تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

سنة عشرين وخمسمائة

في هذه السنة ورد الخبر من ناحية الموصل باستشهاد الأمير الاصفهسلار سيف الدين آق سنقر البرسقي صاحبها ، بيد الباطنية رحمه‌الله ، في مسجد الجامع بها في ذي القعدة منها ، وكان الذي وثب عليه جماعة ، قد رتبت لمراصدته ، وطلب غرته حتى حان الحين ، ونفذ الأجل ، وقد كان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم بالاستكثار من السلاحية والجاندارية والسلاح الشاك ، لكن القضاء النازل لا يدافع ، والقدر النافذ لا يمانع ، وعليه مع هذا من (١١٧ و) لباس الحديد ما لا تعمل فيه مواضي السيوف ، ومرهفات الخناجر ، وحوله من الغلمان الأتراك والديلم والخراسانية بأنواع السلاح عدد ، فلما حصل بالجامع على عادته ، لقضاء فريضة الجمعة ، والنفل على رسمه ، وصادف هذه الجماعة الخبيثة في زي الصوفية ، يصلون في جنب المشهد ، لم يؤبه لهم ، ولا ارتيب بهم ، فلما بدأ بالصلاة ، وثبوا عليه بسكاكينهم ، فضربوه عدة ضربات لم تؤثر في لبس الحديد الذي عليه ، وقد غفل أصحابه عنه ، وانتضى سيفا كان معه وضرب أحدهم فقتله ، وصاح واحد منهم حين رأوا السكاكين لا تعمل فيه شيئا : ويلكم اطلبوا رأسه وأعلاه ، وقصدوا حلقه بضرباتهم فأثخنوه ، إلى حين أدركه أصحابه وحماته ، فقضي عليه ، وقتل شهيدا ، وقتلوا جميع من كان وثب عليه.

وقد كان هذا الأمير رحمه‌الله سديد الطريقة ، جميل الأفعال. حميد الخلال ، مؤثرا للعدل ، والانصاف ، كثير التدين محمود المقاصد محبا للخير وأهله ، مكرما للفقهاء والصالحين ، فحزن الناس عليه ، وأسفوا لفقده على هذه الحال ، ولما عرف ظهير الدين أتابك هذا ، قلق له وضاق صدره لسماعه ، وقام في الأمر بعده ولده الأمير مسعود ، وهو مشهور بالنجابة والذكاء ، معروف بالشهامة والعناء ، فاجتمع إليه خواص أبيه ووزيره وكتابه وسلك

٣٤١

منهاجه المحمود ، وقصد قصده المشكور ، فاستقام له الأمر ، وانتظمت على السداد والمراد أحواله.

وفي هذه السنة نهض ظهير الدين نحو تدمر ، ولم يزل حتى استعادها من أيدي العاملين عليها الواثبين على ابن أخيه ، الوالي كان بها ، في يوم الخميس لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر منها ، واستقر الأمر على أن يجعل برسم الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك ، وسلمت إليه وخرج إليها ومعه من رتب لحفظه وحفظها من الثقات.

وفي هذه السنة عاد ظهير الدين من حلب ، وقد بدا له من المرض ، ودخل دمشق في شعبان منها ، ووصل إليه أمير الدولة كمشتكين والي بصرى من مصر بجواب الرسالة التي كان نفذ لأجلها ، ومعه الأمير المنتضى (١١٧ ظ) ابن مسافر الغنوي ، رسول الآمر بأحكام الله صاحب مصر ، وعلى يده خلع سنية وتحف مصرية ، في الشهر المذكور.

وفي هذه السنة استفحل أمر بهرام داعي الباطنية ، وعظم خطبه في حلب والشام ، وهو على غاية من الاستتار والاختفاء وتغيير الزي واللباس ، بحيث يطوف البلاد والمعاقل ، ولا يعرف أحد شخصه ، إلى أن حصل في دمشق بتقرير قرره نجم الدين ايل غازي بن أرتق مع الأمير ظهير الدين أتابك ، وخطاب وكده بسببه ، فأكرم لاتقاء شره ، وشر جماعته ، وأجملت له الرعاية ، وتأكدت به العناية بعد أن تقلبت به الأحوال ، وتنقل من مكان إلى مكان ، وتبعه من جهلة الناس ، وسفهاء العوام ، وسفساف الفلاحين الطغام ، من لا عقل له ، ولا ديانة فيه ، احتماء به ، وطلبا للشر بحزبه ، ووافقه الوزير أبو علي طاهر ابن سعد المزدقاني ـ وإن لم يكن على مذهبه ـ على أمره ، وساعده على بث حبال شره ، وإظهار خافي سره ، فلما ظهر أمره وشاع ، وطاوعه وزير ظهير

٣٤٢

الدين المذكور ، ليكون عونا له على فعله ، وتقوية يده في شغله ، التمس من ظهير الدين أتابك حصنا يأوي إليه ، ومعقلا يحتمي به ، ويعتمد عليه ، فسلم له ثغر بانياس في ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة فلما حصل فيه اجتمع إليه أوباشه من : الرعاع ، والسفهاء والفلاحين ، والعوام ، وغوغاء الطغام ، الذين استغواهم بمحاله وأباطيله ، واستمالهم بخدعه وأضاليله ، فعظمت المصيبة بهم ، وجلّت المحنة بظهور أمرهم وشينهم ، وضاقت صدور الفقهاء والمتدينين ، والعلماء ، وأهل السنة ، والمقدمين ، و [أهل] الستر والسلامة من الأخيار المؤمنين ، وأحجم كل منهم عن الكلام فيهم ، والشكوى لواحد منهم ، دفعا لشرهم ، وارتقابا لدائرة السوء عليهم ، لأنهم شرعوا في قتل من يعاندهم ، ومعاضدة من يؤازرهم على الضلال ، ويرافدهم بحيث لا ينكر عليهم سلطان ولا وزير ، ولا يفل حد شرهم مقدم ولا أمير.

