تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

ونزل في القصر ، وأقام فيها ما أقام ، وسار منها إلى حلب ونزل على السعدي (١) وفتحت له أبواب البلد ، ودخله وأحسن إلى أهله ، وردّ ما كان صالح اغتصبه من الأملاك إلى أربابها (٢) ، وأمر بقتال القلعة فقوتلت وهو قائم ، وراسله مقلّد بن كامل المقيم بها ، وسلمها إليه وأقطعه (٤٨ و) عدة مواضع ، وسكن في دار عزيز الدولة ، وتزوج بنت الأمير منصور بن زغيب ، ووصله السجل من الحضرة بإقطاعه حلب ، وعاد إلى دمشق وشرع في عمارة الدار بالقصر ، ثم بلغه عن الوزير علي بن أحمد الجرجرائي ، وعن الظاهر ما أوجب الاستيحاش منه والنفور عنه ، فعزم على العود إلى حلب ، فظهر له من أجناده ما أنكره ، فهمّوا بالقيام عليه ، فسار من القصر بعد أن أمر الغلمان بنهب ما في القصر (٣) ووصل إلى حلب ، ودخلها في يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر ، ونزل في دار سعد الدولة ، واجتمع بزوجته وابنته الواصلين من مصر ولازم

__________________

(١) في مرآة الزمان [حوادث سنة ٤٢٩ ه‍] : وسار الدزبري ، فنزل على جبل جوشن ظاهر حلب ، وأغلق أهل حلب أبوابها وقاتلوه ، فاستمالهم وأمنهم ، ففتحوا له الأبواب فدخلها ، وكان في القلعة المقلد بن كامل ابن عم شبل الدولة ، فتراسلا واستقر الأمر على أن المقلد يأخذ من القلعة ثمانين ألف دينار وثيابا وأواني ذهب وفضة ويسلمها إلى الدزبري ، وكانت خديعة ، فأجاب الدزبري ، فأخذ جميع ما كان في القلعة من الأموال والذخائر والجواهر ، وما ترك إلّا ما ثقل حمله ، ونزل ومضى إلى حلته ، وحصل جمهور ما كان في القلعة ، وأخذ عز الدولة ثمال بن صالح أخو نصر ، وكا قد انهزم إلى القلعة يوم الوقعة ، وأراد أن يعصي فلم يتفق ، فأخذ خمسين ألف دينار ، وانصرف ، وبلغ الوزير بمصر ، فعزّ عليه ذلك ، مضاف إلى سوء رأي الدزبري ، فكانت ولاية شبل الدولة على حلب تسع سنين.

(٢) في زبدة الحلب : ١ / ٢٥٦ أن الدزبري اجتاز بطريقه إلى حلب «بمعرة النعمان ، فالتقاه أهلها فأكرمهم ، وسألهم على أبي العلاء بن سليمان ، وقال لهم : لأسيرن فيكم بسيرة العمرين».

(٣) ذكر المقريزي في ترجمة الدزبري في كتابه المقفى أن ما نهب من قصر دمشق / ٢٠٠ / ألف دينارا.

١٢١

الشراب ، وصحّ عليه جسمه (١) وبلغه وصول سجل من مصر إلى دمشق عن الحضرة قرىء على المنبر يقال فيه :

أما بعد فإنه قد علم الحاضر ، والبادي والموالف والمعادي ، حال أنوشتكين الدزبري الخائن ، وأنه كان مملوكا لدزبر بن أونيم الحاكمي وأهداه إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، فنقله إلى المراتب إلى أن انتهى أمره إلى ما انتهى إليه ، فلما تغيرت نيته ، سلبه الله تعالى نعمته لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(٢).

فشق هذا الأمر عليه ، وضاق صدره لإسقاط نعوته ، وقلق لذلك ، وأيس من العود إلى دمشق ، وقد كان عازما على العود ، ثم وصله السجل عن الحضرة صحبة بعض العرب نسخته :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله ووليه الإمام معد أبي تميم ، المستنصر بالله أمير المؤمنين ، إلى أنوشتكين مولى دزبر بن أونيم الديلمي.

أما بعد فإن الله بقضيته العادلة ، ومشيئته البالغة لم يك مغيرا (ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(٣) مع ما أنك أجرمت على نفسك في يومك وأمسك ، واستوجبت بذلك مقام الحلول من نحسك ، فلا تعجل بعذاب الله عندما أسرفت ، ووبيل عقابه ، عندما خالفت ، فإن الله تعالى يقول مخاطبا لذوي العقول «فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا» (٤) وتالله لقد جددت بمسيرك إلى حلب ، لبعد أملك وانقطاع أجلك ، وإنما بقي لك إلا أيام قلائل ، ويكثر

__________________

(١) كذا في الأصل ولعل «صح» مصحفه صوابها «شح».

(٢) القرآن الكريم ـ الرعد : ١١.

(٣) القرآن الكريم ـ الرعد : ١١.

(٤) القرآن الكريم ـ الطارق : ١٧.

