تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

ورضوانه ، بين صلاتي الظهر والعصر ، من يوم الأحد آخر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ، ودفنت عند ولدها في القبة التي بنتها على القلعة المطلة على الميدان الأخضر ، فلقد كانت من النساء المصونات ، المحبة للدين والصدقات ، والتنزه عن الظلم ، بطلب الخيرات ، مع قوة النفس وشدة الهيبة ، ومعرفة التدبير فيما توخته في حق ظهير الدين ، عند وفاة ولدها الملك شمس الملوك ، إلى أن استقام له الأمر ، واستقرت في المملكة والدولة الحال ، وتسهلت له المطالب برأيها وهيبتها وسياستها والآمال ، فقلق ظهير الدين لفقدها ، وتضاعف عليها حزنه وأسفه ، وتسلم ما خلفته ، واستخرج ما ذخرته وأودعته ، وعمل بوصيتها.

وفي رجب من هذه السنة توفي الأمير حارق بن كمشتكين العراقي في رجب منها وكان من مقدمي الدولة ووجوه أمرائها.

وفيها وردت الأخبار من العراق بأن السلطان محمود بن السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه توجه إلى عمه السلطان سنجر بن ملك شاه إلى خراسان ، ودخل عليه ، ووطئ بساطه ، بعد ما جرى بينهما من الوقائع والحروب ، فأكرمه واحترمه وأحمده ، وقرر أحواله على ما فيه صلاح أمره واستقامة حاله ، ووصله بابنته ، وأقره على مملكته ، وشرفه بخلعه وتكرمته ، وعاد منكفيا إلى أصفهان بلدته ظافرا (١) بأمله وبغيته.

وفي هذه السنة حكى من ورد من بيت المقدس ، ظهور قبور الخليل وولديه اسحق ويعقوب الأنبياء عليهم الصلاة من الله والسلام ، وهم مجتمعون في مغارة بأرض بيت المقدس ، وكأنهم كالأحياء ، لم يبل لهم جسد ، ولا رم عظم ، وعليهم في المغارة قناديل معلقة من الذهب والفضة ، وأعيدت القبور إلى حالها التي كانت عليه. هذه صورة ما حكاه الحاكي ، والله أعلم بالصحيح من غيره.

__________________

(١) في الأصل : طامرا ، وهو تصحيف قوم من مرآة الزمان : ١ / ٧٩ حيث ينقل عن ابن القلانسي.

٣٢١

سنة أربع عشرة وخمسمائة

(١١١ ظ) فيها ورد الخبر من ناحية حلب بأن الأمير نجم الدين إيل غازي بن أرتق ، رفع المكوس عن أهل حلب والمؤن والكلف ، وأبطل ما جدده الظلمة من الجور والرسوم المكروهة ، وقوبل ذلك منه بالشكر والثناء ، والاعتداد والدعاء ، وحكي عن ماردين أنها وقع عليها برد عظيم لم تجر بمثله عادة ، ولا بصر أكثر منها ماء أهلك المواشي وأتلف أكثر النبات والشجر.

وفيها هدم نجم الدين زردنا (١) ، وفيها كسر الأمير بلك بن أرتق عفراس الرومي ، وقتل من الروم تقدير خمسة آلاف على قلعة سريان من بلد أندكان ، وأسر مقدمهم عفراس.

وفيها ورد الخبر بأن السلطان محمود كسر عسكر أخيه مسعود ، بباب همذان ، تحت الزعفراني.

وفيها وردت الأخبار بوصول الكند (٢) ، هو ملك الأفرنج ، في المراكب البحرية ، وملك أكثر المعاقل.

وفيها وقعت المهادنة بين نجم الدين ايل غازي بن أرتق صاحب حلب ، وبين الأفرنج ، وتقررت الموادعة والمسالمة ، وكف كل جهة من الفريقين الأذية عن الآخر.

__________________

(١) في معجم البلدان : زردنا : بلدة من نواحي حلب الغربية.

(٢) كذا في الأصل ولم أجد بين المصادر من أتى على ذكر مجيء أسطول بحري يقوده «كونت» ما ، أو حتى قيام بلدوين الثاني أو سواه من قادة الفرنجة بالشام ، بعمل بحري كل ما هنالك أن وليم الصوري تحدث عن قدوم اسطول البندقية على رأسه «الدوج دومنجو ميشيلي» الى ساحل يافا في سنة ٥١٧ ه‍ / ١١٢٣ م أي بعد ثلاث سنوات ، وكان بلدوين الثاني أسيرا آنذاك لدى الأمير الأرتقي بلك ، وسيذكر ابن القلانسي هذا كله.

٣٢٢

وفيها وردت الأخبار بأن السلطان محمود قصد حلة دبيس بن صدقة ابن مزيد في عسكره ، ونهبها وهزم عسكرها ، وانهزم دبيس الى قلعة جعبر مستجيرا بصاحبها الأمير شهاب الدين مالك بن سالم بن مالك ، فأجاره وأكرمه واحترمه ، وقيل انه انعقد بينهما صهرة.

وقيل إن في ذي الحجة من السنة ، هبت ريح شديدة هائلة منكرة ، بنواحي الجزر ، فخرب بها كنائس ومعاقل وقلعت كثيرا من شجر الزيتون ، وقيل إن جوسلين غار على العرب والتركمان النازلين بصفين ، وغنم منهم ، ومن مواشيهم بشاطئ الفرات ، وفي عوده خرّب حصن بزاعة (١).

سنة خمس عشرة وخمسمائة

في هذه السنة وردت الأخبار بقتل الأفضل بن أمير الجيوش ، صاحب الآمر (٢) بمصر رحمه‌الله ثاني عيد الفطر ، بأمر رتب له ، وعمل فيه عليه ، إلى حين أمكنت الفرصة فيه ، فانتهزت الفرصة ، وصودف راكبا في موكبه ، مجتازا في بعض أسواق القاهرة ، وقد كان على غاية من التحرز والتحفظ واستعمال الاحتراس والتيقظ ، لا سيما من الطائفة الباطنية ، والاحتياط منهم بأنواع السلاح ، ووافر الغلمان ، (١١٢ و) والخدم والعبيد ، والعدد المختلفة ، والسيوف الماضية ، وكان المرتب لقتله والمرصد له جماعة ، فوثب عليه رجل من بعض الشوارع ، بحيث شغل أصحاب الركاب ، ووثب الآخر بين يديه فضربه ضربات سقط بها عن ظهر جواده إلى الأرض ، وقتلا في الحال ، وحمل إلى داره وبه رمق ، وتوفي رحمه‌الله من يومه ، وادعي أن الباطنية تولوا قتله ،

__________________

(١) قال أبو الفداء في تقويم البلدان : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ «وأ» بزاعا فضويعة من أعمال الباب ، وبظاهرها مشهد به قبر عقيل بن أبي طالب ، وهي على مرحلة من حلب في الجهة الشمالية الشرقية.

