تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وفي شعبان منها وردت الأخبار بخروج الأفضل أمير الجيوش من مصر ، في عسكر كبير إلى ناحية الشام ، ونزل على بيت المقدس ، وفيه الأميران سكمان وإيل غازي ابنا أرتق ، وجماعة من أقاربهما ورجالهما ، وخلق كثير من الأتراك فراسلهما يلتمس منهما تسليم بيت المقدس إليه ، من غير حرب ولا سفك دم ، فلم يجيباه الى ذلك ، فقاتل البلد ، ونصب عليه المناجيق ، فهدمت ثلمة من سوره ، وملكه وتسلم محراب داود من سكمان ، ولما حصل فيه أحسن إليهما وأنعم عليهما وأطلقهما ومن معهما ووصلوا إلى دمشق في العشر الأول من شوال ، وعاد الأفضل في عسكره إلى مصر.

وفيها توجه الأفرنج الى معرة النعمان بأسرهم ، ونزلوا عليها في اليوم التاسع والعشرين من ذي الحجة ، وقاتلوها ونصبوا عليها البرج والسلالم ، وبعد افتتاح الافرنج بلد (٧٤ و) أنطاكية بتدبير الزرّاد ، وهو رجل أرمني اسمه نيروز (١) في ليلة الجمعة مستهل رجب ، تواصلت الأخبار بصحة ذلك فتجمعت عساكر الشام في العدد الذي لا يدركه حصر ولا حزر ، وقصدوا عمل أنطاكية للإيقاع بعسكر الأفرنج ، فحصروهم حتى عدم القوت عندهم حتى أكلوا الميتة ، ثم زحفوا وهم في غاية من الضعف إلى عساكر الإسلام وهم في الغاية من القوة والكثرة ، فكسروا المسلمين ، وفرقوا جموعهم ، وانهزم أصحاب الجرد السبق ، ووقع السيف في الرجال المتطوعين والمجاهدين والمغاليين في الرغبة في الجهاد ، وحماية المسلمين ، في ذلك ، في يوم الثلاثاء السادس من رجب في السنة (٢).

__________________

(١) هو فيروز في مصادر أخرى.

(٢) انظر تفاصيل هذا في كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٢٣٨ ـ ٢٤٢.

٢٢١

وأهلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة

في المحرم منها زحف الأفرنج إلى سور معرة النعمان من الناحية الشرقية والشمالية ، وأسندوا البرج إلى سورها ، وهو أعلى منه ، فكشفوا المسلمين عن السور ، ولم تزل الحرب عليه إلى وقت المغرب من اليوم الرابع عشر من محرّم ، وصعدوا السور ، وانكشف أهل البلد عنه ، وانهزموا بعد أن ترددت إليهم رسل الافرنج في التماس التقرير والتسليم وإعطاء الأمان على نفوسهم وأموالهم ، ودخول الشحنة إليهم ، فمنع من ذلك الخلف بين أهلها وما قضاه الله تعالى وحكم به ، وملكوا البلد بعد صلاة المغرب ، وقتل فيه خلق كثير من الفريقين ، وانهزم الناس إلى دور المعرة للاحتماء بها ، فأمنهم الافرنج وغدروا بهم ، ورفعوا الصلبان فوق البلد ، وقطعوا على أهل البلد القطائع ، ولم يفوا بشيء مما قرروه ، ونهبوا ما وجدوه ، وطالبوا الناس بما لا طاقة لهم به ، ورحلوا يوم الخميس السابع عشر من صفر إلى كفر طاب.

ثم قصدوا بعد ذلك ناحية بيت المقدس آخر رجب من السنة ، وأجفل الناس منهم من أماكنهم ، ونزلوا أولا على الرملة فملكوها عند إدراك الغلة ، وانتقلوا إلى بيت المقدس ، فقاتلوا أهله ، وضيقوا عليهم ، ونصبوا عليه البرج وأسندوه الى السور ، وانتهى إليهم خروج الأفضل من مصر في العساكر الدثرة ، لجهادهم والايقاع بهم ، وإنجاد البلد عليهم وحمايته منهم ، فشدوا في قتاله ، ولازموا حربه إلى آخر نهار ذلك اليوم ، وانصرفوا عنه ، وواعدهم الزحف إليهم من الغد ، ونزل الناس عن السور وقت المغرب ، (٧٤ ظ) فعاود الأفرنج الزحف إليه ، وطلعوا البرج ، وركبوا سور البلد ، فانهزم الناس عنه ، وهجموا البلد فملكوه ، وانهزم بعض أهله إلى المحراب ، وقتل خلق كثير وجمع اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم ، وتسلموا المحراب بالأمان في الثاني والعشرين من شعبان من السنة ، وهدموا المشاهد وقبر الخليل عليه‌السلام.