١٢٢

لك الندم وتحل بك النقم (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)(١) وإن مثلك مثل شاة عطشانة ولهانة ضائعة جائعة ، نزلت في مرج أفيح ، غزير ماءه ، كثير عشبه (٤٨ ظ) ومرعاه ، فشربت ماء ، وأكلت عشبا ، فرويت بعد ظمائها ، وشبعت بعد جوعها ، واستحسنت بعد قبحها ، فلما تكامل حسنها ، ذبحت (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٢) وإن أمير المؤمنين يضرب لك مثلا عن جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما أنزل عليه (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) إلى قوله عزوجل : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)(٣) ، فبدلت النعمة كفرا ، ووضعت موضع الخير شرّا ، وقد انتهى إلى حضرة أمير المؤمنين افتخارك بجمع الأموال واكتنازك لها لأمر يدهمك ، أو ليوم ينفعك (٤) ، أفما قرأت القرآن العظيم ، أما تدبرت قول الملك الرحيم في قصة قارون لما بغى واعتدى ، وازداد في الطغيان ، حيث يقول جلّ وعلا : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)(٥) أما رأيت الأمم الماضية الذين عادوا الدولة ، ونصبوا لها العداوة الشديدة ، انظر إلى ديارهم كيف قلّ فيها الساكنون ، وكثر عليها الباكون ، قال الله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٦) فاشتغل عن إصلاح العين ، وعن خطرك في حساب

__________________

(١) القرآن الكريم ـ البقرة : ٢٦.

(٢) القرآن الكريم ـ ابراهيم : ٢٥.

(٣) القرآن الكريم ـ الضحى : ١ ـ ٨.

(٤) قدر المقريزي في ترجمته للدزبري ثروته بأكثر من مليون دينار ، وبين أنه «في آخر عمره ، انحرف عن مذهب الاسماعيلية ، وكان هذا أعظم أسباب الوحشة بينه وبين أهل الدولة بمصر».

(٥) القرآن الكريم ـ القصص : ٨١.

(٦) القرآن الكريم ـ النمل : ٥٢.

١٢٣

الفرقدين ، وافتكر في رب المشرقين ورب المغربين ، حيث يقول جل جلاله : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(١) وقد عرف أمير المؤمنين بكتاب الله الأعلى ، الذي نزل على خاتم الأنبياء حيث يقول : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢).

فلما سمع ما اشتمل عليه هذا السجل من الإنكار والوعظ بالآيات والتخويف ، عظم الأمر عليه وضاق صدره لتغير النية فيه ، ورأى من الصواب إعادة الجواب بالتلطف والتنصّل مما ظن به ، والاعتذار والترفق في المقال ، والاعتراف بما شمله قديما وحديثا من الاحسان والافضال ، فكتب بعد البسملة :

كتب عبد الدولة العلوية والإمامية الفاطمية ، والخلافة المهدية ، عن سلامة تحت ظلها ، ونعمة منوطة بكفلها ، وهو متبرىء إليها من ذنوبه الموبقة ، واسائته المرهقة ، لائذ بعفو أمير المؤمنين متنصل أن يكون في جملة المجرمين المذنبين ، عن غير إساءة اقترفها ، ولا جناية احتقبها ، عائذ بكرمها ، صابر لحكمها ، لقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(٣) وهو تحت خوف ورجاء ، وتضرع ودعاء ، قد ذلّت نفسه (٤٩ ظ) بعد عزّها ، وخافت بعد أمنها ، ورسخت بعد رفعتها ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٤) وأي قرب لمن أبعدته ، وأي رفعة لمن حططته ، والعبد بفخرها شمخ ، وبجدها طال وبذخ ، فزكت نصبته ، وطابت أرومته ، وسمت فروعه ، وكان كقوله تعالى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)(٥) فلما أنكرت الدولة حاله ، وقبحت أفعاله ،

__________________

(١) القرآن الكريم ـ البلد : ٨ ـ ١٠.

(٢) القرآن الكريم ـ الشعراء : ٢٢٧.

(٣) القرآن الكريم ـ البقرة : ١٥٥.

(٤) القرآن الكريم ـ الرعد : ٣٣.

(٥) القرآن الكريم ـ ابراهيم : ٢٤ ـ ٢٥.

١٢٤

وأزرت عليه ، خذله الأنصار ، وقلّ بعد الإكثار ، فصار كقول الملك الجبار (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)(١) ، غير أن العبد يتوسل بوكيد خدمته ، وقديم نصيحته ، ومجاهدته لأعداء الدولة مذكرا قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ ، وَيُصْلِحُ بالَهُمْ)(٢) ، وهو مع ذلك معترف بذنوب ما جناها ، وإساءة ما أتاها ، ذاكرا ما نزّل الله في كتابه المبين على سيد المرسلين (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣) عفا الله عن أمير المؤمنين ، أهل بيت العفو والكرامة لجميع الأمم ، وفيهم نزلت الآيات والحكم ، قال الله تعالى : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(٤) وليس مسير العبد إلى حلب ينجيه من سطوات مواليه ، لقوله تعالى : (قُلْ [مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ] وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(٥) والذين كتب عليهم القتل [يدركهم](٦) إلى مضاجعهم ، لكنه بعد توسّله واعترافه بجرائره وذنوبه ، وتنصّله يرجو قبول توبته ، وتمهيد عذره في إنابته و (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(٧) ولأمير المؤمنين في كل قول وحد ، فقد وعد الله المسرفين على أنفسهم فقال تعالى : «قُلْ يا عِبادِيَ

__________________

(١) القرآن الكريم ـ ابراهيم : ٢٦.