(٢) الخليفة الفاطمي الآمر [٤٩٥ ـ ٥٢٤ ه‍ / ١١٠١ ـ ١٣٠ م].

٣٢٣

وليس ذلك صحيحا ، بل ذلك إدعاء باطل ، ومحال زائل ، وإنما السبب الذي اجتمعت عليه الروايات الصحيحة التي لا تشك في هذا الأمر ، فساد ما بينه وبين مولاه الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين ، لتضييقه عليه ، ومنعه مما تميل نفسه إليه ، ومنافرته إياه في بعض الأوقات ، وقد كان هذا الخلف المستمر بينهما ، قد ظهر بمصر لكثير من أهلها ، وتحدثوا فيه ، وكان الآمر قد عزم على اغتياله إذا دخل عليه في قصره ، للسلام عليه ، أو في أيام الأعياد ، وقويت نفسه على اتمام هذا الأمر ، فمنعه من ذلك الأمير أبو الميمون عبد المجيد ، وقال له : إن هذا الأمر إذا تم على هذه القضية ، كان فيه شناعة وسوء سمعة ، لأن هذا وأباه في خدمتنا منذ خمسين سنة ، لا يعرف الناس في سائر أقطار البلاد غير هذا ، فما يقال في مثل هذه الحال في مجازاتنا لمن هذه صفته ، هذه المجازاة الشنيعة ، والمكافأة الفظيعة ، وما العذر في ذاك إلى الناس ، وهم لا يعلمون ما في نفوسنا له ، وما ننقم عليه بسببه ، وما يعرفون منه في ظاهر الأمر إلا الموالاة الخالصة ، والطاعة الصادقة ، والذب عن الدولة ، والمحاماة عنها ، ولا بد أن تدعو الضرورة إلى إقامة غيره في مكانه ، والاعتماد عليه في منصبه ، فيتمكن كتمكنه أو بعضه ، فيحذر من الدخول إلى قصرنا خوفا على نفسه ، مما جرى على غيره ، وإن دخل علينا كان خائفا معدّا ، وإن خرج عنا خرج وجلا مستعدا ، وفي هذا الفعل ما يؤكد الوحشة ، ويدل على فساد التدبير في اليوم وفيما بعد ، بل الصواب في التدبير أن تستميل أبا عبد الله (محمد) بن البطائحي (١) ، الغالب على أمره المطلع على سره وجهره ،

__________________

(١) كان مولده سنة ٤٧٨ ه‍ / ١٠٨٥ م وقيل أنه كان من أصل وضيع ، حيث كان والده من جواسيس الأفضل بالعراق ، مضى الى مصر وعمل حمالا ، ثم التحق بدار الأفضل فاستخدمه مع الفراشين ، يوصف في وزارته بأنه كان من ذوي الآراء السديدة واسع الصدر سفاكا للدماء ، شديد التحرز ، كثير التطلع الى أحوال الناس من الجند والعامة فكثر الواشون والسعاة بالناس في أيامه. الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٣٢٤

وتراسله وتعده وتمنيه ، وتطمعه في منصبه ، فإنه يجيب إلى ذلك ، ويعين عليه (١١٢ ظ) لأمرين أحدهما دينا ، لأن مذهبه مذهبنا واعتقاده موالاتنا ومحبتنا ، والثاني للدنيا وحبها ، وكونه يصير في منصبه فيها ، ويدبر الأمر عليه بمن لا يعرف ولا يؤبه له ، ولا يلتفت إليه ، ممن يغتاله إذا ركب ، فإذا ظفرنا بمن قتله قتلناه ، وأظهرنا الطلب بدمه والحزن عليه ، والأسف لفقده فيكون عذرنا عند كافة الرعية مبسوطا ، ويزول عنا قبح القالة ، وسوء السمعة.

فاستقر الأمر على هذه القضية ، وشرع في إتمامه ، والحال فيه ظاهرة ، وقضى الله عليه قضاءه المحتوم ، وسر بمقتله سرورا غير مستور عن كافة الخاص بمصر والقاهرة ، وقيل إن الموضع الذي قتل فيه بمصر عند كرسي الجسر (١) ، في رأس السويقتين ، في يوم الأحد سلخ شهر رمضان سنة خمس وخمسمائة وعمره اذ ذاك سبع وخمسون سنة ، لأن مولده كان بعكا سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، وكان حسن الاعتقاد في مذهب السنة ، جميل السيرة مؤثرا للعدل في العسكرية والرعية ، صائب الرأي والتدبير ، عالي الهمة ، ماضي العزمة ، ثاقب المعرفة ، صافي الحس ، كريم النفس ، صادق الحدس ، عادلا عن الجور ، حائدا عن مذاهب الظلم ، فبكته العيون ، وحزنت له القلوب ، ولم يأت الزمان بعده بمثله ، ولا حمد التدبير عند فقده ، وانتقل الأمر بعده إلى صاحبه الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين ، واشتمل على خزائنه وأمواله وذخائره وكراعه وأثاثه ، وهو الغاية في الكثرة والوفور ، وانتظمت للآمر (٢) الأمور على المأثور ، وأقام أبا عبد الله بن البطائحي ، ووفى له بوعده ، ولقبه بالمأمون ، وبسط يده في البرم والنقض والرفع والخفض.

__________________

(١) الجسر المشار إليه هنا كان منصوبا بين الفسطاط وجزيرة الروضة ، ومن هناك الى بر الجيزة ، وكان يتألف من مراكب مربوطة ببعضها البعض مد فوقها أخشاب غطيت بالتراب ، واستخدم لعبور الناس والدواب. خطط المقريزي ٢ / ١٧٠.

(٢) في الأصل : للأمراء ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

٣٢٥

ووردت الأخبار في هذه السنة بظهور الكرج من الدروب ، وقصدهم بلاد الملك طغرل ، فاستنجد بالأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق ، صاحب حلب ، وبالتركمان وبالأمير دبيس بن صدقة بن مزيد ، فأجابوا الى ما دعاهم إليه ، وبعثهم عليه ، وتوجهوا نحوه في خلق عظيم ، فانهزم جمع الكرج خوفا ، وعاد فرقا ، وضايقهم المسلمون ، وضايقوهم في الدروب ، فعادوا على المسلمين ، فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقصدوا مدينة تفليس ، فافتتحوها بالسيف وقتلوا من كان فيها (١).

