تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وكاشفوا بالعصيان والانحراف ، وعمدوا الى خيل الجشار (١) فاستاقوها ، واشتملوا على جميعها ، وهي العدد الكثير لسائر الأمراء والعسكرية والرعية من أنواع الدواب ، ولها قيمة عظيمة ، وتوجهوا بها في يوم الجمعة السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة من تل (٢) راهط إلى ناحية المرج ، وخرج إليهم من بقي في البلد من العسكر مع الأمراء ، والمقدمين ، وهم منهم أكثر عددا وأتم عددا ، طلبا للايقاع بهم ، وتخليص الجشار من أيديهم ، فما أغنوا فتيلا ولا أعادوا مما أخذوا كثيرا ولا قليلا ، ورحلوا به الى صوب بعلبك ، فخرج إليهم الأمير شمس الدولة محمد بن تاج الملوك صاحبها ، ووقعت الموافقة والمعاهدة بينهم ، على إقامته والدخول في طاعته ، والمناصحة في خدمته ، واجتمع إليه خلق كثير من التركمان ، فأخافوا السبيل ، وشرعوا في العيث والفساد ، واقتضت الحال مراسلتهم بالملاطفة ، ودعاهم إلى الطاعة ، وترك المخالفة ، وتطييب نفوسهم ، وبعثهم على العود إلى ما كانوا عليه ، والإجابة الى ما اقترحوا وأشاروا إليه واستقرت الحال على مرادهم ، وأخذت الأيمان المؤكدة عليهم ولهم بالوفاء ، واستعمال الاخلاص والصفاء ، وأذن لهم في العود ، فعادوا الى البلد ، وخيم بزواج وجماعته بجسر الخشب ، وامتنع من الدخول إلى داره لما رآه وجال في نفسه ، واتفق الرأي على خروج شهاب الدين في العسكر الى ناحية حوران على الرسم في ذلك ، والاجتماع هناك ، وتقرير ما يجب تقريره من الأحوال ، والبعث على تحصيل الغلال ، واتفق الرأي في أوائل شعبان على تقديم بزواج على سائر الأجناد والغلمان ، ورد إليه الاسفهسلارية ، وخوطب بالأتابكية ، ولقب بجمال الدين مضافا الى ألقابه ، فاستقام له الأمر ، ونفذ في النفع والضر.

__________________

(١) الجشر قوم يخرجون بدوابهم الى المرعى ويبيتون مكانهم ، ولا يأوون الى البيت. النهاية لابن الأثير.

(٢) منطقة قرية عربين في أحواز دمشق.

٤٠١

وفي العشر الأول من رجب من السنة ، خرج أمين الدولة كمشتكين الأتابكي والي صرخد من دمشق ، مظهرا قصد الصيد (١٤٠ ظ) والإشراف على ضياعه لأجل الجراد الظاهر بها ، في خواصه وثقله ، وفي النفس ضد ذاك ، فلما توارى عن البلد ، أغذ السير قاصدا سمت صرخد ، ومفارقا لما كان فيه ، خوفا على نفسه من الغلمان ، بحيث حصل بها ، وسكنت نفسه من الخوف فيها ، ثم روسل بالاستعطاف والتلطف في العود الى داره ومنزلته ، والانكفاء الى رتبته ، فأبى واحتج بأسباب ذكرها ، وأحوال شرحها ، ونشرها ، فوقع السلو عنه ، واليأس منه.

وفي يوم السبت الثالث عشر من شعبان سنة ثلاثين وخمسمائة وردت الأخبار من ناحية الشمال ، بنهوض الأمير مسعود سوار من حلب ، فيمن انضم إليه من التركمان الى الأعمال الأفرنجية فاستولوا على أكثرها ، وامتلأت أيديهم بما حازوه من غنائمها ، وتناصرت الأخبار بهذا الظفر من جميع الجهات ، والاستكثار لذلك ، والتعظيم له ، ولقد ورد كتاب من شيزر يتضمن البشرى بهذه النوبة ، ويشرحها على جليتها ، فأثبت مضمونه في هذا الموضع ، تأكيدا للخبر ، وتصديقا لما وصف وذكر ، وهو :

إن المتجدد عندنا بهذه الناحية ، ما يجب علينا من حيث الدين أن نذيعه ، ونبشر به كافة المسلمين ، فإن التركمان ـ كثرهم الله ، ونصرهم ـ اجتمعوا في ثلاثة آلاف فارس جريدة معدة ، ونهضوا إلى بلاد اللاذقية وأعمالها بغتة بعد اليأس منهم ، وقلة الاحتراز من غارتهم ، وعادوا من هذه الغزاة الى شيزر يوم الأربعاء حادي عشر رجب ، ومعهم زيادة عن سبعة آلاف أسير ، ما بين رجل وامرأة وصبي وصبية ، ومائة ألف رأس دواب ، ما بين بقر وغنم وحمر ، والذي حازوه واجتاحوه يزيد عن مائة قرية كبار وصغار ، وهم متواصلون ، بحيث قد امتلأت الشام من الأسارى والدواب ، وهذه نكبة ما مني الأفرنج الشماليون بمثلها ، وبعد هذا ما يبع منهم أسير إلا بثمنه ، ولا نقص السعر الأول ، وهم سائرون بهم إلى حلب ، وديار بكر والجزيرة.

٤٠٢

وفي آخر نهار يوم الأربعاء الرابع وعشرين من أيار ، طلع على دمشق سحاب أسود أظلمت الدنيا له ، وصار الجو كالليل ، ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر أضاءت الدنيا منه ، وصار الناظر إليه يظن أنه نار موقدة ، وكان (١٠٤ ظ) قد هب قبل ذلك ريح عاصف شديدة آذت كثيرا من الشجر ، وقيل إنه في هذا الوقت والساعة جاء في حوران برد كبار ومطر شديد بحيث جرت منهما الأودية ، وجاء في الليلة مطر عظيم ، زاد منه بردى زيادة لم ير مثلها عظما.

وفي المحرم من هذه السنة ، في الثالث عشر منه أرسل الله تعالى من الغيث ما طبق الأعمال الدمشقية ، بحيث سالت به الأودية والشعاب ، وزاد المد في الأنهار بحيث اختلطت ، وانكسر نهر يزيد ، ونهر بانياس والقنوات ، والتقت المياه ، وبطلت الأرحية ، ودخل الماء إلى بعض بيوت العقيبة ، وذكر جماعة من الشيوخ المعمرين أنهم لم يشاهدوا في مثل هذا الوقت مثل ذلك.

