تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

بإزاء الذين قتلوا من المشركين ، ولما عاد ظهير الدين والعسكر الى بصرى ، وجد الملك أرتاش وايتكين الحلبي لما يئسا من نصرة الأفرنج لهما ، قد قصدا ناحية الرحبة ، وأقاما بها مدة ، وتفرقا وراسل المقيمان ببصرى : أنوشتكين وفلوا من (١) ظهير الدين يطلبان منه الأمان ، والمهلة لهما بالتسليم مدة اقتراحهما ، فأجاب إلى ما التمساه منه ، ورحل عنهما ، ولما بلغ الأجل منتهاه ، والوعد مداه ، سلما بصرى إليه ، وخرجا منها ، ووفى لهما بما وعدهما من الأمان والاقطاع ، وزاد على ذلك ، وأقاما عليه مدة أيامه.

سنة تسع وتسعين وأربعمائة

فيها خرج الأفرنج إلى سواد طبرية وشرعوا في عمارة حصن علعال (٢) فيما بين السواد والبثنية ، وكان من الحصون الموصوفة بالمنعة والحصانة ، فلما عرف ظهير الدين أتابك هذا العزم منهم ، أشفق من إتمام الأمر فيه ، فيصعب تدارك الأمر وتلافيه ، فنهض في العسكر ، وقصدهم وهم على غفلة مما دهمهم ، فأوقع بهم ، وقتلهم بأسرهم ، وملك الحصن بما فيه من آلاتهم وكراعهم وأثاثهم ، وعاد إلى دمشق برؤوسهم وأسرائهم وغنائمهم ، وهي على غاية الكثرة ، في يوم الأحد النصف من شهر ربيع الآخر.

وفي هذا الشهر ظهر في السماء من الغرب كوكب له ذؤابة ، كقوس قزح ، أخذ من المغرب إلى وسط السماء ، وقد كان رؤي قريبا من الشمس نهارا قبل ظهوره في الليل ، وأقام عدة ليال وغاب.

__________________

(١) كذا بالأصل ، ولم أهتد إلى هذا الاسم.

(٢) يعرف هذا الموقع الآن باسم «العال» وهو واقع في محافظة القنيطرة ، منطقة فيق ، ويبعد عن فيق مسافة / ٧ كم / وعن القنيطرة / ٤٩ كم /. انظر التقسيمات الادارية في الجمهورية العربية السورية. ط. دمشق ١٩٦٨ : ٤٠.

٢٤١

وفي السادس والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بقتل خلف بن ملاعب ، صاحب أفامية قتله قوم من الباطنية نفذهم إليه المعروف بأبي طاهر الصائغ العجمي ، من حلب ، وهو الذي قام للباطنية مقام الحكيم المنجم الباطني ، بعد هلاكه ، بموافقة رجل (٨١ ظ) من دعاتهم يعرف بابن القنج (١) السرميني ، كان مقيما بأفامية ، وقدر قرر ذلك مع أهلها ، فنقبوا نقبا في السور حتى تمكنوا من الوصول إليه ، فلما قربوا منه ، وأحس بهم لقيهم فوثب إليه بعضهم فطعنه في جوفه فرمى بنفسه في القلة يريد بعض دور أولاده (٢) فطعنه آخر طعنة ثانية فعاش ساعة ومات ، وصاح الصائح على القلة و [حين] نادوا بشعار الملك رضوان نجا أولاده وخاصته من (٣) السور ، وملكوا عليهم الموضع وقتلوا من قتلوا ، وسلم ولده مصبح بن خلف بن ملاعب ، وتوجه إلى شيزر ، وأقام هناك مدة ، فأطلق منها.

ووصل طنكري إلى أفامية عقيب هذه الكائنة طامعا فيها ، ومعه أخ كان لابن القنج الداعي السرميني كان مأسورا في يده ، فقرر له شيئا دفعه إليه ، فرحل عنه.

وفي هذه السنة وصل قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش ، في عسكر كثير ، وقصد الرها ، ونزل قريبا منها ، فأنفذ أصحاب جكرمش المقيمون بحرّان يستدعونه لتسليمها إليه ، فوصل إليهم وتسلمها منهم ، واستبشر الناس بوصوله الى الجهاد ، وأقام أياما ومرض مرضا أوجب له العود إلى ملطية ، وأقام أصحابه بحرّان.

__________________

(١) في الأصل «بأبي الفتح» وهي مصحفة صوابها ما أثبتنا ، وذلك عن خط ابن العديم في كتابه بغية الطلب في ترجمته لابن ملاعب. مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٨٤.

(٢) في الأصل «أهله ده» وهي مصحفة صوابها ما أثبتنا من بغية الطلب لابن العديم حيث نفس الرواية.

(٣) في الأصل : «فجاء أولاده وصاحبه من السور» وفي العبارة سقط وتصحيف وتم تقويم ذلك من رواية ابن العديم.

٢٤٢

وورد الخبر بأن مصبح بن ملاعب الذي أفلت من نوبة أفامية التجأ إلى طنكري صاحب أنطاكية ، وحرضه على العود إلى أفامية ، وأطعمه في أخذها لقلة القوت بها ، فنهض اليها ، ونزل عليها ، وضايقها إلى أن تسلمها بالأمان في الثالث عشر من المحرم سنة خمسمائة ، فلما حصل ابن القنج السرميني الباطني في يده قتله بالعقوبة ، وحمل أبا طاهر الصائغ معه وأصحابه أسرى ، ولم يف لهم بما بذل من الأمان ، وكان القوت قد نفذ من أفامية ، ولم تزل الأسرى في يده إلى أن فدوا نفوسهم بمال بذلوه له فأطلقهم ووصلوا إلى حلب.

وفي هذه السنة نهض ظهير الدين أتابك في العسكر إلى بصرى لمشاهدتها عند تسلمها من أيدي المقيمين بها عند انقضاء الأجل المضروب لها ، وكان قد خلع على كافة الأمراء والمقدمين وأماثل العسكر الخلع المكملة من الثياب والخيول والمراكب ، بحيث تضاعف الثناء عليه (٨٢ و) والاعتراف بأياديه ، وشاع الخبر بذاك ، وتضاعفت رغبة الأجناد في خدمته ، والميل إلى طاعته والحصول في جملته ، فلما حصل على بصرى ، (اقطع المقيمين بها (١)) اقطاعا يكفيهما ورجالهما وأجابهما إلى ذلك ، ووفى لهما بما قرره معهما حسب ما تقدم به الشرح.