__________________

(١) ذكر هذه الوقعة المؤرخ السرياني المجهول الذي أرخ للحملتين الصيبيتين الأولى والثانية ، وكذلك ابن الأثير في الكامل : ٨ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ـ وقدم الفارقي تفاصيل لا نجدها / عند سواه ، وذلك في النسخة المطولة من كتابه والمحفوظة في المتحف البريطاني برقم / ٥٨٠٣ / الأوراق : ١٦٩ ظ ـ ١٧٠ و. ولقيمة هذا النص أثبته في الحاشية ، حيث قال : وفي سنة خمس عشرة وخمسمائة نفذ أهل تفليس الى نجم الدين ايل غازي يستدعونه ليسلموا إليه تفليس وكان لها بيد أهلها مقدار أربعين سنة ، وكان ملكها قوم من أهلها يسمون بني جعفر ، من مقدار مائتي سنة ثم انقرض كبارهم واضمحلوا ، فعاد أمرهم الى أهلها ، وكان كل شهر يلي أمرهم منهم واحد ، وبقوا كذلك مدة أربعين سنة ، وكان الملك داود ملك الأبخاز والكرج قد ضايقها مضايقة شديدة واضمحلت ، وكان قد نفذوا الى السلطان طغرل بك بن السلطان محمد ، وكان ملك جتري وأران ، فنفذ لهم شحنة ، وزادت مضايقة ملك الكرج لهم ، وبقوا على هذا مدة فاتفقوا أن يحملوا له في كل سنة عشرة آلاف دينار ، ويكون عندهم شحنة معه عشرة فوارس ، فبقوا على ذلك مدة.

ونفذوا الى نجم ايلغازي يستدعونه ، فسار ومعه عساكر عظيمة ، ومعه دبيس ابن صدقة ملك العرب وكان صهر نجم الدين على ابنته جهان خاتون ، وكان قد وصل إليه في تلك السنة ، فسار بالعساكر ، ونفذ الى شمس الدولة طغان أرسلان صاحب أرزن وبدليس ، وكان له مدينة دوين ، وأمره أن يدخل من شرقي تفليس ، وسار وأخذ معه القاضي علم الدين ابن نباتة ، ومعه ولده القاضي علم الدين أبو الفتح الكبير ، هو الآن (يعني سنة ٥٧٢) قاضي ماردين ، والوزير أبو تمام بن عبدون وسار معه ، فوصلوا الى أرزن الروم ، وتخلف القاضي والوزير بأرزن الروم ، ودخل بالعساكر من ولاية الفرس ، وطريق

٣٢٦

وفي هذه السنة هبت بمصر ريح سوداء (١١٣ ظ) ثلاثة أيام ، فأهلكت شيئا كثيرا من الناس والحيوان.

__________________

بر ياليث ، واتفقوا أن تجمع العساكر أجمع على باب تفليس ، وتجهز السلطان طغرلبك من ناحية جنزي ، وسار طغان أرسلان الأحدب من دوين ، ووصل نجم الدين الى أن بقي بينه وبين تفليس الجبل مقدار نصف يوم.

وخرج الملك داود ، ومعه ولده ديميطري من جنب الغرب ، في عساكر عظيمة وكان يحدر عليهم من الجبل ، وهم في لحفة ، ولم تكن وصلت عساكر السلطان طغرلبك ولا شمس الدولة الأحدب بمن معه ، وتقاتلوا قتالا عظيما ، وكسر نجم الدين ، وقتل منه خلقا كثيرا ، وغنم الكفار منهم غنيمة عظيمة ، وخرج نجم الدين ، ودبيس في نفر يسير بحيث أن بقي عندهم من الأسرى الى زماننا. ولقد رأيت موضع الوقعة حين دخلت الى تفليس في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فأقمت بها ، ثم وصلت الى خدمة ملك الأبخاز ، وبقيت عنده ، وخرجت معه ، وسرت في ولايته معه مقدار نيف وسبعين يوما ، واجتاز الى اللان وطرف الدربند والى ولاية الأبخاز ، ولقد وصلنا بعض الأيام في ولاية الأبخاز الى برج واسع تحت جبل ، في قلعة شامخة ، ونزل الملك هناك ، وقال لي : يا فلان في هذه القلعة رجل أسير مستعرب من نوبة ايلغازي ، فاصعد إليه من الغد ، وأبصره واسأله من أين هو ، فعولت على ذلك وقلت : أطلبه من الملك ليطلقه ، فبت تلك الليلة ، فلما كان من وقت السحر ضرب بوق الى الرحيل لأنه وصل إليه الخبر أن بعض ولايته قد تشوشت ، فحين وصله الخبر رحل ، ورحل الناس ، ولم يقدر لي الاجتماع بذلك الرجل ، .. ولما كسر نجم الدين ، وعاد بمن بقي معه ، رحل ملك الأبخاز بالغنائم والأسرى ، ونزل على تفليس ، وحاصرها مدة ، ثم هدم سورها من قبل الغرب ، ودخلها سيفا ، فأحرقها ونهبها ، وبعد ثلاثة أيام أمن أهلها ، وطيب قلوبهم ، ووعدهم بالجميل ، وأسقط عنهم تلك السنة الأعشار والمؤن ، والأقساط والخراج وشرط للمسلمين كلما أرادوه من الشرط الذي هو الآن باق بها ، أنه لا يعبر الى جانب المسلمين بالمدينة خنزير ولا يذبح بها ولا في سوقها ، وضرب لهم الدراهم وعليها اسم السلطان والخليفة في الوجه الواحد ، وفي الوجه الآخر اسم الله واسم النبي عليه‌السلام ، واسمه على جانب الدرهم ، ونادى في البلد : إن من آذى مسلما قد أهدر دمه ، وشرط لهم الأذان والصلاة والقراءة ظاهرا ، وأن يخطب يوم الجمعة ويصلى ويدعى للخليفة والسلطان ، ولا يدعى لغيرهما على المنبر ، وشرط أن حمام اسماعيل بتفليس لا يدخلها كرجي ولا أرمني ولا يهودي ، ووصف خدمة الكرجي في

٣٢٧

سنة ست عشرة وخمسمائة

في هذه السنة وردت الأخبار من ناحية بغداد ، بأن الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد ، جمع واحتشد ، وقصد بغداد في حشده ، وعاث في أطرافها وأفسد في أكنافها ، فخرج الإمام الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين من دار الخلافة ، واجتمعت إليه الأجناد ، وظهر إليه ، وحمل عليه ، فهزمه وتم الى الحلّة فنهبها ، ونهبت مقابر قريش ببغداد وما بها من القناديل الفضة والستور والديباج ، وعاد الى بغداد ودخلها في المحرم سنة سبع عشرة وخمسمائة.