وفي شعبان من هذه السنة ، وردت الأخبار من ناحية العراق ، بأن السلطان مسعود بن محمد (١) بن ملك شاه حصر بغداد ، وضايق الإمام الخليفة الراشد بالله بن الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين ، ومعه السلطان داود ابن أخيه ، والأمير عماد الدين أتابك زنكي بن آق سنقر ، واقتضى التدبير حين لم ينل منها غرض ، ولم يظفر بمراد ، ولا بد من اللقاء والمحاربة ، العود عنها ، فعاد السلطان داود إلى بلاده ، وعماد الدين أتابك الى الموصل ، وأقام السلطان مسعود على رسمه في بغداد ، وحين رأى الامام الراشد بالله إقامة السلطان على الاستيحاش منه ، زادت وحشته ، وعلم أنه لا طاقة له بالمقام معه ، وخاف على نفسه ، فتبع عماد الدين الى الموصل ، ونزل بظاهرها وخيم به ، كالمستجير والعائذ به ، وحين خلت بغداد من الخليفة وتدبيره ، تمكن

__________________

(١) في الأصل : ابن السلطان محمود بن محمد ، ومحمود زيادة حذفت ، وقد سبق وقوع مثل هذا.

٤٠٣

من كل ما يريد فعله ويروم قصده ، فأقام في منصب الخلافة أبا عبد الله محمد أخا المسترشد بالله ، ولقبه المقتفي لأمر الله ، وعمره أربعون سنة ، وأخذ البيعة له على جاري الرسم ، وخطب له على المنابر في بلاده فقط ، في ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة ، وبقي الأمر واقفا إلى أن تقرر الصلح بين السلطان مسعود ، وبين عماد الدين أتابك في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ، فخطب له وللسلطان في الموصل ، وسائر الأعمال ، وسيأتي ذكر ذلك مشروحا في في موضعه.

وفي هذه السنة ، سنة ثلاثين وخمسمائة تشتى السلطان مسعود ببغداد ، وأتابك عماد الدين (١٤١ و) والإمام الراشد بالله ، ووزيره جلال الدين أبو الرضا بن صدقة بظاهر الموصل.

وفيها وردت الأخبار في ذي القعدة منها ، بظهور متملك الروم من القسطنطينية (١) ، وحكي أن طالع ظهوره كان عشر درج من الميزان ، وأن الزهرة والمشتري في العاشر والشمس في الأسد والمريخ في السابع ، والله أعلم بالغيب.

وفي يوم الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة ، قتل الرئيس محيي الدين أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الحسين الصوفي ، رئيس دمشق بظاهر المسجد الجديد ، قبلي المصلى في اليوم المذكور ، والسبب في ذلك أن الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك ، صاحب دمشق ، والأمير بزواج ، والحاجب سنقر ، كانوا قد أنكروا عليه أمورا بلغتهم عنه ، وأحوالا استوحشوا بسببها منه ، فشرعوا في افساد حاله ، وتحدثوا في أخذ ماله ، وتقررت الحال فيما

__________________

(١) هو الامبراطور جون ـ أو يوحنا ـ كومنين جمع جيشا لجبا بالغ المؤرخ السرياني المجهول في تقدير عدده ، فجعله «أربعمائة ألف رجل من الاغريق والفرنجة والألمان والهنغاريين». أنظر أيضا الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٥٨ ، حيث التاريخ عنده وعند المؤرخ السرياني سنة ٥٣١ ه‍ / ١١٣٧ م.

٤٠٤

بينهم على هذه الصورة في المخيم بحوران ، وكان الرئيس المذكور قد فارقهم من حوران ، وعاد إلى البلد لمداواة مرض عرض له ، فلما استقر الأمر بينهم على هذه القضية ، وعادوا الى البلد ، وخرج الرئيس المذكور في جماعة لتلقيهم ، فحين سلم عليهم وافق ذاك حديث جرى بينهم في معنى المعاملات ، أجاب عنه جوابا غلظ عليهم وأنكروه منه ، فعادوا لذاك عن القبض عليه الى القتل له ، وقد كان بلغه اعتزامهم على إفساد حاله بأخذ ماله ، وأشير عليه بالاحتياط على نفسه ، والتحيل في دفع الضرر عنها ، فلم يقبل للأمر المقضي ، والقدر النازل ، فقتل مظلوما رحمه‌الله ، بغير استحقاق للقتل ، ومضى شهيدا واعتقل باقي أقاربه ، والتمسوا الأذن لهم بعد أيام في التوجه إلى صرخد ، دفعا للشر ، واخمادا لنار الفتنة ، فأذن لهم في ذلك ، فتوجه من توجه منهم اليها.

وفي هذه السنة في أواخرها حضر المعروف بالاصمعي الديوان الشهابي ، والتمس الأذن له في ضرب الدينار في دمشق ، على أن يكون عياره نصف وربع وثمن دينار خلاصا ، والباقي من الفضة والنحاس ، وكرر الخطاب الى أن أجيب الى ما طلب ، وتقرر ضربه على هذه السجية ، وان تنقش السكة باسم الامام الراشد بالله أمير المؤمنين ، والسلطان (١٤١ ظ) المعظم مسعود ، وشهاب الدين ، ولما وردت الأخبار بأخذ السلطان البيعة للإمام المتقي لأمر الله ، وتوجه الراشد بالله الى ناحية الموصل ، وأظهر السلطان رقعة بخط الراشد بالله تتضمن أنه متى خرج من داره ، وقصد محاربة السلطان ، أو أباح دما محرما ، بغير واجب ، أو مديدا الى أخذ مال من غير حله ، ولا جهته ، كانت بيعته باطلة ، وخرج من عهدة الخلافة ، وكان متعديا للواجب ، وبذاك أشهد على نفسه القضاة والفقهاء والأعيان ، فكان ذلك أوكد الحجة في خلعه ، ونقض أمره.