سنة خمسمائة

فيها تزايد فساد الأفرنج في أعمال السواد وحوران وجبل عوف ، وانتهت الأخبار بذلك وشكا أهلها إلى ظهير الدين أتابك فجمع العسكر ، ومن انضاف إليه من التركمان ، ونهض بهم وخيم في السواد ، وكان الأمير عز الملك الوالي بصور قد نهض منها في عسكره إلى حصن تبنين (٢) من عمل الأفرنج ، فهجم ربضه ،

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

(٢) في معجم البلدان : تبنين بلدة في جبال بني عامر المطلة على بلد بانياس بين دمشق وصور.

٢٤٣

وقتل من كان فيه ونهب وغنم ، واتصل الخبر ببغدوين ملك الأفرنج ، فنهض إليه من طبرية ، ونهض أتابك إلى حصن بالقرب من طبرية فيه جماعة من فرسان الأفرنجية ، فقاتله وملكه ، وقتل من كان فيه وانكفأ إلى المدان (١) وعاد الأفرنج إليه ، فلما قربوا منه اندفع العسكر إلى ناحية زرّا (٢) ، وتلاقت طلائع الفريقين وعزموا على المصاف والالتقاء ، وقد قويت نفوس المسلمين ، فلما كان من غد ذلك اليوم ، ركب العسكر ، وقد تأهب للقاء على تلك النية وزحفوا الى موضع مخيمهم ، فصادفوهم وقد رحلوا عائدين إلى طبرية ، ثم منها إلى عكا فعاد ظهير الدين عند ذلك في العسكر إلى دمشق.

وكانت الأخبار متناصرة في هذه السنة باهتمام السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه بمحاصرة قلعة الباطنية المعروفة بشاه دز المجاورة لأصفهان ، والجد في افتتاحها ، وحسم أسباب الفساد المتوجه على البلاد من المقيمين بها ، وتوجه إليها (٣) في عساكره الدثرة المتناهية في القوة والكثرة ، ولم يزل منازلها ومضايقها ، إلى أن منحه الله تعالى افتتاحها والاظهار على من فيها ، وملكها بالسيف قهرا ، وقتل من كان فيها من الباطنية قسرا ، وهدمها وأراح العالم من الشر المتصل منها ، والبلاء المبثوث من أهلها (٤) ، وأنشأ كتاب الفتح بوصف الحال فيها الى سائر أعمال المملكة ليقرأ على (٨٢ ظ) المنابر ويستنزل في معرفة كل باد وحاضر أمير الكتاب أبو نصر بن عمر الأصفهاني ، كاتب السلطان ، وبلاغته في الكتابة معروفة مذكورة ، وفصاحته في إنشائه موصوفة

__________________

(١) لم أجد هذا الموقع في المصادر المتوفرة ، وهو لا شك على مقربة من منطقة الشيخ مسكين الحالية في سورية.

(٢) هي بلدة ازرع الحالية في حوران ـ انظر معجم البلدان.

(٣) في الأصل «عنها» وما أثبتناه أقوم.

(٤) بنى هذه القلعة السلطان ملكشاه ، وقد استولى عليها فيما بعد الزعيم الاسماعيلي أحمد بن عبد الملك بن عطاش ، وقد تحدث سبط ابن الجوزي في أخبار سنة ـ ٥٠٠ ـ عن سقوطها للسلطان محمد بعد حصار دام سنة.

٢٤٤

مشهورة ، وذكرت مضمونه في هذا الموضع ، ليعلم من يقف عليه شرح حال هذه القلعة ، وما من الله به على أهل تلك البلاد من الراحة من شر أهلها ، وأذية المقيمين بها ونسخته بعد العنوان والطغراء :

بسم الله الرحمن الرحيم

وهو [إلى] الوزير الأجل مجد الدين شرف الاسلام ظهير الدولة زعيم الملة بهاء الأمة فخر الوزراء أبو المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب رضي أمير المؤمنين.

أما بعد أطال الله بقاء الوزير وألقابه (١) ، وأدام تأييده وتمهيده ، وأحسن من عوائده مريده ، فإن الله تعالى يقول وقوله الحق : «(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ»)(٢) ولقد آتانا الله وله الحمد من هذا الفضل ، ما صرنا به أطول الملوك في الاسلام باعا ، وأعزهم في الذب عن حريمه أشياعا وأتباعا ، وأشدهم عند الحفيظة له بأسا ، وأطهرهم من درن الشبهة فيه لباسا ، وأقصدهم في اقتفاء الحق المبين أنحاء ، وأثقلهم على أعداء الله وأعداء الدين المنير وطاءة وانحاء ، فلا تتجه عزائمنا لمهم في ذلك إلا حققنا الفيصل ، وطبقنا المفصل ، وفرينا الفري ، واقتدحنا من الزناد الوري ، وأعدنا الحق جذعا وانف الباطل مجدعا ، نعمة من الله تعالى اختصنا بها من دون سائر الأنام ، وأحلنا من التفرد بمزاياها في الذروة والسنام ، فالحمد لله على ذلك حمدا يوازي قدر نعمه ، ويمتري المزيد

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) القرآن الكريم ـ المائدة : ٥٤.

٢٤٥

من مواد كرمه ، ثم الحمد لله على ما يسرنا له من إعزاز الدين ، ورفع عماده ، وقمع أضداده ، واستئصال شأفة الباطنية الناهضين لعناده ، الذين استركّوا العقول الفاسدة فاستغووها بأباطيلهم ، واستهووها بأضاليلهم ، و (اتَّخَذُوا) (٨٣ و) (دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً)(١) ، بما لفقوه من زخارف أقاويلهم ، سيما ما سنّى الله من فتح الفتوح ، وهيأ أسبابه من النصر الممنوح بأخذ قلعة شاه دز التي شمخ بها الجبل وبذخ ، وكان الباطل باض فيها وفرخ ، وكانت قذى في عيون الممالك وسببا إلى التورط بالمسلمين في المهاوي والمهالك ، ومرصدا عليهم بالشرارة والنكارة ، حيثما ينحونه من المسالك ، وفيها ابن عطاش الذي طار عقله في مدرج الضلال وطاش ، وكان يري الناس نهج الهدى مضلة ، ويتخذ السفر المشحون بالأكاذيب مجلّة ، ويستبيح دماء المسلمين هدرا ، ويستحل أموالهم غررا ، فكم من دماء سفكت ، وحرم انتهكت ، وأموال استهلكت ، وترات تجرعتها النفوس فما استدركت ، ولو لم يكن منهم إلا ما كان عند حدثان أمرهم بأصفهان من اقتناص الناس غيلة ، واستدراجهم خديعة ، وقتلهم إياهم بأنواع العقوبات قتلة شنيعة ، ثم فتكهم عودا على بدء بأعيان الحشم وخيار العلماء ، وإراقتهم ما لا يعدّ ولا يحصى من محرمات الدماء ، إلى غير ذلك من هنات يمتعض الاسلام لها أي امتعاض ، وما الله عن المسلم أن يتميز لها براض ، لكان حقا علينا أن نناضل عن حمى الدين ، ونركب الصعب والذلول في مجاهدتها ولو إلى الصين.

