تاريخ دمشق - المقدمة

تاريخ دمشق - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

١
٢

٣
٤

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدّمة

لقد كان للفتح الاسلامي للشام ، أعظم الآثار على هذه البلاد ، من ذلك تثبيت طابع العروبة فيها ، وتبديل البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعمرانية ، فعلى صعيد السياسة الداخلية والخارجية تحول دور القبائل العربية من الهامش الى الصميم ، وعلى صعيد المدن ، نجد قبل الفتح أن مدينة القدس كانت أهم مدن جنوبي بلاد الشام ، تتلوها دمشق ، وأن أنطاكية كانت أهم مدن الشمال وأبرزها دورا ، تتلوها قنسرين ، لكن بعد الفتح ، وبسبب انتشار الاسلام ، وانسلاخ البلاد عن الامبراطورية البيزنطية ، وقيام الحروب الدائمة معها ، ثم قيام السلطان الأموي في الشام ، كل هذا أدى الى تقهقر القدس حيث تقدمتها دمشق ، وتخلفت في ذات الوقت مدينة بصرى ، واضمحل دورها كثغر تجاري لبلاد الشام على بوابات شبه جزيرة العرب ، وتأخرت أنطاكية في الشمال ووصلت قنسرين الى حالة الاحتضار ، وتقدمت حلب وتبعتها معرة النعمان.

ووضح هذا الحال في العصر الأموي ، وتوطدت أركانه ، وبعد قيام الخلافة العباسية ، وانشغالها المطلق بمشاكل خراسان وبلاد ماوراء النهر ، واهمالها للحدود مع بيزنطة ، وقيام نظام الثغور والعواصم صارت حلب مركز

٧

شمال الشام سياسيا واقتصاديا وعقائديا وثقافيا ، وغدت دمشق هي المسؤولة عن جنوب الشام.

وتنافست كل من حلب ودمشق ، ووضح للعيان أن أحداث الشام باتت تدور على محورين أساسيين واحد في الشمال [حلب] وآخر في الجنوب ، [دمشق] ، ويمكن تعقب جذور هذه القضية الى العصر الأموي ، فبعد وفاة يزيد بن معاوية حدث صراع شديد على الخلافة والسلطة وانقسم الشام الى معسكرين : واحد تزعمته قبائل كلب في الجنوب ، وآخر تزعمته قبائل كلاب في الشمال ، وكانت كلب قبائل يمانية الأصل ، وكلاب عدنانية ، وفي معركة مرج راهط انتصرت كلب على كلاب ، وأعيد تأسيس الحكم الأموي ، بزعامة الفرع المرواني ، لكن الشام انقسمت بشكل فعلي الى دارين : دار في الجنوب لكلب ومن لف لفها ودار في الشمال لكلاب ومن قاربها بالنسب ، وفصل بين هاتين الدارين خط عرضاني انطلق شرقا وغربا من بلدة الرستن على العاصي.

وعندما دب الضعف في قلب الخلافة العباسية كانت الأجزاء الشمالية من بلاد الشام بزعامة حلب ، من أقدم البلدان التي أعلنت انفصالها ، وقامت فيها دولة مستقلة هي الدولة الحمدانية بزعامة سيف الدولة الحمداني.

ومن حلب حاول سيف الدولة مدّ سلطانه الى الأجزاء الجنوبية من الشام ، فدخل دمشق ، لكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بها ، فقبل استقلال حلب ، كانت مصر الاسلامية قد استقلت عن جسم الدولة العباسية ، وقامت فيها الدولة الطولونية ، ومارست الدولة الطولونية السياسة الخارجية التقليدية لمصر المستقلة بالحاق الشام ، وقد نجحت ـ مع الدول التي تلتها في حكم مصر ـ في الاحتفاظ بالجزء الجنوبي من الشام ، وأخفقت في البقاء في الشمال.