٢٢٢

ووصل الأفضل في العساكر المصرية ، وقد فات الأمر ، فانضاف إليه عساكر الساحل ، ونزل بظاهر عسقلان في رابع عشر شهر رمضان ، منتظرا لوصول الإسطول في البحر والعرب ، فنهض عسكر الأفرنج إليه ، وهجموا عليه في خلق عظيم ، فانهزم العسكر المصري إلى ناحية عسقلان ، ودخل الأفضل إليها ، وتمكنت سيوف الأفرنج من المسلمين ، فأتى القتل على الراجل والمطوعة وأهل البلد ، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس ، ونهب العسكر ، وتوجه الأفضل في خواصه إلى مصر ، وضايقوا عسقلان إلى أن قرروا عليها بعده للأفرنج عشرين ألف دينار ، تحمل إليهم ، وشرعوا في جبايتها من أهل البلد ، فاتفق حدوث الخلف بين المقدمين ، فرحلوا ولم يقبضوا من المال شيئا ، وحكي أن الذين قتلوا في هذه الوقعة من أهل عسقلان من شهودها وتنائها وتجارها وأحداثها ، سوى أجنادها ألفان وسبعمائة نفس.

سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

في صفر منها ورد الخبر بوصول السلطان بركيارق إلى بغداد ، بعد أن جرى بينه وبين أخيه السلطان محمد تبر خلف وحرب ، استظهر فيها عليه ، وغلبه على مدينة أصفهان وحصل بها.

وتوجّه الملك شمس الملوك دقاق بن تاج الدولة من دمشق في عسكره إلى ديار بكر لتسلمها من المستولي عليها ، ووصل إلى الرحبة في البرية ، ووصل الى ديار بكر وتسلم ميافارقين ، ورتب فيها من يحفظها ويذب عنها.

وفي رجب منها خرج بيمند ملك الافرنج صاحب أنطاكية إلى حصن أفامية ، ونزل عليه ، وأقام أياما وأتلف زرعه ووصل الخبر بوصول الدانشمند (١)

__________________

(١) أنوشتكين الدانشمند ، وعند ابن العديم حدثت المعركة في أرض مرعش ، زبدة الحلب : ٢ / ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

٢٢٣

إلى ملطية في عسكره من الأتراك ، في خلق عظيم ومن عسكر (قلج أرسلان ابن) سليمان بن قتلمش ، فعاد بيمند عند معرفة ذاك إلى أنطاكية ، وجمع وحشد ، وقصد عسكر المسلمين ، فنصر الله تعالى المسلمين عليه ، وقتلوا من حزبه خلقا كثيرا (٧٥ و) وحصل في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه ، ونفذت الرسل إلى نوابه بأنطاكية يلتمسون تسليمها ، في العشر الثاني من شهر صفر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.

وفيها وردت الأخبار بأن الآبار غارت في عدة جهات من أعمال الشمال ، والمنابع في أكثر المعاقل ، وقلت وتقلصت الأسعار فيها.

سنة أربع وتسعين وأربعمائة

فيها جمع الأمير سكمان بن أرتق خلقا كثيرا من التركمان ، وزحف بهم إلى أفرنج الرها وسروج ، في شهر ربيع الأول وتسلم سروج واجتمع اليه خلق كثير ، وحشد الأفرنج أيضا ، والتقى الفريقان ، وقد كان المسلمون مشرفين على النصر عليهم ، والقهر لهم ، فاتفق هروب جماعة من التركمان ، فضعفت نفسه وانهزم ، ووصل الأفرنج إلى سروج ، فتسلموها وقتلوا أهلها وسبوهم ، إلا من أفلت منهم هزيما.

(و) في هذه السنة توفي القاضي الفقيه الإمام أبو اسحق إبراهيم بن محمد بن عقيل بن زيد الشهرزوري الواعظ ، رحمه‌الله ، يوم الإثنين السابع من المحرم منها.

وفي هذه السنة وصل كندفري صاحب بيت المقدس إلى ثغر عكا ، وأغار عليه فأصابه سهم فقتله ، وكان قد عمّر يافا وسلمها إلى طنكري ، فلما قتل كندفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرها الى بيت المقدس ، في خمسمائة

٢٢٤

فارس وراجل ، فجمع شمس الملوك دقاق عند معرفة خبر عبوره ، ونهض إليه معه الأمير جناح الدولة صاحب حمص ، فلقوه بالقرب من ثغر بيروت ، فسارع نحوه جناح الدولة في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه.

وفيها افتتح الأفرنج حيفا ، على ساحل البحر بالسيف ، وأرسوف بالأمان ، وأخرجوا أهلها منها ، وفي آخر رجب منها فتحوا قيسارية بالسيف ، وقتلوا أهلها ، ونهبوا ما فيها ، وأعانهم الجنويون عليها.