(٢) القرآن الكريم ـ محمد : ٤ ـ ٥.

(٣) القرآن الكريم ـ التوبة : ١٠٢.

(٤) القرآن الكريم ـ النور : ٢٢.

(٥) القرآن الكريم ـ النساء : ٧٧ ـ ٧٨. وسقط ما بين الحاصرتين من الأصل.

(٦) أضيف ما بين الحاصرتين تقديرا كيما يستقيم السياق.

(٧) القرآن الكريم ـ الروم : ٤.

١٢٥

الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (١).

وأما ما رقي إلى الحضرة المطهرة عن العبد في كثرة الأموال وجمعها ، فذلك طباع ولد آدم في حب اللجين والعسجد ، وما عليه في الدنيا يعتمد ، نعوذ بالله أن يكون ذلك لمضادة أو مقاومة أو مكاثرة أو مقابلة ، لكنها معدة للجهاد في أعداء أمير المؤمنين ، ومبذوله في نصرة (٤٩ ظ) أوليائه المخلصين ، إذ يقول تعالى ، وله (الْمَثَلُ الْأَعْلى)(٢)(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ)(٣) ولقد قرىء على العبد القرآن العظيم فوجده منوطا بطاعة إمام الزمان ، وهو ولي العفو والغفران عن أهل الإساءة والعدوان ، مكرّرا لقول الملك الديّان : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٤).

وأنفذ هو الجواب صحبة الرسول الواصل بعد إكرامه ، وطلع عقيب ذلك إلى قلعة حلب في يوم الأربعاء لعشر خلون من جمادى الأولى ، وبات ليلة الجمعة ، واقشعر جسمه وقت صلاة الظهر ، واشتدت به الحمّى ، فأحضر طبيبا من حلب ، وشرح له حاله ، فوصف له مسهلا ، فلمّا حضر لم تطب نفسه لشربه ، ولحقه فالج في يده اليمنى ورجله اليمنى ، وزاد قلقه ، وقضى نحبه في الثلث الأخير من ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وأربعمائة.

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الزمر : ٥٣.

(٢) القرآن الكريم ـ النحل : ١٦.

(٣) القرآن الكريم ـ الأنفال : ٦٠.

(٤) القرآن الكريم ـ آل عمران : ٣٤.

١٢٦

وله أخبار محمودة في حسن السيرة والعدل والنصفة والذكاء والمعرفة ، وذكر المال الذي خلفه بقلعة حلب بعد وفاته ستمائة ألف دينار سوى الآلات والعروض ، وقيمة الغلات مائة ألف دينار وأخذ له من دمشق وفلسطين مائتا ألف دينار ، وكان له مع التجار خمسون ألف دينار ، ونهب له من القصر بدمشق مائتا ألف دينار ، وخلف من الأولاد هبة الله من بنت وهب بن حسان ، ماتت أمه وعمره أربعون يوما ، وأبوه وله شهران وسنة ، وأربع بنات إحداهن من بنت الأمير حسام الدولة البجناكي ، وابنه من بنت عزيز الدولة رافع بن أبي الليل ، وابنتان من جاريتين وهبهما في القصر ، فأما هبة الله فإنه حمل إلى الحضرة وأكرم بها وكفله رضيّ الدولة غلامه ، وعاش ست سنين ، وسقط عن فرسه فمات ، والبنت من بنت حسام الدولة تزوجها الأمير صارم الدولة ذو الفضيلتين ، والبنت من بنت رافع نقلت إلى حلّة أخوالها من بني كلب.

ثم رأت الحضرة في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة نقل أمير الجيوش من تربته بحلب الى تربته ببيت المقدس ، فأمرت بنقله في تابوت على طريق الساحل ، فكان يحطّ بخيمة ، وما يمر ببلد إلا كان وصوله يوما مشهودا ، وأخرجت الحضرة ثيابا حسنة وطيبا كثيرا وأمرت الشريف (٥٠ و) أثير الدولة ابن الكوفي أن يتولى تكفينه ودفنه ، وأن يأمر من بالرملة من غلمانه بالتحفّي والمشي خلف جنازته ، وأن ينادي بألقابه ، فنودي بها ، ودفن في التربة التي له في بيت المقدس مع أولاده ، فسبحان من لا يزول ملكه ، ولا يخيب من عمل بطاعته ، المجازي عن إحسان السيرة بالإحسان ، وعن السيئات في العقبى والمآل ، ذو الجلال والكمال الغفور الرحيم.

ولما زاد أمر الحاكم بأمر الله في عسف الناس ، وما ارتكبه من سفك الدماء ، وافاظة النفوس (١) ، وأخذ الأموال ، وقتل الكتاب والعمّال ،

__________________

(١) أي ازهاق النفوس.