وفي حلب أقام سيف الدولة بلاطا حاكى فيه بلاط بغداد ، وحوى هذا البلاط عددا كبيرا من العلماء في كل فن مع الشعراء والأدباء ، وشهدت بلاد

٨

الشام بشكل عام نشاطا ثقافيا كبيرا ومتميزا ، حيث عبر عن دور الشخصية الشامية العربي ، وعبرت كل من حلب ودمشق عن شخصيتها بالاتجاه نحو انتاج تواريخ محلية ، وبالفعل جاء الى الوجود عدد من المؤرخين منهم من عاش في المعرة أو مدينة حلب فأرخ لمدينة حلب والجزء الشمالي من البلاد مع مناطق الجزيرة ، ومنهم من عاش في دمشق أو اهتم بها ، فكتب في تاريخها إنما مع التعلق بالديار المصرية والاهتمام بها ، وإذا كنا لسنا في موضع عرض لمراحل حركة التدوين التاريخي في الشام يكفي أن نذكر أن هذه الحركة وصلت الذروة على يدي ابن عساكر حين كتب تاريخ دمشق ثم ابن العديم حين كتب «بغية الطلب في تاريخ حلب» إنما يلاحظ هنا بأن هذين الكتابين العملاقين قد صنفا حسب نمط كتب التراجم ، وما جاء في بدايتي كل منها من عرض تاريخي حسب الوقائع والحوليات ، شمل أخبار فتوح الشام ليس إلّا ، وتميز ابن العديم عن ابن عساكر بأنه صنف كتابا مفردا أوقفه على العرض التاريخي الإخباري لمدينة حلب ، وهو كتابه «زبدة الحلب من تاريخ حلب» ولم يفعل ابن عساكر هذا ، لطبيعة منهجه وثقافته ، فهو إمام بالحديث في الدرجة الأولى ، ولذلك جاء كتابه الذي صنفه لدمشق مهتما بطبقات المحدثين والعلماء ، وموليا قليل الاهتمام لمن سواهم ، وخاصة رجال السلطة.

إن هذه الثغرة بالنسبة لدمشق قد جرى تداركها من قبل ثلاثة أجيال من المؤرخين : اثنان من العراق ، وثالثهما وهو المهم من دمشق الشام ، وأول هؤلاء المؤرخين هو ثابت بن سنان ، الذي كان واحدا من أفراد آل الصابئ ، الأسرة التي اشتهرت بالطب فنبغ منها عدد من الأطباء خدموا الخلفاء العباسيين ورجال دولتهم ، ويذكر بعض من ترجم لثابت بأنه كان مختصا بخدمة الخليفة الراضي [٣٢٢ ـ ٣٢٩ ه‍ / ٩٣٤ ـ ٩٤٠ م] وأنه كان بارعا بالطب ، تولى تدبير المارستان في بغداد ، وخدم عددا من الخلفاء بعد الراضي ، ومن المرجح

٩

أن ثابتا قد توفي سنة ٣٦٥ ه‍ / ٩٧٥ م ، وكان ثابت بن سنان كمعظم بقية آله متميزا الى جانب كونه طبيبا باهتمامه بالتاريخ وتدوينه ، وقد كتب عددا من التواريخ أشهرها واحد ذيل به ـ مع شيء من التداخل ـ على تاريخ الطبري ، وله أيضا كتاب «مفرد في أخبار الشام ومصر في مجلد واحد».

وبعد وفاة ثابت جاء هلال بن المحسّن بن ابراهيم الصابىء ، وهو قريبه حيث أن جده ابراهيم هو ابن أخت ثابت ، لذلك ذكرت بعض المصادر تجاوزا بأن ثابت هو خال هلال بن المحسن ، وكان هلال في بداية حياته على عقيدة أهل الصابئة ثم دخل الاسلام ، وقد ولي ديوان الانشاء في بغداد ، وعاش فترة تاريخية هامة جدا ، عاصر أحداثها وعرف أخبارها عن كثب وبشكل وثائقي ، فقام بتدوينها في عدد من الكتب مفردة مثل كتابه في تاريخ الوزراء ، أو جاءت كذيل لكتب ثابت بن سنان ، ففي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي نقرأ : «وكان هلال من كبار العلماء الأدباء ، وله التاريخ الذي ذيله على تاريخ ثابت بن سنان ، وبدأ به من سنة احدى وستين وثلاثمائة الى سنة سبع وأربعين وأربعمائة» ، وأكد هذا القفطي في تاريخ الحكماء حيث قال : «ثم كتاب هلال ابن المحسّن بن ابراهيم الصابىء ، فإنه داخل كتاب خاله ثابت وتمم عليه الى سنة سبع وأربعين وأربعمائة ، ولم يتعرض أحد في مدته الى ما تعرض له من أحكام الأمور ، والاطلاع على أسرار الدول ، وذلك أنه أخذ ذلك عن جده لأنه كان كاتب الانشاء ويعلم الوقائع ، وتولى هو الانشاء أيضا ، فاستعان بعلم الأخبار الواردة على ما جمعه ، ثم يتلوه كتاب ولده غرس النعمة محمد ابن هلال ، وهو كتاب حسن الى بعد سنة سبعين وأربعمائة».