وورد الخبر فيها بأن السلطان محمود سخط على وزيره (١) لأشياء نقمها عليه وأنكرها منه وأمر بالقبض عليه ، ثم تقدم بقتله فقتل.

__________________

السنة خمسة دنانير ، وخدمة اليهودي أربعة دنانير ، وخدمة المسلم ثلاثة دنانير. وأحسن الى المسلمين غاية الاحسان ، وجعل لأهل العلم والدين والصوفية أكرم المنازل ، وما ليس لهم عند المسلمين ، ولقد رأيت هذه الشروط كلها لما دخلت الى تفليس في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، ولقد رأيت ملك الأبخاز ديميطري الذي كنت في خدمته ، وقد نزل الى تفليس ، وأقام بها أياما ، ونزل ذات يوم جمعة الى الجامع ، وجلس على دكة تقابل الخطيب ، فوقف موضعه حتى خطب الخطيب ، وكل الناس يسمع الخطبة جميعها ، ثم خرج وأطلق برسم الجامع مائتي دينار أحمر وكنت أرى العلماء والوعاظ والأشراف والصوفية ، والذين يصلون يكرمهم ويعطيهم ويحترمهم ، ويعتمد معهم ما ليس بمثله ، ولقد كنت أرى لاحترامه للمسلمين ما لو أنهم ببغداد ما احترموا تلك الحرمة».

(١) ذكره ابن الأثير : ٨ / ٣٠٨ وتحدث عن أخلاقه وسلوكه في السلطة وكذلك فعل سبط ابن الجوزي : ١ / ١٠٧ ـ ١٠٩ حيث قال : أبو طالب السميرمي وزير السلطان محمود ، واسمه علي بن حرب وكان ظلوما مجاهرا بالظلم والفسق ، وأعاد المكوس ، وكان يقول : لقد سننت على أهل بغداد السنن الجائرة ، وكل ظالم يتبع أفعالي ، وما أسلم في الدنيا وقد فرشت حصيرا في جهنم ، وقد استحييت من كثرة التعدي على الناس وظلمي لمن لا ناصر له إلا الله ، وكان هذا القول منه في الليلة التي قتل في صباحها ، حيث وثب عليه ثلاثة من الباطنية وذبحوه كما تذبح الشاة ، وقيل تجرد لقتله واحد من غلمان الطغرائي انتقاما للطغرائي ، فطعنه عدة سكاكين ، أودت بحياته.

٣٢٨

وفي صفر منها توجه عائدا إلى مدينة أصفهان.

وفي صفر ورد الخبر من ناحية حلب أن أبا الفضل بن الموصول وزير الملك رضوان توفي بحلب في الشهر ، وكان حسن الطريقة يميل الى فعل الخير و [يسكت](١) عن قصد الشر.

وفيها جاء سيل عظيم حتى دخل الى ربض قلعة جعبر ، فغرق أكثر دورها ومساكنها ، وهدمها واخرج منها فرسا حمله من الربض حتى رمى به من أعلى السور في الفرات ، وقيل إن عدة الدور الهالكة بهذا السيل الجارف ثمانمائة مكان.

وقيل إن الأمير نجم الدين بن أرتق خرج من حلب في عسكره ، وقطع الفرات ، وصادف الأفرنج ، فلم يلقوه فأتلف ما ظفر به في أعمالهم ، وعاد منكفئا إلى الفنيدق ، بظاهر حلب.

وفي هذه السنة وصل الأصطول المصري الى صور ، وهو مشحن بالرجالة البحرية ، وطائفة من العساكر ، وفي نفس الوالي ، العمل على الأمير سيف الدولة مسعود ، الوالي بصور من قبل الأمير ظهير الدين أتابك ، فلما خرج للسلام على والي الأصطول ، سألوه النزول فلما حصل في مركب المقدم ، اعتقله وتمت عليه المكيدة ، وحصل البلد في أيديهم ، ولما أقلع الأصطول ، ووصل الى مصر ، وفيه الأمير مسعود ، أكرم وأنزل في دار ، وأطلع له ما يحتاج إليه ، والسبب كان في هذا التدبير أن شكاوي أهل صور تتابعت (١١٣ ظ) الى الآمر بأحكام الله ، فاقتضت الآراء التدبير عليه ، وإزالة ما كان من الولاية إليه ، وكانت عاقبة خروجه منها ، وسوء التدبير فيها ، خروجها الى الأفرنج ، وحصولها في ملكتهم.

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من مرآة الزمان : ١ / ١١١ كيما يستقيم السياق.

٣٢٩

وفي هذه السنة ورد الخبر ، بأن الأمير نور الدولة بلك بن أرتق ، نهض في عسكره في أيام من رجب ، وقصد الأفرنج بالرها ، وأوقع بهم ، وكسرهم وأسر مقدمهم جوسلين وابن خالته كليان (١) ، وجماعة من مقدميهم عند سروج.

وورد الخبر بوفاة الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق بعلة عرضت له ، وهو نازل في قرية تعرف بالفحول (٢) من عمل ميافارقين ، من ديار بكر ، في السادس من شهر رمضان من السنة ، وقام في منصبه بعده ولده شمس الدولة سليمان وأخوه تمرتاش أبناء نجم الدين ، وملكا ماردين ، وأقاما مدة متفقين وجرى بينهما خلف استمر من كل منهما (٣).

وفيها توفي الحاجب فيروز ، شحنة دمشق ، في آخر ربيع الآخر منها.

سنة سبع عشرة وخمسمائة

فيها وردت الأخبار من ناحية بغداد ببروز الإمام المسترشد بالله ، أمير المؤمنين ، وفي جملته الأمير (آق) سنقر البرسقي ، عازما على قصد الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد ، لما هو عليه من الخلاف والمجاهرة بالعصيان

__________________

(١) ذكر المؤرخ السرياني المجهول بالتفصيل واقعة أسر جوسلين وقريبه جاليران وسجنهما في حصن زياد (خرتبرت) وروي أنه عندما غادر بلك حصن زياد قال لجوسلين : سوف أجلب الملك بلدوين ليكون معك ان شاء الله ، وهكذا كان بعد سنة ، وقد ترجمت مؤخرا هذا النص السرياني وأنا بصدد نشره مع نصوص أخرى لاتينية وعربية واغريقية حول «الحملتان الصليبيتان الأولى والثانية».