١٢٧

والفتك بالمقدمين من الوزراء والقواد ، وأكابر الأجناد ، وعدل عن حسن السياسة والسداد ، وزاد خوف خدمه وخواصه منه ، واستوحشوا من فعله ، وشكا المقدمون والوجوه إلى أخته ست الملك بنت العزيز بالله ، هذه الأحوال فأنكرت ما أنكروه ، وأكبرت ما أكبروه ، واعترفت بصحة ما شكوه ، وحقيقة ما كرهوه ، ووعدتهم إحسان التدبير في كشف شره ، وإجمال النظر في أمورهم وأمره ، ولم تجد فيه حيلة يحسم بها داؤه إلا العمل على إهلاكه ، وكفّ أذاه بعدمه ، وأعملت الرأي في ذلك وأسرّته في النفس ، إلى أن وجدت الفرصة مستهلة ، فابتدرتها والغرّة بادية فاهتبلتها ، ورتبت له من اغتاله في بعض مقاصده ، وأخفى مظانّه فأتى عليه ، وأخفى أمره إلى أن ظهر في عيد النحر من سنة إحدى عشرة وأربعمائة وقال المغالون في المذهب أنه غائب في سرّه (١) ولا بد أن يؤوب ومستتر في غيبه ولا بدّ أن يرجع إلى منصبه ويثوب ، وكان مولده بالقاهرة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ، وولي الأمر وعمره عشر سنين وستة أشهر وستة أيام ، وفقد في العشر الأول من شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة ، وعمره ست وثلاثون سنة ومدة أيامه خمس وعشرون سنة وشهران وأيام ، ونقش خاتمه «بنصر الإله العلي ينتصر الإمام أبو علي» ، وكان غليظ الطبع ، قاسي القلب ، سفّاكا للدماء ، قبيح السيرة ، مذموم السياسة ، شديد التعجرف والاقدام على القتل غير محافظ على حرمه خادم ناصح ولا صاحب مناصح.

وقام في الأمر بعده ولده أبو الحسن على الظاهر لإعزاز دين الله ، وأخذت له البيعة (٥٠ ظ) بعد أبيه في يوم عيد النحر من سنة إحدى عشر

__________________

(١) هذا ما نراه في كتاب رسائل الهند ، حيث قيل بأنه ذهب في سياحة طويلة أخذته إلى الشام ومن هناك حتى الهند ، وهذا الكتاب نشر ووزع بشكل محدد تماما ، وهناك أكثر من نسخة خطية منه ، واحدة في المتحف البريطاني ، كنت رأيتها واستخرجت منها نصا عسكريا نشرته منذ سنوات.

١٢٨

وأربعمائة واستقامت الأمور بعد ميلها ، وأمنت النفوس بعد وجلها ، وحسنت السيرة بعد قبحها ، وارتضيت السياسة بعد النفور عنها.

وردّ تدبير الأعمال والنظر فيها وتسديد الأحوال ، ولم ما تشعث منها إلى الوزير صفي أمير المؤمنين وخالصته أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي ، وكتب له السجل بالتقليد من إنشاء ولي الدولة أبي علي بن خيران متولي الانشاء ، وقرىء بالحضرة على القوّاد والمقدمين في ذي الحجة سنة ثمان عشرة وأربعمائة ونسخته بعد البسملة :

أما بعد ، فالحمد لله مطلق الألسن بذكره ، ومجزل النعم بشكره ، ومصرف الأمور على حكم إرادته ، وأمره الذي استحمد بالطّول والنعماء ، وتمجّد بالحكمة والسناء ، وملك ملكوت الأرض والسماء واستغنى عن الظهراء والوزراء ، وأكرم عباده بأن جعل تذكرته لهم (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) (١) فسبحان من نظر لخلقه فأحسن وأنعم ، و (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٢) يحمده أمير المؤمنين حمد مخلص في الحمد والشكر ، متخصص بشرف الإمامة ونفاذ النهي والأمر ، ويرغب إليه تعالى في الصلاة على نبيه محمد الذي نزل عليه الفرقان ، ليكون للعالمين نذيرا ، وأعز به الإيمان وجعل له من لدنه سلطانا نصيرا (٣) ، وانتخب أبانا عليا أمير المؤمنين أخا ووزيرا ، وصيّره على أمر الدين والدنيا منجدا له وظهيرا ، صلى الله عليهما ، وسلم على العترة الزاكية من سلالتهما سلاما دائما كثيرا.

__________________

(١) القرآن الكريم ـ عبس : ١٢ ـ ١٦.

(٢) القرآن الكريم ـ العلق : ٤ ـ ٥.

(٣) انظر القرآن الكريم ـ الاسراء : ٨٠.