وفيها ورد الخبر بقرب السلطان بركيارق من بغداد في عسكره ، طالبا للقاء أخيه محمد (١) ، فأسر وقتل وأخذ وزيره وجماعة من مقدميه ، وأمر بقتلهم ، وتوجه من وقته إلى ناحية أصفهان ، فنزل عليها عند وصوله إليها ، وتقرر أمرها بحيث ملكها ، وحصل فيها وهي دار السلطنة واستقام (٧٥ ظ) له الأمر بها.

وفيها تقدم الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ببغداد بالقبض على عميد الدولة محمد بن محمد بن جهير وزيره ، وعلى نوابه وأسبابه ومصادرتهم ، وقتلهم لأشياء نقمها عليه (٢) ، ومنكرات عزيت إليه.

__________________

(١) في الأصل : «طالبا للقاء أخيه السلطان بركيارق بعسكر أخيه محمد فأسر وقتل وأخذ وزيره ...» وشكل هذه الجملة المتداخلة يوحي بوجود سقط أو خطأ من الناسخ ، ثم إنها تفيد بأن بركيارق هزم وقتل ، وأسر وزيره ، وهذا ما لم يحدث ، فالذي هزم هو السلطان محمد ، والذي أسر وقتل هو وزير محمد «مؤيد الملك أبو بكر عبد الله بن نظام الملك» لأنه سبق له أن أوعز بقتل الخاتون زبيدة أم بركيارق. انظر مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٩٤ ه‍. تاريخ دولة آل سلجوق للعماد الأصفهاني ـ ط. القاهرة : ١٩٠ ص : ٧٩ ـ ٨١.

(٢) ذكره سبط ابن الجوزي في وفيات سنة / ٤٩٣ / وقال بعدما تحدث عن أعماله والمناصب التي شغلها : «ثم آل أمره إلى أن حبسه الخليفة في داره وأخرج ميتا في شوال ، فحمل إلى داره فغسل فيها ، ودفن ...»

٢٢٥

وفي شعبان منها أرسل القاضي ابن صليحة المتغلب على ثغر جبلة إلى الأمير ظهير الدين أتابك ، يلتمس منه انفاذ من يراه من ثقاته ليسلم إليه ثغر جبلة ، ويصل إلى دمشق بماله وحاله ، ويسيره إلى بغداد تحت الحوطة والأمان والحماية ، وجميل الرعاية ، فأجابه الى ما اقترحه ، ووعده بتحقيق أمله ، وندب لولاية الثغر المذكور ولده الأمير تاج الملوك بوري ، وكان الملك شمس الملوك دقاق غائبا عن دمشق في ديار بكر ، فعاد منها ، ودخل إلى دمشق في أول شوال من السنة ، وتقررت الحال على ما التمس ابن صليحة ، وتوجه تاج الملوك في أصحابه إلى جبلة ، فتسلمها ، وانفصل ابن صليحة عنها ، ووصل دمشق بأصحابه وأسبابه وكراعه ودوابه وكل ما تحويه يده من مال وأثاث وحال ، فأكرم مثواه ، وأحسن لقياه ، وأقام ما أقام بدمشق ، وسيّر إلى بغداد مع فرقة وافرة من الأجناد ، بجميع ما يملكه ، وحصل بها ، واتفق له من وشى بماله ، وعظم سعة حاله إلى السلطان ، فنهب واشتمل على ما كان يملك.

وأما تاج الملوك فإنه لما ملك ثغر جبلة ، وتمكن هو وأصحابه فيها أساؤوا إلى أهله ، وقبحوا السيرة فيهم ، وجروا على غير العادة المرضية من العدل والإنصاف ، فشكوا حالهم فيما نزل بهم إلى القاضي فخر الملك أبي علي عمار بن محمد بن عمار المتغلب على ثغر طرابلس لقربها منهم ، فوعدهم المعونة على مرادهم وإسعادهم بالانفاذ لهم ، وأنهض اليهم عدة وافرة من عسكره ، فدخلت الثغر ، واجتمعت مع أهله على الأتراك ، فقهروهم وأخرجوهم منه ، وملكوه وقبضوا تاج الملوك ، وحملوه الى طرابلس ، فأكرمه فخر الملك وأحسن إليه ، وسيره إلى دمشق ، وكتب الى والده أتابك يعرفه صورة الحال ، ويعتذر إليه مما جرى.

وفيها قبض الملك شمس الملوك دقاق على أمين الدولة أبي محمد بن الصوفي ، رئيس دمشق وصالحه على جملة من المال يحملها الى خزانته ، وأطلقه من الاعتقال ، وأقره على رئاسته.