وهذه القلعة كانت من أمهات القلاع ، التي انقطع إليها رؤوس الباطنية كل الانقطاع ، فكان تبث الحبائل منها في سائر الجهات والأقطار ، وترجع اليها نتائج الفساد رجوع الطير إلى الأوكار في العزة والمنعة مثل مناط الشمس التي (تنال) (٢) منها حاسة البصر دون حاسة اللمس ، ترد الطرف كليلا ، وتعد

__________________

(١) انظر سورة المائدة : ٥٧.

(٢) زيادة من مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٠٠ ه‍.

٢٤٦

العدد الدثر في محاصرتها كليلا ، وكأنها وهي أعلى شاهق نزلت على الجبل من حالق ، فهي بهذه الصفة مقابلة لبلدة أصفهان ، التي هي مقر الملك ، ودار الثواء ، وأولى البلاد بتطهيرها من اهتياج الفتن واختلاف الأهواء ، ونحن نقيم بها طول هذه المدة المديدة ، وندبر أمرها الى ما يصوبه الرأي من الحيلة والمكيدة ، وأمامنا من المستخدمين وأصحاب (٨٣ ظ) الدواوين نفر تصغي إليهم أفئدتهم ، فيما كانوا عليه من مخالفة الدين ، يتوصلون بمكرهم إلى نقض ما يبرم ، وتأخير ما تقدم ، ويوهمون أنها من النصائح التي تقبل وتلزم ، حتى تطاول دون ذلك الأمد ، وبان من القوم المعتقد ، واتضح لنا من صائب التدبير ما يعتمد ، وكنا في خلال هذه الأحوال لم نخل هذه القلعة من طائفة تهزهم حمية الدين من الجند ، ينتهون من التضييق عليها إلى غاية من الجد ، فيتوفرون على محاصرتهم ومصابرتهم ، ويتشمرون لمزاولتهم ومصاولتهم ، ويقعدون لهم بكل مرصد ، ويسدون كل متنزل ومصعد ، حتى انقطعت عنهم المواد ، وخانتهم المير والأزواد ، واضطروا إلى أن نزل بعضهم على حكم الامان بعد الاستئمار والاستئذان ، فأمرنا بتخلية سربهم ، وإيمان سربهم ، وسلم الشطر من القلعة لخلوه من الفئة النازلة ، واعتصم ابن عطاش بقلة أخرى تسمى دالان ، مع نخب أصحابه من المقاتلة ، وهذه القلة هي أمنع المواضع من القلعة وأحصنها وأوعرها مسلكا وأحزنها ، فقد نقل إليها ما كان بقي لهم من الميرة ، وسائر ما يستظهر به من السلاح والذخيرة على أن يلبثوا بها أياما معدودة ، فينزلوا ويبذل لهم الأمان مثل ما بذل للأولين ، فيتخولوا كل ذلك بوساطة من قدمنا ذكرهم من المستخدمين في الدواوين ، وفي باطن الأمر خلاف ما يتوهم من الإعلان ، وذلك أنهم قدروا أن ما سلم من القلعة يترك على عمارته ومكانته ، وما امتنع به من القلة لا يقدر عليه لمنعته وحصانته ، فهو يتوصلون بتمكنهم من ذلك الجبل ، إلى سرقة ما سلموه آنفا ببعض الحيل ، هذا وقد كفوا مؤن

٢٤٧

من نزل من الأكلة ، وعندهم الكفاف لمن بقي من العملة ، ففطنا لما عمدوا وعليه اعتمدوا ، وأمرنا في الحال بالقلعة المسلمة فنسفت نسفا ، وخسفت بها خسفا ، وصير سفلها علوا ، كما كان علوها خلوا ، ثم انتقمنا من المستخدمين الغادرين بالملك والدين ، حتى ساقهم الحين المتاح إلى حين.

فلم يفلت منهم صاحب ولا مصحوب

إن الشقاء على الأشقين مصبوب

ووافق ذلك حلول الموعد لنزول باقي القوم من دالان ، فأبوا إلا المطل والليان ، فلما مضت أيام على ذلك ، أظهروا التمرد والعصيان ، فصاروا كما قال الله تعالى «(وَمِنَ) (٨٤ و) (يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)» (١) فعند ذلك استخرنا بالله تعالى تجريد العزائم لهذا الجهاد ، الذي هو عندنا من أنفس العزائم ، ولا نخاف فيها لومة لائم ، وأهبنا بمن حضرنا من العساكر المنصورة إلى الاحداق بالقلعة المذكورة يوم الثلاثاء ، ثاني ذي الحجة ، فنزلوا لفنائها محشدين ولصدق اللقاء متشمرين متجردين ، وجرت مناوشة عشية هذا اليوم أثخنت عدة من أولئك القوم ، وبات المسلمون ليلتهم تلك على أضم ، والملحدون لحما على وضم ، فلما تنفس الصبح وغردت الديوك الصدح ، وطوى الليل رداءه ، ورفع الفجر لواءه ، نصر الله الحق وأدال الدين ، (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) (٢) ، وعدت جيوش النصر يدا واحدة ، وكلمة على التظافر والتظاهر مساعدة ، تسطو بالفئة المتحصنة بالقلعة ، سطوة الليث الهصور ، وكأنهم طاروا بأجنحة الصقور ، على صم الصخور ، فلم يلبثوا قبل ذرور الشمس بقرنها ، وأخذها الناصع من لونها ، أن أخذوا القلعة عنوة وقهرا ، وأجروا من دماء الباطنية الملحدة نهرا ، فلم يئل منهم وائل ،

__________________

(١) القرآن الكريم ـ المائدة : ٤١.

