تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

ثقة الملك أبي الذواد المفرج بن الحسن الصوفي ، رئيس دمشق ، فرد الأمر في ذلك إليه ، وقلده منصب الوزارة ، واعتمد فيه عليه ، ووجده أكفى من وقعت إليه الاشارة من كتابه ومتصرفيه ، وإن كان ضعيف الصناعة في الكتابة ، خفيف البضاعة من البلاغة ، فإن رأيه سديد ، ومذهبه في التنزه والأمانة حميد ، وله معرفة بسياسة المعاملين في المعاملات ، ويد في الحل ، والضبط في استدعاء الحسبانات ، وحفظ الاخراجات ، ولم يجد له محيدا عنه ، ولا بدلا منه ، فقلده هذا المنصب ، واثقا بحسن سفارته ، ومرضي مؤازرته ، وخلع عليه ، وزاد في إحسانه إليه ، وأجلسه مجلسه من الديوان ، بمحضر من الأمراء والأماثل والأعيان ، وأمر بكتب المنشور بإحسان أوصافه ، والتحذير من تجاوز أمره وخلافه ، ولقبه محي الدين ، تأكيدا لأمره ، ورفعا لقدره ، فأحسن السياسة ، وسدد أحوال الرئاسة ، واستعمل العدل في أعماله والإنصاف لمعاملته ، وعماله ، ونظر في الأعمال ، واعتمد على الكفاة الثقات من العمال ، وجرت الأحوال في ذلك على السداد ، واطردت على الإستقامة أحسن اطراد.

(و) في هذه السنة ورد الخبر بوصول الأمير عماد الدين أتابك زنكي ابن أق سنقر ، صاحب الموصل إلى حلب في عسكره ، عازما على الجهاد ، وأرسل تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك ، يلتمس منه المعونة ، والإسعاد على محاربة الأفرنج الأضداد ، وترددت الرسل بينهما في ذلك إلى أن أجاب إلى المراد ، وأنفذ إليه من استحلفه على المصافاة والوداد ، وتوثق منه على الوفاء وجميل الاعتقاد ، وأكد الأمر في هذه الحالة تأكيدا ، سكن إليه ووثق به ، واعتمد عليه ، وبادر بتجريد وجوه عسكره في خمسمائة فارس ، وكتب إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة يأمره بالخروج في عسكره ، والاختلاط بالعسكر الدمشقي ، ومقدمه الأمير شمس الأمراء الخواص ، وعدة من الأمراء والمقدمين (١٢٥ و) ، فامتثل الأمر ، وخرج من حماة في رجاله وتجمله ،

٣٦١

وتوجهوا جميعا إلى مخيم عماد الدين أتابك ، فأحسن لقاءهم ، وبالغ في الإكرام لهم ، وأغفلهم أياما ، وعمل عليهم ، وغدر بهم وقبض على سونج ولد تاج الملوك ، وعلى جماعة المقدمين ، ونهب خيامهم وأثقالهم ، وكراعهم ، فهرب منهم من هرب ، واعتقل الباقين ، وحملهم الى حلب وأمر بحفظهم فيها.

وزحف من يومه إلى حماة ، وهي خالية من الرجال الحماة ، فملكها واستولى على ما فيها ، ورحل عنها الى حمص ، وكان صاحبها خيرخان بن فراجة معه ، بعسكره ، ومناصح في خدمته ، وعامل بطاعته ، وكان المعين له ، والمحرض على الغدر بسونج ، وقبضه ، فحين نزل عليها غدر بخيرخان صاحبها واعتقله ، ونهب خيامه وأثقاله ، وتوثق منه ، وطلب تسليم حمص إليه ، فراسل نوابه فيها ، وولده بذاك ، فلم يلتفتوا إلى مقاله ، ولا وقعت منهم إجابة الى سؤاله ، فأقام عليهم مدة طويلة ، يبالغ في المحاربة لأهلها ، والمضايقة لها ، فلم يتهيأ له فيها مطلب ، ولا تيسر مأرب ، فرحل عنها الى الموصل ، واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ، والمقدمين من عسكر دمشق ، وأقر الباقين في حلب ، وترددت المراسلات في اطلاق المعتقلين ، فلم يفعل ، والتمس عنهم خمسين ألف دينار ، أجاب تاج الملوك إلى تحصيلها ، والقيام بها.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر ، بقتل الآمر بأحكام الله صاحبها ، في آخرها ، تدبيرا دبر له ، وعمل فيه عليه ، لأمور منكرة ارتكبها ، وأحوال قبيحة اعتمدها ، ودعت إلى قتله ، وأوجبت الفتك به ، لأنه بالغ في ظلم الرعية ، وأخذ أموالهم ، واغتصاب أملاكهم ، وسفك الدماء ، وأساء السيرة ، وارتكب المحذورات ، واستحسن القبائح من المحظورات ، فابتهج الخاص والعام بالحادث فيه ، والراحة منه في يوم الثلاثاء الثاني من ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، وعمره أربع وثلاثون سنة ، ومولده بالقاهرة سنة تسعين وأربعمائة ، وأيام دولته أربع وعشرون سنة ، ونقش خاتمه «الإمام

٣٦٢

الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين (١)» ، وقام بعده ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ، وأخذت له البيعة على الرسم (١٢٥ ظ) فيها ، ونعت بالحافظ لدين الله ، أمير المؤمنين ، فاستقام له الأمر ، واستنتب برأيه التدبير (٢) وقلد الأمر أبا علي ، أحمد بن الأفضل أمير الجيوش ، وزارة الدولة ، وتدبير المملكة ، فساس الكافة أعدل سياسة ، ودبر الأعمال أجمل تدبير ، وجرى على منهاج أبيه الأفضل ، رحمه‌الله ، في حب العدل وايثاره ، واجتواء (٣) الجور وإخماد ناره ، وأعاد على التنّاء والتجار ما اغتصب من أموالهم ، وقبض من أملاكهم ، وأمن البر التقي ، وأخاف المفسد الشقي ، وبالغ في ذلك مبالغة أحرز بها شكر القريب والبعيد ، وحاز بها أجر الموفق السعيد.