٢٢٦

وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف مع الأمير سعد الدولة المعروف بالعواسي ووصل إلى (٧٦ و) عسقلان لجهاد الأفرنج في أول شهر رمضان ، وأقام بحيث هو إلى ذي الحجة منها ، ورحل عن عسقلان ، ونهض إليه من الأفرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل ، والتقى الفريقان فكسرت ميمنة المسلمين وميسرتهم وتبعوهم ، وبقي سعد الدولة المقدم في نفر يسير من عسكره في القلب ، فحمل الأفرنج عليه ، وطلب الثبات ، فعاجله القضاء ، وكبا به جواده ، وسقط عنه إلى الأرض ، فاستشهد مكانه رحمه‌الله ، ومضى شهيدا مأجورا ، وعاد المسلمون على الأفرنج ، وتذامروا عليهم ، وبذلوا النفوس في الكرة إليهم ، فهزموهم إلى يافا ، وقتلوا منهم وأسروا ، وغنموا وكانت العقبى الحسنة لهم ، ولم يفقد إلا نفر يسير منهم.

وفيها انكفأ الأمير كربوقا صاحب الموصل والجزيرة عن السلطان بركيارق لمشاهدة أحوال ولايته ، واستعادة المخالفين إلى طاعته ، فلما وصل إلى مراغة عرض له مرض الموت ، واشتد به ، وتوفي هناك ، وسار إلى ربه ،

وفي هذه السنة وصل السلطان بركيارق بن ملك شاه إلى بغداد ، منهزما من أخيه السلطان محمد في آخرها (١).

سنة خمس وتسعين وأربعمائة

وفي هذه السنة وردت الأخبار بما أهل خراسان والعراق والشام عليه ، من الخلاف المستمر والشحناء والحروب والفساد ، وخوف بعضهم من بعض ، لاشتغال الولاة عنهم وعن النظر في أحوالهم بالخلف والمحاربة.

__________________

(١) تحالف محمد مع أخيه سنجر ضد بركيارق ، وقدم الإثنان إلى بغداد ، فهرب منها بركيارق إلى واسط ثم إلى الجبل. مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٩٤.

٢٢٧

وفيها وصل قمص (١) الرها ، مقدم الأفرنج في عسكره المخذول إلى ثغر بيروت ، فنزل عليه طامعا في افتتاحه ، وحاربه وضايقه وطال مقامه عليه ، ولم يتهيأ فيه مراد فرحل عنه.

ووردت مكاتبات فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يلتمس فيها المعونة على دفع ابن صنجيل النازل في عسكره من الأفرنج على طرابلس ، ويستصرخ بالعسكر الدمشقي ، ويستغيث بهم ، فأجيب إلى ما التمس ، ونهض العسكر نحوه ، وقد استدعى الأمير جناح الدولة صاحب حمص ، فوصل أيضا في عسكره ، فاجتمعوا في عدد دثر ، وقصدوا ناحية أنطرطوس ، ونهد الأفرنج إليهم في جمعهم وحشدهم ، وتقارب الجيشان والتقيا هناك ، فانفل عسكر المسلمين من عسكر المشركين ، وقتل منهم الخلق الكثير ، وقفل من سلم إلى دمشق وحمص بعد فقد من (٧٦ ظ) فقد منهم ، ووصلوا في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة.

وفيها وردت الأخبار من ناحية مصر بوفاة المستعلي بالله أمير المؤمنين بن المستنصر بالله صاحب مصر ، في صفر منها ، وعمره سبع وعشرون سنة ، ومولده سنة ثمان وستين وأربعمائة ، وكانت مدة أيامه سبع سنين وشهرين ، ونقش خاتمه «الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين» ، وكان حسن الطريقة ، جميل السيرة في كافة الأجناد والعسكرية ، وسائر الرعية ، لازما قصره كعادة أبيه المستنصر بالله منكفيا بالافضل سيف الاسلام ابن أمير الجيوش ، فيما يريده ، بأصالة رأيه وصواب تقديره وامضائه ، وقام في الأمر بعده ولده أبو علي المنصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد ، وأخذ له البيعة على الأجناد والأمراء ، وكافة الرعايا والخدم والأولياء ، الأفضل السيد أبو القاسم شاهنشاه

__________________

(١) كان جوسلين هو كونت الرها ، وقد أرخ كاتب سرياني مجهول لمملكة الرها حتى سقوطها ، وقمت مؤخرا بترجمة هذا النص مع نصوص أخرى اغريقية ولاتينية عن الحملتين الصليبيتين الأولى والثانية لنشرها قريبا ان شاء الله.

٢٢٨

ابن أمير الجيوش ، وأجلسه في منصب أبيه عقيب وفاته ، ولقب بالآمر بأحكام الله ، واستقام له الأمر بحسن تدبير الأفضل ، وانتظمت به الأحوال على غاية المباغي والآمال.