(٢) القرآن الكريم ـ الصافات : ١٧٧.

٢٤٨

ولا أخطأهم من السيوف البواتر وائل ، وأمرنا في الحال بهدمها ، والتعفية على على ردمها ، فلم يبق بها نافخ ضرمه ، ولا أثر من نسمه ، ولا مدر على أكمه ، وأسر ابن عطاش رأس الجالوت ، وولي الطاغوت ، الذي كان ممن قال الله تعالى فيه : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (١) فجعلناه وولده المقرون به مثلة للنظار ، وعبرة لأولي الأبصار ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين ، هذا الفتح المبين ، والعزة التي يتلألأ بها من الدهر الحين ، والنعمة التي تمت وعمت وأخنت بالنقمة على أعداء الله ورسوله وطمت ، وما ذاك إلا من بركات عقائدنا الناصعة ، في موالاة الدولة العباسية ، ظاهر الله مجدها ، وما يلتزمه في فرضها من فضل المناصحة والمشايعة فيها ، نحن نسطو بالأعادي ، ونكفي من اعتراض النوائب كل العوادي ، ونسوس الدهماء من الحواضر والبوادي.

وهذه البشرى ، التي يهنأ بها الإسلام ، وترفع بها من الاشادة بذكرها في الخافقين الأعلام (٨٤ ظ) أمرنا بنشرها في الأقصى والأدنى لا سيما الدار العزيزة (٢) ظاهر الله مجدها فإنها أولى من يبشر بمثلها ، ويهنأ ، وأهبنا بالأمير عز الدولة إلى ايصال هذه البشارة الى الديوان العزيز النبوي ، أعلى الله جده ، فندب من قبله من يقوم بهذه الخدمة ، ويعلمه ما نحن بصدده من الاعتراف بقدر هذه النعمة ، وهذا الأمير كان من المندوبين أولا وآخرا ، لمحاصرة هذه القلعة ، فأبلى فيها بلاء حسنا جميلا ، وأغنى غناء لم نجد له فيه عديلا ، ولذلك ما اختصصناه بهذه المزية ، وآثرناه بإبلاغ هذه البشرى الهنية ، والمعول تامّ على الاهتمام الوزيري ، في القائها إلى المقار المعظمة النبوية ، ليعلم من صدق نهضتها بالخدمات ، وعدنا المسعاة في إعزاز الدين من أوجب المهمات ، ما يزلفنا من شريف المراضي ، ويفرض لنا من المحامد والمآثر التامة على الأبد اكرم

__________________

(١) القرآن الكريم ـ القصص : ٤١.

(٢) دار الخلافة ، فالرسالة مرسلة إليها ، أو بالحري إلى وزيرها.

٢٤٩

الأحاظي ، وان يتقدم في حق المبشر ما هو على الدولة ثبتها الله متعين ، حتى يعود ولما يستحسن من موقع هذه البشارة عليه أثر بيّن ، والوزير أولى من اغتنم هذه المكرمة فاعتنقها ، وتمكن من عصمة الرأي السديد فاعتقلها ، واستحمد الينا بما يتكلفه من جميل مساعيه ، ويتكلفه له بالاهتزاز والاهتمام فيه من سائر ما يلاحظه من الأمور ويراعيه ، إن شاء الله تعالى.

وكتب بالأمر العالي شفاها في ذي القعدة سنة خمسمائة.

وفي هذه السنة تتابعت المكاتبات إلى السلطان غياث الدنيا والدين محمد ابن ملك شاه ، من ظهير الدين أتابك ، وفخر الملك بن عمار ، صاحب طرابلس بعظيم ما ارتكبه الأفرنج من الفساد في البلاد ، وتملك المعاقل والحصون بالشام والساحل ، والفتك في المسلمين ، ومضايقة ثغر طرابلس ، والاستغاثة إليه ، والاستصراخ والحض على تدارك الناس بالمعونة ، فندب السلطان لما عرف هذه الحال الأمير جاولي سقاوه ، وأميرا من مقدمي عسكره كبيرا في عسكر كثيف من الأتراك ، وكتب إلى بغداد ، وإلى الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد ، وإلى جكرمش صاحب الموصل بتقويته بالمال والرجال على الجهاد ، والمبالغة في إسعاده وإنجاده ، وأقطعه الرحبة وما على الفرات ، فثقل أمره على المكاتبين ، فدافعه ابن مزيد ، وسار نحو الموصل يلتمس من جكرمش ما وقّع به عليه ، فتوقف عنه فنزل (٨٥ و) على قلعة السن (١) ونهبها ، واجتمع إليه خلق كثير ، وخرج جكرمش إلى لقائه فظفر به جاولي سقاوه واستباح عسكره ، وانهزم ولده إلى الموصل ، فضبطها ، وتوجه وراءه ، وقتل جكرمش أباه ، وأنفذ رأسه إلى الموصل ، فلما عرف ولده ذاك كاتب قلج أرسلان بن قتلمش يستنجده من ملطية ، ويبذل له تسليم البلاد والأعمال

__________________

(١) السن بليدة على دجلة في أعلى تكريت ، عندها يصب الزاب الأصغر إلى دجلة. تقويم البلدان : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٢٥٠

التي في يده إليه ، وكان جكرمش قد جمع مالا عظيما من الجزيرة والموصل ، وكان جميل السيرة (١) في الرعية ، عادلا في ولايته ، مشهورا بالانصاف في أعمال إيالته ، فلما عرف قلج أرسلان بن سليمان ما كتب به إليه ولد جكرمش ، أجابه الى ملتمسه ، وسار نحوه في عسكره ، ووصل الى نصيبين ، واستدعى ابن جكرمش من الموصل ، فسار إليه ، ودخل قلج أرسلان إلى نصيبين ، لأنه كان في بعض عسكره وباقيه في بلاد الروم لإنجاد ملك القسطنطينة على الأفرنج ، ولما تقارب عسكر قلج من عسكر جاولي سقاوة ، والتقت طلائع الفريقين ، ظفر قوم من أصحاب قلج بقوم من أصحاب جاولي فقتلوا بعضا ، وأسروا بعضا ، فرحل جاولي يطلب عسكر قلج ، وقد عرف أنه قد انفذ يستدعي بقية عسكره من بلاد الروم ، وأنه في قل ، وطلب ناحية الخابور ، وتوجه منها إلى الرحبة ، ونزل عليها وضايقها ، وراسل محمدا واليها من قبل الملك شمس الملوك دقاق صاحب دمشق ـ وعنده الملك أرتاش بن تاج الدولة الهارب من دمشق بعد وفاة الملك دقاق أخيه مقيما ـ بالتسليم إليه ، فلم يحفل بمراسلته ، وآيسه من طلبته ، فأقام عليها مضايقا لها مدة.