ولم يزل على المذهب الحميد مواظبا ، ولهذا المنهاج السديد مداوما الى أن نجم له من مقدمي الدولة ، حسدة حسدوه على ما ألهمه الله من أفعال الخيرات ، واقتناء الصالحات ، تجمعوا على افساد أحواله ، ولفقوا المحال في الطعن في أعماله ، وسعوا في العمل بأنواع من الكذب جمعوها ، وألفاظ من الباطل نمقوها ، وقرر ذلك مع العسكرية دون الأعيان ، والأماثل من

__________________

(١) وصف المقريزي بشكل أوفى عملية اغتيال الآمر ، واتهم بها جماعة الحشيشية ، وقد اختير عبد المجيد خليفة وليس اماما ، فقد كلف بكفالة الامام الحقيقي ابن الآمر وولي عهده ، ففي رواية أنه ولد للآمر قبل مقتله بأشهر غلام ذكر سماه «الطيب» وأعلنه وليا لعهده ، وفي رواية ثانية أنه قال : «قبل وفاته بأسبوع عن نفسه : المسكين المقتول بالسكين ، وأشار الى أن احدى جواريه «حامل منه ، وأنه رأى رؤيا تدل أنها ستلد ولدا ذكرا ، وهو الخليفة من بعده ، وأن كفالته للأمير عبد المجيد أبي الميمون ، فجلس المذكور كفيلا ونعت بالحافظ لدين الله». اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٢٨ ـ ١٣٧.

(٢) كذا ، وذكر المقريزي في اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٤٠ ، أن الوزير أحمد بن الأفضل «أحاط بالحافظ وسجنه في خزانة فيما بين الايوان وباب العيد».

(٣) اجتوى الشيء كرهه ـ النهاية لابن الأثير.

٣٦٣

الرعية ، وأغفل إلى أن وجدت الفرصة فيه مستهلة ، والغرة منه بادية ، وحصل في جانب من الميدان خاليا من العدة والعدة والأعوان ، والنجدة ، لا يشعر بما قد رتب له ، ودبر عليه ، فوثبوا عليه ، وقتلوه رحمه‌الله ، وانفرد به ، وأدركه أصحابه ، وقد قضى ، فقتلوا الجناة ، وحملوه إلى تربته فدفنوه بها (١).

سنة خمس وعشرين وخمسمائة

في هذه السنة انتهى الى تاج الملوك ، عن الرئيس المقلد أمر الوزارة محال غيّر قلبه عليه ، وقدح في منزلته ، وأفسد ما كان جميلا فيه من رأيه ، وأمر باعتقاله مع بعض أقاربه اعتقالا جميلا ، وعزله عن الوزارة والرئاسة ،

__________________

(١) دفن بتربة أمير الجيوش بدر الجمالي ، وكانت مدة تحكمه سنة وشهران وثلاثة عشر يوما ، عادى الاسماعيلية ، حيث كان اماميا ، أزال من الأذان «حي على خير العمل ، محمد وعلي خير البشر» وأسقط ذكر الحافظ من الخطبة ، واخترع لنفسه دعاء يدعى به على المنابر وهو : السيد الأجل الأفضل ، سيد ممالك أرباب الدول ، المحامي عن حوزة الدين ، وناشر جناح العدل على المسلمين ، الأقربين والأبعدين ، ناصر إمام الحق في حالي غيبته وحضوره ، والقائم في نصرته بماضي سيفه ، وصائب رأيه وتدبيره ، أمين الله على عباده وهادي القضاة الى اتباع شرع الحق واعتماده ، ومرشد دعاته المؤمنين الى واضح بيانه وارشاده ، مولي النعم ، رافع الجور عن الأمم ، مالك فضيلتي السيف والقلم ، أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل ، أبي القاسم شاهنشاه أمير الجيوش. تآمر عليه بعض الجند بقيادة أحد ضباط القصر واسمه يانس ، وقد خرج في أحد الأيام «ليعرق فرسا في الميدان في البستان الكبير ، خارج باب الفتوح من القاهرة ، وللعب بالكرة على عادته ، فجاء وهو هناك عشرة من صبيان الخاص الذين تحالفوا على قتله حتى ظفروا به جميعا أو فرادى ، فصاح أبو علي : من يسابق؟ فقال العشرة عليك ، وحملوا عليه وطنوه حتى قتل» وبعد هذا تجمع المتآمرون «فأخرجوا الحافظ من الخزانة التي كان معتقلا بها ، وفكوا عنه القيد ، وأجلسوه في الشباك على منصة الخلافة» وأخذوا له على «أنه ولي عهد كفيل لمن لم يذكر اسمه». وفور ذلك خلع الخليفة على يانس خلع الوزارة. اتعاظ الحنفا : ١٤٣ ـ ١٤٤.

٣٦٤

في شهر ربيع الأول منها ، وعول في تقليد مكان الوزارة على كريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق المزدقاني ، ابن عم الوزير أبي علي المزدقاني المقدم ذكره ، فرد الأمر في ذلك إليه ، وعول في الوزارة والسفارة عليه ، واستقام له الأمر ، ومشت الأحوال به ، واستبشر أكثر المتصرفين والعمال ، لأنه كان حسن الطريقة ، قد تهذب في النيابة عن الوزارة في الديوان ، وعرف سياسة (١٢٦ و) الأعمال في كل عصر وأوان ، فصيح اللسان بالفارسية والعربية ، ولم يزل مستمر الأمر الى أن حدث ما تغيرت به حاله ، لأن الباطنية لما جرى عليهم ما قضاه الله من البوار ، وأحله بهم من الهلاك والدمار ، انتهى خبر ذاك إلى رفقائهم بألموت ، فأسفوا عليهم ، وقلقوا لما نزل بهم ، وشرعوا في بث حبائل شرهم ، ونصب أشراك خترهم ومكرهم ، وندبوا لتاج الملوك من يغتاله ، ويوقع به من جهال أخوانهم ، وفتاك أقرانهم ، ووقع اختيارهم على جاهلين من الخراسانية قرروا معهما التحيل في أمر تاج الملوك ، والطلب له ، والفتك به ، في داره ، عند امكان الفرصة فيه ، ووصل هذان الرجلان إلى دمشق في زي الأتراك بالقباء والشربوش ، وحضرا الى معارف لهما من الأتراك ، وسألوهما الوساطة في استخدامهما ، وتقرير الواجب لهما ، وخدعاهم ، ولم يرتابوا بهما ، وتدرجا بالحيلة والمكر الى أن صاروا في الجملة من الخراسانية المرتبين لحفظ ركاب تاج الملوك ، وتمكنا ، وسكنت القلوب إليهما لأنهما ضمنا ، ورقبا الفرصة في تاج الملوك إلى أن دخل الحمام ، وعاد منه ، ووصل الى باب داره من القلعة بدمشق ، وتفرق عنه من كان في ركابه من الخراسانية ، والديلم ، والأحداث ، الحفظة له ، فوثبا عليه في يوم الخميس لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وخمسمائة ، وضربه أحدهما بالسيف طالبا لرأسه ، فجرحه في رقبته جرحا لم يتمكن منه ، وضربه بسكين عند خاصرته نفذت بين اللحم والجلد ، ورمى بنفسه في الحال عن فرسه سليما ،