١٢٩

وإن أحق من عول عليه في الوزارة ، وأسند إليه أمر السفارة ، ونصب لحفظ الأموال وتمييزها ، وسياسة الأعمال وتدبيرها وإيالة طوائف الرجال كبيرها وصغيرها ، من كان حفيظا لما يستحفظ من الأمور قؤوما بمصالح الجمهور عليما بمجاري السياسة والتدبير ، ولذاك قال يوسف الصديق عليه‌السلام : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (١) ولو استغنى أحد من رعاة العباد عن وزير وظهير ، يكاتفه على أمره ، ويظاهره ، لكان كليم الله موسى صلى الله عليه ، وهو القوي الأمين ، عنه مستغنيا ، ولم يكن له من الله جل جلاله طالبا مستدعيا ، وقد «(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي.) (٥١ و) (هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً)» (٢).

ولما كنت بالأمانة والكفاية علما. وعند أهل المعرفة والدراية مقدما ، وكان الكتاب على اختلاف طبقاتهم ، وتفاوت درجاتهم يسلمون إليك في الكتابة ويقتدون بك في الإصابة ، ويشهدون لك بالتقدم في الغناء ، ويهتدون بحلمك اهتداء السّفر بالنجم في الليلة الظلماء ، ولا يتناكرون الانحطاط عن درجتك في الفضل لتفاوتها في الارتفاع ، ولا يردّ ذلك راد من الناس أجمعين إلا خصمه وقوع الاجماع هذا ، مع المعروف من استقلالك بالسياسة ، واستكمالك لأدوات الرئاسة وتدبيرك أمور المملكة ، وما ألف برشد وساطتك من سمو اليمن والبركة ، رأى أمير المؤمنين ، بالله توفيقه ، أن يستكفيك أمر وزارته ، وينزلك أعلى منازل الاصطفاء بخاص إثرته ، ويرفعك على جميع الأكفاء بتام تكرمته ، وينوه باسمك تنويها لم يكن لأحد قبلك من الظّهراء في دولته ،

__________________

(١) القرآن الكريم ـ يوسف : ٥٥.

(٢) القرآن الكريم ـ طه : ٢٥ ـ ٣٤.

١٣٠

فسمّاك بالوزير لمؤازرتك له على حمل الأعباء ، ووكد هذا الاسم «بالأجل» لأنك أجلّ الوزراء ، وعزّز ذلك «بصفي أمير المؤمنين وخالصته» إذ كنت أعزّ الخلصاء والأصفياء ، وشرّفك بالتكنية تسميقا بك في العلياء ، ودعا لك بأن يمتعه الله بك ويؤيدك ويعضدك ، دعاء يجيبه فيك رب السماء ، فأنت «الوزير ، الأجل ، صفي أمير المؤمنين ، وخالصته المحبو بالمن الجسيم (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١) ، وأمر أمير المؤمنين بأن تدعى بهذه الأسماء ، وتخاطب ، وتكتب بها عن نفسك وتكاتب ، ورسم ذكر ذلك فيما يجري من المحاورات ، واثباته في ضروب المكاتبات ، ليثبت ثبوت الاستقرار ويبقى رسمه على مر الليالي والنهار ، فاحمد الله تبارك وتعالى على تمييز أمير المؤمنين لك بتشريفه واختصاصه ، وإحلاله إياك أعلى محالّ خواصه ، واجر على سننك الحميد في خدمته ، ومذهبك الرشيد في مناصحته ، إذ كان قد فوّض إليك أمر وزارته وجعلك الوسيط بينه وبين أوليائه وأنصار دعوته ، وولاة أعمال مملكته ، وكتّاب دواوينه ، وسائر عبيده ورعيته شرقا وغربا وقربا وبعدا (٢) وأمضى توقيع من تنصبه للتوقيع عن أمير المؤمنين في الإخراج والإنفاق والإيجاب والإطلاق ، وناط بك أزمّة الحلّ والعقد والإبرام (٥١ ظ) والنقض والقبض ، والبسط والاثبات ، والحط والتصريف والصرف ، تفويضا إلى أمانتك التي لا يقدح فيها معاب ، وسكونا إلى ثقتك التي لا يلمّ بها ارتياب ، وعلما بأنك تورد وتصدر عن علم وحزم ، تفوق فيهما كل مقاوم ، ولا تأخذك في المناصحة لأمير المؤمنين ، والاحتياط له «لومة لائم» ، وجميع ما يوصي به غيرك ليكون له تذكرة ، وعليه حجة ، فهو مستغنى عنه معك ، لأنك تغني بفرط معرفتك عن التعريف ، ولا تحتاج مع وقوفك على الصواب ، وعلمك به الى توقيف ، غير أنّ أمير المؤمنين يؤكد عليك الأمر بحسن النظر

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الحديد : ٢١.

(٢) في الأصل : «قربا وقربا» وهو خطأ اقتضى التبديل.

١٣١

لرجال دولته دانيهم وقاصيهم ، بارك الله فيهم ، وأن تتوفر على ما يعود بصلاح أحوالهم وانفساح آمالهم ، وانشراح صدورهم ، وانتظام أمورهم ، إذ كانوا كتائب الاسلام ومعاقل الأنام ، وأنصار أمير المؤمنين المحفوفين بالإحسان والإنعام ، حتى تحسن أحوالهم بجميل نظرك ، ويزول سوء الأثر فيهم بحسن أثرك ، وكذلك الرعايا بالحضرة ، وأعمال الدولة ، فأمرهم من المعني به ، والمسؤول عنه ، وأمير المؤمنين يأمرك بأن تستشف خيرة الولاية فيهم ، فمن ألفيته من الرعية مظلوما أو عزت بنصفته ، ومن صادفته من الولاة ظلوما ، تقدمت بصرفه وحسم مضرته ومعرته.