(٢) كذا في الأصل وفي زبدة الحلب : ٢ / ٢٠٦ «عجولين» وفي الفارقي «أوسل الهينة» ولم أجد أي من هذه الأسماء في كتب البلدان للتحديد وتبيان وجه الصحة.

(٣) جاء في تاريخ ميافارقين ـ ١٧١ وـ ظ ـ : قيل وفي سنة خمس عشرة وخمسمائة عاد نجم الدين الى ماردين ، وأقام بها سنة ست عشر وخمسمائة ، وخرج الى أوسل الهينة من بلد ميافارقين ، وأقام هناك ومعه زوجته الخاتون بنت طغتكين صاحب دمشق ، فمرض وتوفي يوم الخمسين سابع عشرين رمضان ، فحمل ليلا

٣٣٠

والفساد في الأعمال ، وقصدوا الحلة فانتهبوها ، وارتفع السعر ببغداد ، حتى بلغ الخبز ستة أرطال بدينار ، وورد الخبر من ناحية حلب باستقرار المهادنة بين الأمير بدر الدولة [سليمان بن عبد الجبار] بن أرتق (١) صاحب حلب ، وبين الأفرنج على تسليم قلعة الأثارب إلى الافرنج فتسلموها ، وحصلت في أيديهم ، واستمرت الموادعة على هذا ، واستقامت أحوال الأعمال من الجانبين ، وأمنت السابلة للمترددين فيها بين العملين ، في صفر من السنة.

__________________

وركب ولده الأمير شمس الدولة سليمان والخاتون ، ووصلوا ميافارقين ليلا ، ووصلوا الى باب الهوة ، وأجلسوا الأمير على فرسه ، ومن ورائه رجل يسكنه ، وتقدموا وصاحوا ، فنزل الوالي ، وكان اسمه كنغلي ، فدخل شيخ ممن صحب الأمير نجم الدين من أول زمانه ، وكلمه شمس الدولة والخاتون ، ففتح الباب ، فقالوا إن الأمير مريض ، فلما حصلوا في أرض القصر ، صاحوا وضجوا ، وقالوا : مات الأمير في هذه الساعة ، وأصبح الناس ، وصعد أهل البلد ومن كان بها من الجند الى القصر ، وغسل الأمير وصلي عليه ودفن بالسندلي مدة ثم أخرج ودفن في مسجد الأمير شرقي قبة السلطان ، فدفن هناك.

وكان نجم الدين ايل غازي قد تزوج بفرخندا خاتون ، بنت الملك رضوان ، لما ملك حلب ، وحقد عليها ، ولم يدخل بها ولا رآها ، ومات ولم يرها وتزوجها بعده الأمير بلك بن بهرام بن أرتق.

قيل : واستقر شمس الدولة بميافارقين واستوزر الوزير عبد الملك بن ثابت ، ورد الأمور إليه ، وأخذ خرتبرت من الأمير بلك ، وبقيت معه الى أن مات وأخذ الأمير داود وأخذ بلد حزة من الأمير داود ، وأخذ الضياع التي أخذها حسام الدين (قرقي بن الأحدب) صاحب أرزن من بلد ميافارقين ... ودخل [حسام الدين تمرتاش] البلد في شوال سنة ثمان عشرة وخمسمائة واستوزر عبد الملك ، واستقر حاله ، وحصل له جميع ما كان لأبيه نجم الدين ، وأحسن الى الناس ، وأحبوه ، واستبد بالملك».

(١) في الأصل : «الأمير بدر الدولة بن ايل غازي بن أرتق» وهو وهم فسليمان بن ايل غازي تسلم ميافارقين ، انظر زبدة الحلب : ٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠. الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣١١.

٣٣١

وفيها ورد الخبر بنهيض بغدوين ملك الأفرنج في عسكره إلى ناحية حلب ، إلى الأمير بلك بن أرتق ، في تاسع صفر منها ، وهو منازل لحصن الكركر (١) فنهض إليه والتقيا بالقرب من قنطرة [سنجة](٢) فكسره وأسره ، وحصل في يده أسيرا (١١٤ ه‍) مع جماعة من وجوه عسكره ، فاعتقله في جبّ في قلعة خرتبرت مع جوسلين ومقدمي الأفرنج.

وفي آخر صفر نهض ظهير الدين أتابك في العسكر ، فهجم ربض حمص ونهبه وأحرقه ، وبعض دوره ، وكان طغان أرسلان بن حسام الدولة قد وصل إلى حمص لمعونة خير خان صاحبها ، فعاد ظهير الدين عنها إلى دمشق.

وورد الخبر من ناحية حلب بنزول الأمير بلك بن أرتق عليها في ربيع الأول منها ، وأحرق زرعها ، وضايقها إلى أن تسلّمها بالأمان في يوم الثلاثاء غرّة جمادى الأولى ، من بدر الدولة ابن عمه عبد الجبار (٣) بن أرتق وقد كان ذلك تسلّم مدينة حرّان في شهر ربيع الأول.

وفيها وردت الأخبار بوصول فريق كثير من عسكر لواتة (٤) من ناحية الغرب إلى مصر ، وأفسدوا في أعمالها ، وظهر اليهم المأمون أبو عبد الله بن

__________________

(١) كركر حصن بين سميسباط وحصن زياد ـ خرتبرت أو خربوط. معجم البلدان.

(٢) في الأصل «بالقرب من منظرة» وقد ألم بالجملة سقط وتصحيف ، استدرك ذلك من زبدة الحلب : ٢ / ٢١١. حيث جاء فيه «بالقرب من قنطرة سنجة» وفي معجم البلدان : سنجة : نهر عظيم لا يتهيأ خوضه لأن قراره رمل سيال كلما وطئه الانسان برجله سال به فغرقه ، وهو يجري بين حصن منصور وكيسوم وهما من ديار مضر ، وعلى هذا النهر قنطرة عظيمة هي احدى عجائب الدنيا ، وهي طاق واحد من الشط الى الشط.

(٣) في الأصل : ايل غازي وهو وهم. انظر الحاشية ـ ١ ـ في الصفحة السابقة.

(٤) من كبريات قبائل البربر في المغرب ، وثورة لواته كانت بالصعيد الأدنى. انظر اتعاظ الحنفا : ٢ / ٩٧.

٣٣٢

البطائحي ، المقام في مقام الأفضل الشهيد بن أمير الجيوش ، في عسكر مصر بأمر صاحبه الإمام الآمر بأحكام الله بن المستعلي بالله ، ولقيهم فكسرهم ، وقتل وأسر منهم خلقا كثيرا ، وقرر عليهم خرجا معلوما يقومون به في كل سنة ، وعادوا إلى أماكنهم ، وعاد المأمون إلى مصر غانما منصورا ، وبحسن الظفر مسرورا.