وفي هذه السنة ورد الخبر بوصول السلطان مغيث الدنيا والدين محمود ابن السلطان محمد بن ملك شاه (١١٨ و) إلى بغداد ، وجرى بينه وبين الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين مراسلات ومخاطبات ، أوجبت تشعيث الحال بينهما ، والمنافرة من كل منهما ، وتفاقم الأمر الى أن أوجب زحف السلطان في عسكره إلى دار الخلافة ، ومحل الإمامة ، ومحاربته في قصره ، والطلبة لغلبته وقهره ، ولم تزل الشحناء مستمرة ، والفتنة على غير الإيثار مستقرة ، إلى أن زالت أسباب الخلف والنفار ، وعادت الحال إلى ما ألفيت من شوائب الأكدار ، بحسن سفارة الوزير جلال الدين بن صدقة ، وزير الخلافة ، وجميل وساطته ، وسديد نيابته ، وعاد السلطان مع ذلك إلى المألوف من طاعته ، والمعروف من مناصحته ، والتصرف على أوامر أمير المؤمنين وأمثلته وذلك في العشر الأخير من ذي الحجة سنة عشرين وخمسمائة ، وقيل في أول المحرم سنة احدى وعشرين وخمسمائة (١).

__________________

(١) أتى سبط ابن الجوزي على تفاصيل ذلك في أخبار سنة / ٥٢١ / ه وهي ليست في المطبوع : ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

٣٤٣

وفي رجب من هذه السنة ، توفي الأمير طرخان بن محمود الشيباني ، أحد أمراء دمشق بعلة حادة ، هجمت عليه ، فأردته.

وفيها قصدت الأفرنج رفنية ، وضايقوها ، واستعادوها من ملكة المسلمين.

سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

فيها ورد الخبر من ناحية العراق بقتل المعين وزير السلطان سنجر بن السلطان ملك شاه صاحب خراسان ، بتدبير الباطنية في شهر ربيع الآخر منها ، ذكر أنه كان فتك بجماعة منهم ، ومحرضا للسلطان على النكاية فيهم ، وتطهير الأرض منهم ، فرتبوا له قوما من سفائهم للارصاد لفرصة تلوح فيه ، وغرة تظهر منه (١) فلم يتم لهم في ذلك نيل طلب ، ولا تسهل لهم إدراك أرب ، فأفردوا منهم سفيها ، ولم يزل يتحيل إلى أن خدم في اسطبل دوابه ، سائسا لبغاله ، وقام في خدمته إلى أن وجد الفرصة متسهلة عند حضوره لمشاهدة كراعه ، فوثب عليه ، وهو غافل مطمئن ، فقتله ومسك فقتل من بعده ، وكان هذا الوزير موصوفا بجميل الأفعال ، وحميد الفعال ، ومتانة الدين (١١٨ ظ) وحسن اليقين ، والإنصاف في أعماله ، والتسدد في أقواله ، ومضى لحال سبيله شهيدا ، وانتقل إلى ربه مرضيا حميدا عند نفاذ المدة ، وانقضاء العدة ، ولله عاقبة الأمر ، وبيده محتوم النفع والضر.

وقد تقدم من شرح حال الأمير سيف الدين آق سنقر البرسقي ، صاحب الموصل في استشهاده بيد الباطنية في جامعها ، رحمه‌الله ، وقيام ولده الأمير مسعود في الأمر من بعده ما فيه الكفاية ، فلما استتب أمره ، وقويت شوكته ، واستقامت ولايته ، شمخ بأنفه ، ونفخت حداثة السن في سحره ، وحدثته

__________________

(١) في الأصل : منهم ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

٣٤٤

نفسه بمنازلة البلاد الشامية ، والطمع في تملك المعاقل الاسلامية ، والاطراح لمجاهدة العصب الأفرنجية ، بالضد من أولي الحزامة والسداد ، وذوي البأس والبسالة في إحراز فضيلة الغزو والجهاد ، ونمي الخبر عنه إلى ظهير الدين أتابك بحكايات تدل على حسده له ، بما أوتي من الهيبة ، وحسن الصيت وجميل الذكر ، وكبر الشأن والأمر ، وأنه عازم على التأهب والاحتشاد لقصد أعمال الشام ، والعيث فيها والإفساد ، فعزم ظهير الدين أتابك ، عند معرفته هذه الأحوال ، التي لا يصدر مثلها عن أريب ، ولا يبدو شبهها عن حازم في رأيه لبيب ، على الاستعداد لقصده في عسكره ، حين يدنو من الأعمال الشامية ، فيوقع بعسكره ، ويشفي غليله بالفتك بحزبه ، فما كان بعد ذلك إلا الأيام القلائل حتى انفصمت عرى شبابه ، ونزل محتوم القضاء به ، بهجوم مرض حاد عليه بظاهر الرحبة ، أتى عليه وأصاره الى المحتوم ، الذي لا بد له عنه ، ولا مجير له منه ، فانفل حده ، وخذله أنصاره وجنده ، وأسلمته للقضاء حماته ، وتفرقت عنه خواصه وثقاته ، وهلك في الحال وزيره وشريكه في الوزر ومشيره ، بعلة شديدة أعجلته ، في إشراك المنية أو بقته ، وهرب جماعة من خواص غلمان أبيه الأتراك بأعلامه التي كانت قد استعملها على مراده وايثاره ، وتناهى في إحكامها على قضية اقتراحه واختياره ، ووصلوا بها إلى ظهير الدين أتابك متحفين له بها ، ومتقربين إليه بإهدائها ، فأحسن إليهم وبالغ في الإكرام لهم ، والانعام عليهم ، واصطفاهم لنفسه ، وضمهم إلى ثقاته وأهل أنسه ، وقابلهم على وفودهم عليه (١١٩ و) بالفعل الجميل والعطاء الجزيل (١).