فأمّا الناظرون في الأموال من ولاة الدواوين والعمال ، فقد أقام أمير المؤمنين عليهم منك المنقى الزكاء طبا بالأدواء ، لا يصانع ولا تطيبه المطامع ، ولا ينفق عليه المنافق ، ولا يعتصم منه الخؤون السارق ، كما أنه لا يخاف لديه الثقة الناصح ، ولا يخشى عاديته الأمين في خدمته المجتهد الكادح ، والذي يدعو المتصرف إلى أن يحمل نفسه على الخطة النكراء في الاحتجان والارتشاء أحد أمرين : إما حاجة تضطره إلى ذلك ، أو جهالة تورده المهالك ، فإن كان محتاجا سدّ رزق الخدمة فاقته ، ورجا الراجون برءه من مرض الاسفاف وإفاقته ، وإن كان جاهلا فالجاهل لا يبالي على ما أقدم عليه ، ولا يفكر في عاقبة ما يصير أمره إليه ، ومن جمع هذين القسمين كانت نفسه أبدا تسفّ ولا تعفّ ، ويده تكف ولا تكفّ ، ووطأته تثقل ولا تخفّ ، فلا ترب من تنزّه وعفّ ، ولا أثرى ، من رضي لنفسه بدنيء المكسب وأسفّ ، وما (٥٢ و) يستزيدك أمير المؤمنين على ما عندك من حسن التأنّي ، والاجتهاد في إصلاح الفاسد ، وإستصلاح المعاند ، واستفاءة الشارد بالمعصية الى طاعته ، وإعطاء رجال الدولة ما توجب لها حقوق الخدمة من فضل نعمته ، وأمير المؤمنين يقول بعد ذلك قولا يؤثر عنده (١) في المشرق والمغرب ، ويصل إلى الأبعد والأقرب :

__________________

(١) كذا في الأصل ، وأحسن منها «عنه».

١٣٢

«إن أكثر من وقع عليه اسم الوزارة قبلك إنما تهيأ له ذلك بالحظ والاتفاق» ، ولم يوقع إسمها عليك ، ويعذق (١) بك أمرها إلا باستيجاب واستحقاق لأنها احتاجت إليك حاجة الرمح إلى عامله ، والعبء إلى حامله ، والمكفول الى كافله ، وكم أفرجت عن الطريق إليها لسواك ، واجتهدت أن يعدوك مقامها إكبارا له فما عداك ، والله يكبت بجميل رأي أمير المؤمنين حسدتك وعداك ، ويتولاك بالمعونة على ما قلدك وولاك ، ويمتعه ببقائك كما أمتعه بكفايتك وغنائك ، ويخير له في استيزارك كما خار له من قبل في اصطناعك وإيثارك ، بمنه وكرمه ، والسلام عليك ورحمة الله ، وكتب يوم الجمعة لإثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ثماني عشرة وأربعمائة.

* * *

__________________

(١) رجل عذق : لبق ، وطيب عذق : ذكي. القاموس.

١٣٣

ولاية القائد ناصر الدولة

أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان لدمشق في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة

بعد أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري

وصل الأمير المظفر ، ناصر الدولة ، وسيفها ، ذو المجدين أبو محمد الحسن بن الحسين بن حمدان ، إلى دمشق واليا في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة في يوم الأربعاء السادس عشر منه ، وقرىء سجله بالولاية بألقابه ، والدعاء له ، فيه : «سلمه الله وحفظه» ووصل معه الشريف فخر الدولة نقيب الطالبيين أبو يعلى حمزة بن الحسين بن العباس بن الحسن بن الحسين بن أبي الجن بن علي بن محمد بن علي بن اسماعيل ، بن جعفر الصادق عليه‌السلام ، فأقام في الولاية آمرا ناهيا إلى أن وصل من مصر من قبض عليه بدمشق ، وسيّره معه إلى مصر في يوم الجمعة مستهل رجب سنة أربعين (٥٢ ظ) وأربعمائة.

وفي سنة ست وثلاثين وردت الأخبار من ناحية العراق بظهور راية السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجق ، وقوة شوكة الأتراك ، وابتداء دولتهم واستيلائهم على الأعمال ، وضعف أركان الدولة البويهية واضطراب أحوال مقدميها وأمرائها (١).

وفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة وردت الأخبار من ناحية مصر بوفاة الإمام الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله بالاستسقاء ، في ليلة الأحد النصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة ، وعمره إثنتان

__________________

(١) انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٦١ ـ ٦٤ ، ٩٣ ـ ١٢٤.