في الحقيقة إن ثابت بن سنان أنهى كتابه بحوادث سنة ٣٦٥ ه‍ ، وأن هلال ابن المحسّن ابتدأ كتابه الذي ذيل به على تاريخ ثابت بحوادث سنة ٣٦٠ وأنهاه بأخبار سنة ٤٤٧ ه‍ ، فقد كتب ابنه غرس النعمة محمد بن هلال في مقدمة

١٠

كتابه في التاريخ الذي دعاه باسم «عيون التواريخ» والذي أرخ به للفترة الممتدة ما بين ٤٤٨ الى ٤٧٩ ه‍ ، وجعله بمثابة ذيل لتاريخ أبيه ، ذكر الأسباب التي حدت به الى تأليفه بقوله : «وبعد ، فكان أبي وصىّ إليّ لما أحس بقدوم الوفاة ، ويئس من أيام الحياة ، ولمعت له لوامع المنية ، وقرعت سمعه قوارع البلية ، رغبة في زيادة الذكر ونمائه وانتشاره وبقائه ، بصلة كتاب التاريخ الذي ألفه الى آخر سنة سبع وأربعين وأربعمائة تأليفا يعجز عنه من يروم مثله ، ويفتضح فيه من يتعاطى فضله ، إذ هو السحر الحلال ، والعذب الزلال ، والصادر عن أوحد دهره ، وفريد عصره ، وشرع فيه وقد أتت عليه سنة [ولد هلال سنة ٣٥٩ ه‍] ، جرب فيها الأمور ومارسها ، وخبرها ولابسها ، وأنا عار من جميع صفاته ، وخال من سائر سماته.

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

لكن قوله مستمع ، ومرسومه متبع ، وأمره مطاع ، ورأيه غير مضاع ....

وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ، وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان توفي والدي ، الرئيس أبو الحسن ، هلال بن المحسن بن ابراهيم بن هلال ، ومولده الأحد ، النصف من شوال سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ، فانتقض السؤدد بمصابه ، وانثلم الفضل بذهابه».

لسوء الحظ أن معظم مواد التراث التاريخي لأسرة آل الصابىء هي بحكم المفقود ، ولقد أكثر سبط ابن الجوزي النقل من تواريخ كل من ثابت وهلال ، وقام باحدى نسخ كتابه مرآة الزمان بنقل جميع محتوياته كتاب غرس النعمة ، وقد استخرجت هذا الكتاب من مخطوطتين في باريس واستانبول وحققته وسأدفعه للنشر قريبا إن شاء الله تعالى ويسر.

هذا ووصلنا كتاب مخطوط صغير جاء بمثابة مختصر لتاريخ ثابت بن سنان ، ضمنه مختصره أخبار القرامطة ، ويتألف هذا المخطوط من إحدى

١١

وثلاثين ورقة من قطع ١٩ ٥ ر ١٣ سم في كل صفحة (وجه) ما بين ٢٠ ـ ٢٣ سطرا ، في كل سطر ما بين ٧ ـ ٨ كلمات ، وهذه النسخة هي بحوزة المستشرق البريطاني برنارد لويس ، وكان قد حصل عليها من القاهرة أثناء إعداده لاطروحة الدكتوراه ، وقد تفضل فأعارني نسخة عنها ، قمت ـ بعد استئذانه ـ بنشرها ضمن محتويات كتابي أخبار القرامطة.

ونسخة الاستاذ لويس هذه قد كتبت من قبل ثلاثة نساخ على الأقل ، وقد تم الفراغ من كتابتها «في سلخ شوال سنة ألف وسبع وخمسين» [٢٧ تشرين الثاني سنة ١٦٤٧ م] وقد نسخت كما يبدو عن نسخة من تاريخ ثابت تم نسخها في «سلخ جمادي الأولى سنة سبع وسبعين وخمسمائة» [١١ ـ تشرين الأول سنة ١١٨١] ونسخت هذه النسخة ـ كما صرح ـ عن مسودة المؤلف.