ووصل إليه الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق ، في جماعة وافرة من عسكره التركمان ، واستنجد عليها بالملك فخر الملوك رضوان ، فوصل إليه في عسكره بعد أن هادن طنكرى صاحب أنطاكية ، فلما فصل عن حلب ، وعرف جوسلين صاحب تل باشر بعده عن حلب ، واصل الغارات على أعمالها من جميع جهاتها ، ولم يزل جاولي مقيما على الرحبة منذ أول رجب والى الثاني والعشرين من شهر رمضان ، وزاد الفرات زيادته المعروفة ، فركب أصحاب جاولي الزواريق وصعدوا (٨٥ ظ) طالبين سور البلد بمواطأة من بعض أهل

__________________

(١) في الأصل «الصورة» وهي تصحيف صحح من مرآة الزمان حيث ينقل رواية ابن القلانسي هذه ـ أخبار سنة ـ ٥٠٠ ه‍ ـ.

٢٥١

البلد ، فلم يتهيأ لهم أمر مع من واطأهم ، بل هجموا السور ، وملكوا البلد ونهبوه ، وصادروا جماعة من أهله ، واستخرجوا ذخائرهم بالعقوبة ، ثم أمر جاولي برفع النهب ، وأمن الناس وردهم إلى منازلهم ، وتسلم القلعة بعد خمسة أيام ، في الثامن والعشرين من شهر رمضان ، وأقر إقطاع محمد واليها عليه واستحلفه ، وقبض عليه بعد أيام لأمر بلغه عنه ، فأنكره منه ، واعتقله في القلعة ، وحصل الملك أرتاش في جملة سقاوة ، ولم يتمكن من التصرف في نفسه ، وكان محمد هذا الوالي قد راسل قلج أرسلان بن سليمان أولا بالاستصراخ به ، وطلب المعونة على دفع جاولي عن البلد ، فتوجه نحو الرحبة في عسكره ، وبلغه خبر فتحها ، فعاد ونزل على الشمسانية (١) ولم يكن في نيته لقاء جاولي ، ورحل جاولي ونزل ماكسين (٢) وعزم على التوجه إلى ناحية الموصل ، ومعه فخر الملوك رضوان فاتفق أنهم قصدوا عسكر قلج ، فالتقى الفريقان في يوم الخميس التاسع من شوال ، وكان الزمان صيفا واشتدت وقدة الحر ، وحميت الرمضاء ، فهلك أكثر خيل الفريقين ، وحمل عسكر قلج أرسلان على عسكر جاولي ، وقصد جاولي قلج أرسلان في الحملة وضربه بالسيف عدة ضربات ، فلم تؤثر فيه ، وانهزم عسكر قلج أرسلان ، وفصل عنه صاحب آمد وقت الحرب ، مع صاحب ميافارقين ، وانهزم الباقون ، ووقع السيف في أصحاب قلج أرسلان ، وسقط قلج مع الهزيمة في الخابور فهلك في الماء ، ولم يظهر ، وبعد أيام وجد هالكا (٣).

__________________

(١) في الأصل : السمانية وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا مما نقله سبط ابن الجوزي عن ابن القلانسي. وفي معجم البلدان : الشمسانية بليدة بالخابور.

(٢) مدينة بالجزيرة على الخابور ، بينها وبين قرقيسيا سبعة فراسخ وبين ماكسين وبين سنجار اثنان وعشرون فرسخا. تقويم البلدان : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٣) في تاريخ ميافارقين : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ في أخبار سنة ٤٩٨ ه‍ ، «وفي هذه السنة أنفذ الوزير ضياء الدين محمد [الذي كان رتبه الملك بميافارقين] إلى السلطان قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش يستدعيه إلى ميافارقين ، وكان الملك سليمان بن قتلمش قد ورد من عند ملكشاه وفتح بلاد الروم ، وملطية وأقصر ـ والأصل «آق سرا» أي مدينة بيضاء ـ وقونية وسيواس ، وجميع

٢٥٢

وعاد جاولي إلى الموصل (١) ، وعاد عنه الملك فخر الملوك رضوان إلى حلب خوفا منه ، وأخذ جاولي نجم الدين ايل غازي بن أرتق ، وطالبه بالمال الذي أنفقه في التركمان ، فصالحه على جملة يدفعها إليه ، وأخذ رهانه عليها إلى أن يؤديها ، وأقام له بها فيما بعد.

__________________

ولاية الروم ، وبقي فيها ، واستبد بها ، فلما مات ولي ولده قلج أرسلان ، فلما أنفذ إليه الوزير محمد حضر ، ودخل ميافارقين في سابع عشرين جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ، وملك ميافارقين وبقي مدة ، واستوزر الوزير محمد ، وحضر إلى خدمته أمراء جميع ديار بكر : الأمير ابراهيم صاحب آمد ، والسبع الأحمر من أسعرد ، وسكمان بن أرتق ، والأمير شاروخ وحسام الدين ، وولى ميافارقين مملوك أبيه خمرتاش السليماني ، وكان أتابكه ، وخرج من ميافارقين وأخذ معه الوزير محمد ، وأقطعه مدينة أبلستين ، وأقام بملطية ، وجمع العساكر ، وعاد نزل إلى باب الموصل ، وصافف جاولي سقاوة مملوك السلطان محمد فكسره سقاوة ، وعاد منهزما وغرق في الخابور سنة تسع وتسعين وأربعمائة».