٤٠٥

سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة

في هذه السنة وردت الأخبار بظهور متملك الروم كيالياني (١) من القسطنطينية ، في ذي القعدة سنة ثلاثين وقيل ، بل أول المحرم سنة احدى وثلاثين وخمسمائة ووصل الى جزيرة أنطاكية ، وأقام بها الى أن وصلت مراكبه البحرية بالأثقال والميرة والمال والعدد ، في عاشر نيسان ، ونزل على نيقية فملكها ، وقيل بل هادنه عليها أهلها ، ووصل إلى الثغور ، وتسلم أذنه والمصيصة وغيرهما ، وحاصر عين زربة وملكها عنوة ، وقيل في التاريخ إن أمير المؤمنين المأمون بالله بن الرشيد بالله ، كان عمر عين زربة عند الاجتياز بها ، لما ورد الى هذه الجهات ، وأنفق على عمارتها مائة وسبعين ألف دينار ، مع جاه الخلافة والسلطنة والقدرة ، وكان يعمل فيها كل يوم أربعون ألف فاعل ، سوى البنائين والحدادين والنجارين ، وملك تل حمدون وحمل أهله الى جزيرة قبرص ، وكان صاحبه ابن هيثم (٢) الأرمني ، ثم عمر ميناء الاسكندرونة ، ثم خرج الى أنطاكية ، ونزل عليها ، وضايق أهلها في سلخ ذي القعدة ، وجرى بينه وبين صاحبها ريمند بن بيدقين (٣) مصالحة ، ورحل عائدا إلى الدروب ، فافتتح ما بقي في يد ابن ليون الأرمني من الحصون ، وشتى بها.

وفي رجب من السنة نهض الأمير في فريق وافر من العسكر الدمشقي ، من التركمان ، الى ناحية طرابلس ، فظهر إليه قومصها في عسكر ، والتقيا فكسره بزواج ، وقتل منهم جماعة وافرة ، وملك حصن وادي ابن الاحمر (٤) وغيره.

__________________

(١) كذا ، وهذا التعريف فيه بعض البعد عن الأصل «جون ـ أو يوحنا».

(٢) هو «ليو بن رافين» انظر صفحات من تاريخ الأمة الأرمنية ، ١٣٥ ـ ١٣٧.

(٣) هو ريموند ابن كونت بويتو. انظر تاريخ وليم الصوري (بالانكليزية) ٢ / ٥٩.

(٤) لعله الحصن الذي نال اسم «يحمور» فاسمه بالافرنجية الحصن الأحمر. انظر القلاع أيام الحروب الصليبية. ط. دمشق ١٩٨٢ (ترجمه لكتاب فولفغانغ مولر ـ فينر) ص : ٦٤. طرابلس الشام : ١٥١ ـ ١٥٢.

٤٠٦

وفي رجب أيضا نهض ابن صلاح والي حماة في رجاله الى (١٤٢ و) حصن الخربة فملكه.

وفي شعبان منها ورد الخبر بأن عماد الدين أتابك بن أق سنقر ، توجه في عسكره من ناحية الموصل ، وقطع الفرات في العشر الأول منه ، ووصل الى حمص ، وكان قد تقدمه إليها صلاح الدين (١) في أوائل العسكر ، ونزلا عليها وضايقاها ، وفيها الأمير معين الدين أنر واليها ، فراسله في تسليمها ، فاحتج عليه بأنها للأمير شهاب الدين ، وأنه نائبه فيها ، فنصب الحرب عليها والمضايقة لها أياما ، ولم يحظ منها بطائل ، فرحل عنها في العشرين من شوال من السنة ونزل على الحصن المعروف ببعرين لينتزعه من أيدي الأفرنج ، فلما عرفوا ذاك تجمعوا ونزلوا قريبا لحمايته ومعونة من فيه منهم ، فحين عرف عماد الدين خبرها كمن لهم كمينا ، والتقى الجمعان ، فانهزم فريق من الأتراك بين أيدي الأفرنج (٢) ، وقتلوا منهم جماعة وافرة عند عودهم إلى منزل مخيمهم ، وظهر عليهم عماد الدين في من كمن لهم من الكمناء ، وأوقع بالرجالة ، وملك الأثقال والسواد ، وحين قربوا من المخيم وشاهدوا ما نزل عليهم ، وحل بهم انخذلوا وفشلوا ، وحمل عليهم عسكر عماد الدين ، فكسرهم ومحقهم قتلا وأسرا ، وحصل لهم من الغنائم الشيء الكثير من الكراع ، والسواد ، والأثاث وعاد عماد الدين إلى حصن بعرين ، وقد انهزم اليه ملكهم كند اياجور (٣) ومن نجا معه من مقدمي الأفرنج ، وهم على غاية من الضعف والخوف ، فنزل عليهم وحصرهم في الحصن المذكور ، ولم يزالوا على هذه الحال في المضايقة والمحاربة الى أن نفذ ما عندهم من القوت ، فأكلوا خيلهم ، وتجمع من بقي من الافرنج في بلادهم ومعاقلهم وانضموا الى ابن جوسلين ، وصاحب أنطاكية واحتشدوا ،

__________________

(١) يريد به صلاح الدين محمد الياغيسياني. انظر كتاب الباهر : ٣٤.

(٢) مع وضوح المعنى يبدو أن هناك سقط بالسياق.

(٣) فولك أوف أنجوFulk of Anjou

٤٠٧

وساروا طالبين نصرة المخذولين المحصورين في حصن بعرين ، وتخلصهم مما هم فيه من الشدة والخوف والهلاك ، فحين قربوا من عسكر أتابك ، وصح الخبر عنده بذاك ، اقتضت الحال أن أمّنهم وعاهدهم على ما اقترحه عليهم من طاعته ، وقرر عليهم خمسين ألف دينار يحملونها إليه ، وأطلقهم وتسلم الحصن منهم ، وعاد من كان اجتمع لنصرتهم (١).

وفي شهر رمضان منها ورد الخبر بأن الإمام (١٤٢ ظ) الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين ابن المسترشد بالله ، كان قد فصل عن الموصل قاصدا الى مراغة ، وأنه اجتمع بالسلطان داود بن محمود ، وجرى بينهما أحاديث وتقريرات قررها كل واحد منهما مع الآخر (٢).

__________________

(١) انظر الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨. وليم الصوري : ٨٥ ـ ٩١.