١٣٤

وثلاثون سنة ، ومولده بالقاهرة في شهر رمضان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ومدة أيامه خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام ، ونقش خاتمه «بنصر ذي الجود والمنن ينتصر الإمام أبو الحسن» ، وكان جميل السيرة ، حسن السياسة ، منصفا للرعية ، إلا أنه متشاغل باللذة ، محبّ للدعة والراحة ، معتمد في إصلاح الأعمال ، وتدبير العمال ، وحفظ الأموال ، وسياسة الأجناد ، وعمارة البلاد على الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي ، لسكونه إلى كفايته ، وثقته بغنائه ونهضته.

ثم تولى الأمر بعده ولده أبو تميم معد المستنصر بالله أمير المؤمنين ، وعمره سبع سنين وشهران ، وأخذت البيعة له بعد أبيه في شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة ، وفي أيامه ثارت الفتن من بني حمدان وأكابر القواد ، ووجوه العسكرية والأجناد ، وغليت الأسعار ، وقلت الأقوات واضطربت الأحوال ، واختلت الأعمال وحصر في قصره ، وطمح في خلعه لضعف أمره ، ولم يزل الأمر على هذه الحال إلى أن استدعى أمير الجيوش بدر الجمالي من عكا إلى مصر في سنة خمس وستين وأربعمائة فاستولى على الوزارة والتدبير بمصر ، وقتل من قتل من المقدمين والأجناد ، وطالبي الفساد ، وتمهدت الأمور وسكنت الدهماء ، وألزم المستنصر بالله القصر ، ولم يبق له نهي ولا أمر إلا الركوب في العيدين ، ولم يزل كذلك إلى أن توفي أمير الجيوش وانتصب مكانه ولده الأفضل أبو القاسم شاهنشاه (١).

__________________

(١) حاول ناصر الدولة أن ينفرد بالتحكم بالخلافة الفاطمية كما أنه فكر بالغاء الخلافة ، ولهذا وجه الدعوة إلى السلطان السلجوقي ألب أرسلان للقدوم إلى مصر ، وقبل محاولة ناصر الدولة هذه كانت مصر قد ساءت فيها المواسم وحلت بها المجاعة مع الأوبئة ، كما أعلن المعز بن باديس في تونس الغاء الدعوة الفاطمية ، لهذا وجهت القاهرة ضده قبائل هلال وسليم ، يضاف إلى هذا كله اخفاق ثورة البساسيري ، وقد حسمت هذه الأمور ، ووضع حد لمادة الفوضى عندما استولى بدر الجمالي ، وهو أرمني الأصل ، على مقاليد الأمور ، وحكم على الخليفة والخلافة. انظر ترجمة بدر الجمالي في ملاحق كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٩٨ ـ ٣٠٥ ، وانظر أيضا : ٩٧ ـ ١٢٠ ، ٢٧٨ ـ ٢٩٣.

١٣٥

ولاية القائد طارق الصقلبي المستنصري لدمشق

في سنة أربعين وأربعمائة (٥٣ و)

وصل الأمير بهاء الدولة وصارمها طارق المستنصري إلى دمشق ، واليا عليها في يوم الجمعة مستهل رجب سنة أربعين وأربعمائة وقرىء سجل ولايته والدعاء له «سلمه الله وحفظه» ، وعند دخوله وقع القبض على الأمير ناصر الدولة بن حمدان الوالي المقدم ذكره وسيّر إلى مصر ، وتسلم الأمير طارق الولاية يأمر فيها.

ووردت الأخبار من ناحية مصر في سنة ست وثلاثين وأربعمائة ، بوفاة الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي (١) وزير المستنصر بالله ، في داره آخر نهار الأربعاء السادس من شهر رمضان بعلة الاستسقاء وصلى عليه المستنصر بالله في القصر ، ودفن في دار تجاور دار الوزارة ، وقلد مكانه الوزير أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحي وخلع عليه في يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر رمضان من السنة ، وقبض على أبي علي بن الانباري صاحب الوزير أبي القاسم علي بن أحمد ، وحمله إلى خزانة البنود وسعى في قتله فيها ودفنه ، وما مضى إلا القليل ، وقبض على الوزير أبي نصر بن يوسف الفلاحي ، وحمل إلى خزانة البنود في يوم الاثنين الخامس من المحرم سنة أربعين وأربعمائة ، وقتل

__________________

(١) كان الجرجرائي عراقي الأصل من قرية جرجرايا في سواد العراق التحق بمصر ، وتقلب بالوظائف حتى ولي الوزارة ، وقد مر بنا نص سجل تعيينه بالوزارة ، ومكث الجرجرائي بالوزارة سبع عشر سنة وثمانية أشهر ، وهي مدة لم يتمتع بها سواه. انظر الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

١٣٦

سحرة يوم الاثنين في المكان الذي قتل فيه ابن الأنباري (١) ، وقيل أنه دفن معه في قبره.