إن خط هذه المخطوطة هو نسخي مقروء ، وحالة المخطوطة حسنة ، إنما يبدو أن المستوى الثقافي لنساخها ومعرفتهم بقواعد اللغة العربية كان ضعيفا ، لهذا تبعثرت الأخطاء النحوية والاملائية في كل مكان.

ويمكن تقسيم المعلومات التي تتضمنها إلى قسمين : قسم وردت معظم رواياته في تاريخ الطبري ، وقسم وقعت أحداث رواياته بعد وفاة الطبري ، فقام ثابت بتدوين أخبار هذه الأحداث ، وجلّ الأخبار في هذا القسم من عصر ثابت ، وعندما نقرأ هذا القسم نلاحظ أمرا مدهشا ، حيث أن الكتاب يروي أخبار القرامطة إبتداء من «سنة مائتين وثمان وسبعين من الهجرة» حتى «سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة» بشكل كامل التسلسل سنة تلو أخرى ، ثم يقفز فيبدأ بأخبار «سنة ستين وثلاثمائة».

ولا ندري بشكل مؤكد سبب هذا ، لكن لدى قراءة المواد الأخيرة ومقارنتها بالمواد الأولى ، نجد أن المواد الأولى تولي قرامطة البحرين والعراق

١٢

الاهتمام الأكبر ، في حين أن المواد الأخيرة موقوفة على نشاط القرامطة في الشام وصراعاتهم مع الخلافة الفاطمية في الشام ومصر.

إن هذا يدفعنا الى الافتراض بأن الذي جمع مواد مخطوطة الأستاذ لويس ، جمعها من كتابين لعلهما : تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيل به على تاريخ الطبري ، وكتابه الآخر الذي أوقفه على تاريخ الشام ومصر ، ويبدو أن الكتاب الأول كان مبتورا ، فهو بالأصل «مسودة المؤلف» وأن الذي تولى عملية الاختصار لم يتنبه الى الخرم الكبير ، ولا الى طبيعة المواد المروية والاختلاف الذي لحقها ، أو أنه تنبه لكنه لم يخبرنا.

ومهما يكن الحال فإن المواد المتأخرة من مخطوطة الاستاذ لويس تتوافق ، لا بل تتطابق تماما مع محتويات تاريخ ابن القلانسي عن دمشق ، وهو بيت القصيد في مقدمتنا هذه.

لنحاول أولا التعرف الى شخصية ابن القلانسي ومن ثم نعود للربط بينه وبين تواريخ آل الصابىء.

ترجم لابن القلانسي عدد من المؤرخين يتصدرهم ابن عساكر ثم ياقوت وبعده الذهبي ، ولما ذكره ابن عساكر مكانة خاصة للزمان والمكان ، ومما قاله عنه ابن عساكر : «حمزة بن أسد بن علي بن محمد ، أبو يعلى التميمي ، المعروف بابن القلانسي ، العميد كانت له عناية بالحديث ، وكان أديبا له خط حسن ونثر ونظم ... وصنف تاريخا للحوادث بعد سنة أربعين وأربعمائة الى حين وفاته ، وتولى رئاسة ديوان دمشق مرتين».

وقال عنه ياقوت : «حمزة بن أسد بن علي بن محمد ، أبو يعلى ، المعروف بابن القلانسي التميمي الأديب الشاعر ، المؤرخ ، كان من أعيان دمشق ومن أفاضلها المبرزين ، ولي رئاسة ديوانها مرتين ، وبها توفي سنة خمس وخمسين ، وله تاريخ للحوادث ، ابتدأ به من سنة إحدى وأربعين وأربعمائة الى حين وفاته ، وكانت له عناية بالحديث ، وله كتب عليها سماعه».

١٣

وقد أورد كل من ابن عساكر وياقوت نماذج من شعر من ابن القلانسي ، لكنهما وإن ذكرا تاريخ وفاته لم يحددا تاريخ مولده أو سنّه حين الوفاة ، وقد تولى الذهبي ذلك فبين أنه جاوز الثمانين أثناء وفاته وكان دون التسعين ، وعن الذهبي نقل كل من أبي المحاسن في النجوم الزاهرة واليافعي في مرآة الجنان.