(٢) كما فعل أمدروز حين مر بمقتل الخليفة المسترشد فنقل عن الفارقي ، فعل الآن ، فنقل نصا طويلا له أهمية خاصة ، وقد أبقيت على ما نقله وضبطته على المصورة الموجودة لدي ، قال الفارقي : وكان الراشد على طريقة أبيه ، وكان بايعه الناس في آخر سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، وكان شهما شريف النفس ، ذا رأي وهمة ، فلهذا انحرف السلطان من توليته الخلافة ... قيل : وكان الراشد بعد قتل أبيه قد بايعه الناس ، واستبد واستقر ، ونفذ الى أتابك زنكي الى الموصل ، واستدعاه وضمن له أن تكون السلطنة في الملك ألب أرسلان ابن محمود الذي عند أتابك ، وتكون الأتابكية والخلافة بحكمه ، فنزل أتابك الى بغداد ، ونزل بالجانب الشرقي ، في إحدى دور السلطنة ، وبقي الى أن وصله أن السلطان قد طلب بغداد ، فخيم في الجانب الغربي ، فلما قرب السلطان من بغداد ، ونزل قريبا من النهروان ، حقق الراشد الحال ، وأنهم لا بد من تولية غيره فجمع الأمراء بأسرهم الذين كانوا في الدار من بني الخلفاء في سرداب ، وتقدم بأن يطبق السرداب.

ولقد حدثني زين الدولة أبو القاسم علي بن الصاحب ، وكان هو حاجب الباب هو وأبوه وجده ، وكان بين يدي الراشد ، قال : لما جمع الراشد الأمراء في السرداب ، وقال : يا علي خذ هذا السيف ـ وكان بيده سيفا ـ وقال : احذر أن يسبق سيفي سيفك ، فإني أريد أخرج كل من في السرداب ، وأقتل الجميع ، حتى لا يبقى من يصلح للخلافة ، فإن هؤلاء ربما

٤٠٨

ووردت الأخبار من ناحية الشمال بأن الأمير عماد الدين أتابك رحل في عسكره عن حلب ، في يوم الجمعة السادس عشر من شهر رمضان من السنة ، ونزل على حمص ، وخيم بها وقاتلها ووصل اليه رسول متملك الروم.

__________________

دخلوا وغيروا وولوا غيري ، ثم أمر بفتح السرداب ، والصائح جاءه ، فقال : ما الخبر؟ فقال : إن أتابك زنكي نهب الحريم الطاهري ، وطلب الموصل (في ذي القعدة) وأما السلطان فوصل وعبر النهروان ، ولما حقق أتابك نزول السلطان بالنهروان انهزم ، فرمى السيف من يده ، ودخل الى الدار وأخذ معه من الجواهر ما لا يعرف له قيمة ، وأعطاني منه مثل ذلك وخرج ، وأخرج معه قاضي القضاة الزينبي ، وكان قد استوزر جلال الدين أبا الرضا (بن) صدقة ، فخرج وخرجنا ، ولحق أتابك زنكي على طريق الموصل.

قال السعيد مؤيد الدين رحمه‌الله : فلما كان بكرة ذلك اليوم ، دخل السلطان بغداد ، ودخلنا معه ، فنزل في داره ، ونزلنا نحن في دورنا ، وكان دخولنا عاشر ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة فلما كان من الغد مضى الوزير الى دار السلطنة ، ونحن معه ، واستأذنه فيما يفعل ، فأخذ خطه وخطوطنا بالضمان ، ثم عدنا الى دورنا وأصبحنا يوم الاثنين سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة وحضرنا عند الأمير أبي عبد الله ، وتحدث الوزير معه ، وتحدثا معه ، وشرط عليه القيام بأمر الخلافة ، وطاعة السلطان ، وأعلمناه «أننا قد ضمنا ذلك من السلطان جميع ما اقترحه عليك» ، فرضي بذلك ، وانفصلنا عنه ، ومضينا الى السلطان وأعلمناه ما جرى ، وأنه رضي بما شرطت عليه ، فقال السلطان : إذا كان من الغد فبايعوه ، فلما أصبحنا صعدنا الى الدار ، وأخرجنا من الدار أشياء من الآلات التي تصلح للغناء ، وأشياء لا تليق ، وشهد جماعة من أهل الدار أنه شرب الخمر ، فأفتى العلماء بخلعه واعتنق ذلك القاضي عماد الدين شرف القضاة أبو طاهر أحمد بن الكرخي المحتسب ، وكان قاضي أصحاب الشافعي رحمه‌الله ، واجتمع العلماء والأكابر ، فخلعوه.

ودخل إليه الوزير ، وصاحب المخزن ، وأنا ، وتحدثنا وناولته رقعة فيها ما يسمى به من اللقب ، وكان فيها المقتفي لأمر الله ، والمستضيء بأمر الله ، والمستنجد بالله ، فقال : ذلك إليكم ، فقال لي الخليفة ، ما ترى؟ فقلت : المقتفي لأمر الله ، فقال : مبارك ، ثم مد يده ، فأخذها الوزير ، وقبلها ، وقال : بايعت سيدنا ومولانا المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين على كتاب الله وسنة رسول الله واجتهاده ، ثم أخذها صاحب المخزن وقبلها ، وبايعه على مثل ذلك ، ثم أخذت يده وقلت بعد أن قبلتها : بايعت سيدنا ومولانا الامام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين ،

٤٠٩

ووردت الأخبار من ناحية العراق بالتقاء عسكري السلطان مسعود و [ابن] أخيه داود ، وأن عسكر السلطان مسعود ظهر على عسكر السلطان داود ، وكسره وقتل من مقدميه وأجناده جماعة وافرة من السنة (١).

وفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ترددت المراسلات من الأمير شجاع الدولة أبي الفوارس المسيّب بن علي بن الحسين الصوفي وجماعة المقيمين بصرخد ، وكتب الأمير أمين الدولة كمشتكين الأتابكي الوالي بصرخد الى الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك ، وإلى الأمير شجاع الدولة بزواج ، والحاجب أسد الدين أكز في إلتماس الأذن لهم في العود إلى دمشق ، والسؤال