وفيها ورد الخبر بأن اصطول مصر لقي اصطول البنادقة في البحر ، فتحاربا فظفر به اصطول البنادقة ، وأخذ منه عدة (١) قطع.

وفي العشر الأول من شهر ربيع الأول منها ، ملك الأمير بلك بن أرتق ، حصن البارة وأسر أسقفها.

وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية خرتبرت بأن الملك بغدوين الرويس وجوسلين مقدمي الأفرنج ، وغيرهم من الأسرى الذين كانوا في أسر الأمير بلك ، المعتقلين في قلعة خرتبرت عملوا الحيلة فيما بينهم وملكوا القلعة وهربوا (٢) ...... الملك بغدوين ونجا ولم يظفروا به وهرب في ذلك اليوم أيضا أسقف البارة من اعتقاله.

__________________

(١) انظر الحاشية رقم ـ ٢ ـ ص : ٣٢٢.

(٢) كذا بالأصل ، وهناك سقط بالرواية واضطراب ، وذكر هذه الواقعة ابن العديم في زبدة الحلب ٢ : / ٢١٣ ـ ٢١٣ وسواه ، إنما من الملاحظ أن معلومات المصادر العربية حول هذه الحادثة لا تفي بالغرض ، ولحسن الحظ أن المؤرخ السرياني المجهول تحدث عنها باسهاب حيث قال : وفي شهر آب من تلك السنة ـ ١٤٣٥ [١١٢٣ م] قام عشرون رجلا من الأرمن ، ممن كان يخدم في حصن كيسوم بحبك مؤامرة مع جودفري الموين والملكة ، فذهبوا الى قلعة زياد متنكرين على شكل جنود فقراء ، وكان عشرة منهم يحملون العنب والفواكه والطيور الداجنة ، وتظاهر هؤلاء أنهم قرويون أتوا للشكوى ضد والي مدينتهم الذي ظلمهم ، وبقي الآخرون خارج الحصن ، وهم على استعداد للالتحاق برفاقهم عندما تحين الفرصة ، وتأتي ساعة العمل ، وذهبت الجماعة التي كانت تحمل الأغراض إلى بوابة الحصن

٣٣٣

وفي الشهر المذكور توجه الأمير نور الدولة بلك في عسكره إلى خرتبرت ،

__________________

العليا وأخبروا البواب بسبب قدومهم ، وهو الشكوى ضد واليهم ، فطلب منهم الانتظار بين البوابتين ، بينما يخطر شحنة القلعة بقدومهم ، وصدف أن كان الشحنة يقيم آنذاك وليمة لضباطه ، وقد أثرت الخمرة بهم ، وكانوا جميعا بمنتهى الغبطة والسرور ، وكان كثيرون من رجال الحرس يشاهدون الوليمة ، ولم يبق سوى اثنان أو ثلاثة مع البواب على البوابة.

وعندما ذهب لاخبار الشحنة عمد الرجال لاختطاف السيوف المعلقة بين البوابات وقتلوا البواب وكل من وجدوه هناك ، ثم دعوا رفاقهم الذين كانوا بانتظارهم في الخارج ، وانضم هؤلاء إليهم وفتحوا الأبواب ، واندفعوا وقتلوا جميع الضباط الذين كانوا يشتركون في الوليمة بدون استثناء ، ثم فكوا أسار الأسرى ، واحتلوا القلعة ، وساعدهم جميع الأرمن الذين كانوا داخل المدينة.

وحالما انتشر خبر هذه الواقعة ، أرسل الخبر الى بلك في حلب ، كما تجمع الأتراك من كل حدب وصوب وأحاطوا بالقلعة ، وراقبواها عن كثب حتى لا يخرج منها أحد أو يدخلها انسان ، وعمد جوسلين في الليلة الأولى ومعه اثنان أو ثلاثة آخرون ، الى الهرب بشجاعة ، واخترقوا الحصار ونجوا ، وكان جوسلين قد وعد الملك بألا يرتاح حتى يصل الى القدس ويجلب جيشا لانقاذه ، ثم سار مارا بكيسوم فتل باشر ، فأنطاكية ، فالقدس.

وزاد فرح الفرنجة لدى سماعهم أن بلدوين وجاليران [أسقف البارة] قد أطلق سراحهما ، وأن قلعة زياد قد سقطت ، إنما عند ما سمع بلك بخبر ما حدث في قلعته الحصينة ، عاصمة ملكه ، وبيت ماله ، ومخزن ثروته ، بدأ بالتحرك حالا مع فرق جيشه ، ووصل الى قلعة زياد في مدة أربعة أيام ، أي بعد عشرة أيام من حدوث الواقعة ، وهاجم القلعة بضراوة ، ونصب آلات الحصار التي قذفت السور برماياتها دون توقف دقيقة واحدة ، خشية أن يحضر الفرنجة لنجدتها ، وفي بضعة أيام فتحوا ثلمة في السور ، وطلب بلك تسليم الحامية ، ووعدها أن يحفظ حياة أفرادها ، لأنه لم يرغب في مهاجمة القلعة ، فيدمر موطن سمعته وشرفه ، وأثناء هذا تمكن من هدم برج آخر مقاما فوق صهريج الماء ، وعندما حدث هذا ، فقد المحاصرون كل أمل ، وخرج جاليران بنفسه إليه ليطلب كلمة الشرف ويتوثق من بلك بحفظ حياتهم ، وأعطاه بلك ذلك ووعد بحفظ حياتهم ، فسلموا له القلعة ، فدخلها ، وقام بتعذيب الأرمن وسلخ أجسادهم أحياء ، وأعاد الملك بلدوين وجاليران الى سجنهم السابق [١٦ أيلول ١١٢٣ م].

٣٣٤

وضايق قلعتها إلى أن استعادها من الأفرنج الواثبين عليها ، ورتّب فيها من يحفظها ويتيقظ فيها.

وفي هذه السنة ورد الخبر بأن محمود بن قراجة (١١٤ ظ) والي حماة خرج في رجاله ، وقصد ناحية أفامية ، وهجم ربضها فأصابه سهم من الحصن في يده ، ولما قلع منه عملت عليه وتزايد أمرها ، فمات منه ، وكان عاهرا ظالما متمردا ، وقتل جماعة من أعيان حماة ظلما وتعدّيا بسعاية بعضهم على بعض ، ولما عرف ظهير الدين ذلك أنهض إلى حماة من تسلمها ، وتولى أمرها من ثقاته.