٣٦٥

وتكاثرت الرجال عليهما ، فقطعوهما بالسيوف ، وأحضر أهل الخبرة بمداواة الجراح من الأطباء والجراحيين ، وعولجا فبرأ احدهما الذي عند الرأس ، وتنسر الذي في الخاصرة ، وصلحت الحال في ذلك ، وركب وأقام مدة يحضر مجلسه الخواص والعسكرية والأجناد ، للسلام والشراب على الرسم المعتاد.

وفيها ورد الخبر من بغداد بوفاة السلطان مغيث الدنيا والدين محمود ابن السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان رحمه‌الله في شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة ، بمرض حدث به ، كان معه نفاذ أجله ، وفراغ مهله ، وتقررت السلطنة بعده لأخيه السلطان أبي الفتح مسعود بن محمد (١٢٦ ظ) بن ملك شاه بن ألب أرسلان ، وتكون ولاية العهد من بعده لابنه داود بن محمود ، ثم لأخيه السلطان طغرل بن محمد ، وسيأتي ذكر كل واحد منهم في موضعه.

وفيها ورد الخبر من حلة مكتوم بن حسان بن مسمار (١) بأن الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد اجتاز بالحلة ، وكان قد انهزم من العراق في خواص أصحابه وغلمانه خوفا من الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين ، وضل في الطريق ، ولم يكن معه دليل عارف بالمسالك والمناهل ، وكان قصده حلة مرة ابن ربيعة ، فهلك أكثر من كان معه ، وتفرق أصحابه بعد موت من مات بالعطش وقد حصل في الحلة كالمنقطع الوحيد ، في نفر يسير من أصحابه ، فأنهض تاج الملوك ، فرقة من الخيل نحوه ، لاحضاره فأحضرته الى القلعة بدمشق في ليلة يوم الاثنين ، لست خلون من شعبان سنة خمس وعشرين وخمسمائة فتقدم تاج الملوك بإنزاله في دار بالقلعة ، وإكرامه واحترامه ، والتنوق في شرابه وطعامه ، وحمل إليه من الملبوس والمفروض ما يقتضيه محله الرفيع ، ومكانه المكين الوجيه ، واعتقله اعتقال كرامة ، لا اعتقال إهانة ، وأنهى

__________________

(١) أمير قبائل كلب وكانت منازله (حلته) في منطقة صلخد. مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٢٥ ه‍.

٣٦٦

الحال في ذلك الى الدار العزيزة الإمامية المسترشدية ، فورد الجواب إليه بالتوثق منه ، والإحتياط عليه ، الى حين يصل إليه من يتسلمه ، ويحمله الى بغداد.

ولما عرف عماد الدين أتابك زنكي صاحب الموصل هذه الحال ، نفّذ رسولا إلى تاج الملوك ، يلتمس منه تسليمه ، ويكون الجزاء عنه الخمسين الألف الدينار المقررة على ولده سونج ، وبقية العسكر الدمشقي المعتقلين فأجابه تاج الملوك الى ذلك ، وتقرر الشرط عليه ، وأن يصل عسكره الى ناحية قارا ، ومعه المعتقلون ، ويخرج الأمير دبيس مع عسكر دمشق ، الى هناك ، فإذا تسلم المعتقلين سلموا دبيسا الى أصحابه ، فتوجهوا به من دمشق ، ووصلوا به إلى قارا فتسلموا المعتقلين منهم ، وسلموا إليهم دبيسا في يوم الخميس الثامن من ذي القعدة من السنة ، وعاد كل من العسكريين الى مكانه ، ووصل سونج إلى دمشق هو والجماعة ، فسر تاج الملوك بهم ، وزال شغل قلبه (١٢٧ و) بوصولهم ، فعند ذلك خوطب تاج الملوك في الرئيس وأهله المعتقلين ، وسئل في إطلاقهم ، والمن عليهم بتخلية سبيلهم ، فأجاب إلى ذلك بعد أن قرر عليه مصالحة ، يقوم بها وأطلق وأعيد الى رئاسته دون وزارته ، وخلع عليه ، وعلى الوزير كمال الدين كريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق المزدقاني ، في مستهل رمضان من السنة.

وفي هذه السنة ورد الخبر من صرخد بوفاة واليها فخر الدولة كمشتكين الخادم التاجي ، في جمادى الآخرة منها ، وكان حسن الطريقة ، جميل الذكر ، كثير التدين ، مشكور المقاصد.

وفيها وصل سديد الدولة ابن الأنباري ، كاتب الخليفة ، الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين ، رسولا منه في أمور وأسباب اقتضتها ، في آخر ذي القعدة منها ، ويبعث على تسليم الأمير دبيس إلى من يحمله الى بغداد ،

٣٦٧

وقد فات الأمر فيه ، فأكرم مثواه ، وسر بمقدمه ، وأجيب عن رسائله ، وتوجه عائدا بعد أن حمل إليه ما يقتضيه محله ويوجبه مكانه ، وصادفه في طريقه بناحية الرحبة خيل الأمير عماد الدين ، فقبضت عليه ، ونهبت ما كان معه ، وقتلت بعض غلمانه ، ولقي شدة عظيمة من الاعتقال والإعنات ، إلى أن خلص وأطلق سراحه ، وعاد الى بغداد (١).

