لاحقة بها (١) ، وكان بسيل متوسطا بلد البلغر ، فقصد ملكونا إليه وأوصل إليه الكتاب وأعاد عليه ما يحمله من الرسائل إليه ، وقال له : متى قصدت أيها الملك هذا الخطب بنفسك لم يقف أحد من عساكر المغاربة بين يديك واستخلصت حلب وحفظت أنطاكية وسائر أعمالها ، وإن تأخرت ملك جميع ذلك.

فلما سمع ملك الروم ما قاله الرسول المذكور سار من وقته طالبا حلب ، وبينه وبينها مسيرة ثلاثمائة فرسخ فقطعها في ستة عشر يوما في ثلاثة آلاف فارس وراجل من الروم والروسية والبلغر والخزر ، وكان الزمان ربيعا وقد سرّح العسكر المصري كراعه في المروج لترتبع فيها ، فهجمت الروم على العسكر على غفلة وغرة ، فأرسل (٣١ و) لؤلؤ إلى منجوتكين يقول له : إن

__________________

(١) يضيف صاحب مرآة الزمان «ومتى أخذت أنطاكية أخذت قسطنطينية» (حوادث سنة ٣٨١ ه‍).

٧٢

عصمة الاسلام الجامعة بيني وبينك وبين عساكرك تبعثني على إنذارك ، وهذا عسكر الروم قد أظلّكم في الجمع الكثير ، فخذوا لأنفسكم وتيقنوا لأمركم ولا تهملوا حذركم ، ووردت جواسيس منجوتكين وعيونه من الجهات والطلائع عليه بمثل ذلك ، فأحرق الخزائن والأسواق ورحل في الحال منهزما ، وأشار العرب عليه بأن ينزل أرض قنسرين ويملك الماء ويستدعي كراعه من مروج أفامية ، ويثبت للقاء العدو ويحرضه على بذل الجهد واستفراغ الوسع في الجهاد ، فلم يفعل ، وامتدت به الهزيمة إلى دمشق.

ووافى ملك الروم فنزل على باب حلب وشاهد من موضع منزل المغاربة ما هاله وعظم في عينه ، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ وخدماه ، ورحل في اليوم الثالث إلى الشام ، ونزل على شيزر وفيه منصور بن كراديس أحد قواد المغاربة ، فقاتله في الحصن يوما واحدا ولم يستطع الثبات له لخلو الحصن من العدد وآلات الحرب وأقوات المقام على الحصار ، فراسله بسيل وبذل له الأمان على نفسه ومن معه في الحصن ، وأن يعطيه مالا وثيابا على تسليمه ، فسكن إلى ذلك وسلمه ، ووفى له بسيل بجميع ما بذله من المال والأمان والعطاء ، فرتب في الحصن نوابه وثقاته ، وسار قاصدا إلى طرابلس الشام ، وافتتح في طريقه حمصا ، وسبى منها ومن رفنية وأعمالها ما يزيد على [عشرة آلاف ثم نزل على](١) ثغر طرابلس ، وهو بري بحري متين القوة والحصانة شديد الامتناع على منازله ، وأقام عليه نيفا وأربعين يوما يحاول افتتاحه أو وجود فرصة في تملكه ، فلم يتم له فيه أمر ولا مراد فرحل عنه قافلا الى بلاد الروم.

وانتهت الأخبار بذلك إلى العزيز بالله فعظم ذلك عليه ، وأمر بالاستنفار إلى الجهاد والنداء في الغزاة وسائر الأجناد فنفر الناس ، وخرج مستصحبا

__________________

(١) زيد ما بين الحاصرتين من مرآة الزمان (حوادث سنة ٣٨١) ولمزيد من التفاصيل حول حصار طرابلس انظر تاريخ يحيى بن سعيد : ١٧٦.