وفي هذه السنة خرجت العساكر المصرية من مصر ، لإنجاد ولاة الساحل في الثغور الباقية في أيديهم منها على منازليهم من أحزاب الأفرنج ، ووصلت إلى عسقلان في رجب ، ولما عرف بغدوين قمص بيت المقدس وصولهم ، نهض نحوهم في جمعه من الأفرنج في تقدير سبعمائة فارس وراجل ، اختارهم ، فهجم بهم على العسكر المصري ، فنصره الله على حزبه المفلول ، وقتلوا أكثر خيله ورجالته ، وانهزم إلى الرملة في ثلاثة نفر ، وتبعوه وأحاطوا به ، فتنكر وخرج على غفلة منهم ، وقصد يافا ، وأفلت منهم ، فكان قد اختفى في أجمة قصب حين تبع ، وأحرقت تلك الأجمة ، ولحقت النار بعض جسده ، ونجا منها ، وحصل بيافا ، فأوقع السيف في أصحابه وقتل وأسر من ظفر به في الرملة من رجاله وأبطاله ، وحملوا الى مصر في آخر رجب من السنة.

وفي هذا الوقت وصلت مراكب الأفرنج في البحر ، تقدير أربعين مركبا ، ووردت الأخبار بأن البحر هاج بها ، واختلفت أرياحه عليها ، فعطب أكثرها ، ولم يسلم منها إلا القليل ، وكانت مشحنة بالرجال والمال.

سنة ست وتسعين وأربعمائة

(٧٧ و) فيها برز الملك شمس الملوك دقاق وظهير الدين أتابك من دمشق ، في العسكر ، وقصد الرحبة ، ونزل عليها ، وضايق من بها ، وقطع أسباب الميرة عنها ، وأضر بالمضايقة إلى أن اضطر المقيم بها إلى طلب الأمان له ولأهل البلد ، فأمنوا ، وسلمت إليه بعد القتال الشديد ، والحرب المتصلة في جمادى الآخرة منها ، ورتب أمرها ، وندب من رآه من الثقات لحفظها ، وقرر أحوال من بها ، ورحل عنها في يوم الجمعة الثاني والعشرين منها ، منكفئا إلى دمشق.

٢٢٩

وفيها ورد الخبر من حمص ، بأن صاحبها الأمير جناح الدولة حسين أتابك ، نزل من القلعة إلى الجامع ، لصلاة الجمعة وحوله خواص أصحابه بالسلاح التام ، فلما حصل بموضع مصلاه على رسمه ، وثب عليه ثلاثة نفر عجم من الباطنية ومعهم شيخ ، يدعون له ويستميحونه ، في زي الزهاد ، فوعدهم ، فضربوه (١) بساكينهم ، وقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه ، وكان في الجامع عشرة نفر من متصوفة العجم وغيرهم ، فاتهموا ، وقتلوا صبرا مظلومين في الوقت عن آخرهم.

وانزعج أهل حمص لهذا الحادث وأجفلوا في الحال ، وهرب أكثر سكانها من الأتراك إلى دمشق ، واضطربت الأحوال بها ، وراسلوا الملك شمس الملوك بدمشق يلتمسون إنفاذ من يتسلم حمص ، ويعتمد عليه في حمايتها ، والذب عنها قبل انتهاء الخبر إلى الافرنج ، وامتداد أطماعهم فيها ، فسار الملك شمس الملوك وظهير الدين أتابك في العسكر من دمشق ، ووصل إلى حمص ، وتسلمها ، وحصل في قلعتها ، ووافق ذلك وصول الأفرنج إليها ، ونزولهم على الرستن لمضايقتها ومنازلتها ، فحين عرفوا ذلك أحجموا عن القرب إليها والدنو منها ، ورحلوا عنها.

وقد كان المعروف بالحكيم المنجم الباطني ، صاحب الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب أول من أظهر مذهب الباطنية في حلب والشام ، وهو الذي ندب الثلاثة النفر لقتل جناح الدولة بحمص ، وورد الخبر بهلاكه بعد الحادثة بأربعة عشر (٢) يوما.

__________________

(١) في ترجمة جناح الدولة حسين لابن العديم جاء «وكان قتله .... بتدبير الحكيم أبي الفتح المنجم الباطني ، ورفيقه أبي طاهر ، وقيل كان ذلك بأمر رضوان ورضاه». مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٧٨.

(٢) في بغية الطلب لابن العديم : «وبقي المنجم الباطني بعده أربعة وعشرين يوما ومات». مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٧٨.