وفي يوم الخميس لثلاث ليال خلت من جمادى الآخرة منها ، جمع تاج الملوك جماعة من الأمراء والمقدمين والخواص ، وأعيان الأجناد والكتّاب والفقهاء وأماثل الرعية ، في مجلسه ، وقال لهم : إنني قد انتهت بي الحال بسبب هذا الجرح الذي قد طال ألمه ، وتعذر اندماله ، ما قد أيقنت معه الحلول بالأمر المقضي الذي لا بد منه ولا مندوحة للخلق عنه ، وقد يئست من روح الحياة ، واستشعرت قرب الوفاة ، وهذا ولدي أبو الفتح اسماعيل قد لاحت لي منه إمارة الشهامة والنجابة ، وبانت لي فيه مخايل الكفاية واللبابة ، وهو أكبر ولدي ، والمرجو لسد ثلمة فقدي ، وقد رأيت أن أجعله ولي عهدي ، والمرشح لتولي الأمر بعدي ، ثقة بسداده ، وحسن تأتيه مع حداثة سنه ، وحميد اقتصاده ، فان سلك منهاج الخير ، واقتفاه ، وقصد سبيل العدل والانصاف ، وتوخاه ، فذاك المراد منه ، والمأمول فيه ، وإن عدل عن المطلوب المشار إليه ، وخالف (١٢٧ ظ) الأمر المنصوص عليه ، كان المعدل عليكم في

__________________

(١) في مرآة الزمان : ١ / ١٣٥ ـ ١٣٦ : «قد ذكرنا أن دبيسا دخل البرية وانقطع خبره ، وقد اختلفوا في قصته ، أما تواريخ البغداديين فانهم قالوا : ضل في طريقه ، فقبض عليه بحلة حسان بن مكتوم الكلبي من أعمال دمشق ، وانقطع منه أصحابه ، فحمل الى دمشق ، فباعه أميرها ابن طغتكين من زنكي بن آق سنقر صاحب الموصل بخمسين ألف دينار ، وكان زنكي عدوه ، فظن أنه سيهلكه ، فلما حصل في قبضته أكرمه ، وخوله المال والسلاح ، فلما ورد الخبر الى بغداد ، بعث الخليفة ابن الأنباري ، ليتوصل في أخذه ، فلما وصل الرحبة قبض عليه أميرها بأمر زنكي ، وحمل الى قلعة الموصل ... فلم يخلص إلا بشفاعة السلطان مسعود».

٣٦٨

تنبهه من نومته ، وإيقاظه من فتور غفلته ، فان الحازم اللبيب والسديد الأريب إذا ذكّر ذكر ، وإذا نهي عن منكر أعرض عنه واقتصر ، فقالوا : الأمر أمرك الذي لا يخالف ، ولا يعدل عنه ، والحكم حكمك ، الذي لا خروج لنا منه ، وطاعتنا لك في حياتك ، كطاعتنا لولدك بعد وفاتك ، والله يمد لك في العمر ، ويمن عليك بالعافية الشافية ، وتعجيل السلامة والبر ، فسر بمقالهم ، وشكر ما بدا منهم من الحوادث الدالة على حميد خلالهم ، ثم نص في الأمر عليه ، وأشار في ولاية العهد من بعده إليه ، وقرر معهم العمل بطاعته ، والانتهاء الى إشارته ، وخلع عليه خلعا سنية ، تليق بمثله ، وتضاهي شرف مثله ، وركب فيها إلى داره من القلعة بين الأمراء والمقدمين والأتباع ، من : الخراسانية ، والغلمان والسلاحية والقزاغندية (١) والجاووشية في اليوم المذكور ، والمحفل المحضور ، وتضاعف بذاك منهم الجذل والسرور ، ومالت كافة الأصحاب إليه ، واجتمعوا عليه ، وواظبوا الخدمة له في كل يوم والتسليم عليه.

سنة ست وعشرين وخمسمائة

في هذه السنة ، ورد الخبر من ناحية الأفرنج بهلاك بغدوين الرويس ملك الأفرنج ، صاحب بيت المقدس بعكا ، في يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان منها ، وكان شيخا قد عركه الزمان بحوادثه ، وعانى الشدائد من نوائبه وكوارثه ، ووقع في أيدي المسلمين عدة دفعات أسيرا في محارباته

__________________

(١) في الأصل : والمقر عدارية ، وهو تصحيف رجحت صوابه : إما المقردارية ، أو كما أثبتت في المتن ، والقزاغندية نوع من المقاتلين كانوا يرتدون أثوابا قطنية أو حريرية محشوة أيام الحرب ، وهي عبارة مركبة من : قز ، وكند أو غند ، والقز هو الحرير ، وغند أو كند هو البطل الشجاع بالفارسية ، وسبب الترجيح أنه لم يمر بي من قبل «المقردارية» بينما مرت العبارة الثانية كثيرا.

٣٦٩

ومصافاته ، وهو يتخلص منهم ، بحيله المشهورة ، وخدعه المخبورة ، ولم يخلف بعده فيهم صاحب رأي صائب ، ولا تدبير صالح ، وقام فيهم بعده الملك القومص الجديد الكند انجور (١) ، الواصل إليهم في البحر من بلادهم ، فلم يتسدد في رأيه ، ولا أصاب في تدبيره ، فاضطربوا لفقده ، واختلفوا من بعده.

وفيها اشتد مرض الجرح بتاج الملوك ، ووقع اليأس من برئه وصلاحه ، فطال الأمر به طولا ، سئم معه الحياة ، وأحب الوفاة ، وتزايد الضعف به ، والذبول في جسمه ، وقوته ، وقرب أجله وخاب في الصحة أمله (١٢٨ و) وتوفي إلى رحمة الله ومغفرته ، وتجاوزه ، على مضي ساعة من نهار يوم الاثنين الحادي والعشرين من رجب منها ، فتألمت القلوب لمصابه ، وأفيضت الدموع للنازل به.