وجرت العادة لدى كثير من الأوائل الاشارة الى أنفسهم في مصنفاتهم ، حيث يمكن في أيامنا استخراج المعلومات من هذه الاشارات ، وفيما يختص بابن القلانسي لم يشر الى نفسه قط في مصنفه أو تحدث عن دور من أدواره سيما وأنه كان من كبار رجالات الدولة في دمشق ، نعم هناك اشارات غير مباشرة الى بعض مواقفه السياسية وتذوقه للأدب ، فهو قد ضمن كتابه عدة قصائد من نظمه ، كما أثبت بعض نصوص الوثائق الديوانية الواردة الى دمشق لاعجابه بصياغتها.

ولئن انعدمت اشاراته لنفسه فهناك بعض الاشارات لأفراد من أسرته ، من ذلك أنه ذكر في حوادث سنة ٥٣٩ : «وفي يوم السبت الثالث عشر من رجب من السنة ، توفي الأخ الأمين أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن محمد التميمي عن أربع وثمانين سنة ، بعلة الذرب ، ودفن بتربة اقترحها خارج باب الصغير من دمشق ، وكان على الطريقة المرضية من حسن الأمانة والتصون والديانة ، ولزوم داره ، والتنزه عن كل ما يوتغ الدين ، ويكره بين خيار المسلمين ، غير مكاثر للناس ، ولا معاشر لهم ، ولا متخلط بهم».

وعلى أهمية هذه الاشارة كم كنا نتمنى لو أنه ذكر الفارق بالسن بينه وبين أخيه.

ومن ثنايا مواد ابن القلانسي نرى بأن أسرته كانت من كبار أسر دمشق ، وأعظمها مكانة ، فهو قد تحدث في وقائع سنة ٥٤٨ ه‍ عن الاضطرابات في دمشق ، وبين أن هذه الاضطرابات انتهت حينما «ردّ ـ سلطان دمشق ـ أمر الرئاسة [رئاسة دمشق] والنظر في البلد ... الى الرئيس رضي الدين

١٤

أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي ، وطاف في البلد مع أقاربه ، وسكن أهله ، وسكنت الدهماء ، ولم يغلق في البلد حانوت ولا اضطرب أحد ، واستبشر الناس قاطبة من الخاص والعام والعسكرية وعامة الرعية».

واحتفظت أسرة آل القلانسي بمكانتها العالية في دمشق لعدة قرون فقد تحدث كل من ابن كثير ، وابن طولون وبدران عن «الصاحب عز الدين أبو يعلى حمزة بن مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن عز الدين بن غالب بن المظفر ابن الوزير مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن أبي يعلى حمزة بن أسد بن علي ابن حمزة التميمي الدمشقي ، ابن القلانسي ، أحد رؤساء دمشق الكبار ، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة ، وسمع الحديث من جماعة ورواه ... وله رئاسة باذخة ، وأصالة كثيرة ، وأملاك هائلة كافية لما يحتاج إليه من أمور الدنيا ، ولم يزل مع صناعة الوظائف الى أن ألزم بوكالة بيت السلطان ، ثم بالوزارة».

وابن القلانسي هذا هو حفيد لمؤرخنا ، وهو الذي بنى دار الحديث القلانسية في صالحية دمشق ، ولعله بناها على تربة جده المؤرخ ، ذلك أنه دفن في سفح جبل قاسيون.

وعلى العموم نجد أن ما جاء في كتب التراجم وفي ثنايا تاريخ ابن القلانسي عبارة عن مواد مقتضبة ، فهي وان تحدثت عن ثقافته العالية واهتمامه بالحديث فإنها لم تذكر اسم واحد من أساتذته ولا من تأثر بهم ثقافيا ، ولا عن سلوكه ونشاطاته وصفاته الخلقية والخلقية ، وغير ذلك من الأمور التي بودنا لو عرفناها.