٢٣٠

ولما رتب شمس الملوك أمر حمص ، وقرر أحوالها ، وانكفأ عائدا إلى دمشق في أول شهر رمضان ، خرجت العساكر المصرية من مصر إلى البر ، والاسطول في البحر مع شرف المعالي ولد الأفضل شاهنشاه ، وكتب في استدعاء المعونة على (٧٧ ظ) الجهاد ، وبنصرة العباد والبلاد ، بإنفاذ العسكر الدمشقي ، فأجيب إلى ذلك ، وعاقت عن مسيره أسباب حدثت ، وصوادف صدفت ، ووصل اسطول البحر ، ونزل على يافا آخر شوال ، وأقام أياما وتفرق الاسطول والعساكر إلى الساحل وكانت الأسعار بها قد ارتفعت ، والأقوات قد قلت ، فصلحت بما وصل من الاسطول من الغلة ورخص الأسعار ، إلا أن غارات الأفرنج متصلة عليها.

وفي ذي القعدة من السنة تواترت الأخبار بخروج قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش ، من بلاد الروم طالبا أنطاكية ، ووصوله إلى قريب من مرعش ، وجرى بينه وبين الأمير الدانشمند صاحب ملطية خلف ومنازعة ، أوجبت عوده عليه ، وايقاعه به ، وفل عسكره ، والفتك برجاله ، ولما انكفأ بعد ذلك قيل إنه وصل إلى الشام ، وأرسل رسوله الى حلب يلتمس الأذن للسفار بالوصول الى عسكره بالمير والأزواد ، وما يحتاج إليه سائر العسكرية والأجناد ، فسر الناس بذلك وتباشروا به.

سنة سبع وتسعين وأربعمائة

في رجب منها وردت الأخبار بوصول مراكب الأفرنج في البحر من بلادهم إلى ظاهر اللاذقية مشحونة بالتجار والأجناد والحجاج ، وغير ذلك ، وأن صنجيل المنازل لطرابلس استنجد بهم على طرابلس ، في مضايقتها والمعونة على ملكتها ، وأنهم وصلوا إليه فاجتمعوا معه على منازلتها ومضايقتها ، فقاتلوها أياما ورحلوا عنها ، ونزلوا على ثغر جبيل فقاتلوه وضايقوه وملكوه بالأمان ، فلما حصل في ملكتهم ، غدروا بأهله ، ولم يفوا بما بذلوه من الأمان وصادروهم ، واستنفذوا أحوالهم وأموالهم بالعقوبات وأنواع العذاب.

٢٣١

وورد الخبر باجتماع الأميرين : سكمان بن أرتق ، وجكرمش صاحب الموصل في عسكرهما [وأنهما] تعاهدا وتعاقدا على المجاهدة في أعداء الله الأفرنج ، وبذل الطاقة والاستطاعة في حربهم ، ونزلا في أوائل شعبان من السنة برأس العين ، ونهض بيمند وطنكري في عسكريهما من ناحية أنطاكية إلى الرها لإنجاد صاحبها على الأميرين المذكورين ، فلما قربا من عسكر المسلمين النازلين على الرها ، تأهب كل من الفريقين للقاء صاحبه ، فالتقوا في تاسع شعبان فنصر الله المسلمين عليهم ، وهزموهم وقتلوا منهم (٧٨ و) مقتله كثيرة ، وكانت عدتهم تزيد على عشرة آلاف فارس وراجل سوى السواد والأتباع ، وانهزم بيمند وطنكري في نفر يسير ، وكان نصرا حسنا للمسلمين لم يتهيا مثله ، وبه ضعفت نفوس الأفرنج ، وقلت عدتهم ، وفلت شوكتهم وشكتهم وقويت نفوس المسلمين وأرهفت (١) عزائمهم في نصرة الدين ، ومجاهدة الملحدين ، وتباشر الناس بالنصر عليهم ، وأيقنوا بالنكاية فيهم ، والإدالة منهم.

وفي هذا الشهر ورد الخبر بنزول بغدوين ملك الافرنج ، صاحب بيت المقدس ، في عسكره على ثغر عكا ، ومعه الجنويون في المراكب في البحر والبر ، وهم الذين كانوا ملكوا ثغر جبيل في نيف وتسعين مركبا ، فحصروه من جهاته وضايقوه من جوانبه ، ولازموه بالقتال إلى أن عجز واليه ورجاله عن حربهم ، وضعف أهله عن المقاتلة لهم ، وملكوه بالسيف قهرا ، وكان الوالي به الأمير زهر الدولة بنا (٢) الجيوشي قد خرج منه لعجزه عن حمايته ، وضعفه عن المراماة دونه ، وأنفذ يلتمس منهم الأمان له ولأهل الثغر ، ليأسه من وصول نجدة أو معونة ، فلما ملك الثغر تم على حاله منهزما إلى دمشق ، فدخلها وأكرمه ظهير الدين أتابك ، وأحسن تلقيه ، وكان وصوله إلى دمشق في يوم

__________________

(١) تكررت «وأرهفت بالأصل».