٧٣

لجميع عساكره وما يحتاج إليه من عدده وأمواله وذخائره ومعه توابيت آبائه وأجداده على العادة في مثل هذه الحال ، وقيل إن كراعه كان يزيد على عشرين ألف رأس خيلا وبغالا وجمالا وحميرا ، وسار مسافة عشرة فراسخ في مدة سنة حتى نزل بلبيس (١) وأقام بظاهرها ، وعارضته علل مختلفة من نقرس وقولنج وحصى في المثانة ، واشتدّ به الأمر وكان (٣١ ظ) الأطباء إذا عالجوا مرضا من هذه الأمراض بدوائها زاد في قوة الأخرى واستحكامها وكان محتاجا الى الحمّام لاجل القولنج ولم يكن في منزله إلا حمام لرجل من أهلها ، فاشتد به فيه وبات للضرورة فيه وأصبح والقوة تضعف والألم يشتد ويتضايق إلى أن قضى نحبه في الحمام ، يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة ، وعمره إثنتان وأربعون سنة ، ونقش خاتمه «بنصر العليم الغفور ينتصر الامام أبو المنصور» ومولده في القيروان سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة ، ومدة أيامه إحدى وعشرين سنة وستة أشهر وأربعة وعشرين يوما ، وكان حسن السيرة مشتغلا بلذاته محبا المصيد متغافلا عن النظر في كثير مما كان أسلافه ينظرون فيه من إظهار علم الباطن وحمل الناس عليه ، وتوفي رحمه‌الله وهو مستمر على ذلك.

ثم ولي الأمر بعده ولده أبو علي المنصور الحاكم بأمر الله ، وكان معه ، فعهد إليه في الأمر ، ورد تدبير أمره إلى برجوان الخادم مربيه وحاضنه ، وكان عهد إليه أمر الحرم والقصور لثقة العزيز به ، وسكونه إليه ، ووصّى إليه بما اعتمد فيه عليه ، وحدّثت ستّ الملك ابنة العزيز نفسها بالوثوب على الأمر واجلاس ابن عمّها عبد الله وكانت مسمّاة عليه ، فأحسّ برجوان بذلك فقبض عليها وحملها مع ألف فارس إلى قصرها بالقاهرة ، ودعا الناس

__________________

(١) قصبة الحوف في مصر ولها أشجار ونخيل كثير. تقويم البلدان : ١١٨ ـ ١١٩.

٧٤

إلى بيعة الحاكم وأحلفهم على الطاعة ، وأطلق الأرزاق وذلك في شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة وانكفأ الحاكم من المخيم إلى قصره بالقاهرة وعمره عشر سنين وستة أشهر.

وتقدم أبو محمد الحسن بن عمار ، وكان شيخ كتامة وسيدها ولقب بأمين الدولة وهو أول من لقب في دولة مصر ، واستولى على الأمر وبسط يده في الإطلاق والعطاء والصلات بالأموال والثياب والحباء وتفرقة الكراع ، وكان في القصر عشرة آلاف جارية وخادم ، فبيع منهم من اختار البيع ، وأعتق من سأل العتق ، ووهب من الجواري لمن أحب وآثر ، وانبسطت كتامة وتسلطوا على العامة ومدوا أيديهم إلى حرمهم وأولادهم ، وغلب الحسن بن عمار على الملك ، وكتامة على الأمور ، وهم الحسن بقتل الحاكم (٣٢ و) وحمله على ذلك شيوخ أصحابه ، وقالوا : لا حاجة لنا إلى إمام نقيمه ونتعبد له ، فحمله صغر سنه والاستهانة بأمره على إقلال الفكر فيه ، وأن قال لمن أشار عليه بقتله : وما قدر هذه الوزعة (١) حتى يكون منها ما نخاف ، وبرجوان في أثناء ذلك يحرس الحاكم ويلازمه ويمنعه من الركوب ، ولا يفسح له في مفارقة الدور والقصور ، وقد كان شكر العضدي اتفق مع برجوان وعاضده في الرأي والفعل ، وصارا على كلمة سواء في كل ما ساء وسرّ ونفع وضرّ ، وتظاهرا على حفظ الحاكم في وصاة والده العزيز به إلى أن تمت السلامة لهما فيه.

وأما منجوتكين وما كان منه بعد نوبة الروم فإنه أقام بدمشق على حاله في ولايتها ، وزاد أمر الحسن بن عمار وكتامة ، وقلت مبالاتهم بالسلطان ، فكتب برجوان إلى منجوتكين يعرفه استيلاء المذكورين على الأمور وغلبتهم على الأموال وتعديهم الى الحرم والفروج وقبيح الأعمال ورفعهم المراقبة للخالق

__________________

(١) دويبة صغيرة من الزواحف سامة برصاء. لسان العرب.