ومهما يكن الحال فان كتابه في التاريخ وعمله في ديوان «الانشاء» بمثابة رئيس له تدل على علو ثقافته وتمكنه من ناصية اللغة ، ومن المفيد هنا أن نشير إلى أنه وإن شابه أهل عصر في اهتمامه بالصنعة والمترادفات ، إلا أنه لم يسرف في ذلك كما أسرف العماد الأصفهاني وسواه ولا شك أن رئاسته للديوان جعلته وسط أخبار الوقائع والأحداث مع شيء من المشاركة ، ومكنته من الاطلاع

١٥

على الوثائق الرسمية على مختلف أنواعها سيما وأنه تسلم ديوان الحساب [الخراج] لفترة من الزمن ، جامعا بينه وبين ديوان الانشاء [الرسائل].

ومرّ بنا قول ابن عساكر ثم ياقوت أنه بدأ مصنفه في التاريخ بحوادث ما بعد سنة أربعين أو احدى وأربعين حسب تحديد ياقوت ، وهذا التحديد فيه شيء من الوهم ، لعل مرده الى النساخ ، فابن القلانسي بدأ كتابه بحوادث سنة / ٤٤٨ ه‍ / وصرح بأنه صنع «مذيلا» ، وفي العادة قد «يبنى المذيل» على ذيل ، والذيل يأتي بمثابة ملحق بكتاب أساسي.

ونعود الآن إلى ما سلف ذكره عن ثابت بن سنان وهلال بن المحسن ، فثابت كتب كتابا بالتاريخ أوقفه على مصر والشام ووقف به مع أحداث سنة / ٣٦٥ ه‍ / وهي سنة وفاته ، وجاء من بعده هلال بن المحسّن فكتب ذيلا على تاريخ ثابت تداخلت بعض سنيه ، حيث بدأه بحوادث سنة / ٣٦٠ / ووقف به حتى نهاية سنة / ٤٤٧ /.

ولا يصرح ابن القلانسي باعتماده على كتابي ثابت بن سنان وهلال بن المحسّن أو على واحد منهما على الأقل ، كل ما هنالك أنه في سياق حديثه عن ولاية «حيدرة بن مفلح» لدمشق ، وهو أحد الولاة الفاطميين قال : «واستمرت عليه الأيام في الولاية الى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ، التي بني هذا المذيل عليها ، وعادت سياقة الحوادث منها ، وإيراد ما فيها ، وتجدد بعدها».

والبحث التاريخي هو الذي قاد الى الافتراض بأن ابن القلانسي بنى «مذيله» على كتابي ثابت بن سنان وهلال بن المحسن ، أو على واحد منهما فمن شبه المؤكد أن مصنف ابن القلانسي بشطريه «الأساس» و «المذيل» يبدأ بحوادث سنة / ٣٦٠ / وبهذه السنة بدأ هلال كتابه ، ومن المسلم به أن ما كتبه هلال عن أخبار السنوات / ٣٦٠ ـ ٣٦٥ ه‍ / وهي السنوات التي

١٦

تداخل بها كتابه مع كتاب ثابت هناك تطابق بالمواد ، مع اختلاف بالتفاصيل ، وهذا ما نلاحظه حينما نقارن مواد السنوات المتداخلة بين تاريخ ثابت بن سنان وتاريخ الطبري ، لهذا ليس من المستبعد أبدا أن يكون ابن القلانسي اعتمد على تاريخ هلال بن المحسن دون سواه.

وتبقى الأمور في حدود الفرضية ، فتاريخ هلال بن المحسن هو بحكم المفقود ، ومصنف ابن القلانسي وصلتنا منه نسخة خطية واحدة محفوظة في مكتبة البودليان في أكسفورد برقم [١٢٥ Hunt] وهذه النسخة قد بتر من أولها مقدار أربع عشرة ورقة ، ولا شك أن هذه الأوراق قد حوت خطبة الكتاب مع بعض المواد الاخبارية ، ولئن تمكنت من تدارك المواد الاخبارية المفقودة من مختصر كتاب ثابت بن سنان ، تبقى المسألة الأساسية معلقة.

من هذا نخلص الى القول أن مخطوطة البودليان تحوي قسمين من المعلومات الاخبارية ، القسم الأول منها حتى سنة ٤٤٨ من تصنيف هلال بن المحسن لوحده أو مع ثابت بن سنان ، والقسم الثاني حتى نهاية الكتاب من تصنيف ابن القلانسي ، والقضية التي تواجهنا الآن هي : هل نقل ابن القلانسي مواد آل الصابىء نقلا حرفيا ، أم عدل فيها اختصارا وزيادة ونقصانا؟.