__________________

(١) جاء في كتاب الباهر لابن الأثير : ٣٢ ـ ٣٥ : «لما قتل البرسقي قام بالموصل بعده ابنه عز الدين مسعود ، وأرسل الى السلطان يطلب أن يقرر البلاد عليه ، فأجابه الى ذلك ، وأقره على ما كان لأبيه من الأعمال ، فضبط البلاد ، وقام فيها المقام المرضي ، وكان شابا عاقلا ، فجمع عساكر أبيه وأحسن إليهم ، وكان يدبر الأمر بين يديه الأمير جاولي ـ وهو مملوك تركي من مماليك أبيه ـ وكان أيضا عاقلا حسن السيرة ، فجرت الأمور على أحسن نظام ، فلم تطل أيامه ،

٣٤٥

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق ، بمسير السلطان مغيث الدنيا والدين محمود ، وقد عبث به مرض خاف منه على نفسه ، محمولا في محفة نحو همذان ، واجتاز عند ذلك بدار الخلافة ، وراسل الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين ، يسأله المسامحة بما سبق منه في تلك النوبة الحادثة بينهما ، وأن يحلله ويدعو له ، ولا يدعو عليه ، فخرج إليه جواب الرسالة بأجمل جواب ، وألطف خطاب ، طابت بهما نفسه وزاد في استماعهما أمله في البر

__________________

وأدركه في عنفوان شبابه حمامه ، وتوفي سنة احدى وعشرين وخمسمائة ، فولي بعده أخوه الأصغر ، وقام بتدبير دولته جاولي أيضا ، وأرسل الى السلطان يطلب أن يقرر البلاد عليه ، وبذل أموالا كثيرة ... وكان واسطة ذلك القاضي بهاء الدين أبا الحسن علي بن الشهرزوري ، وصلاح الدين محمد الياغسياني ، فحضرا الى بغداد ليخاطبا السلطان في ذلك ، وكانا يخافان جاولي ، ولا يرضيان بطاعته والتصرف بحكمه ، فاجتمع صلاح الدين ونصير الدين جقر ـ الذي كان أعظم أصحاب أتابك زنكي منزلة ـ وكان بين نصير الدين وصلاح الدين مصاهرة فذكر له صلاح الدين ما قدم له ، فخوفه نصير الدين من جاولي وتحكمه على صاحبه ، وقال له : إن رأيت أن تطلب البلاد لعماد الدين فهو الرأي ، لأن السلطان صورة وأنا وأنت معنى ، فأجابه الى ذلك ، وأخذه الى القاضي بهاء الدين بن الشهرزوري ، متحدثا معه ووعده نصير الدين ومناه ، وضمن له عن عماد الدين من الأملاك والاقطاع ، والوقوف على اختياره ما جاوز أمله ، فأجاب بهاء الدين أيضا ، وركب هو وصلاح الدين الى دار الوزير ـ وهو حينئذ أنوشروان بن خالد ـ فقال له : قد علمت أنت والسلطان أن بلاد الجزيرة والشام قد استولى الفرنج عليها ، وتمكنوا منها ، وقويت شوكتهم ، وقد كان البرسقي يكف بعض عاديتهم ، فمذ قتل إزداد طمعهم ، وهذا ولده طفل ، ولا بد للبلاد من شهم شجاع يذب عنها ويحمي حوزتها ، وقد أنهينا الحال إليك ، لئلا يجري خلل أو وهن على الاسلام والمسلمين ، فنحصل نحن بالاثم من الله ، واللوم من السلطان ، فأنهى الوزير ذلك الى السلطان ، فقال : من تريان يصلح لهذه البلاد ، فقد نصحتما لله تعالى وللمسلمين ، فذكرا جماعة فيهم عماد الدين زنكي ، وعظما محله أكثر من غيره ، فمال السلطان الى توليته ، لما علم من شهامته وكفايته وعقله لما تولاه ، وأمره بالحضور عنده ، وفصل الحال في خدمة يحملها ، واستقر الحال وولاه البلاد جميعها ، وكتب منشوره الى بغداد.

٣٤٦

وأنسه ، ثم إنه أفاق من مرضه هذا وعاوده نشاطه بعد الكسل والفتور وعاد إلى الغرض المأثور ، وكان قد أنكر على وزيره شمس الملوك خواجه برزك أمورا ، دعته إلى الأمر بالقبض عليه ، وتسليمه إلى حاجبه فقتله ، وقيل إنه شرب الخمر في قحف رأسه.

وفي شعبان من هذه السنة قصد بغدوين ملك الافرنج ، صاحب بيت المقدس ، في عسكره وادي موسى ، فنهب أهله وسباهم وشرد بهم ، وعاد عنهم.

وفي جمادى الآخرة منها ورد الخبر بأن الأمير ختلغ ابه السلطاني ولي مدينة حلب ، وحصل في قلعتها بطالع اختير له ، ولم يقم إلا القليل حتى فسد أمره واضطرب حاله ، ووقع بينه وبين أحداث الحلبيين ، فحصروه في القلعة إلى أن وصل الى حلب عسكر الأمير عماد الدين أتابك فتسلمه من القلعة ، واعتقل واستؤذن في أمره ، فأذن في سمل عينيه ، فسملتا.

سنة إثنتين وعشرين وخمسمائة

في هذه السنة اشتد المرض بظهير الدين أتابك ، وطال به طولا أنهك قوته ، وأنحل جسمه ، وأضعف منته ، وأشفى منه على نزول ما لا يدفع بحيلة ، ولا يمنع بقوة ، فأحضر ولده الأمير تاج الملوك ، وأمراء دولته وخواصه ، وأهل ثقته ، وأعيان عسكريته ، وأعلمهم بأنه قد أحس من نفسه بانقطاع الأجل ، وفراغ المهل ، وخيبة الرجاء من البقاء والأمل ، «ولم يبق غير الوصية بما يعمل عليه ، ويدبر به الأمر بعدي ، وينتهي إليه ، وهذا ولدي تاج الملوك بوري ، هو أكبر ولدي والمترشح للانتصاب مكاني من بعدي ، والمأمول لسد ثلمة فقدي ، ولا أشك في (١١٩ ظ) سداد طريقته وإيثاره لفعل الخير ومحبته ، وأن يكون مقتفيا لآثاري في حفظ قلوب الأمراء والعسكرية ، وعاملا على مثالي في إنصاف الأعيان والرعية ، فان قبل وصيتي

٣٤٧

هذه ، ونهج السبيل المرضية في بسط المعدلة والنصفة ، في الكافة ، وأزال بحسن سياسته عنهم أسباب الوجل والمخافة ، فذاك الظن في مثله ، والمرجو من سداده ، وجميل فعله ، وإن عدل عن ذلك إلى غيره ، وحاد عن ما يؤثر من السداد في سره وجهره ، فها هو مشاهد لهذه الحال ، ومتوقع لمثل هذا المآل» ، فقال : بل أوفي على المراد ، ولا أتعدى سبيل السداد والرشاد ، فوكد الأمر عليه في ذلك تأكيدا ، فهمه منه وقبله عنه.