٧٥

والحشمة من المخلوقين ، وإبطالهم رسوم السياسة وإضاعة حقوق الخدمة ، وأنهم قد حصروا الحاكم في قصره وحالوا بينه وبين تدبير أمره ، ويدعوه إلى مقابلة نعمة مولاه العزيز عنده بحفظ ولده ، والوصول إلى مصر وقمع هذه الطائفة الباغية ، وقال : إن الديلم والأتراك والعبيد الذين على الباب يساعدونه على ما يحاول فيهم ، ويكونون معه أعوانا عليهم ، فامتثل منجوتكين ما في الكتاب عند وقوفه عليه ، وسارع إليه ، وركب إلى المسجد الجامع في السواد ، وجمع القواد والأجناد ومشايخ البلد وأشرافه وفيهم موسى العلوي ، وله التقدم والميزة ، وأذكرهم بحقوق العزيز وما كان منه من الإحسان إلى الخاص والعام ، وحسن السيرة في الرعية ، واعتقاد الخير للكافّة ، وخرج من ذلك إلى ذكر ما له عليه من حقوق الاصطناع والتقدم والاصطفاء ، والتعزير (١) للتمويه باسمه وما يلزمه في خدمته حيا وميتا ، ومناصحته معدوما ومفقودا وموجودا ، وقال : وإذ قبضه الله إليه ونقله إلى ما اختاره له وارتضاه ، وحكم به وأمضاه ، فإن حقوقه قد انتقلت إلى نجله وسليله الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ، وهو اليوم ولي النعمة وقائم مقام العزيز بالله رحمة الله ، في استحقاق الطاعة والمناصحة (٣٢ ظ) والخدمة ، وقد تغلب على الملك الحسن بن عمار وكتامة ، وصار أخواننا المشارقة بينهم كالذمة بين المسلمين ، وما يسعنا الصبر على هذه الصورة وتسليم الدولة إلى هذه العصابة المتسلطة ، وخرق ثيابه السود ، وبكى البكاء الشديد ، فاقتدى الناس به في تخريق الثياب والبكاء ، ثم قالوا : ما فينا إلا سامع لك مطيع لأمرك ومؤثر ما تؤثر وباذل مهجته في طاعة الحاكم وخدمته وخدمتك ، ومهما رسمت لنا من خدمة وبذل نفس ومكنة كنا إليه مسارعين ، ولأمرك فيه طائعين إلى أن تبلغ مناك وتدرك مبتغاك في نصرة مولانا ، فشكرهم على هذا المقال وقوى عزائمهم وآراءهم على المتابعة له ، والعمل بما يوافقه ،

__________________

(١) الاعانة والتوقير والنصر ومنع الجاني أن يعاود الذنب ـ النهاية لابن الأثير.

٧٦

وعاد إلى داره ووضع العطاء في الرجال ، وبرّز إلى ظاهر دمشق ، وقد اشتملت جريدة الاثبات على ستة آلاف من الأجناد السائرين معه خيلا ورجلا ، وكتب إلى الحسن بن عمار على أجنحة الطيور ومع أصحاب البريد بشرح ذلك الحال.

فلما وقف على الخبر عظم عليه وقلق ، وجمع وجوه كتامة ، وأعاد عليهم ما ورد من خبر منجوتكين ، وما هو مجمع عليه في بابهم ، وقال : ما الرأي عندكم؟ قالوا : نحن أهل طاعتك والمسارعون الى العمل باشارتك ، وأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم وجرى مجرى ألفتكين المعزي البويهي ، وندب الناس لقتاله وتقدم إلى الخزّان في خزائن أموال العزيز بإطلاق الأموال ، وإلى العرّاض (١) بتجريد الرجال والإنفاق فيهم ، وأحضر برجوان وشكر العضدي وقال لهما : أنا رجل شيخ ، وقد كثر الكلام عليّ والقول فيّ ، وما لي غرض إلا في حفظ الأمر للحاكم ، ومقابلة اصطناع العزيز وإحسانه إليّ ، وأريد مساعدتكما ومعاضدتكما ، وأن تحلفا لي على صفاء النية وخلوص العقيدة والطوية ، فدعتهما الضرورة إلى الانقياد له والإجابة الى ما سأله منهما ، واستأنف معهما المفاوضة والمشاورة والاطلاع لهما على مجاري الأمور ووجوه التدبير في الجمهور واستمالة المشارقة.