إن من يقرأ مخطوطة البودليان يلحظ بعض الفوارق باللغة والعرض بين شطري الكتاب ، إنما رغم ذلك يخيل أن ابن القلانسي تدخل بمواد الشطر الأول وأعاد صياغتها ، وهنا لربما حذف بعض المواد وأضاف موادا من عنده ، مما تجمع لديه من مصادر ووثائق محلية.

لقد دعا ابن القلانسي ما صنفه باسم «المذيل» ولما كانت محتويات مخطوطة البودليان تحوي الأصل والمذيل ، فقد بات من المفترض أن نطلق على الكتاب اسم «تاريخ دمشق» ثم لذهابنا الى الافتراض بأن جميع محتويات الكتاب من صياغة ابن القلانسي وروايته [بالوجادة أو غير ذلك من الطرق] فقد بات من المسوغ نسبة الكتاب بأجمعه الى ابن القلانسي.

١٧

يؤرخ مصنف ابن القلانسي لقرنين من الزمن هما من أهم القرون ، وبالنسبة لكثير من الأحداث هو المصدر المتفرد ، في هذين القرنين جرت أحداث الصراع القرمطي الفاطمي على الشام ، وأعقب ذلك الحكم الفاطمي للشام ، وكان حكما لم يعرف الاستقرار لأسباب داخلية فاطمية ، ولمقاومة أهل الشام لهذا الحكم ، وابن القلانسي يروي لنا سيرة المقاومة الشامية ، وهي سيرة لشعب دمشق وشعب الشام أجمع ، سيرة لمنظمات هذا الشعب وفئاته الاجتماعية وقبائله ، سيرة لعمران دمشق وخططها ، وهنا يقتضي أن ننوه أن هذه مزية تفرد بها ابن القلانسي الى أبعد الحدود.

صحيح أن الكتاب أوقفه صاحبه بالأصل على دمشق لكنه يولي مع دمشق اهتماماته بقية أجزاء الشام ، ثم بقية أجزاء الوطن العربي والعالم الاسلامي ، فمواده عن كل من الخلافتين الفاطمية والعباسية لها مكانة خاصة ، بل أكثر من هذا نجده يتقصى أخبار المغرب الأقصى ويقدم لنا رواية ذات مكانة خاصة حول المهدي بن تومرت وتأسيس دولة الموحدين.

وعلى مكانة مواد ابن القلانسي حول العصر الفاطمي ، فإن الذي يفوقها أهمية هو ما رواه حول دخول الشام تحت السلطان السلجوقي ، ثم أحداث الحروب الصليبية زمن الحملتين الأولى والثانية ، وهي أحداث عاصرها وكان شاهد عيان لها ، ولأهمية هذه الروايات تمت ترجمتها الى كل من الانكليزية والفرنسية.

وابن القلانسي مؤرخ ثقة يمكن الاعتماد على رواياته ، وقد أوضح منهجه في كتابه بقوله : «قد انتهيت في شرح ما شرحته من هذا التاريخ ، ورتبته وتحفظت من الخطأ والخطل والزلل فيما علقته من أفواه الثقات ، ونقلته وأكدت الحال فيه بالاستقصاء والبحث ، الى أن صححته الى هذه السنة المباركة ، وهي سنة أربعين وخمسمائة ، وكنت قد منيت منذ سنة خمس وثلاثين وخمسمائة والى هذه الغاية بما شغل الخاطر عن الاستقصاء عما يجب اثباته في هذا