(١) يبدو أن الفارقي صاحب تاريخ ميافارقين كتب كتابه هذا أكثر من مرة ، وفي كل مرة يزيد أو يحذف أو يعدل ، فقد نقل عنه سبط ابن الجوزي ـ أخبار سنة ٥٠٠ ه‍ ـ معلومات أعم فائدة مما أثبتناه في الصفحة الماضية وجاء فيها : «وقال صاحب تاريخ ميافارقين أن السلطان محمد بعث جاولي لحرب الفرنج ، وكتب إلى أمراء البلاد بطاعته ، فلما وصل الموصل أنف جكرمش أن يتأمر عليه جاولي ، فحاربه فهزمه جاولي ، فدخل الموصل مجروحا ، فأقام يومين ومات ، واستنجد ولده بقلج أرسلان ـ وقيل اسمه ابراهيم بن سكمان ـ صاحب آمد ، وسار جاولي إلى حلب لينجد رضوان على الفرنج ، وجاء قلج فدخل الموصل ، واستولى عليها ، وخطب لنفسه بعد الخليفة ، وأسقط خطبة السلطان محمد شاه ، وبلغ جاولي وهو على حلب ، فعاد إلى الموصل ، فخرج إليه قلج فاقتتلا قتالا شديدا ، وأحيط بقلج وبأصحابه ، فألقى نفسه في الماء فغرق ، ودخل جاولي الموصل ، وكان بها مسعود بن قلج أرسلان ، وهو صبي ، فقبض عليه ، وبعث به إلى السلطان ، فاعتقله مدة ، ثم أفلت ، فأتى ملطية وبها بعض مماليك أبيه ، فأطاعه ، وتقررت له المملكة ببلاد الروم ، فمسعود هذا جد ملوك الروم».

٢٥٣

وقد كان قلج أرسلان أنفذ بعض مقدمي أصحابه إلى بلاد الروم ، في خلق كثير من التركمان ، لإنجاد ملك القسطنطينية على بيمند ومن معه من الأفرنج الواصلين إلى الشام ، فانضافوا إلى ملك الروم وما حشده من عساكر الروم ، فلما اجتمع للفريقين ما اجتمع رتبوا (٨٦ و) المصاف ، والتقوا فاستظهر الروم على الأفرنج ، وكسروهم كسرة شنيعة أتت على أكثرهم بالقتل والأسر ، وتفرق السالم الباقي منهم عائدين إلى بلادهم ، وفصل أصحاب قلج أرسلان الأتراك إلى أماكنهم ، بعد أن أكرمهم ، وخلع عليهم ، وأحسن إليهم.

ولما عاد جاولي سقاوه ، عن الرحبة ، ونزل على الموصل ، راسل أهلها والجند بها ، فلم يمكنهم المدافعة له عنها ، ولا المراماة دونها ، فسلموها إليه بعد أخذ الأمان منه على من حوته ، وكان ولد قلج قد دخلها ، فقبض عليه وسيره إلى السلطان محمد ، ولم يزل مقيما عنده إلى أن هرب من المعسكر في أوائل سنة ثلاث وخمسمائة ، وعاد الى مملكة أبيه ببلاد الروم ، ويقال أنه لما وصل إليها عمل على ابن عمه ، وقتله واستقام له أمر المملكة بعده.

وفي هذه السنة وصل إلى دمشق الأمير الأصفهبذ التركماني من ناحية عمله ، فأكرمه ظهير الدين ، وأحسن تلقيه ، وأقطعه وادي موسى ومآب والشراة والجبال والبلقاء ، وتوجه إليها في عسكره ، وكان الأفرنج قد نهضوا إلى هذه الأعمال ، وقتلوا فيها وسبوا ونهبوا ما قدروا عليه منها ، فلما وصل إليها وجد أهلها على غاية من الخوف ، وسوء الحال عما جرى عليهم من الأفرنج فأقام بها.

ونهض الأفرنج إليه لما عرفوا خبره من ناحية البرية ، ونزلوا بإزاء المكان الذي هو نازل به ، وأهملوه إلى أن وجدوا الفرصة فيه فكبسوه على غرة ، فانهزم في أكثر عسكره ، وهلك باقيه ، واستولوا على سواده ، ووصل إلى عين الكتيبة من ناحية حوران ، والعسكر الدمشقي نازل عليها ، فتلقاه ظهير الدين متوجعا له بما جرى عليه ، ومسليا عما ذهب منه وعوضه ، وأطلق له ما صلحت به حاله.

٢٥٤

سنة إحدى وخمسمائة

فيها جمع ملك الأفرنج بغدوين حزبه المفلول ، وعسكره المخذول ، وقصد ثغر صور ، ونزل بإزائه ، وشرع في عمارة حصن بظاهرها على تل المعشوقة ، وأقام شهرا ، وصانعه واليه على سبعة آلاف دينار ، فقبضها منه ورحل عنه.

وفيها وردت الأخبار بوصول عسكر السلطان غياث الدنيا والدين محمد إلى بغداد في آخر (٨٦ ظ) شهر ربيع الآخر منها ، وأعلن الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد العصيان عليه ، خوفا لما بلغه من إفساد شحنة بغداد ، (وعميدها حاله معه ، ولم يزل السلطان مقيما ببغداد (١)) الى العشرين من رجب فاجتمع اليه تقدير ثلاثين ألف فارس ، واجتمع مع صدقة تقدير عشرين ألفا في الحلة ، وبينهما أنهار ومواحل في الحلة ، فآثر السلطان مراسلته في تقرير أمره ، والصفح [عنه](٢) وايقاع مهادنة وموادعة تستقيم معها الأحوال ، وتصلح بها الأعمال ، فأبى ذلك كافة الأمراء والمقدمين ، وامتنعوا عن الإهمال لأمره ، ونهضوا إليه ، فلما عرف الحال قطع الأنهار ، ووصل في جمعه حتى صار بإزائهم ، وحمل بعض الفريقين على بعض ، ونشبت الحرب بينهم ، وكان منزل صدقة بن مزيد كثير الوحل عسر المجال ، فترجل الأتراك عن خيلهم ، [وجثوا على ركبهم](٣) وحبوا عليها ، وأطلقوا السهام ، وشهروا الصفاح ، وشرعوا الرماح ، وفعل مثل ذلك أصحاب صدقة ، والتقى الجيشان ، ونظر صدقة إلى أصحابه والسهام قد شكت خيولهم ، وقد أشرفوا على الهلاك ، وظن الأتراك أنهم قد انهزموا ، فركبوا أكتافهم رشقا بالسهام ، وضربا بالسيوف ، وطعنا بالرماح ، فقتلوا منهم

__________________

(١) سقط بالأصل استدرك من مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٠١ ـ حيث الرواية عن ابن القلانسي.