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

ولكن قضاء الله تعالى لا يغالب ، وحكمه لا يدافع ، لأن هذه الدنيا دار سوء لم يدم فرح لامرئ فيها ، ولا حزن ، الأنفاس فيها محصاة معدودة ، والآجال محصورة محدودة ، والليل والنهار يقطعان الأعمار ، ويفنيان المدة ، وما فهم مواعظ الزمان من سكن إلى خدع الأيام ، ولقد أنشد عند فقده قول الشريف الرضي :

بعدا ليومك في الزمان فانّه

أقذى العيون وفتّ في الاعضاد

لولا ما من الله من قيام نجله في الأمر من بعده ، ونصه عليه في ولاية عهده ، شمس الملوك ، فأزال الروعة ، وخفف اللوعة ، فاشتغل الناس بالتهنئة بالأمير الموجود عن التعزية بالشهيد المفقود ، وقد كان لتاج الملوك رحمه‌الله

__________________

(١) سبق له أن ذكر وفاته ـ أنظر ص ٣٥٧.

٣٧٠

من : المحاسن ، والمآثر ، والمناقب ، ما يذكر في المحافل ، وينشر في الأندية والمحاضر ، ونظمت مدائحه الشعراء ، ونشرت فضائله الفصحاء البلغاء ، وكان الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن الخياط الشاعر الدمشقي رحمه‌الله ، وهو طرفة شعراء الشام ، والمشهور بمحاسن الفنون من المديح وغيره بينهم ، قد نظم في تاج الملوك عدة قصائد ، بالغ في تهذيبها وتحريرها وتحكيكها ، فذكرت من جملة أبياتها المعربة عن صفات معاليه ، ما يستدل به على استحقاقه ، ما بالغ فيه من مدح مقاصده ومساعيه ، فمن أبيات قصيدة أولها :

لقد كرّم الله ابن دهر تسوده

وشرّف يا تاج الملوك بك الدهرا

ومنّ على هذا الزمان وأهله

بأروع لا يعصي الزمان له أمرا

حسام أمير المؤمنين ومن يكن

حساما له فليقتل الخوف والفقرا

إذا قلت في تاج الملوك قصيدة

من الشعر قالوا قد مدحت به الشعرا

وقال من أخرى :

ألم تك للملوك الغرّ تاجا

وللدنيا وعالمها سراجا

لقد شرف الزمان بك افتخارا

كما سعد الأنام بك ابتهاجا

مددت الى اقتناء الحمد كفا

طمى بحر السماح بها وماجا

وغادرت المعالي بالعوالي

كخيس الليث عزبه ولاجا

* * *

٣٧١

ذكر أيام شمس الملوك أبي الفتح اسماعيل بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك

، وشرح حاله في ابتداء أمره الى انقضائه ، وما كان في خلال

ذلك من الحوادث المتجددة ، ومعرفة تواريخها وأوقاتها وأحوالها

لما مضى الأمير تاج الملوك بوري بن أتابك يرحمه‌الله ، من هذه الدنيا الفانية ، إلى الدار الباقية سعيدا حميدا شهيدا ، أقام ولده شمس الملوك أبو الفتح اسماعيل مقامه في المملكة ، حسب ما كان عهد به إليه في حياته ، وأوصى بما يعمل به بعد وفاته ، حسن السياسة والسيرة ، وأخلص النيّة في أعماله والسريرة ، وبسط العدل في الرعية ، وأفاض احسانه على كافة الأجناد والعسكرية ، وأقر الاقطاعات على أربابها ، والجامكيات على أصحابها ، وزاد في الواجبات ولم ينقصها ، وأقر وزير أبيه على وزارته ، ورتب العمّال والمتصرفين على ما كانوا عليه ، ورد أمر التقرير والتدبير إلى الحاجب يوسف بن فيروز ، شحنة دمشق ، واعتمد عليه في مهمات أمره ، وسكن إليه في جهره وسره ، وافتتح أمر السياسة بالنظر في أمر الرعية والمتعيشين ، بأن رفع عنهم ما كان يستخرج منهم في كل سنة من أقساط الفيئة ، وأبطل رسمها ، وحظر تناولها ، وأزال حكمها ، وعوّض أرباب الحوالات عليها بجهات غيرها ، فكثر له الدعاء ، واتصل عليه الثناء ، وذلك في رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة ، وظهر من شهامته وشدة بأسه وشجاعته واقدامه وبسالته ومضاء عزيمته ما لم يقع في وهم ، ولا خطر في بال وفهم ، وسنذكر من ذلك في أماكنه ما يقوم مقام العيان دون الحكاية بالمقال.

فمن ذلك أولا افتتاحه حصن اللبؤة (١) والرأس (١٢٩ و) وكانا في يدي المندوبين لحفظهما من قبل تاج الملوك أبيه ، وكانا قد أقرّا على رسمهما ،

__________________

(١) قرب منابع نهر العاصي.

٣٧٢

فانتهى إلى شمس الملوك أن أخاه شمس الدولة محمد بن تاج الملوك صاحب بعلبك قد عمل عليهما ، حتى استنزلهما على حكمه من حصنيهما المذكورين ، وندب لهما من رآه من ثقاته ونوابه لحفظهما ، فأنكر مثل هذا الفعل عليه ، وامتعض منه ، وراسل أخاه المذكور بالمعاتبة على ما قصده ، ويهجن رأيه فيما اعتمده ، ويسأله النزول عليهما (١) ، وإعادتهما إلى ما كانا عليه ، فامتنع من الاجابة إلى ما طلب ، والقبول لما التمس ، فأهمل الأمر فيه ، وفي الحديث في معناه مدة يسيرة ، ثم نهض في العسكر وآلات الحرب من دمشق ، موهما أنه يطلب ناحية الشمال في آخر ذي القعدة من السنة ، ثم عاد في طريق أخرى مغرّبا بعد تشريقه ، فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليه ، وزحف من وقته إليه بعزيمة لا تدافع ، وشدة لا تمانع ، فلما أحس من فيه بالبلاء ، لما شاهده من شدة القتال ، ولم يجد له مخلصا بحال من الأحوال طلب الأمان من يومه ، فأجيب إلى ما سأل ، وأسعف بما أمل ، ونزل من الحصن ، وسلمه إليه ، فقرر أمره واستناب في حفظه من اعتمد على كفايته ونهضته ، ثم رحل عنه عند الفراغ منه إلى حصن الرأس ، فجرى أمر من فيه على تلك القضية فتسلمه ، وولاه لمن يحفظه ، ثم رحل عنه ، ونزل على بعلبك ، وقد استعد أخوه ، صاحبها ، واحتشد واجتمع إليه خلق كثير من فلاحي البقاع والجبال ، وغير ذلك من الحراميّة المفسدين ، فحصرهم فيها ، وضايقهم ، وزحف إليهم في الفارس والراجل ، وخرج من بعلبك من المقاتلة جماعة ، فقتل منهم وجرح نفر كثير وعلى السور أيضا.