وفيها ورد الخبر بالنوبة الكائنة بين السلطان مغيث الدنيا والدين محمود وبين أخيه طغرل ابني السلطان محمد ، وأن السلطان محمود صافّه وكسره ، وهزمه وملك عسكره ، وأن طغرل استعان بالأمير دبيس بن صدقة بن مزيد ، واستنجد به عليه ، وأجيب إلى ذلك.

وفي هذه السنة كانت النوبة الكائنة بين عسكري ظهير الدين أتابك الدمشقي ، وسيف الدين آق سنقر البرسقي ، حين تجمعوا ونزلوا على عزاز من عمل حلب ، ومضايقتها بالنقوب والحروب ، إلى أن سهل أمرها ، فتجمع الأفرنج من كل صوب ، وقصدوا ترحيل العسكر عنها ، والتقى الجيشان ، وانفلّ جيش المسلمين ، وتفرقوا بعد قتل من قتل وأسر من أسر ، وعاد ظهير الدين أتابك إلى دمشق في جمادى الأولى من السنة.

وفي شهر رمضان من السنة توجه الحاجب علي بن حامد إلى مصر ، رسولا عن ظهير الدين أتابك.

٣٣٥

سنة ثماني عشرة وخمسمائة

في هذه السنة ورد الخبر من ناحية العراق بأن القاضي ، قاضي القضاة زين الاسلام ، أبا سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي ، كان قافلا من ناحية خراسان بجواب السلطان سنجر عما صدر على يده إليه ، وأنه لما نزل بهمذان في جامعها ، وثب عليه على حين غفلة منه ، قوم رتّبوا له من الباطنية ، فضربوه بسكاكينهم ، فقتلوه وهربوا في الحال ، ولم يظهر لهم خبر ولا بان منهم أثر ، ولا تبعهم شخص للخوف منهم ، فمضى لسبيله شهيدا إلى رحمة الله ، وذلك للقضاء النازل الذي لا يدافع ، والقدر الحال الذي لا يمانع ، وذلك في رجب منها.

وفيها ملك الأفرنج ثغر صور بالأمان ، وشرح الحال في ذلك : كان قد مضى من ذكر الذي أوجب إخراج الأمير (١١٥ و) سيف الدولة مسعود واليها منها ، وحمله في الأسطول إلى مصر ما لا يحتاج إلى الاعادة له ، والإطالة بذكره ، ولما حصل بها الوالي المندوب من مصر بعد مسعود ، طيّب نفوس أهله ، وكاتب ظهير الدين بصورة الحال ، فأعاد الجواب بأن الأمر في ذلك لمن دبّره ، والمرجوع إلى ما رتبه وقرره ، واتفق أن الأفرنج لما عرفوا هذا الأمر ، وانصراف مسعود عن ولاية صور ، تحرك طمعهم فيها ، وحدثوا نفوسهم بتملكها ، وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها ، والمضايقة لها ، واتصل بالوالي صورة الأمر ، وأنه لا طاقة له بالأفرنج ، ولا ثبات على محاصرتهم ، لقلة من بها من الجند والميرة ، فطالع الآمر بأحكام الله صاحب مصر بذلك ، فاقتضى الرأي أن ترد ولاية صور إلى ظهير الدين أتابك ، ليتولى حمايتها والذب عنها والمراماة دونها ، على ما جرى رسمه فيها ، وكتب منشور الولاية باسمه ، فندب لتوليها جماعة لا غناء لهم ، ولا كفاية فيهم ولا شهامة ، ففسد أمرها بذاك ، وتوجه طمع الافرنج حولها لأجله ، وشرعوا في النزول والتأهب

٣٣٦

للمضايقة لها ، ونزلوا بظاهرها في شهر ربيع الأول من السنة ، وضايقوها بالقتال والحصار ، الى أن خفت الأقوات فيها ، وعدمت الميرة ، وتوجه ظهير الدين في العسكر إلى بانياس للذب عن صور.

ونفذت المكاتبات إلى مصر باستدعاء المعونة لها ، وتمادت الأيام بذلك إلى أن ضعفت النفوس ، وأشرف أهلها على الهلاك ، وعرف أتابك جلية [الأمر](١) وتعذر تلافيها ، ووقع اليأس من المعونة لها ، فراسل الأفرنج بالملاطفة والمداهنة ، والإرهاب والإرغاب إلى أن تقررت الحال على تسليمها إليهم ، بحيث يؤمّن كل من بها ، ويخرج من أراد الخروج من العسكرية والرعية ، بما يقدرون عليه من أحوالهم ، ويقيم من أراد الإقامة.

ووقف أتابك في عسكره بإزاء الأفرنج ، وفتح باب البلد ، وأذن للناس في الخروج ، فحمل كل منهم ما خف عليه ، وأطاق حمله ، وترك ما ثقل عليه ، وهم يخرجون بين الصفين ، وليس أحد من الأفرنج يعرض لأحد منهم ، بحيث خرج كافة العسكرية والرعية ، ولم يبق منهم إلا ضعيف (١١٥ ظ) لا يطيق الخروج ، فوصل بعضهم إلى دمشق ، وتفرقوا في البلاد ، وذلك في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وخمسمائة.

وفيها ورد الخبر باجتماع الأفرنج من أعمالهم ، ونزولهم على حلب ، وشروعهم في قتال من بها ، والمضايقة ، وتمادى الأمر في ذلك الى أن قلّت الأقوات فيها ، وأشرف على الهلاك أهلها ، فلما ضاق بهم الأمر ، وعدم الصبر راسلوا الأمير سيف الدين (أق) سنقر البرسقي ، صاحب الموصل بشكوى أحوالهم ، وشرح ما نزل بهم ، والسؤال له في إنجادهم على الأفرنج ، وانقاذهم من أيدي الكافرين ، فضاق لذلك صدره ، وتوزع سره ، وتأهب في الحال للمصير إليهم ، وصرف الاهتمام الى الذب عنهم.