(٢) زيادة من مرآة الزمان.

(٣) زيد ما بين الحاصرتين من مرآة الزمان.

٢٥٥

خلقا كثيرا ، وقتل الأمير صدقة بن مزيد في الجملة ، ووجوه رجاله ، ولم يفلت منهم إلا اليسير ممن حماه الأجل ، واستطار قلبه الخوف والوجل. وكان السلطان قد اعتمد في تدبير الجيش وترتيب الحرب على الأمير مودود المستشهد بيد الباطنية في جامع دمشق (١) ووصل السلطان غد يوم الوقعة ونزل الحلة.

ولم يكن للعرب صدقة مثله في البيت والتقدم ، وإحسان السيرة فيهم ، والانصاف لهم ، والإنعام عليهم ، وكرم النفس ، وجزيل العطاء ، وحسن الوفاء ، والصفح عن الجرائر ، والتجاوز عن الجرائم والكبائر ، والتعفف عن أموال الرعية ، وإحسان النية للعسكرية ، غير أنه كان مع هذه الخلال الجميلة والمآثر الحميدة ، مطرحا لفرائض الشريعة ، متغافلا عن ارتكاب المحارم الشنيعة ، مستحسنا لسب الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، فكان ما نزل به عليه عاقبة هذه الأفعال الذميمة ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٢).

وتوجه السلطان بعد تقرير أمر الحلة عائدا إلى أصفهان (٨٧ و) في أوائل شوال من السنة ، وقد قرر مع الأمير مودود والعسكر قصد الموصل ، ومنازلتها والتضييق عليها ، والتملك لها ، فرحل مودود والعسكر ، ونزل على الموصل ، وكان جاولي صاحبها قد أخرج أكثر أهلها منها ، وأساء أصحابه السيرة فيها ، وارتكبوا كل محرم منها ، ومضى إلى الرحبة واستناب فيها من وثق به من أصحابه ، في حفظها ، وأقام العسكر السلطاني عليها مدة ، وعمد سبعة نفر من أهلها على الموطأة عليها ، وفتحوا بابا من أبوابها ، وسلموها إلى مودود ، ودخلها وقتل مقتلة كبيرة من أصحاب جاولي ، وأمن من كان في القلعة ، وحملهم وما كان معهم إلى السلطان.

__________________

(١) سيأتي خبر ذلك. انظر الدعوة الاسماعيلية الجديدة : ١١٩.

(٢) القرآن الكريم ـ الأنعام : ١٣٢.

٢٥٦

وفي شعبان من هذه السنة اشتد الأمر بفخر الملك بن عمار بطرابلس ، من حصار الأفرنج ، وتطاول أيامه ، وتمادي الترقب لوصول الإنجاد ، وتمادي تأخر الاسعاد ، فأنفذ إلى دمشق يستدعي وصول الأمير أرتق بن عبد الرزاق ، أحد أمراء دمشق إليه ، ليتحدث معه بما في نفسه ، فأجابه الى ذلك ، واستأذن ظهير الدين في ذلك ، فأذن له ، وتوجه نحوه وقد كان فخر الملك خرج من طرابلس في البر في تقدير خمسمائة فارس وراجل ، ومعه هدايا وتحف أعدها للسلطان عند مضيه إليه الى بغداد ، فلما وصل أرتق إليه واجتمع معه ، تقررت الحال بينهما على وصوله الى دمشق في صحبته ، فوصل إليها وأنزل في مرج باب الحديد بظاهرها ، وبالغ ظهير الدين في إكرامه ، وتناهى في احترامه ، وحمل إليه امراء العسكرية ومقدموه من الخيل والبغال والجمال وغير ذلك ما أمكنهم حمله واتحافه به ، وكان فخر الملك المذكور قد استناب عنه في حفظها أبا المناقب ابن عمه ، ووجوه أصحابه وغلمانه ، وأطلق لهم واجب ستة أشهر ، واستحلفهم وتوثق منهم ، فأظهر ابن عمه الخلاف له والعصيان عليه ، ونادى بشعار الأفضل بن أمير الجيوش بمصر ، فلما عرف فخر الملك ما بدا منه كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه ، وحمل إلى حصن الخوابي (١) ، ففعل ذلك ، وتوجه فخر الملك إلى بغداد ، ومعه تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك ، وقد كان أتابك عرف أن جماعة ممن يحسده في باب (٨٧ ظ) السلطان ، ويقع فيه بالسعاية ، ويقصده بالأذية وإفساد الحال عند السلطان ، فأصحب ولده المذكور من الهدايا والتحف من الخيول ، والثياب ، وغير ذلك مما يحسن إنفاذ مثله ، واستوزر له أبا النجم هبة الله بن محمد بن بديع ، الذي كان مستوفيا للسلطان الشهيد تاج الدولة ، وجعله مدبرا لأمره ، وسفيرا بينه وبين من أنفذ إليه ، وتوجه في الثامن من شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة ،

__________________

(١) سيكون بين حصون الدعوة الاسماعيلية في منطقة مصياف. انظر تقويم البلدان : ٢٢٩.

٢٥٧

فلما وصلا الى بغداد لقي فخر الملك من السلطان من الاكرام والاحترام ما زاد على أمله ، وتقدم الى جماعة من أكابر الأمراء بالمسير معه لمعونته وإنجاده على طرد محاصري بلده ، والايقاع بهم ، والابعاد لهم ، وقرر مع العسكر المجرد معه الإلمام بالموصل ، وانتزاعها من يدي جاولي سقاوة ، ثم المصير بعد ذلك إلى طرابلس ، فجرى ما تقدم به الشرح من ذلك ، وطال مقام فخر الملك ، طولا ضجر معه ، وعاد إلى دمشق في نصف المحرم سنة اثنتين وخمسمائة.

فأما تاج الملوك بن ظهير الدين فجرى أمره ، فيما نفذ لأجله ، على غاية مراده ونهاية محابه ، وصادف من السلطان في حق أبيه وحقه ما سره ، وعاد منكفئا الى دمشق بعد ما شرف به من الخلع السنية الإمامية والسلطانية ، ووصل إلى دمشق آخر ذي الحجة من السنة.