__________________

على ما بايعت عليه أباه وأخاه وابن أخيه في ولاية عهده ـ وكنت بايعت الامام المستظهر بالله لما خدمته في وكالة الدار سنة تسعين وبقيت الى سنة سبع وخمسمائة ثم وليت ديوان الانشاء ، وبايعت المسترشد والراشد ـ ثم قمنا من عنده ودخل الى الدار ، ودخل العلماء والفقهاء والقضاة وأكابر الناس أجمع ، فبايعوه ، وحضر السلطان مسعود بعد ثلاثة أيام وبايعه ، وبايعه جميع أصحابه من خواجا [الوزير] والأمير حاجب ، وجميع أرباب دولته واستبد له الأمر ، واستقر في الخلافة ... وأما ما كان من الراشد فإنه خرج مع أتابك زنكي في صفر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة الى الموصل ، ومعه قاضي القضاة الزينبي ، وجلال الدين أبو الرضا بن صدقة ابن أخي الوزير أبي علي ، وبقي عنده مدة ، فوصل معه الى باب نصيبين ، وأقام أياما ، ثم عاد الى الموصل وانفصل عن أتابك ، ومضى الى السلطان مسعود حتى يستأذنه ويمضي الى السلطان سنجر ، وقيل قصد السلطان داود ودخل عليه حتى يرده الى الخلافة ، فلما قارب أصفهان خرج عليه قوم من الملاحدة ، ودخلوا عليه وقتلوه في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ، وحمل الى أصفهان دفن بها في مدينة شهرستان من أصفهان على فرسخ ، ... وكانت خلافته من حيث بويع له بعد قتل أبيه الى أن بويع المقتفي أحد عشر شهرا زائدا فناقصا ، وقيل إن السلطان نفذ من دخل عليه وقتله ...

(١) كذا في الأصل ولا وجه لها ، وخبر المعركة مفصلا في ابن الأثير : ٨ / ٣٦٠ حيث هزم الجيشان بعضهما بالتناوب.

٤١٠

في إعادة ما قبض من أملاكهم إليهم ، وإعادة كل مغضوب منها عليهم ، ولم تزل المراسلات في هذا الباب متناصرة ، والكتب في طلبه متواترة الى أن تقررت الحال في ذلك ، والاجابة إليه على مصالحة معينة مقسطة برسم واجبات الأجناد يقومون بها في أنجمها المعينة ، وأوقاتها المبينة ، تصلح الأحوال بتأديتها ، وتتحقق الأمال بتملكها ، وأن يرد أمر الرئاسة في البلد الى الأمير المقدم ذكره ، وكتب له المنشور بالرئاسة ، ونعت فيه مع أوصافه بالأمير الرئيس الأجل ، مؤيد الدين ، ممهد الاسلام ، مضافا الى ألقابه ونعوته المتقدمة ، وأن يكون الرسم في الرئاسة جاريا على العادة المستمرة ، والقاعدة المقيمة المستقرة في الحمايات والواجبات ، والرسوم الجاريات في دار الوكالة ، وسائر العراص ، ونفذت الكتب إليهم بالإجابة الى ما التمسوه ، والاسعاف بما اقترحوه ، والأذن لهم في العود الى البلد واثقين بما يقدمون عليه ، من حفظ الحرمة ، وحراسة الحشمة ، والتطييب بالنفس ، وتأكيد (١٤٣ و) الأنس.

فعند الوقوف على ما صدر اليهم من هذه الحال سرت به نفوسهم ، وابتهجت بمعرفته قلوبهم وشرعوا في التأهب للعود بصدور منشرحة ، وآمال منفسحة ، وعادوا بأسرهم ، وحين قربوا من البلد خرج كل من فيه من خاص وعام ، لتلقيهم وإظهار السرور والاستبشار بعودهم ، والاغتباط والابتهاج بمقدمهم ، ودخلوا البلد في العشر الأول من رجب من السنة المذكورة فاستقامت أحوالهم على منهج السداد ، واستمرت على قضية الإيثار والمراد ، وأعيد عليهم جميع ما اعترض لهم من ملك وغيره ، وأجروا على كل رسم جميل واكرام وتبجيل ، فكم من شدة فرجها الله تعالى ذكره بعد اشتدادها ، وغمة كشفها بلطفه بعد إظلامها.

ربما تجزع النفوس من الام

ر له فرجة كحل العقال

وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية مصر ، بأن مقدم الأرمن (١) بها ،

__________________

(١) هو «بهرام الأرمني النصراني ، الملقب تاج الدولة. انظر اتعاظ الحنفا :

٣ / ١٥٥ ـ ١٦١.

٤١١

قام في حزبه على صاحبها الإمام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ، وزحف إليه في قصره ، وأقام عليه كالمحاصر له ، فعاد أكثر الجند عنه خوفا وقتلا ، فانخذل وانهزم ، وقيل إن السبب في ذلك كون أخ لمقدم الأرمن في الصعيد ، ورد عليه خبر قتله ، فغلظ هذا الأمر عليه ، وحمله على ما كان منه ، ثم إنه تلطف أمره بحيث عفي عنه ، ولزم داره خائفا مروعا.

وفي رجب من السنة نهض الأمير بزواج في العسكر ، ومن حشده وجمعه من التركمان الى ناحية طرابلس في الرابع منه ، فظهر إليه صاحبها في خيله من الأفرنج ، فكمن لهم في عدة مواضع ، فلما حصلوا بالموضع المعروف بالكورة (١) ظهرت عليهم الكمناء ، فهزموهم ، ووقع السيف في أكثرهم ، ولم يفلت منهم إلا اليسير ، وهجم على الحصن الذي هناك فنهبه ، وقتل من فيه من المقدمين والأتباع ، وأسر من بذل في نفسه المال الكثير ، وحصل له ولعسكره القيمة الكثيرة.

وفي شوال من السنة تقررت المهادنة والموادعة بين عماد الدين ، وبين شهاب الدين صاحب دمشق ، على قاعدة أحكمت.

وفي ذي الحجة منها ، ورد الخبر بعود متملك الروم في عسكره عن أنطاكية الى ناحية بعرين (٢) من عملها في الثاني والعشرين منه ، (١٤٣) وأنفذ رسوله إلى عماد الدين أتابك ، وظفر الأمير سوار النائب عنه في حلب بسرية وافرة العدد من عسكر الروم ، فقتل بعضا ، وأسر بعضا ، ودخل بهم إلى حلب.

__________________

(١) ما زالت تعرف بهذا الاسم في منطقة طرابلس في لبنان.

(٢) كذا بالأصل ، وهو مضطرب ويمكن أن يكون صوابه «في عسكره عن شيزر إلى ناحية بعرين» ، فالامبراطور البيزنطي حاصر شيزر ، وهذا ما سيفصل خبره المؤلف بعد قليل ، وهو ما أتت على ذكره جميع المصادر ، هذا وسيشير المؤلف أيضا أنه بعد عودة الامبراطور الى أنطاكية ، بعدما أخفق في أخذ شيزر ، توجه من أنطاكية نحو بزاعة حيث أخذها ...