(٢) كذا في الأصل ، وفي النفس شيء منه ، ولم أجد في المتوفر من المصادر المتوفرة ما يفيد حوله ، ولعل العبارة «بنا» زائدة فحين أورد سبط ابن الجوزي الخبر قال : «وكان واليها زهر الدولة الجيوشي».

٢٣٢

الخميس لثلاث بقين من شعبان ، وتقدم شمس الملوك دقاق وظهير الدين أتابك في حقه ، بما طيب نفسه وأكد أنسه ، وأقام بدمشق الى أن تسهلت له السبيل في العود الى مصر ، فتوجه إليها عائدا ، ووصل إليها سالما ، وأوضح عذره فيما تم عليه من الغلبة ، فقبل عذره بعد الإنكار عليه ، والغيظ من فعله.

وفي هذه السنة عرض للملك شمس الملوك دقاق بن السلطان تاج الدولة ، صاحب دمشق ، مرض تطاول به ، ووقع معه تخليط الغداء ، أوجب انتقاله إلى علة الدق ، فلم يزل به وهو كل يوم في ضعف ونقص ، فلما أشفى ووقع اليأس من برءه ، وانقطع الرجاء من عافيته (١) ، تقدمت إليه والدته الخاتون صفوة الملك بأن يوصي بما في نفسه ، ولا يترك أمر الدولة وولده سدى ، فعند ذلك نص على الأمير ظهير الدين أتابك في الولاية بدمشق من بعده ، والحضانة لولده الصغير تتش بن دقاق بن تاج الدولة إلى حين يكبر ، وإحسان تربيته ، وألقى إليه ما كان في نفسه ، وتوفي إلى رحمة الله في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان من السنة (٢).

وقد (٧٨ ظ) كان ظهير الدين أتابك قبل هذه الحال في عقابيل مرض أشفى منه ، وتداركه من الله تعالى العافية ، وأبل من مرضه ، وشرع في إحسان السيرة في العسكرية والرعية ، وأحسن إلى الأمراء والمقدمين من الدولة ،

__________________

(١) أورد ابن عساكر في تاريخه سببا غير هذا لوفاة دقاق حيث قال : «ثم عرض لدقاق مرض تطاول به ، وتوفي منه في الثاني عشر من رمضان سنة سبع وتسعين وأربعمائة ، وإن أمه زينت له جارية ، فسمته في عنقود عنب معلق في شجرته ، ثقبته بإبرة فيها خيط مسموم ، وإن أمه ندمت على ذلك بعد الفوت ، وأومأت إلى الجارية أن لا تفعل ، فأشارت إليها أن قد كان ، وتهرى جوفه ، فمات». مدخل إلى الحروب الصليبية ٣٨٦.

(٢) نقل سبط بن الجوزي عن ابن القلانسي خبر وفاة دقاق وزاد في نقله «ودفن على الشرف الشمالي بدمشق بقبة الطواويس». أخبار سنة ـ ٤٩٧ ـ.

٢٣٣

وأطلق يده من الخزانة في الخلع والتشريفات والصلات والهبات ، وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، وأقام الهيبة على المفسدين المسيئين ، وبالغ في الإحسان إلى المطيعين والمحسنين ، وتألف القلوب بالعطاء ، واستمال الجانح بالتودد والحباء ، واستقامت له الأمور ، وأجمع على طاعته الجمهور ، وقد كان الملك شمس الملوك قد حمل على الرئيس أبي محمد بن الصوفي رئيس دمشق ، إلى أن قبض عليه في سنة ست وتسعين وأربعمائة ، وبقي معتقلا إلى أن قررت عليه مصالحة نهض فيها ، وقام بها ، وبعد ذلك عرض له مرض قضى فيه محتوم نحبه ، وصار منه إلى ربه وقام بعده في منصبه ولده أبو المجلي سيف وأخوه أبو الذواد المفرج ، وكتب لهما المنشور في الاشتراك في الرئاسة ، وأحضرهما ظهير الدين أتابك ، عقيب وفاة شمس الملوك ، وطيب نفسيهما ، ووكد الوصية عليهما في استعمال النهضة في سياسة الرعايا ، وإنهاء أحوالهما فيما يستمر عليها من صلاح وفساد ، ليقابل المحسن إليها بالإحسان ، والجاني عليها بالتأديب والهوان ، فامتثلا أوامره وعملا بأحكامه.