ثم توفي الى رحمة الله ، ضحى نهار السبت لثمان خلون من صفر من السنة ، فأبكى العيون ، وانكأ القلوب ، وفتّ في الأعضاد ، وفتت الأكباد ، واشتد الأسف لفقده ، والجزع عليه ، ولم يسمع إلا متفجع له ، وذاكر لجميل أفعاله ، وشاكر لأيامه.

وقام ولده تاج الملوك بوري بالأمر من بعده ، وأحسن السيرة في خاصه ورعيته وجنده ، فلو كانت مجاري الأقدار تدفع إليه عن ذوي المناصب والأخطار ، لكان هذا الأمير السعيد الفقيد أحق من تخطأته المنايا ، ولم تلم بساحته الرزايا ، وأبقته الأيام لها رتبة تتباهى بها ، وحلية تنافس بها ، إلا أن الله تعالى لا يغالب أمره ، ولا يدافع حكمه ، ولا بد من تمام ما سبق به علمه ، وحدوث ما تقرر نفاذه في خلقه ، لأن الموت غاية الحيوان ، ونهاية ما يكون من مصير الانسان ، وقد كان هذا الأمير السعيد قد بالغ في استعمال العدل ، والكف عن الظلم ، وأعاد على جماعة من الرعية أملاكا في ظاهر البلد جمة داثرة ، اغتصبت منهم في زمن الولاة الظالمة ، وقبضت عنهم في زمن العتاة الجبابرة ، وجرت عليهما أحكام المقاسمة وعتت الايدي العادية الغاشمة ، فأعادها إلى خراجها القديم المستقر ، ورسمها السالف المستمر ، ورفع عنها مواد الجور والعدوان ، وحسم عن مالكيها أسباب التأول في كل مكان وأوان ، فأحرز بذاك صالح الدعاء ، وجميل الشكر والثناء.

٣٤٨

ثم رفع إلى أمير المؤمنين الخليفة المسترشد بالله ، رقعة عند مصيره الى بغداد ، (١٢٠ و) ومهاجرته الى الباب الإمامي المسترشدي ، والسلطاني الغياثي ، يذكر فيها حال مواضع داثرة في عمل دمشق ، وحصص عامرة ، وأرض معطّلة لا مالك لها ولا فائدة في عطلتها ، ولا انتفاع لخاصي ولا عامي بشيء منها ، لدثورها ودروس معالمها ورسومها ، واستأذنه في بيعها ممن رغب فيها ، ويؤثر عمارتها للانتفاع بريعها وغلتها ، وصرف ما يحصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد ، فأذن له في ذلك أذنا تاما ، مؤكدا إباحه له ، وأمضاه لمن يملكه بالابتياع منه ، وأحله وأطلقه ، ووقع بذاك على ظهر الرقعة بالإمضاء ، وإبطال التأول فيه ، والتحذر من إبطال شيء من حكمه ، أو التجاوز لرسمه ، ووكد بالعلامة الشريفة الإمامية المسترشدية بخطه الكريم ، ووكل في بيع ذلك من ارتضاه من ثقات الأمناء ، الوكالة الصحيحة التي قبلها منه ، وتقلدها عنه وأشهد عليه الشهود المعدلين ، وأمضى البيع في ذلك لمن رغب فيه ، فعمرت عدة ضياع يبابا خالية ، وعلى عروشها خاوية ، وأرض عافية لا انتفاع بها ولا فائدة لأحد فيها ، فأجريت عيون مياهها ، وأعيدت الى أجمل عاداتها ، وظهرت منها الخيرات ، وعمت بذلك الميامن والبركات ، ودامت له الدولة ، ولمن بعده ببركات هذه الأفعال الحميدة ، والنية الجميلة ، وحسنت لهم العقبى في الولد والأسرة ، والأهل والجملة وحصل له الذكر الجميل في الآفاق والأقطار والأمصار ، والثناء الطيب الحسن الآثار ، ومضى لشأنه سعيدا عزيزا حميدا ، على ظهر فراشه لا يرد له أمر ، ولا يخالف له قول ولا يتجاوز له حكم ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١).

* * *

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الحديد : ٢١.

٣٤٩

ذكر تاج الملوك بوري بن أتابك عند توليه الأمر بعد أبيه ظهير الدين أتابك

وأخباره وما جرى في أيامه من نوبة الباطنية والأحداث المتجددة

وما جرى مع الأفرنج الى أن مضى سبيله

شرح ذلك

لما نفذ القضاء في ظهير الدين أتابك رحمه‌الله ، قام ولده الأمير تاج الملوك (١٢٠ ظ) بالأمر من بعده ، إذ كان نجله وولي عهده ، فعمل بما كان ألقاه إليه ، واعتمد على ما وكده في وصيته عليه ، من حسن السيرة في جميع من حوته دمشق من الأجناد والعسكرية ، وكافة الأتباع والرعية ، وزاد على ذلك ، وبالغ في الذب عنهم والمراماة دونهم ، وجرى على منهاج أبيه في بسط المعدلة ، واعتماد النصفة للأجناد ، وثقل الوطأة على الأعداء والأضداد ، وإنصاف المتظلمين ، وردع الظالمين ، وحماية السفار والمترددين ، والتبليغ بالنكاية للمفسدين ، بحيث اجتمعت القلوب على حب دولته ، وانطلقت الألسن بالدعاء الصالح بإدامة أيامه ، وإطالة مدته ، وأقر وزير أبيه أبا علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته ، وأجراه على رسمه في سفارته ، ولم يصرف أحدا من نوابه المعروفين بخدمته عن رسمه وعادته ، ولا أزاله عن معيشته ، بل زاد في أرزاقهم ، وخلع عليهم ، وأحسن إليهم ، وأقر الاقطاعات على أربابها ، والجامكيات على أصحابها ، فكثر الدعاء له والثناء عليه ، وأحسن إلى وزيره المقدم ذكره ، وأطلق له عشر ارتفاعه ، مع حقوق العرض عن الاقطاعات والواجبات والنفقات ، وقد كان أسر في نفسه من أمر الباطنية ، ما لم يبده لأحد من خواصه ، وثقات بطانته ، عندما قويت شوكتهم ، وتضاعفت مضرتهم ، إتباعا لما كان عليه أبوه من إظهار الرعاية لهم ، والمداراة لدفع شرهم ، فلما مكنه الله منهم ، وأقدره عليهم ، افتتح أمره بالتدبير عليهم ، والايقاع بهم ، فكان منه في أمرهم ما سيأتي مشروحا في مكانه.