ثم زحف بعد أيام إلى البلد البراني ، وقد حصّنوه بالرجال ، فشد عليهم القتال ، وفرق العسكر عليه من عدة جهات ، فملكه وحصل العسكر فيه ، بعد أن قتل وجرح الخلق الكثير ممن كان فيه ، ونصب المناجيق على

__________________

(١) كذا في الأصل ، وأقوم منها «عنهما».

٣٧٣

البلد والحصن ، وواظب الزخف إليهما والشد عليهما ، فلما عاين صاحبها شدة الأمر والاستمرار على الاقامة (١٢٩ ظ) والمصابرة ، راسل في بذل الطاعة والمناصحة ، والسؤال في إقراره على ما كان عليه في أيام أبيه ، فحملته عاطفة القربى على احتمال ما جرى ، والاغضاء عما سلف ، وأجاب إلى ما التمس ، ونزل على ايثاره ما طلب ، وتقرر الأمر بينهما على ما اقترح ، وعاد شمس الملوك في العسكر إلى دمشق ظافرا مسرورا في أوائل المحرّم منها.

سنة سبع وعشرين وخمسمائة

في المحرم منها وردت الأخبار من ناحية الأفرنج بوقوع الخلف بينهم ، من غير عادة جارية لهم بذلك ، ونشبت المحاربة بينهم ، وقتل منهم جماعة.

وفيها صادف جماعة من التركمان صاحب زردنا (١) في خيله ، فظفروا به وقتلوه ، ومن معه ، واشتملوا على خيولهم وكراعهم ، وقيل ان ابن الدانشمند (٢) ظفر بفريق وافر خرج من القسطنطينية ، فأوقع به ، وقتل من كان فيه من الروم وغيرهم.

وفي سابع عشر جمادى الآخرة غار الأمير سوار (٣) من حلب في خيله على تل باشر ، فخرج من فيه من أبطال الافرنج إليه ، فقتل منهم تقدير ألف فارس ، وراجل ، وحمل رؤوسهم إلى حلب.

__________________

(١) قال ياقوت : زردنا بليدة من نواحي حلب الغربية ، ويجعل كل من ابن الأثير في كتابه الباهر : ٣٩ ـ ٤١ ، والمؤرخ السرياني المجهول العملية احتلال لزردنا من قبل زنكي ، إنما مع اختلاف في التاريخ.

(٢) هو محمد بن غازي خلف أباه سنة ٥٢٠ / ١١٢٦ م حسب رواية المؤرخ السرياني ، وفي الكامل لابن الأثير : ٨ / ٢٤٤ قال في أخبار سنة ٥٢٨ ه‍ : في هذه السنة أوقع الدانشمد صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام ، فقتل كثيرا منهم ، ولم يذكر لا ابن الأثير ولا سواه الايقاع بفرنجة قادمين من القسطنطينة.

(٣) هو سيف الدين سوار من كبار قادة أتابك زنكي. انظر زبدة الحلب : ٢ / ٢٥١ ، والحادث عنده سنة ٥٢٦ ه‍.

٣٧٤

وفي رجب منها قبض شمس الملوك على مرة بن ربيعة ، فاعتقله وعلى أسامة بن المبارك ، وصانعه على مصالحة قام بها ، وأطلقه ، وأقام مرة على حاله ، وتردد فيه خطاب ، انتهى آخره إلى قتله ، وهذا مكافأة ما أسلفه من قبيح الأفعال ، ومذموم الأعمال ، والظلم الذي ارتكبه في سائر الأحوال.

ولما عاد شمس الملوك من ناحية بعلبك ، بعد المقرر بينه وبين أخيه صاحبها ، مما تقدم ذكره وشرحه ، انتهى إليه من ناحية الأفرنج ما هم عليه من فساد النية والعزم على نقض الموادعة المستقرة ، وشكا إليه بعض التجار الدمشقيين أن صاحب بيروت ، قد أخذ منهم عدة أحمال كتّان ، قيمتها جملة وافرة من المال ، فكتب إلى مقدم الافرنج في رد ذلك على أربابه وإعادته على من هو أولى به ، وترددت المكاتبات في ذلك ، فلم تسفر عن نيل مراد ، ولا نيل طلاب ، فحمله الغيظ والحنق على مقابلة هذا الفعل بمثله ، وأسرّ ذلك في نفسه ، ولم يبده لأحد من خاصته وثقات بطانته ، وصرف همه وعزمه إلى التأهب لمنازلة بانياس ، (١٣٠ و) وانتزاعها من أيدي الملاعين المتغلبين عليها ، ونهض إليها في أواخر المحرم من السنة ، ونزل عليها في يوم الأحد غرّة صفر منها ، وزحف في عسكر إليها ، وفيها جماعة وافرة من الخيّالة والرجّالة ، فارتاعوا لما أتاهم فجأة ، وذلوا وانخذلوا ، وقرب من سورهم بالدرق الجفتيات والخراسانيين والنقّابين ، وترجل عن جواده ، وترجل الأتراك بأسرهم لترجله ، ورشقوا من على السور بالنشاب ، فاستتروا ولم يبق أحد يظهر برأسه عليه لكثرة الرماة ، وألزق الجفتيات إلى مكان من السور استرقه فنقبوه إلى أن تمكنوا منه ، ثم هجموه ، وتكاثروا في البلد ، والتجأ من كان فيه من الأفرنج إلى القلعة والأبراج ، وتحصنوا بها ومانعوا عن نفوسهم فيها ، وملك البلد ، وفتح بابه ، وقتل كل من صودف فيه من الافرنج وأسر ، ولما رأى من بالقلعة والأبراج من المنهزمين ما نزل بهم من تملك البلد ، والقصد لهم بالقتال ، ولا ناصر لهم ، ولا ممانع عنهم ، التمسوا الأمان ، فأجيبوا إليه ،