١٨

الكتاب ، من الحوادث المتجددة في الأعمال ، والبحث عن الصحيح منها في جميع الأحوال ، فتركت بين كل سنتين من السنين بياضا في الأوراق ، ليثبت فيه ما يعرف صحته من الأخبار ، وتعلم حقيقته من الحوادث والآثار ، وأهملت فيما ذكرته من أحوال سلاطين الزمان فيما تقدم ، وفي هذا الأوان ، باستيفاء ذكر نعوتهم المقررة ، وألقابهم المحررة ، تجنبا لتكريرها بأسرها ، والاطالة بذكرها ، ولم تجر بذلك عادة قديمة ، ولا سنة سالفة في تاريخ يصنف ، ولا كتاب يؤلف ، وإنما كان الرسم جاريا في القديم باطراح الألقاب والإنكار لها ، بين يدي ذوي العلوم والآداب ، فلما ظهرت الدولة البويهية الديملية ، ولقب أول مسعود نبغ فيها بعماد الدولة بن بويه ، ثم أخوه وتاليه في الولادة والسعادة بركن الدولة أبي علي ، ثم أخوهما بمعز الدولة أبي الحسين ، وكل منهم قد بلغ من علو المرتبة والمملكة ، ونفاذ الأمر في العراق وخراسان والشام الى أوائل المغرب ما هو مشهور ، وذكره في الآفاق منشور ، ولما علا قدر الملك عضد الدولة فناخسره بن ركن الدولة أبي علي بن بويه بعدهم ، وظهر سلطانه ، وعلا شأنه وملك العراق بأسره وما ولاه من البلاد والمعاقل ، وخطب له على المنابر ، زيد في نعوته في أيام المطيع لله أمير المؤمنين رحمه‌الله : تاج الملة ، ولم يزد أحد من أخوته : مؤيد الدولة صاحب أصفهان ، وفخر الدولة صاحب الري وما ولاهما ، وانضاف إليهما على اللقب.

ولم يزل الأمر على ذلك مستمرا الى أن ظهر أمر السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكال بن سلجق ، وقويت شوكة الترك ، وانخفضت الدولة البويهية واضمحلت وانقرضت ، ولقب السلطان طغرلبك لما ظهر أمره في العراق ، واجتاح شأفة أبي الحارث أرسلان الفساسيري في أيام الامام الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين رحمه‌الله ب : السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم ، ركن الدنيا والدين ، غياث المسلمين ، بهاء دين الله ، وسلطان بلاد الله ، ومغيث عباد الله ، يمين خليفة الله ، طغرلبك.

١٩

ثم زاد الأمر في ذلك ، الى أن أضيف الى ألقاب ولاة الأطراف : الدين والاسلام ، والأنام والملة ، وغير ذلك ، بحيث اشترك في هذا الفن الخاص والعام ، لا سيما في هذا الأوان».

إن هذا النص الفريد في كتاب ابن القلانسي فيه أكثر من دليل ، ليس على منهج المؤلف ودقته وتحريه ونوعية مصادره فحسب ، بل على عمق في فهم التاريخ الاسلامي ومشاكله ، ونظرة ثاقبة واعية لأحداثه ، وقد تأثر بهذه النظرة عدد من المؤرخين والسياسيين المسلمين ، فهذا ما نشهد صداه في كتاب الكامل لابن الأثير ، وعدد آخر من المصنفات الاسلامية العربية والفارسية سواء.

ومع أن ابن القلانسي يشير بأنه كان يجمع مواد كتابه على شكل مذكرات يومية ، فإن ما يؤسف له هو طابع الاختصار لديه ، فقد عقدت مقارنة بينه وبين وليم الصوري وهو من معاصريه ، وكلاهما كتب عن حوادث الحروب الصليبية ، واحد في القدس باللاتينية وآخر في دمشق بالعربية ، ومع أن ابن القلانسي انفرد بذكر أخبار بعض الحوادث إلّا أنه إذا اجتمع مع وليم على قص خبر حادثة ، فالتفاصيل لدى وليم أكبر منها عند ابن القلانسي.

وهذا لا يقلل من قيمة ابن القلانسي ، خاصة إذا تذكرنا أنه المصدر العربي الوحيد الذي وصلنا ، وقام برواية الأخبار من وجهة نظر عربية صريحة ومنصفة ، وفيها اعتدال كبير ، وهذه صفات افتقر إليها وليم الصوري وغيره من المؤرخين غير العرب مثل آنا كومينا ، مؤرخة الحملة الصليبية الأولى بالاغريقية ، والمؤرخ السرياني المجهول الذي أرخ للحملتين الأولى والثانية وميخائيل السرياني.

ولهذا لاقى كتاب ابن القلانسي عناية خاصة ، وكان أن أقدم المستشرق ه. أمدروز على تحقيقه ونشره سنة ١٩٠٨ لحساب مؤسسة برل في ليدن هولنده ، وقد طبع نصه في بيروت في مطبعة الآباء اليسوعيين ، وقامت منذ

٢٠