٣٥٠

ذكر ما حدث من الباطنية بدمشق وأعمالها وما آلت إليه أحوالهم

من البوار وتعفية الآثار في بقية سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

شرح الأمر والسبب في ذلك

قد تقدم من ذكر بهرام ، داعي الباطنية ، والسبب الذي أوجب تسليم ثغر بانياس إليه ما فيه الكفاية ، عن تكرير الذكر له ، ولما حصل في بانياس شرع في تحصينها ، وترميم ما استرم وتشعث منها ، وبث دعاته في سائر الجهات ، فاستغووا خلقا كثيرا من جهال الأعمال ، وسفساف الفلاحين من الضياع ، وغوغاء الرعاع ممن لا (١٢١ و) لب له يصده عن الفساد ويردعه ، ولا تقيه تصدفه عن المنكر وتمنعه ، فقوي شرهم ، وظهر بقبح الاعتقاد سرهم ، وامتدت أيديهم وألسنتهم إلى الاخيار من الرعية بالثلب والسب ، وإلى المنفردين في المسالك بالطمع والسلب ، وأخذهم قسرا ، وتناولهم بالمكروه قهرا ، وقتل من يقتل من الناس تعديا وظلما ، وأعانهم على الايغال في هذا الضلال أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني الوزير ، معونة بالغ فيها ، وحصل له وخيم عاقبتها وذميم مغبتها ، لما تقرر بينه وبين بهرام الداعي المقدم ، من المؤازرة والمعاضدة والمظافرة والمرافدة ، موافقة في غير ذات الله ، ولا طاعته ، طلبا لأن تكون الأيدي واحدة على من يقصدهما بمكروه ، والنيات مترادفة على من ينوي لهم شرا ، وتاج الملوك غير راض بذاك ، ولا مؤثر له ، بل تبعثه السياسة السديدة ، والحلم الوافر ، والمعرفة الثاقبة على الاغضاء منهم على القذى ، والصبر على مؤلم الأذى ، وهو يسر في نفسه ما لم يظهره ويطوي من أمرهم ما لم ينشره الى حين يجد الفرصة مستهلة المرام ، والمكنة من أعداء الله بادية

٣٥١

الأعلام ، فعند ذاك تنتهز الفرصة ، وتقتنص الفريسة ، واتفق أن بهرام الداعي ، لما يريد الله تعالى من بواره ، ويحل به من هلكه ودماره ، حدثته نفسه بقتل برق بن جندل أحد مقدمي وادي التيم ، لغير سبب حمله عليه ، ولا جناية دعته إليه بل اغترار بعاقبة الظالمين ، في سفك الدماء المحرمة ، وافاظة النفوس المحظورة ، وجهلا بما حذر الله تعالى من يقصد ذاك ، ويقدم عليه بقوله عزوجل : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (١)) ، فخدعه الى أن حصل في يده ، فاعتقله وقتله صبرا ، فتألم لقتل مثله ، على هذه ، مع حداثة سنه وشهامته وحسن صورته ، وأعلنوا بلعن قاتله في المحافل والمشاهد ، وذمه من كل غائب ومشاهد ، فحملت أخاه الضحاك بن جندل ، وجماعته وأسرته الحمية الاسلامية ، والحرقة الأهلية على الطلب بدمه ، والأخذ بثأره ، فتجمعوا وتعاهدوا ، وتحالفوا على المصابرة على لقاء أعدائهم ، والايغال في الطلب لدمائهم ، وبذل المهج والنفوس (١٢١ ظ) في إدراك ثأرهم ، وشرعوا في التأهب لهذه الحال صابرين ، وللفرصة متوقعين الى أن ساق بهرام ولفيفه الحين المتاح ، وقضى الله عليهم بالاصطلام والاجتياح ، فتجمعوا من كل ناحية ، وتهافتوا من كل صوب وجهة ، وظهريهم من بانياس في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة وقصد ناحية وادي التيم ، للايقاع بالمذكورين ، وكانوا مستعدين للقائه ، مترقبين لحربه ، فلما أحسوا بقربه منهم ، نهضوا بأجمعهم إليه نهوض الليوث من غابها للمحاماة على أشبالها ، وطاروا نحوهم مطار صقور الجبال إلى يعاقيبها وأحجالها ، فحين دنوا من حزبه المفلول وحشده المخذول ، هجموا عليهم وهم في مخيمهم غارون ، وبهم مغترون ، وصاح صائحهم ، وهم غافلون ، وبما نزل بهم من البلاء ذاهلون ، والى أن يتمكن فارسهم من امتطاء جواده ، وراجلهم من تناول عدته وعتاده ،

__________________

(١) القرآن الكريم ـ النساء : ٩٣.

٣٥٢

أتى القتل على أكثرهم ضربا بالسيوف ووجيا بخناجر الحتوف ، ورشقا بسهام البلاء ، ورجما بأحجار الأقدار والقضاء.

وكان بهرام في خيمته ، وحوله جماعة من شركائه في جهله وضلالته ، غافلا عما أحاط به وبطائفته ، وقد وثبوا عند سماع الضوضاء ، والصياح الى أخذ آلة السلاح ، فأرهقوهم بسيوفهم الماضية ، وخناجرهم المبيرة القاضية ، حتى أتوا على الجميع ، وقطع رأس بهرام ويده بعد تقطيعه بالسيوف والسكاكين ، وأخذهما واحد مع خاتمه من الرجال القاتلين ، ومضى بهما الى مصر مبشرا بهلاكه ، ومهنئا ببواره ، فخلع عليه وأحسن إليه ، وشاعت بذلك الأخبار ، وعم الكافة الجذل بملكهم ، والاستبشار ، وأخذ الناس من السرور بهذا الفتح بأوفر السهام ، وأكمل الأقسام ، فقلت عدتهم ، وانقصفت شوكتهم ، وانفلّت شكّتهم.