٣٧٥

ونزلوا ، فأسروا جميعا ، ونهب ما كان في البلد ، وقرر فيه من الرجال الأجلاد من يحفظه ، ويذبّ عنه ، ورحل عنه في العسكر ، ومعه الأسرى ، ورؤوس القتلى ، وحرم الوالي الذي كان به ، وأولاده والعدد الكثيرة ، ووصل إلى دمشق في يوم الخميس لست ليال خلت من صفر من السنة ، وخرج الناس من البلد للقائه ، ومشاهدة الأسرى في الحبال ، والرؤوس في القصب ، وهم الشيء الكثير ، والجم الغفير ، فرأى الناس من ذلك ما أقر عيونهم ، وسر قلوبهم ، وشد متنهم ، وابتهجوا له ، وأكثروا من شكر الله تعالى على ما سناه من هذا النصر العزيز ، والفتح المبين ، وشاعت الأخبار بذلك في الأفرنج ، فهالهم سماعه ، وارتاعوا لحدوث مثله ، وامتلأت قلوبهم رعبا ووجلا ، وأكثروا التعجب من تسهّل الأمر في بانياس مع حصانتها ، وكثرة الرجال فيها في أقرب مدة ، وأسهل مرام ، وأسفوا على ما قتل من الخيالة الفرسان والرجالة.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق ، بوصول السلطان مسعود بن السلطان محمد (١) إلى بغداد ، ونزوله في الجانب الغربي منها ، وأقام بها أياما قلائل لتقرير الحال ، وكتب تذكرة بأشياء اقترحها ، والتمس إضافة الشام إلى العراق (١٣٠ ظ) ووصل إليه قاضي القضاة والأعيان والأماثل ، واستحلفوه على ما تضمنه المشروح المقترح في التذكرة ، وطولع بما جرى ، فخرج الأمر السامي الإمامي المسترشدي بالأذن له في نزوله في دار السلطنة ، وكتابة ألقابه ، وإقامة الدعوة له ، وحمل إليه ما يحتاج إلى مثله من الفرش وغيره ، وخطب له آخر جمعة من المحرم ، وكتب بتقرير أمر السلطنة ، وكتابة ألقابه ، وإقامة الدعوة له ، وحمل إليه ما يحتاج إلى مثله الدار العزيزة المسترشدية ، وناب الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد وزير الخليفة عنه ، في إيصال سلامه ودعائه أحسن مناب ، وخوطب بأجمل

__________________

(١) في الأصل «ابن السلطان محمود» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا ، ويحتمل أن النص أصابه سقط ذلك أن السلطان مسعود تلقاه عند دخوله الى بغداد «داود بن محمود». انظر الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٣٩.

٣٧٦

جواب ، وأفيضت الخلع عليه في يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول من السنة ، وقد جلس الإمام الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين ، فحضر بين يديه ، وخدم كما جرت العادة لمثله ، فقال له أمير المؤمنين في مبدأ خطابه : تلق هذه النعمة بشكرك ، واتق الله تعالى في سرك وجهرك ، وكان هذا التشريف : سبع دراريع مختلفات الأجناس ، والسابعة منها سوداء ، وتاجا مرصعا ، وسوارين ، وطوق ذهب ، ولما جلس على الكرسي المعد له ، وقبّل الأرض ، قال له أمير المؤمنين : من لم يحسن سياسة نفسه ، لم يصلح لسياسة غيره ، قال الله تعالى ذكره : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) ، فأعاد الوزير عليه ذلك بالفارسية ، فأكثر من الدعاء له ، والثناء عليه ، واستدعى أمير المؤمنين السيفين المعدين له ، فقلده بهما ، واللوائين ، فعقدهما له بيده ، وسلم إليه السلطان داود بن محمود بن أخيه (٢) ، وأتابكة آق سنقر ، وأكد الوصية عليه في بابهما ، وإجمال الرعاية لهما ، واستحلفه على الوفاء بما قرره في بابهما ، وقال أمير المؤمنين : انهض وخذ ما أتيتك [بقوة](٣) وكن من الشاكرين ، وتوجه السلطان مسعود بعد ذلك إلى ناحية أذربيجان في أول شهر ربيع الآخر من السنة ، وقد انضم إليه (آق) سنقر الأحمد يلي (٤) وخلق كثير من الأتراك.

ووردت الأخبار الى بغداد بأن عسكر السلطان مسعود كسر عسكر السلطان طغرل بن محمد (٥) بناحية همذان في ثامن عشر رجب من السنة ،

__________________

(١) القرآن الكريم ـ الزلزال : ٧ ـ ٨.

(٢) في الأصل أخاه ، وهو خطأ صوابه ما أثبتنا.

(٣) أضيف ما بين الحاصرتين اعتمادا على ما جاء في القرآن الكريم : البقرة : ٦٣ ، ٩٣ ؛ الأعراف : ١٤٥ ، ١٧١.

(٤) في الأصل سنقر وأحمد يلي ، وهو تصحيف قوم من الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٣٩.

(٥) في الأصل «ابن محمود» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا ، انظر الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

٣٧٧

وتفرق عسكره في البلاد ، وعاد السلطان مسعود إلى (١٣١ و) منزله ، وخطب له في جامع همذان.

وفي هذه السنة عزم شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك على قصد حماة لمنازلتها ، واستعادتها من أيدي الغالبين عليها ، وملكتها ، وقد كان أخفى هذا العزم في نفسه ، ولم يظهر عليه غيره ، وشرع في التأهب لذاك والاستعداد للمصير إليها ، وقد كانت الأخبار انتهت إلى الحافظ لها بهذا الاعتزام ، فبالغ في التحصين لها ، والتأهب للذب عنها ، والمراماة دونها ، وأعد لذلك كل آلة يحتاج إليها ، ويعتمد عليها ، وانتهى الخبر بهذه الحال إلى شمس الملوك ، فلم يحفل بهذا الأمر ولا ثبطه عنه ، بل برز في العشر الأخير من شهر رمضان سنة سبع وعشرين.