٤١٢

وورد الخبر بأن حسام الدين تمرتاش بن ايل غازي بن أرتق ملك قلعة الهتاخ (١) من بقية آل مروان وما كان بقي في أيديهم غيرها ، بعد البلاد والمعاقل ملكها بحيلة أعملها عليهم ، ومكيدة نصبها لهم ، وهي على غاية من الحصانة والمنعة.

وفيها شرع أهل حلب في تحصينها ، وحفر خنادقها ، والتحصن من الروم بها ، لقربهم منها.

وورد الخبر بأن عماد الدين أتابك عزل وزيره أبا المحاسن علي بن أبي طالب العجمي ، وقبض عليه ، واعتقله بسبب مال وافر ، وانكسر عليه من المعاملات ما عجز عن القيام به ، والخلاص بتأديته ، وبقي معتقلا في القلعة بحلب بسببه.

سنة إثنتين وثلاثين وخمسمائة

أولها يوم الإثنين مستهل المحرم ، وهو العشرون من ايلول ، وفيه وصل الحاجب حسن الذي كان أرسل الى متملك الروم ، ومعه رسول الملك عماد الدين أتابك.

وفي رابع عشر المحرم وصل أتابك في عسكره الى حماة ، ورحل عنها متوجها الى ناحية البقاع ، فملك حصن المجدل (٢) من أيدي الدمشقيين ، ودخل في طاعته ابراهيم بن طرغت والي بانياس من عمل دمشق.

__________________

(١) في الأصل : الهياج ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا والهتاخ كما وصفها أبو الفداء : ٢٨١ «قلعة حصينة من ديار بكر». انظر الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٦٣.

(٢) في تقويم البلدان : ٢٣٠ وبالقرب من عين الجر ضيعة تعرف بالمجدل ، وهي على الطريق الآخذ من بلعلبك على وادي التيم.

٤١٣

وورد الخبر في صفر بأن زلزلة عظيمة جاءت بالجزيرة واعمال الموصل ، وقيل انها أهلكت عدة مواضع من الأرض ، وهلك فيها خلق كثير وافر من أهلها في أوائل شهر ربيع الأول من السنة ، وقيل إن رسول السلطان مسعود ابن السلطان محمد ، وصل الى الموصل بالتشريف الكامل لعماد الدين أتابك ، ووصلت كتب نصير الدين نائبه فيها بشرح حالها.

وورد الخبر بأن صاحب أنطاكية قبض على بطركها الأفرنجي ، ونهب داره ، وذكر أن السبب في ذلك أن ملك الروم لما تقرر الصلح بينه وبين ريمند صاحب أنطاكية ، شرط في جملة الشروط أن ينصب بأنطاكية بطركا من قبل الروم على ما جرى بمثله الرسم قديما ، ثم انتقض هذا الرسم فيما بعد ، وخرج ريمند صاحب أنطاكية الى متملك الروم وهو مخيم في (١٤٤ و) عسكره بمرج الديباج ، وقرر معه الهدنة والموادعة ، وعاد الى أنطاكية.

وفيها عاد عماد الدين أتابك عن دمشق إلى حماة في شهر ربيع الآخر ، ونزل عليها ، ورحل عنها إلى حمص ، فنزل عليها محاصرا لها.

وفي هذه السنة نقض الأفرنج الهدنة المستقرة بين عماد الدين أتابك وبينهم ، وأظهروا الشقاق والعناد ، وشرعوا في العيث والفساد بعد اصطناعه لمقدميهم ، والكف عنهم ، حين أظهره الله عليهم ، وقبضوا بأنطاكية وثغور الساحل جماعة من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار ، تقدير خمسمائة رجل في جمادى الآخرة.

وفيها شتى السلطان مسعود ببغداد ، ووصل رسوله الى أتابك بحمص وشتى ملك الروم بالثغور والدروب ، وخيم بمرج الديباج.

وفي يوم الأحد النصف من جمادى ، نهض الأمير بزواج من دمشق في عسكره إلى ناحية الأفرنج ، وقد فسد أمره مع شهاب الدين صاحب دمشق

٤١٤

لعجرفة فيه واقدام على استعمال الشر ، ونودي عليه بفساد أمره ، وظهور غدره ومكره ، وكثرة جهله ، وتناهيه في سوء فعله ، وأقام بظاهر البلد مدة ، وعاد أمره انصلح ، ودخل البلد ، وأقام فيه مستقيم الحال مبلغا غاية الآمال فعمل عليه شهاب الدين ، وقتله بقلعة دمشق بأيدي الشمسية ، في يوم الإثنين السادس من شعبان من السنة ، والسبب في ذلك أن شهاب الدين كان قد نقم عليه أمورا أنكرها ، واستوحش منه لأجلها ، وعبث بمال الارتفاع يمزقه في النفقات والاطلاقات ، فأعمل الحيلة في قتله ، وآنسه وطمنه إلى حين وجد الفرصة فيه متسهلة ، وحصل عنده بقبة الورد في داره بالقلعة ، وقد رتب له جماعة من الأرمن الشمسية ، أصحاب ركابه ، وقرر معهم قتله ، فحين تمكنوا منه بخلوة من أصحابه قتلوه ، وأخرجوه ملفوفا في كساء إلى المقبرة المبنية لزوجته ، فدفن بها.

وفي يوم الأحد السابع عشر من شعبان من السنة ، خلع شهاب الدين على الأمير معين الدين أنر ، وقرر له أمر الأسفهسلارية ، وخوطب بالأتابكية ، ورد أمر الحجبة الى الأمير الحاجب أسد الدين أكز ، وطيب بنفسيهما ، وردّ التدبير والتقرير في سائر الأعمال ، وعامة الأحوال إليهما.

وفي هذا (١٤٤ ط) الشهر وردت الأخبار من ناحية الشمال ، بنزول ملك الروم في عسكره على شيزر ، محاصرا لها ، ومضايقا عليها ، ونصب عليها عدة من المناجيق ، واشتدت الحرب بينه وبين أهلها ، وقتل فيها جماعة من المسلمين بحيث أشرفت على الهلاك ، مع مبالغة الأمير عماد الدين أتابك في إمدادها بالرجالة والسلاح وآلات الحرب ، وكونه بإزاء الروم يجول بخيله على أطرافهم ، ويفتك بمن يظفر به منهم ، ولم يزالوا على هذه القضية الى أن سئموا المقام عليها ، ويئسوا من بلوغ الغرض فيها ، ولطف الله تعالى بأهل الشام ، وتداركهم برحمته ، وورد خبر رحيلهم عن شيزر الى أنطاكية ، واستبشر الناس برحيلهم ، وعودهم خاسرين ، غير ظافرين ، ومفلولين غير فالين ، فلله تعالى الحمد على هذه النعمة دائما ، والشكر متواصلا متتابعا.