وقام بعد بهرام صاحبه اسماعيل العجمي رفيقه في الضلال والعدوان ، وشريكه في المحال والطغيان ، مقامه ، وأخذ في الاستغواء للسفساف مثاله ، وزاد في الجهل زيادة أظهرت سخف عقله ومحاله ، وتجمع إليه بقايا الطائفة الخبيثة من النواحي والأصقاع ، ومن كان منهم متفرقا في النواحي والبقاع وجرى أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني الوزير على الحال التي سلكها مع بهرام في حق اسماعيل ، في المساعدة على مراده (١٢٢) والمعاضدة على أغراضه ، لتحرزه من الشر ، ورغبته في السلامة ، ولم يعلم أن عقبى هذه الأفعال عين الندامة ، والبعد عن طريق السلامة ، فقد قيل «رب مستسلم نجت به سلامته ، ومتحرز من الشر كانت فيه آفته» ولم تزل شكوى الناس من الخاصة والعامة ، تتضاعف ، والأضرار بهم من المخذولين تتوالى وتترادف الى أن صرف تاج الملوك بن ظهير الدين أتابك الى الفتك بهم ، والاجتياح لهم همته ، وأرهف لتطهير الأعمال منهم عزيمته ، ورأى أن إصلاح الأمر فيما

٣٥٣

يقتضيه التدبير ، فيما يراد ، والتقرير الايقاع بأبي علي الوزير أولا فإنه أصوب ما اعتمد ، وأولى ما قصد ، فرتب لقتله من خواصه من اعتمد عليه ، وسكن في أمره إليه ، وقرر معه أن يضرب رأسه بالسيف متى أشار إليه ، فلما كان يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة حضر مع جماعة الأمراء والمقدمين على الرسم ، في قبة الورد من دار القلعة بدمشق ، وجرى في المجلس أمور ومخاطبات مع تاج الملوك والحضور ، انتهى الأمر فيها الى الانصراف الى منازلهم ، والعود الى دورهم ، ونهض الوزير المذكور منصرفا بعدهم على رسمه ، فأشار تاج الملوك الى خصمه فضرب رأسه بالسيف ضربات أتت عليه ، وقطع رأسه ، وحمل مع جثته الى رمادة باب الحديد ، فألقيت عليها ينظر الكافة الى صنع الله تعالى بمن مكر ، واتخذ معينا سواه ، وبغيره انتصر ، وأحرقت جثته بعد أيام بالنار ، وصار رمادا تذروه الرياح ، ذلك بما قدمت يداه ، وما الله بظلام للعبيد (١).

__________________

(١) جاء في مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٢٣ ـ : «وفيها كانت فتنة الاسماعيلية بدمشق ، وكان ابن محرز قد سلم إليهم حصن القدموس لأن بوري قصده ليأخذه منه ، فسلمه إليهم ، وكان الوزير المزدقاني بدمشق يكاتبهم ويهاديهم خوفا من بني الصوفي ، فشرع وجيه الدين المفرج بن الصوفي رئيس دمشق مع بوري في الاغراء بالاسماعيلية ، وهون عليه أمرهم ، وساعده الحاجب ابن فيروز ، ثم اتفقوا على قتل الوزير المزدقاني ، فاستدعاه بوري الى القلعة سابع رمضان ، فجلس عنده ، فلما قام ليخرج ، وثبت عليه جماعة من الأجناد ، فقتلوه في دهليز قلعة دمشق ، وقطعوا رأسه وأحرقوا جسده في باب الحديد ، ثم مضوا الى دار الدعوى ، وقتلوا كل من بها ، وثار عوام دمشق على الاسماعيلية ، فقتلوهم شر قتلة ، ذبحا بالسيوف ورميا بالحجارة ، وصلبوا منهم جماعة على سور دمشق ، فكان عدة من قتل منهم عشرة آلاف على ما قيل ، ولم يتعرضوا لحريمهم ولا لأموالهم ... وكان ـ طاهر بن سعد أبو علي الوزير المزدقاني ـ سمحا جوادا ، بنى المسجد على الشرف الشمالي دمشق ، عند تربة ست الشام ، ويسمى مسجد الوزير ، وفيه القراء وعليه الوقف ، وكان قد عاداه وجيه الدولة ابن الصوفي ، فانتمى الى الاسماعلية خوفا منه».

٣٥٤

وشاع الخبر بذاك في الحال ، فثارت الأحداث بدمشق ، والغوغاء والأوباش بالسيوف والخناجر المجردة ، فقتلوا من ظفروا به من الباطنية وأسبابهم ، وكل ما متعلق بهم ، ومنتم إليهم ، وتتبعوهم في أماكنهم ، واستخرجوهم من مكامنهم ، وأفنوهم جميعا تقطيعا بالسيوف ، وذبحا بالخناجر ، وجعلوا مصرعين على المزابل كالجيف الملقاة ، والميتة المجتواة ، وقبض منهم نفر كثير التجأوا الى جهات يحتمون بها ، وأملوا السلامة بالشفاعة منها قهرا ، وأريقت دماؤهم هدرا وأصبحت النواحي والشوارع منهم خالية ، والكلاب على أشلائهم وجيفهم متهاوشة عاوية ان في (١٢٢ ظ) ذلك لآية لأولي الألباب.

وكان قد أخذ في الجملة المعروف بشاذي الخادم ، تربية أبي طاهر الصائغ الباطني ، الذي كان بحلب ، وهذا اللعين الخادم كان أصل البلاء والشر ، فعوقب شر عقوبة ، شفت قلوب كثير من المؤمنين ، وصلب ومعه نفر منهم على شرفات سور دمشق ، ليشاهد فعل الله بالظالمين ونكاله بالكافرين ، وكان الحاجب يوسف بن فيروز شحنة البلد ، ورئيسه الوجيه ثقة الملك أبو الذواد مفرج بن الحسن الصوفي ، قد بالغا في التحريض على هلاك هذه الطائفة الخبيثة ، فأخذا في التحرز والاحتياط من اغتيال من يندب إليهما من باطنية ألموت (١) مقر الباطنية ، بلبس الحديد والاستكثار من الحظفة حولهما ، بالسلاح الوافر العتيد ، فحصل الشقاء لمن أساء وكفر ، والسعادة لمن أحسن واعتبر.

وأما اسماعيل الداعي المقيم ببانياس ، ومن معه فإنهم لما سمعوا ما حدث من هذه الكائنة سقط في أيديهم ، وانخذلوا وذلوا ، وأقبل بعضهم على بعض

__________________

(١) مقر قيادة الدعوة الاسماعيلية الجديدة في الشرق ـ انظر الدعوة الاسماعيلية الجديدة : ٥٧ ـ ٥٩.