ولم يبق من مقدمي أمرائه وخواصه إلا من أشار عليه بابطال هذه الحركة ، واستوقف عزمه عنها ، وهو لا يحفل بمقال ، ولم يسمع منه جواب خطاب ، وقيل له : تهمل هذا الى فراغ صوم هذه الأيام القلائل من هذا الشهر المبارك ، وتقضي سنّة العيد ، ويكون التوجه بعده الى ذلك المكان ، فلم يصغ إلى أحد في هذا الرأي ، ولا عمل بمشورة إنسان ، وبنى أمره على قصدها ، وأهلها غارون ، ومن بها من الحماة غافلون ، لتحققهم أنه لا ينهض أحد في هذه الأيام إلا بعد العيد وترفيه الجند ، ثم إنه رحل في الحال إليها ، وأغذ السير حتى نزل عليها ، وهجم في يوم العيد على من فيها ، فراعهم ما أحاط من البلاء بهم ، وزحف إليهم من وقته في أوفر عدة ، وأكمل عدة ، فتحصنوا بالدروب والرحال ، وصبروا على الرشق بالسهام والنبال ، وعاد العسكر في ذلك اليوم ، وقد نكا فيهم نكاية ظاهرة من القتل والجرح والنهب والسلب ، وباكرهم من غده في الفارس والراجل ، وفرقهم حول البلد من جميع نواحيه ، ثم زحف في خواصه من الغلمان الأتراك ، وجماعة وافرة من الرجالة والخيالة

٣٧٨

الفتّاك ، واسترق موضعا من حماة ، قصد إليه وعوّل في هجم البلد عليه ، وشد على من به من الحماة ، والرماة ، فاندفعوا بين يديه ، وهجم البلد بنفسه من ذلك المكان ، ولاذ من بها بالأمان ، وترامى إليه جماعة من حماتها مستأمنين ، فأمنهم ، وخلع عليهم ، وأحسن إليهم ، ونادى بالكف عنهم ، ورفع الأذية عن كافتهم ، ورد ما نهب عليهم ، فخرج إليه أكثر رجال القلعة طالبين الأمان ، فخلع عليهم (١٣١ ظ) وأمنهم ، فحين رأى الوالي ذلك ، وعرف عجزه عن المصابرة ، طلب إيمانه فأمنه ، وسلم القلعة بما فيها إليه ، وحصلت مع البلد في يديه بأسهل أمر وأسرع وقت ، فرتب لولايتها من اعتمد عليه ، وسكن في حفظها إليه ، ورحل عنها وقصد شيزر ، ونزل عليها ، وأمر بالعيث والفساد في نواحيها ، ولم يزل على هذه الحال ، إلى أن لوطف واستعطف بما حمل إليه ، ورحل عائدا الى دمشق ، ودخلها مسرورا ظافرا ، في ذي القعدة من السنة.

ومن اقتراحات شمس الملوك ، الدالة على قوة عزيمته ، ومضاء همته ، ومستحسن ابتدائه ، ما أحدثه من البابين المستجدين ، خارج باب الحديد من القلعة بدمشق ، الأوسط منها وباب جسر الخندق منها ، وهو الثالث لها ، أنشأهم في سنة سبع وعشرين وخمسمائة ، مع دار المسرة بالقلعة ، والحمام المحدثة من شامها ، على قضية اخترعها ، وبنية اقترحها ، وصفة آثرها ، فجاءت في نهاية الحسن والطيبة والتكوين والاعتدال ، وفرغ منها في أوائل سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

وفيها [ورد](١) الأمير المنتضى أبو الفوارس وثاب بن مسافر الغنوي ، رسولا من مصر في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة منها ، بجواب ما كان صدر من مكاتبه شمس الملوك ، وأوصل ما صحبه من الخلع السنية ، وأسفاط الثياب المصرية ، والخيل والمال ، وقرى الكتاب الوارد على يده ،

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

٣٧٩

ولم يزل مقيما إلى أن تسهل مسيره ، فعاد منكفئا سنة سبع وعشرين في يوم السبت لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول منها.

وفي ذي الحجة منها وردت الأخبار بوصول عسكر وافر من التركمان إلى ناحية الشمال ، وأنهم غاروا على طرابلس ، وأعمالها من معاقل الأفرنج ، فظفروا بخلق كثير منهم قتلا وأسرا ، وحصل لهم من الغنائم والدواب الشيء الكثير ، وأن صاحب طرابلس بنص طلولا بن (١) بدران الصنجيلي خرج إليهم فيمن حشده من أعماله ، ولقي عسكر التركمان فكسروه ، وأظفرهم الله بحشده المفلول ، وجمعه المخذول ، وقتل أكثر رجاله وجل حماته وأبطاله ، وانهزم في نفر قليل من [أصحابه إلى](٢) الحصن المعروف ببعرين (٣) ، فالتجأوا إليه ، وتحصنوا به ، ونزل عسكر الأتراك عليه ، وأقاموا محاصرين له أياما كثيرة ، حتى نفذ ما فيه من القوت (١٣٢ و) والماء بحيث هلك منهم ، ومن خيلهم الأكثر ، فأعملوا الحيلة ، واستغنموا الغفلة ، وانتهزوا الفرصة ، وخرجوا في تقدير عشرين ، مع المقدم ، فنجوا ووصلوا إلى طرابلس ، وكاتب ملك بنص طلولا. صاحبها ، ملك الافرنج بعكا يستصرخ به وبمن في أعماله ، ويبعثهم على نصرته ، فاجتمع إليه من الأفرنج خلق كثير ، ونهضوا إلى التركمان لترحيلهم عن حصن بعرين ، واستنقاذ من بقي فيه منهم ، فلما عرفوا عزمهم وقصدهم ، زحفوا إلى لقائهم فقتلوا منهم جمعا كثيرا ، وأشرف التركمان على الظفر بهم والنكاية فيهم ، لولا أنهم اندفعوا إلى ناحية رفنية ، فاتصل بهم رحيلهم عنها ، وعودهم على طريق الساحل ، فشق ذلك عليهم ، وأسفوا على ما فاتهم من غنائمهم ، وتفرقوا في أعمالهم.

__________________

(١) هو بونز بن برتران ـ انظر طرابلس الشام في التاريخ الاسلامي : ١٥١.

(٢) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق ، انظر الكامل لابن الأثير : ٨ / ٢٤١.

(٣) بعرين الآن احدى قرى محافظة حماة ، تابعة لمنطقة مصياف ، وهي تبعد عن مدينة حماة / ٤٢ كم / وعن بلدة مصياف / ١٧ كم /. التقسيمات الادارية في الجمهورية العربية السورية : ١٤٤.

٣٨٠