وأقام فخر الملك بن عمار في دمشق بعد وصوله إليها أياما ، وتوجه منها مع خيل من عسكر دمشق جردت معه إلى جبلة ، فدخلها وأطاعه أهلها ، وأنفذ أهل طرابلس إلى الافضل بمصر يلتمسون منه إنفاذ وال يصل إليهم في البحر ، ومعه الغلة والميرة في المراكب لتسلم إليه البلد ، فوصل إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليا من قبل الأفضل ، ومعه الغلة فلما وصل إليها ، وحصل فيها ، قبض على جماعة أهل فخر الملك بن عمار وأصحابه ، وذخائره وآلاته وأثاثه ، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.

وفي هذه السنة أسرى ظهير الدين أتابك في عسكره إلى طبرية ، وفرق عسكره فرقتين نفذ إحداهما إلى أرض فلسطين ، والأخرى غاربها على طبرية ، فخرج إليه صاحبها في رجاله المعروف بجر فاس ، وهو من مقدمي الأفرنج المشهورين بالفروسية والشجاعة (٨٨ و) والبسالة ، وشدة المراس ، يجري مجرى الملك بغدوين في التقدم على الأفرنج ، فالتقاه وأحاطت خيل الأتراك

٢٥٨

به وبأصحابه ، فقتل أكثرهم وأسر هو وجماعة معه ، وحملوا إلى دمشق (١) ، فأنفذ بعضهم هدية إلى السلطان وقتل جرفاس ومن كان معه في الأسر من أصحابه بعد أن بذلوا في إطلاقهم جملة من المال فلم يقبلها.

وفيها تقدم السلطان غياث الدنيا والدين محمد عند وصوله إلى بغداد برفع المكوس ، وإبطال رسمها عن التجار والمسافرين في جميع بلاده ، وحظر تناول اليسير منها ، فلما عاد إلى أصفهان منها ، طمع في التجار ، وأخذ منهم المكس على سبيل الخلاف لما أمر ، فلما عاد إلى بغداد وانتهى الأمر إليه أنكر ما جرى في مخالفة أمره ، ووكد الأمر في إبطال ذلك ، وحذر من المخالفة له في سائر البلاد.

وفيها وردت الأخبار من بغداد بوقوع النار في الجانب الشرقي منها ، فأحرقت ما يزيد على خمسمائة دار وافتقر أهلها.

وفيها تناصرت أخبار الباطنية بقلعة ألموت والحصون المجاورة لها في إيغالهم في الفساد ، وإفاظة النفوس بالعدوان والإلحاد ، فأنهض السلطان وزيره أحمد بن نظام الملك خواجه برزك ، ومعه جاولي سقاوه ، في عسكر كثيف ، فأظفره الله بهم ، ونصره عليهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وخرب منازلهم وقلاعهم (٢).

__________________

(١) تحدث وليم الصوري في تاريخه ـ الترجمة الانكليزية : ١ / ٥٣٨ ـ ٥٣٩ عن حمله طغتكين هذه لكنه لم يذكر جرفاس هذا بين رجال ملك القدس أو المدافعين عن طبرية. وأورد سبط ابن الجوزي هذا الخبر فقال : «وفيها أغار طغتكين على طبرية ، وبها جرفاس مقدم الفرنجية ، وكان من أكبر الملوك ، فخرج من طبرية ، والتقوا فقتل أتابك منهم مقتلة عظيمة ، وأسر جرفاس وخواصه ، فبذل في نفسه أموالا عظيمة ، فلم يقبل منه ، وبعث به وبأصحابه هدية إلى السلطان».

(٢) انظر كتاب الدعوة الاسماعيلية الجديدة : ٧١.

٢٥٩

وفي هذه السنة نهض بغدوين في عسكره المخذول من الأفرنج نحو ثغر صيدا ، فنزل عليه في البحر والبر ، ونصب البرج الخشب عليه ، ووصل الأصطول المصري للدفع عنه ، والحماية له فظهروا على مراكب الجنوية ، وعسكر البر ، واتصل بهم نهوض العسكر الدمشقي لحماية صيدا ، والذبّ عنها ، فرحلوا عنها عائدين إلى أماكنهم.

سنة إثنتين وخمسمائة

فيها أنفذ صاحب عرقة (١) إلى ظهير الدين أتابك رسوله ، يلتمس منه المعونة على دفع الأفرنج عنها ، وإنفاذ من يتسلمها ، فندب بعض ثقاته فتسلمها ، وأقام واليها (٢) ، منتظرا وصول العسكر إليها ، والوفاء بما وعد به من الخلع عليه ، والاحسان إليه ، فحدث في (٨٨ ظ) الوقت من الثلوج والأمطار ماعاق المسير إليها ، وقل القوت بها ، وانقطعت الميرة عنها ، فبادر الأفرنج بالنزول عليها ، وتوجه ظهير الدين عند ذاك إليها ، فصادفهم قد أحاطوا بها ، ولم يتمكن من دفعهم عنها ، وعاد إلى حصن الأكمة (٣) ، ونزل عليه وقاتله فلما

__________________

(١) كانت عرقة هي الخط الدفاعي الأول عن طرابلس ، تقع على ساحل البحر وتبعد عن طرابلس مسافة اثنتي عشر ميلا ، تقويم البلدان : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) في الأصل «واليا» وهي تصحيف صوابه ما أثبتنا.

(٣) لم أجد هذا الحصن في المظان المتوفرة ، وفي الكامل لابن الأثير : ٨ / ٢٥٦ ما يفيد اثباته حول عرقه ، فقد ذكر أن حصن عرقه وهو من الحصون المنيعة «انقطعت عنه الميرة لطول مكث الفرنج في نواحيه ، فأرسل ـ صاحبه ـ إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق ، وقال له : أرسل من يتسلم هذا الحصن مني ، قد عجزت عن حفظه ، ولان يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج ، فبعث إليه طغتكين صاحبا له اسمه اسرائيل في ثلاثمائة رجل يتسلم الحصن ، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه اسرائيل في الأخلاط بسهم فقتله ، وكان قصده بذلك أن يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال ، وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه وتقويته بالعساكر والأقوات وآلات الحرب ، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين ليلا ونهارا ، فمنعه ، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس ففتح حصونا للفرنج منها حصن الأكمة ، فلما سمع» الفرنج ...

٢٦٠