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

٣٣٧

فلما وصل إليهم في ذي الحجة من السنة ، وعرف الأفرنج خبره ، وحصوله قريبا منهم ، وما هو عليه من القوة وشدة الشوكة ، أجفلوا مولين ، ورحلوا منهزمين ، وتبعهم سرعان الخيول يتلقطون من يظفرون به في أعناقهم ، ولم يلو منهم منهزم على متلوم ، إلى أن حصلوا بأنطاكية ، وكانوا قد ابتنوا في منزلهم مساكن وبيوتا تقيهم الحر والبرد ، وأصروا على المقام ، ولطف الله تعالى ، وله الحمد بأهل حلب ، وخلصهم من البلاء ، وانتاشهم من اللأواء ، وكسب آق سنقر البرسقي بهذا الفعل الجميل جزيل الأجر والثناء ، ودخل حلب وأحسن السيرة فيها ، وأجمل المعاملة لأهليها ، واجتهد في الحماية لها ، والمراماة دونها ، بحيث صلحت أحوالها ، وعمرت أعمالها ، وأمنت سابلتها ، وتواصلت الرفق إليها ببضائعها وتجارتها.

وفي شتوة هذه السنة احتبس الغيث بأرض الشام ، في كانون وكانون وأكثر شباط ، وتلف الزرع ، وغلا السعر ، وعم القحط أكثر البلاد الشامية ، ثم تدارك الله عبيده بالرحمة ، وأنزل الغيث بعد القنوط ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، وانتاش الزراعات بعد فوتها ، وطابت النفوس ، وزال عنها الهم والبؤس ، وارتفعت الأسعار في هذه السنة في حلب ودمشق وأعمالها إلى الرحبة والقلعة والموصل ، وبقي إلى سنة تسع عشرة وهلك كثير من ضعفاء الناس بالجوع.

سنة تسع عشرة وخمسمائة

(١١٦ و) في هذه السنة وردت الأخبار من مصر ، بتقدم الآمر بأحكام الله بالقبض على المأمون أبي عبد الله ، وأخيه المؤتمن ابني البطائحي ، غلامي الأفضل ، اللذين كانا عملا على قتله وأعانا على إتلافه ، واعتقالهما في شعبان

٣٣٨

والاستيلاء على أموالهما وذخائرهما ، للاسباب التي نقم بها عليهما ، والمنكرات التي اتصلت به عنهما (١).

وفيها اتصلت الأخبار من ناحية بغدوين ملك الأفرنج صاحب بيت المقدس ، بالاحتشاد والتأهب والاستعداد لقصد ناحية حوران من عمل دمشق ، للعيث فيها والإفساد ، وشرع في شن الغارات على الجهات القريبة من دمشق ، والمضايقة لها ، وقطع الطرقات على الواردين إليها ، فعند المعرفة بذاك والتحقق له ، شرع ظهير الدين أتابك في الاستعداد للقائه ، والاجتماع على جهاده ، وكاتب أمراء التركمان ومقدميهم وأعيانهم ، بإعلامهم صورة الحال ، ويستنجد بهم عليهم ، ويبذل لهم الاحسان والانعام ، وبرز في عسكره وقد ورد عليه خبر قربهم من طبرية ، قاصدين أعمال البلد من مرج الصفر وشرخوب (٢) ، وخيم به ، وكاتب ولاة الأطراف بإمداده بالرجالة ، واتفق وصول التركمان في ألفي فارس أولي بأس شديد ، ورغبة في الجهاد ، ومسابقة إلى الكفاح والجلاد ، فاجتمع إليه خلق كثير ، وكان الأفرنج حين عرفوا نزول أتابك والعسكر بمرج الصفر ، رحلوا إليه ، وخيموا بإزائه ، ووقعت العين على العين ، وتطاردت طلائع الفريقين ، فلما كان يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة من السنة ، اجتمع للقضاء المقضي ، والحكم النافذ من أحداث دمشق والشباب الأغرار ، ورجال الغوطة والمرج والأطراف ، وأحداث الباطنية المعروفين بالشهامة والبسالة من حمص وغيرها والعقبة وقصر حجاج والشاغور خلق كثير ، رجالة وخيالة بالسلاح التام ، والناهض مع المتطوعة والمتدينين ، وشرعوا بالمصير للحاق المصاف قبل اللقاء ، وقد شاع الخبر بقوة عسكر

__________________

(١) انظر تفاصيل الخبر في اتعاظ الحنفا : ٣ / ١١٠ ـ ١١٥ ، وروي المقريزي أن الآمر كان يقول : «أعظم ذنوبه عندي ما جرى منه في حق صور واخراجها من يد الاسلام الى الكفر».

(٢) لم أجد هذا الموقع في المعاجم والمصادر الجغرافية.

٣٣٩

الاسلام ، وكثرته واستظهاره على حرب الأفرنج ، وشدة شوكته ، ولم يشك أحد في هلاك الأفرنج في هذا اليوم وبوارهم ، وكونهم طعمة للمسلمين متسهلة ، (١١٦ ظ) واتفق أن فرقة وافرة من عسكر التركمان ، غارت على أطراف الأفرنج ونالت منهم ، واستظهرت عليهم ، وخاف الافرنج ، وعلموا أنه لا طاقة لهم بهذا الجمع ، وأيقنوا بالهلكة ، ورحلوا بأسرهم من منزلهم الذي كانوا فيه ، عائدين الى أعمالهم على غاية من الخوف والوجل ، ونهاية من الذل والوهل ، ونشبت فرقة من التركمان في فريق منهم ، وهم راحلون فغنمت من أثقالهم ودوابهم غنيمة وافرة ، وظفرت بالكنيسة المشهورة التي لهم في مخيمهم ، وطمع العسكر عند ذاك فيهم وحملوا عليهم ، وهم مولون لا يلوون على تابع ولا يقفون على مقصر لاحق ، وقد شملهم الرعب وضايقوهم مضايقة ألجأتهم إلى رمي نفوسهم عليهم ، إما لهم وإما عليهم ، فتجمعوا وعادوا على العسكر الإسلامي ، وحملوا عليه حملتهم المعروفة ، فكسروهم وهزموهم ، وقتلوا من أعقابهم من ثبطه الوجل ، وخانه الأجل ، وتم العسكر في الهزيمة على حاله ، وعادوا على جميع الرجالة ، وهم العدد الكثير والجم الغفير ، وأطلقوا السيف فيهم حتى أتوا عليهم ، وتتبعوا المنهزمين بالقتل حتى وصلوا إلى عقبة سحورا (١) وقربوا من البلد من شرخوب مع بعد المدى والمسافة ، وصبر خيولهم.

ووصل ظهير الدين أتابك والعسكر إلى دمشق آخر نهار هذا اليوم ، وبنوا الأمر بينهم على مباكرتهم في غد للإيقاع بهم ، فصادفوهم قد رحلوا عائدين إلى عملهم ، خوفا مما عزم عليه من قصدهم ، وتنبعهم ، والله يحكم ما يشاء.

__________________

(١) لم أجد هذا الموقع في المعاجم والمصادر الجغرافية.

٣٤٠