٣٥٥

يتلاومون ، وتفرق شملهم في البلاد وعلم إسماعيل أن البلاء محيط به إن أقام ببانياس ، ولم يكن له صبر على الثبات ، فأنفذ الى الأفرنج يبذل لهم تسليم بانياس إليهم ، ليأمن بهم ، فسلمها إليهم ، وحصل هو وجماعته في أيديهم ، فتسللوا من بانياس إلى الأعمال الأفرنجية على غاية من الذلة ، ونهاية من القلة ، وعرض لإسماعيل علة الذرب ، فهلك بها ، وقبر في بانياس في أوائل سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، فخلت منهم تلك الناحية ، وتطهرت من رجسهم.

وفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ورد الخبر من بغداد بوفاة الوزير جلال الدين أبي علي الحسن بن علي بن صدقة ، وزير الخليفة رحمه‌الله ، في جمادى الآخرة منها ، وكان حسن السيرة ، محمود الطريقة ، كاتبا فاضلا ، بليغا محبوبا من الخاصة والعامة ، سديد الرأي ، حميد التدبير ، صادق العزم ، صافي الحس ، كريم النفس ، فكثر الأسف عليه ، والتوجع لفقده ، واستوزر بعده نقيب النقباء شرف الدين أبو القاسم علي بن طراد الزينبي ، في جمادى الأولى منها ، وهو من جلالة القدر ، وشرف الأصل ، ونباهة الذكر ، والمنزلة المشهورة ، والرتبة المعروفة ، والمكان المشتهر.

وفي جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ، توفيت الخاتون ، شرف النساء ، والدة تاج الملوك رضي‌الله‌عنها (١٢٣ و) وقبرت في قبتها المبنية برسمها ، خارج باب الفراديس.

سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

قد مضى ذكر نوبة الباطنية وغيرهم ، لما اقتضى سوق الكلام فيه في سنة اثنتين وثلاث ، ولما انتهى إلى الأفرنج خبر الكائنة في الباطنية ، وانتقال بانياس عنهم ، إليهم ، أحدث ذلك لهم طمعا في دمشق وأعمالها ، وأكثروا الحديث في قصدها ، وبثوا رسلهم إلى الأعمال في جمع الرجال والاحتشاد ،

٣٥٦

فاجتمع إليهم سائر من حوته بلادهم ، من : الرّها ، وأنطاكية ، وطرابلس ، والساحل ، ووصلهم في البحر ملك كند ، هو الذي (١) قام مقام بغدوين الهالك في الأفرنج ، ومعه خلق كثير ، فاجتمعوا ونزلوا على بانياس ، وخيموا عليها ، وشرعوا في تحصيل المير والأزواد للإقامة ، وتواترت الحكايات عنهم ، ممن شاهدهم وأحصى عددهم ، أنهم يزيدون على ستين ألفا فارسا وراجلا ، وأكثرهم الرجالة.

فلما عرف تاج الملوك ذلك من عزمهم ، تأهب لهذا الأمر وصرف همه إلى الاستكثار من العدد والسلاح ، وآلة الحرب ، وما يحتاج إليه من الآلات التي يحتاج إليها لتذليل كل صعب ، وكاتب أمراء التركمان على أيدي رسله المندوبين إليهم بالاستنجاد والاستغاثة بهم ، وبذل من المال والغلال ما بعثهم على المبادرة الى إجابة ندائه ، والسرعة الى دعائه ، ووصل إليه من طوائفهم المختلفة الأجناس ، كل ذي بسالة ، وشدة مراس ، راغبين في أداء فريضة الجهاد ، ومسارعين إلى الكفرة الأضداد ، وأطلق ما يحتاجون إليه لقوتهم ، وقضيم خيولهم.

ورحل الملاعين عن بانياس طالبين دمشق ، على أناة وترتيب ، ونزلوا على جسر الخشب والميدان المعروف المجاور له في (٢) .. من ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ، وخيموا هناك وأصبح العسكر ، خرج من دمشق وانضم إليه التركمان من منازلهم حول البلد ، والأمير مرة بن ربيعة في العرب

__________________

(١) هو فولك صاحب أنجو ، زوج ميليسند أكبر بنات بلدوين الثاني. انظر تاريخ وليم الصوري : ٢ / ٤٧ ـ ٥١.

(٢) فراغ بالأصل ، ويبدو أن ذلك حصل في أواخر ذي القعدة حيث جاء في الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٢٩ : «ووصل الفرنج في ذي الحجة فنازلوا البلد ، وأرسلوا الى أعمال دمشق لجمع الميرة والاغارة على البلاد».

٣٥٧

الواصلين معه ، وتفرقوا كراديس في عدة جهات ، ووقفوا بإزائهم لتخرج منهم فرقة فيسارعوا إليها ، ويزحفوا فيبادروا إلى لقائهم ، فلم يخرج منهم فارس ، ولا ظهر راجل ، بل ضموا أطرافهم ، ولزموا مخيمهم وأقام الناس على هذه الصورة أياما (١٢٣ ظ) يتوقعون زحفهم الى البلد ، فلا يشاهد منهم إلا تجمعهم وإطافتهم حول مخيمهم ، وبريق بيضهم وسلاحهم ، وكشف خبرهم وما الذي أوجب تأخرهم عن الزحف وتلومهم ، فقيل إنهم قد جردوا أبطال خيلهم وشجعان رجالهم للمصير مع البغال إلى حوران ، لجمع المير والغلال ، التي يستعان بمثلها على الإقامة والنزال ، وأنهم لا حركة لهم ، ولا قوة بهم ، إلى عودة المذكورين.