٤١٥

قد مضى من ذكر الروم فيما اعتمدوه في هذه الأيام ، ما قد عرف ، ونذكر بعد ذلك ، مبدأ أحوالهم وخروجهم وأفعالهم ، وذلك أنهم ظهروا من ناحية مدينة البلاط في يوم الخميس الكبير من صومهم ، ونزلوا غفلة على حصن بزاعة بالوادي في يوم الأحد عيدهم ، وغارت خيلهم على أطراف حلب في تاسع عشر رجب من السنة ، واستأمن منهم إلى حلب جماعة من كافر ترك (١) ، وأنذروا من بحلب بالروم ، فحذروا وضموا أطرافهم وتحرزوا وتحفظوا ، واستعدوا ، وتيقظوا قبل الإغارة بليلة ، وكان هذا الإنذار من المستأمنة لطفا من الله تعالى ورحمة ، وبعد هذا التحرز والاحتياط ، اشتمل الروم في عادتهم على جملة وافرة من أهل حلب وضواحيها ، وأنفذ أهل حلب من أعيانهم من مضى إلى عماد الدين أتابك مستصرخا به وهو مخيم على حمص ، فأنهض إليهم من أمكنه من الخيالة والرجالة والناشبة والنبالة ، والعدد الوافرة ، وحصل الجميع [بحلب](٢) في السابع وعشرين من رجب من السنة.

ووردت الأخبار بتملّك [ملك] الروم المذكورين حصن بزاعة ، بعد حصره ومضايقته ، ومحاربته بالمنجنيقات في يوم السبت الخامس والعشرين من رجب بالأمان ، وغدر بأهله بعد تسلمه وإيمانهم ، وجمع من غدر بهم وأحصاهم ، وقيل إنهم كانوا خمسة آلاف وثمانمائة نفس ، وتنصر قاضي بزاعة وجماعة من الشهود (١٤٥ و) وغيرهم ، تقدير أربعمائة نفس ، وأقام الملك بعد ذلك بمكانه عشرة أيام ، يدخن على مغارات اختفى فيها جماعة ، فملكوا بالدخان.

وفي يوم الأربعاء الخامس من شعبان نزل الروم أرض الناعوة ، ورحلوا عنها في يوم الخميس ثامنه ، واجتازوا بحلب ، ومعهم عسكر أنطاكية ومقدمهم

__________________

(١) كان قوام الجيوش البيزنطية من المرتزقة ، وشكل «الخزر» الأتراك قسما كبيرا من هؤلاء المرتزقة.

(٢) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

٤١٦

ريمند صاحبها ، وابن جوسلين ، فنزلوا على حلب ، ونصبوا خيامهم على نهر قويق وأرض السعدي ، وزحف الملك من غده في خيله ورجله من قبلي حلب وغربيها من ناحية قرنة برج الغنم ، وخرج إليهم فرقة واحدة من أحداث حلب ، فقاتلتهم وظهرت عليهم ، فقتلوا فيهم وجرحوا ، وأصيب من الروم مقدم مذكور ، وانكفّوا خائبين الى مخيمهم ، وأقاموا على حلب أياما قلائل ، ورحلوا عنها غداة يوم الأربعاء ثامن شعبان مقتبلين الى أرض صلدع ، وخاف من بقلعة الأثارب ، فهربوا منها يوم الخميس تاسع شعبان ، وطرحوا النار في خزائنها ، وعرف الروم ذلك ، فنهضت منهم طائفة الى القلعة ، ونزلت عليها وملكتها ، وحازوا ما فيها ، والجأوا السبايا والأسرى الذين في أيديهم من حصن بزاعة إلى ربض الأثارب وخندقها ، بحيث عرف الأمير سوار النائب بحلب ذاك ، وانعزال الروم عنها ، نهض في عسكر حلب وأدركهم بالأثارب ، فأوقع بهم وقهرهم ، واستخلص المأسورين والمسبيين إلا اليسير منهم ، وذلك في يوم السبت الحادي عشر من شعبان ، وسر أهل حلب بهذه النوبة ، سرورا عظيما.

وفي يوم الخميس التاسع من الشهر ، رحل عماد الدين أتابك عن حماة الى سلمية ، وسيّر ثقله الى الرقة ، وبقي في خيله جريدة مخفا.

وفي يوم الاثنين رحل ملك الروم عن بلد المعرة ، فهرب من كان مقيما في كفر طاب من الجند ، خوفا على نفوسهم ، وتناصرت الأخبار بعبور عسكر التركمان الفرات مع ولد الأمير داود بن أرتق الى ناحية حلب ، للغزو في الروم ، ونزلوا بمجمع المروج ، ونهض فريق وافر من عسكر دمشق للغزاة أيضا في خدمة عماد الدين أتابك ، وكان سبب رحيل الروم عن شيزر ، ما انتهى إليهم من وصول التركمان ، وتجمع العساكر حاشرين ، وكانت مدة اقامتهم عليها ثلاثة وعشرين يوما ، ووصول ملك الروم الى أنطاكية في عوده يوم الأحد (١٤٥ ظ)

٤١٧

الثامن من شهر رمضان من السنة ، وتواصلت الأخبار بإتمام الروم في رحيلهم الى بلادهم ، وسكنت القلوب بعد انزعاجها وقلقها منهم ووجلها.

وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة القاضي بهاء الدين بن الشهرزوري بها ، في يوم السبت السادس عشر من شهر رمضان من السنة ، وحمل الى مشهد صفين ، ودفن به وكان صاحب عزيمة ماضية ، وهمة نافذة ويقظة ثاقبة (١).

وفي هذه السنة توفي القاضي الأعز أبو الفتح محمد بن هبة الله بن خلف التميمي رحمه‌الله ، في ليلة الجمعة النصف من شهر رمضان ، وكان من المتخصصين ذوي المروءة ، وكرم النفس.