ونظر في الوزارة أبو البركات ابن أخي الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وقبض عليه بعد ذلك في ليلة يوم الاثنين النصف من شوال سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وفترت الأمور إلى أن استقرت الوزارة لقاضي القضاة أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري ، ووردت الأخبار من مصر بأن المستنصر بالله خلع على وزيره قاضي القضاة أبي محمد اليازوري في الرابع من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ، خلعا فاخرة كانت غلالة قصبا وطاقا وقميصا دبيقيا وطيلسانا وعمامة قصبا ، وحمله على فرس رائع بمركب من ذهب وزنه ألف مثقال ، وقاد بين يديه خمسة وعشرين فرسا وبغلا بمراكب ذهب وفضة ، وحمل معه خمسون سفطا ثيابا أصنافا ، وزاد في نعوته وألقابه ، وخلع على أولاده خلعا تليق بهم ، وكتب له سجل التقليد بانشاء ولي الدولة أبي علي بن خيران (٢) ، وبالغ في إحسان وصفه وتقريظه وإطرائه وإحماد رأيه ، وما اقتضاه الرأي من (٥٣ ظ) اصطفائه للوزارة واحتبائه ، وقرىء بحضرة المستنصر بالله بين قواده وخدمه ووجوه أجناده وقيل إن هذا الإكرام مقابلة

__________________

(١) أبو علي الحسن بن علي الأنباري ، خلف الجرجرائي ، وكان من أصحابه ، وأراد السير على منهجه ، لكن أم المستنصر بالتعاون مع اليهودي سهل التستري تمكنت من ابعاده وجاءت بالفلاحي الذي كان يهوديا واسلم ، وحين تسلم الوزارة لم يكن له أمر ولا نهي ، بل كان كل شيء بيد التستري ، وتآمر الفلاحي على التستري فدبر اغتياله ، وانتقمت أم المستنصر لقتل حليفها بصرف الفلاحي عن الوزارة وقتله ، واستلم الوزارة بعده الجرجرائي (محمد بن أحمد) وأخفق هذا حيث كان عمه قد نجح ، وكثرت المصادرات في أيامه مع أعمال البطش فصرف عن الوزارة في منتصف شوال سنة ٤٤١ ه‍. انظر المصدر السابق : ٢٥٤ ـ ٢٥٦.

(٢) هو الذي سبق له كتابة سجل الجرجرائي ، الذي ورد نصه من قبل.

١٣٧

على ما كان منه في التدبير على العرب المفسدين من بني قرة في فلهم ، والنكاية فيهم ، وحسم أسباب شرّهم وتشتيت شملهم ، ونسخة هذا السجل المذكور بعد البسملة (١).

* * *

__________________

(١) ليس بالأصل ولم يرد في السجلات المستنصرية. ط. القاهرة : ١٩٥٤ ، كما لم يرد في الاشارة إلى من نال الوزارة : ٤٠ ـ ٤٤. هذا وترجم له المقريزي في المقفى ترجمة مطولة ، إنما لم يقدم لنا فيها نص سجل توليته الوزارة.

١٣٨

ولاية رفق المستنصري لدمشق

في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

وصل الأمير عدة الدولة أمير الأمراء رفق المستنصري إلى دمشق ، واليا عليها في يوم الخميس الثاني عشر من المحرم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة في عدة وافرة من الرجال ، وثروة وافرة من العدد والمال ، وقرىء سجله بالولاية وأقام بها مدة يأمر فيها وينهى ، ويحل ويعقد ، ويصدر في الأمور ويورد ، ثم وصله الأمر من مصر بمسيره إلى حلب لأمر اقتضته الآراء المستنصرية من صرفه عنها ، وتوليتها للأمير المؤيد ، فسار منها وتوجه إلى حلب في يوم الخميس السادس من صفر من السنة (١).

* * *

__________________

(١) كلف بالذهاب إلى حلب لانتزاعها من المرداسيين ، وقد توجه إليها على رأس جيش قوامه / ٠٠٠ ر ٣٠ / ألف من العساكر وقد أخفقت هذه الحملة ، ووقع رفق بالأسر بعد اصابته بجراح بالغة جعلته يموت بعد أيام من أسره. انظر كتابي (بالانكليزية) امارة حلب : ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٣٩

ولاية الأمير المؤيد عدة الامام

في سنة احدى وأربعين وأربعمائة بعد الأمير رفق

وصل الأمير المؤيد عدة الإمام ، مصطفى الملك ، معين الدولة ، ذو الرئاستين ، حيدرة بن الأمير عضب الدولة حسين بن مفلح ، إلى دمشق واليا عليها في مستهل رجب سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وحمل معه سديد الدولة ذو الكفايتين أبو محمد الحسين بن حسن الماشكي ناظرا في الشام جمعية : حربه وخراجه ، وقرى منشور الولاية والدعاء له «سلمه الله وحفظه» ، فتسلم الولاية في سنة اثنتين وأربعمائة يأمر فيها وينهى على عادة الولاة ، واستقامت له أمور الولاية على ما يؤثره ويهواه وأحسن السيرة في العسكرية والرعية ، فحمدت طريقته ، وارتضيت إيالته ، واستمرت عليه الأيام في الولاية إلى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة التي بني هذا المذيل عليها ، وعادت سياقه الحوادث منها ، وإيراد ما فيها ، وتجدد بعدها.

١٤٠