فلما عرف تاج الملوك هذه الحال ، بادر بتجريد الأبطال من الأتراك الدمشقيين ، والتركمان الواصلين ، والعرب القادمين مع الأمير مرة ، وأضاف إليهم الأمير سيف الدولة سوار في عسكر حماة ، وقرر معهم نهوضهم آخر يومهم ، والجد في السير عامة الليل ، ووصولهم عند الصباح إلى ناحية براق (١) ، لأن تقدير وصول الملاعين عند عودهم من حوران إلى ذلك المكان ، فسارعوا إلى العمل بما مثل لهم ، وأصبحوا في ذلك المكان ، وهم على غاية من الكثرة والمنعة ، ومعهم سواد عسكرهم بأسره ، في عدد لا يحصى كثرة ، فهجموا عليهم فلم يتكامل ركوبهم إلا وقد قتل منهم جماعة بالنشّاب ، وضربوا مصافا ، ووقفوا قطعة واحدة ، وحمل عليهم المسلمون ، فثبتوا ،

__________________

(١) ذكر ياقوت أكثر من موقع يحمل هذا الاسم واكتفى عند أحدها بقوله : موضع بالشام ، وبناء على معطيات المصادر العربية مع وليم الصوري ، فان موقع براق هو في حوران ، بعد منطقة مرج الصفر حيث كان معسكر الفرنجة وفي منطقة ازرع التابعة لمحافظة درعا قرية ما تزال تحمل اسم براق ، من المرجح أنها المقصودة ، وتبعد براق هذه عن درعا مسافة / ١١٢ كم / وعن ازرع / ٨٢ كم / وعن مركز ناحية المسمية / ٢٠ كم /. انظر التقسيمات الادارية في الجمهورية العربية السورية. ط دمشق : ١٩٦٨ ، ص : ٥٠.

٣٥٨

ولم يزل عسكر الاسلام يكر عليهم ويفتك بهم ، إلى أن فشلوا وانخذلوا ، وأيقنوا بالبوار ، وحلول الدمار ، وولى كليام (١) دبور مقدمهم وشجاعهم في فريق من الخيالة منهزمين ، وحمل الأتراك والعرب حملة هائلة ، وأحدقوا بهم ضربا بالسيوف ، وطعنا بالرماح ورشقا بالسهام ، فما كان إلا بعض النهار ، حتى صاروا على وجه الأرض مصرعين ، وبين أرجل الخيل معفرين ، وغنموا منهم الغنيمة التي امتلأت أيديهم بها ، من : الكراع ، والسلاح ، والأسرى ، والغلمان ، وأنواع البغال ، وهو شيء لا يحصر فيذكر ، ولا يحد فيعد ، ولم يسلم منهم إلى معسكرهم إلا القليل من الخيالة ، الذين نجت بهم سوابقهم المضمرة ، وعاد الأتراك والعرب الى دمشق ظافرين غانمين منصورين مسرورين ، آخر نهار ذلك اليوم المذكور ، فابتهج الناس بهذا اليوم السعيد ، والنصر الحميد ، وقويت به النفوس ، وانشرحت به الصدور ، وعزم العسكر على مباكرتهم بالزحف الى مخيمهم ، عند تكامل وصوله (١٢٤ و) وتسرع إليهم جماعة من الخيل وافرة ، وهم ينظرون إلى كثرة النار ، وارتفاع الدخان ، وهم يظنون أنهم مقيمون ، فلما دنوا من المنزل صادفوهم ، وقد رحلوا آخر تلك الليلة ، عندما جاءهم الخبر ، وقد أحرقوا أثقالهم وآلاتهم ، وعددهم وسلاحهم ، إذ لم يبق لهم ظهر يحملون عليه ، عند ما عرفوه من حقيقة الأمر ، الذي لا يمكن معه المقام ، مع معرفتهم بكثرة عسكر الأتراك ، ولا طاقة لهم به ، ولم يتمالكوا أن رحلوا لا يلوون على منقطع ، ولا يقفون على مقصر ، وخرجوا إلى منزلهم فغنموا منه الشيء الكثير من أثاثهم وزادهم ، وصادفوا

__________________

(١) هوWilliam de Bury ، كان يمتلك موقعا على مقربة من صور ، قاد حسب وليم الصوري : ٤٠ ـ ٤٢ ، أكثر من ألف من الفرسان انطلق بهم من مرج الصفر حيث كان معسكر الفرنجة ، وقد وصف وليم مقتل هؤلاء الفرسان ثم هزيمة جيوش الفرنجة وأحوال المناخ السيء آنذاك ، ومع هذا تبقى معلومات ابن القلانسي أكثر دقة وأوفى بالتفاصيل.

٣٥٩

جماعة من الجرحى في الوقعة ، قد هلكوا مع وصولهم ، ودفنوا في أماكنهم ، وخيولهم مصرعة من الجراح والكد ، ولحق أواخرهم العسكر ، فقتلوا جماعة من المنقطعين ، وأغذوا سيرهم في هزيمتهم خوفا من لحاق المسلمين لهم ، وأمن الناس وخرجوا إلى ضياعهم ، وانتشروا في أماكنهم ومعايشهم ، وانفرجت عنهم الكربة ، وانكشفت الغمة ، وجاءهم من لطف الله تعالى وجميل صنعه ما لم يكن في حساب ، ولا خطر في بال ، فلله الحمد والشكر على هذه النعمة السابغة ، والموهبة الكاملة ، حمدا يستديم جزيل نعمه ، ويستمد المزيد من منائحه وقسمه.

وعاد التركمان إلى أماكنهم بالغنائم الوافرة ، والخلع الفاخرة ، وتفرق جمع الكفرة الى معاقلهم ، على أقبح صفة من المذلة ، وعدم الكراع ، وذهاب الأثقال ، وفقد أبطال الرجال ، وسكنت القلوب بعد الوجل ، وأمنت بعد الخوف والوهل ، وأيقنت النفوس بأن الكفرة لا يكاد يجتمع لهم بعد هذه الكائنة شمل ، بعد فناء أبطالهم ، واجتياح رجالهم ، وذهاب أثقالهم.

سنة أربع وعشرين وخمسمائة

في المحرم أول هذه السنة ، توفي الشيخ الأمين ، جمال الأمناء ، أبو محمد هبة الله بن أحمد الاكفاني ، رحمه‌الله ، وكان موصوفا بالكفاية ، والأمانة معروفا بالصيانة والديانة ، ولم يقم من الشهود بعده مثله ، في الذكاء والأمانة والغناء.

لما خلا ديوان الوزارة بدمشق ، بعد قتل أبي طاهر المزدقاني الوزير من عارف ينظم حساباته ، ويسدد أمور معاملاته ، وارتاد تاج الملوك كافيا يرد الأمر في ذلك (١٢٤ و) إليه ، ويعتمد فيه عليه ، ويسكن إلى نهضته في تهذيب أحواله ، وترتيب أعماله ، وحفظ أبواب ماله ، فلم يتسهل له بلوغ المقصود ، ولا تيسر لارتياده نيل الغرض المنشود ، فوقع تعويله على الرئيس الوجيه

٣٦٠