وندب أبا تميم سلمان بن جعفر بن فلاح ، وقدمه وجعله اسفهسلار الجيش ، وأمره بالمسير الى الشام ، وأطلق له كل ما التمسه من المال والعدد والرجال والسلاح والكراع ، وأسرف في ذلك إلى حد لم يقف عنده ، وجرد (٣٣ و) معه ستة عشر ألف رجل من الخيل والرجال وبرّز الى عين شمس وكان عيسى بن نسطورس الوزير على حاله في الوزارة ، فبلغ ابن عمار عنه ما أنكره ، فقبض عليه ونكبه ، وقتله ، وسار سلمان بن فلاح من مصر ،

__________________

(١) كانت وظيفة العارض من أهم الوظائف العسكرية.

٧٧

ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ أموالها ، فتقوى بها ، وكان معه المفرج بن دغفل بن الجراح ، وسنان بن عليان (١) ، ونزل سلمان عسقلان ، وسار منجوتكين حتى نزل بظاهرها ، وتقابل الجيشان ، فلما كان بعد ثلاثة أيام من تقاربهما وتقابلهما ضرب كل واحد منهما مصاف عسكره ، وعمل على مناجزة صاحبه ، واستأمنت العرب من أصحاب ابن جراح وابن عليان إلى سلمان ، فاستظهر وقتل من أصحاب منجوتكين أربعة قواد في وقت واحد ، وانهزم منجوتكين وقتل من الديلم عدة كثيرة لأنهم لجأوا عند الهزيمة إلى شجر الجميز واختفوا به ، فكان المغاربة ينزلونهم منهم ويقتلونهم تحتها ، وأحصيت القتلى ، فكانوا من أصحاب منجوتكين ألفي رجل.

وسار سلمان إلى الرملة وقد امتلأت أيدي أصحابه من الغنائم والأموال والكراع ، وبذل لمن يحضر منجوتكين عشرة آلاف دينار ومائة ثوب ، فانبثت العرب في طلبه ، وأدركه علي بن جراح ، فأسره وحمله إلى سلمان ، فأخذه منه وأعطاه ما بذل له ، وحمله مع رؤوس القتلى من أصحابه إلى مصر ، فشهرت الرؤوس وأبقى على منجوتكين الحسن بن عمار واصطنعه ، واستمال المشارقة به ، ونزل سلمان طبرية.

وكان أهل دمشق قد أثاروا الفتنة ، ونهبوا دار منجوتكين وخزائنه وما فيها من مال السلطان وعدده ، فأنفذ أخاه عليّا إليها في خمسة آلاف رجل ، فلما وصلها ناوش أهلها وناوشوه ، واعتصموا بالبلد ، ومنعوا الدخول إليه ، وكتب إلى سلمان أخيه يعلمه مخالفتهم وعصيانهم ، ويستأذنه في منازلتهم وقتالهم ، فأذن له في ذلك وأعلمه مسيره إليه ، وكتب إلى موسى العلوي والأشراف والشيوخ بالإنكار عليهم بتسلط العامة فيما ارتكبوه من النهب والافساد ، وتقاعدهم عن الأخذ على أيديهم والردع لهم ، والتوعد بالمسير

__________________

(١) أمير قبائل كلب ، وسيرد المزيد من أخباره.