وفي هذه السنة ترددت المراسلات من الأمير عماد الدين أتابك ، الى الأمير شهاب الدين ، في التماس انعقاد الوصلة بينه وبين والدته الخاتون صفوة الملك زمرد ابنة الأمير جاولي ، الى أن أجيب الى ذلك ، واستقر الأمر فيه ، وندب من دمشق من تولى لها العقد في مخيمه بحمص ، في يوم الاثنين السابع عشر من شهر رمضان من السنة ، وتقررت الحال على تسليم حمص إليه ، فتسلمها مع القلعة وعوض عنها لواليها الأمير معين الدين أنر حصن بعرين (٢) ،

__________________

(١) كان يشغل وظيفة «قاضي الممالك الأتابكية ، وكان أعظم الناس منزلة عنده» (زنكي). الباهر : ٥٧.

(٢) في مرآة الزمان : ٢ / ١٦٥ : «وفيها (٥٣٢ ه‍) تزوج أتابك زنكي بأم شهاب الدين محمود ، وهي الخاتون صفوة الملك زمرد ابنة الأمير جاولي ، وكان قد طلبها في السنة الماضية ، فامتنع بزواش ، فقال : وما السبب في أننا نزيل دولة مولانا بأيدينا ، فلما قتل بزواش راسل أتابك زنكي في هذا المعنى ، وهو مقيم على حمص فأجيب ، فعقد العقد بحمص يوم الاثنين سابع عشر رمضان وتقرر الحال في تسلم حمص إليه ، فتسلمها مع القلعة ، وعوض لمعين الدين أنر حصن بعرين ، وتوجهت خاتون من دمشق في عسكر أتابك إليه في شهر رمضان ، وقيل سارت إليه في المحرم أول السنة لآتية ، واجتمعا على حمص».

٤١٨

وتوجهت الخاتون صفوة الملك والدة شهاب الدين من دارها إلى عسكر عماد الدين أتابك بناحية حمص وحماة ، مع أصحاب عماد الدين المندوبين لإيصالها إليه ، في أواخر شهر رمضان منها.

ووردت الأخبار من ناحية العراق بأن الامام الراشد بالله أمير المؤمنين. كان قد فصل عن الموصل ، وتوجه الى ناحية الجبل ، فقضى الله تعالى للقدر النازل ، والحكم النافذ استشهاده على باب أصفهان ، بأمر قرر له ، وعمل عمل عليه ، فصار إلى رحمة ربه سعيدا مأجورا شهيدا ، في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة ، فكانت خلافته إلى أن أستشهد سنتين وعشرة أشهر (١).

وفي هذه السنة ورد الخبر بوفاة الأمير طغان (أرسلان) (٢) بن حسام الدولة ببدليس ، وانتصب في مكانه ولده الأمير قرتي بن طغان أرسلان ،

__________________

(١) في مرآة الزمان : ١ / ١٦٧ ـ ١٦٨ رواية هامة حول مصرع الراشد جاء فيها : وفيها [٥٣٢ ه‍] توفي منصور الراشد في أصبهان ، توفي سابع عشرين رمضان ، واختلفوا في سبب وفاته على أقوال : أحدها أنه سقي السم ثلاث مرات ، والثاني أنه قتله قوم من الفراشين الذين كانوا في خدمته ، والثالث أنه قتله قوم من الباطنية ، وقتلوه بعده ، وكان قد داس بلادهم وأخربها ، وبعثهم إليه سنجر ومسعود ، فجاءوا فقتلوه كما قتلوا أباه.

وذكر العماد الكاتب في الخريدة ما يدل على هذا ، فإنه قال : تنقل الراشد في البلاد ، وديار بكر وأذربيجان ومازندران ، وعاد الى أصبهان فأقام مع السلطان داود بن محمود ، والبلد محاصر ، وهناك قحط عظيم ، وضر عميم.

قال العماد : أذكر ونحن أطفال وقد خرجنا من البلد يعني أصبهان ، وأقمنا بالربط عند المصلى ، والعسكر قريب منا فسمعنا أصواتا هائلة وقت القائلة من يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان من هذه السنة ، فقلنا : ما الخبر؟ فقالوا : الخليفة قد فتكت به الملاحدة لعنهم الله ، وخرج أهل أصبهان حفاة حاسرين ، وشيعوا جنازته إلى مدينة جي ، ولطموا وبكوا ودفنوه بالجامع».

(٢) أضيف ما بين الحاصرتين من الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٦٣.

٤١٩

واستقام له الأمر ، وحكي عنه حكايات في الظلم والتعجرف والتجبر والجور ، تنكرها النفوس ، وتنفر من سماعها القلوب.

سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

(١٤٦ و) أول هذه السنة يوم الجمعة بالرؤيا ، مستهل المحرم ، وفيه اجتمع الأمير عماد الدين أتابك بالخاتون صفوة الملك والدة الأمير شهاب الدين ، بظاهر حمص ، وقد اجتمع عنده جماعة وافرة من رسل الخليفة والسلطان ومصر والروم ودمشق وغير ذلك.

وفي هذا الشهر غارت الأفرنج على ناحية بانياس ونهض شهاب الدين في العسكر في إثرهم فلم يدركهم وعاد الى البلد.

وفي يوم الثلاثاء الرابع من صفر جاءت في دمشق زلزلة هائلة بعد الظهر ، اهتزت بها الأرض ثلاث مرات ، وتلاها في ليلة الجمعة وقت عشاء الآخرة ثانية اهتزت بها الأرض عدة مرات ، وفي ليلة الاثنين التاسع عشر من صفر عادت الزلزلة في الثلث منها ثلاث مرات ، فتبارك رب هذه القدرة الباهرة ، والآية الظاهرة ، وعادت في ليلة الأربعاء تتلوها في الربع الأخير من ليلة الجمعة ، وتناصرت الأخبار من الثقات السفار ، والواردين من ناحية الشمال بصفة هذه الرجفات المذكورات ، وأنها كانت في حلب ، وما والاها من البلاد والمعاقل والأعمال أشد ما يكون ، بحيث انهدم في حلب الكثير من الدور ، وتشعث السور ، واضطربت جدران القلعة ، وظهر أهل حلب من دورهم الى ظاهره من خوفهم على نفوسهم ، ويقول المكثر من الحاكي أن الزلزلة جاءت تقدير مائة مرة ، وقوم يحققون أنها ثمانون مرة ، والله أعلم بالغيب والصواب ، تبارك الله رب العالمين ، القادر على كل شيء.

٤٢٠