٧٨

إليهم ، والمقابلة لهم بما يقتضيه الرأي ، فلما وقفوا على ما ذكره ، خافوا وخرجوا إلى أخيه علي ، ولقوه وأعلموه أنهم على الطاعة والإنكار لما أجرى إليه (٣٣ ظ) الجهالة ، فركب علي وحارب أهل دمشق وزحف إلى باب الحديد والنفاطون معه ، فانهزموا منه ، وملك البلد ، وطرح النار في الموضع المعروف بحجر الذهب ، وهو أجلّ موضع في البلد ، وقتل خلقا من رجاله ، وعاد بعد ذلك إلى معسكره ، ووافى من غد أخاه سلمان في عسكره ، فأنكر عليه احراق ما أحرق ، وبلوغه في الإفساد ما بلغ ، وتلقاه الأشراف والشيوخ والناس ، وشكوا إليه ما لحقهم وتلف من دورهم وأملاكهم وأموالهم ، فأمنهم ، وكف المغاربة عنهم ، وأظهر اعتقاده الجميل فيهم ، وكتب المناشير بالصفح عن الجناة وإيمان الكبير والصغير منهم ، ورفع الكلف والمؤن عنهم ، وإفاضة العدل والانصاف فيهم ، وقرئت في المسجد الجامع على رؤوس الأشهاد ، فسكنت إلى ذلك النفوس ، واطمأنت به القلوب ، ورجعوا إلى ما كانوا عليه ، واختلط المغاربة بهم وركب القائد سلمان إلى الجامع في يوم الجمعة بالطيلسان على البغل السندي ، وخرق في البلد بالسكينة والوقار وبين يديه القراء ، وقوم يفرقون قراطيس دراهم الصدقات على أهل المسكنة والحاجة ، وكان لهذا القائد سلمان نفس واسعة وصدر رحب ، وقدم في الخير متقدمة ، ورغبة في الفعل الجميل مشهورة ، ومقاصد في الصلاح مشكورة بعد الحسن بن عمار ، ولما صلى عاد إلى القصر الذي بني بظاهر البلد ، ونزل فيه وقد استمال قلوب الرعية والعامة بما فعله وأظهره من حسن النظر في الظلامات المرفوعة إليه وإطلاق جماعة كانت في الحبوس من أرباب الجرائم المتقدمة والجنايات السالفة ، واستقام له الأمر واستقرت على الصلاح الحال ، وصلحت أحوال البلد وأهله بما نشر فيه من العدل وحكم به من الإنصاف وأحسنه من النظر في أمور السواحل بصرف من صرفه من ولاتها الجائرين ، واستبدل بهم من شيوخ كتامة وقوادها ، ورد

٧٩

إلى علي أخيه ولاية طرابلس الشام ، وصرف عنها جيش بن الصمصامة ، فمضى جيش المذكور إلى مصر من غير أن يقصد القائد سلمان ويجتمع معه.

وكان جيش هذا من شيوخ كتامة أيضا إلا أن سلمان كان سيء الرأي فيه لعداوة بينه وبينه ، فلما حصل جيش بمصر (٣٤ و) قصد برجوان سرا وطرح نفسه عليه ، وأعلمه بغض أهل الشام للمغاربة واستيحاشهم منهم ، فأولاه برجوان الجميل قولا ووعدا ، وبذل له المعونة على أمره وتأمل برجوان ما يلي به في الأحوال من الحسن بن عمار وكتامة ، وما خافه على نفسه منهم ، وأن مصر والقاهرة قد خلتا إلا من العدد الأقل منهم ، وامكنته الفرصة فيما يريده منهم فراسل الأتراك والمشارقة ، وقال لهم : قد عرفتم صورتكم وصورة الحاكم مع هؤلاء القوم ، وأنهم قد غلبوا على المال ، وغلبوكم ، ومتى لم ننتهز الفرصة في قلة عددهم ، وضعف شوكتهم ، سبقوكم إلى ما لا يمكنكم تلافيه بعد التفريط فيه واستدراك الغاية منه ، وأوثقهم على الطاعة والمساعدة فبذلوها له ووثقوا له في كل ما يريده ، وأحس الحسن بن عمار بما يريد برجوان ، وشرع فيه وفي الفتك به ، وسبقه إلى ما يحاوله فيه ، ورتب له جماعة في دهليزه ، وواقفهم على الإيقاع به وبشكر إذا دخلا داره ، وكان لبرجوان عيون كثيرة على الحسن بن عمار ، فصاروا إليه وأعلموه ما قد عمل عليه ، واجتمع برجوان وشكر وتفاوضا الرأي بينهما في التحرز مما بلغهما وقررا أن يركبا ، ويركب على أثرهما من الغلمان جماعة ، «فإن أحسوا وأحسينا على باب الحسن ما يريبنا رجعنا وفي ظهورنا من يمنع منّا» فرتبا هذا الأمر وركبا إلى دار الحسن ، وكانت في آخر القاهرة مما يلي الجبل ، فلما قربا من الباب بانت لهما شواهد ما أخبرا به فحذرا وعادا مسرعين ، وجرد الغلمان الذين كانوا معهما سيوفهم ، ودخلا إلى قصر الحاكم يبكيان لديه ويستصرخان به ، وثارث الفتنة واجتمع الأتراك والديلم والمشارقة وعبيد الشراء بالسلاح على باب

٨٠