وكان الملك شمس الملوك رحمه‌الله ، قبل وفاته قد سيّر أخاه الملك أرتاش بن السلطان تاج الدولة إلى حصن بعلبك ، ليكون به معتقلا عند واليه فخر الدولة ـ خادم أبيه ـ كمشتكين التاجي ، فرأى ظهير الدين أتابك في حكم ما يلزمه لأولاد تاج الدولة أن يراسل (١) الخادم المذكور في إطلاقه وإحضاره الى دمشق ، فوصل إليها ، وتلقاه وأكرمه وبجله وخدمه ، وأقامه في منصب أخيه شمس الملوك ، وتقدم إلى الأمراء والمقدمين والأجناد بالطاعة لأمره ، والمناصحة في خدمته ، وأجلسه في دست المملكة ، في يوم السبت لخمس بقين من ذي الحجة سنة سبع وتسعين وأربعمائة فاستقامت بذلك الأمور ، وسكنت إليه نفوس الجمهور.

__________________

(١) في الأصل : «أن أرسل الخادم» والتقويم من مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٩٨ ـ حيث النقل عن ابن القلانسي.

٢٣٤

واتفق للأمر المقضي الذي لا يدافع ، والمحتوم الذي لا يمانع ، من سعى في إفساد هذا التدبير ، ونقض هذا التقرير ، فأوحش الملك محيي الدين أرتاش من ظهير الدين أتابك (٧٩ و) ومن الخاتون صفوة الملك والده شمس الملوك ، وأوقعت أمه في نفسه الخوف منهما ، وأوهمته أنهما ربما عملا عليه فقتلاه ، والأمر بالضد مما نقله الواشي إليه وألقاه ، فخاف منهما وحسن له الخروج من دمشق ومملكتها ، والعود إلى بعلبك لتجتمع إليه الرجال والعسكرية ، فخرج منها سرا في صفر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة وخرج ايتكين الحلبي صاحب بصرى إليها هاربا ، لتقرير كان بينهما في هذا الفساد ، فعاثا في ناحية حوران ، وراسلا بغدوين ملك الأفرنج بالاستنجاد به ، وتوجها نحوه ، وأقاما عنده مدة بين الافرنج يحرضانه على المسير إلى دمشق ، ويبعثانه على الإفساد في أعمالها ، فلم يحصلا منه على حاصل ، ولا ظفرا بطائل ، فحين يئسا من المعونة ، وخاب أملهما في الإجابة ، توجها إلى ناحية الرحبة في البرية (١) ، واستقام الأمر بعدهما لظهير الدين أتابك ، وتفرد بالأمر ، واستبد بالرأي ، وحسنت أحوال دمشق وأعمالها بإيالته ، وعمرت بجميل سياسته ، وقضى الله تعالى بوفاة تتش ولد الملك شمس الملوك دقاق المقدم ذكره في هذه الأيام واتفق أن الأسعار رخصت ، والغلات ظهرت ، وانبسطت الرعية في

__________________

(١) أورد سبط ابن الجوزي ـ أخبار سنة ٤٩٨ ـ أنهما عادا من الرحبة إلى بصرى «فخرج طغتكين بالعساكر ونازل بصرى وحصرهما فيها ، واتفق خروج العسكر المصري في عشرة آلاف مع الأمير شمس المعالي ولد الأفضل ، وكوتب طغتكين بالمسير معه إلى قتال الفرنج ، وكان نازلا على بصرى ، فامتنع ، ثم رأى تقديم الجهاد ، فسار إلى العسكر المصري ، والتقى المسلمون والفرنج ، فانهزم عسكر المصريين إلى عسقلان ، وعسكر طغتكين إلى بصرى ، ووجد أرتاش وايتكين قد خرجا منها إلى الرحبة ، فأمن أهل بصرى ، وسلموها إليه ، فلم يتعرض لهم ، وطيب قلوبهم».

٢٣٥

عمارة الأملاك في باطن دمشق ، وظاهرها لإحسان سيرته وإجمال معاملته ، وبث العدل فيهم ، وكف أسباب الظلم عنهم.

وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية طرابلس بظهور فخر الملك بن عمار ، صاحبها في عسكره وأهل البلد ، وقصدهم الحصن الذي بناه صنجيل عليهم (١) وأنهم هجموا عليه على غرة ممن فيه ، فقتل من به ونهب ما فيه ، وأحرق ، وأخرب ، وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضة الشيء الكثير ، وعاد إلى طرابلس سالما غانما ، في التاسع عشر من ذي الحجة ، وقيل ان بيمند صاحب أنطاكية ركب في البحر ، ومضى إلى الأفرنج يستصرخهم ، ويستنجد بهم على المسلمين في الشام ، وأقام مدة ، وعاد عنهم منكفئا إلى أنطاكية.

سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

فيها عرض لظهير الدين أتابك مرض اشتد به ، ولازمه ، وخاف منه على نفسه ، وأشفق على أهله وولده وأصحابه ورعيته إن تمّ عليه أمر ، وتواصلت مكاتبات فخر الملك بن عمار (٧٩ ظ) ورسله من طرابلس بالاستصراخ والاستنجاد على الأفرنج النازلين عليها ، والبعث على تعجيل إعانته بمن يصل إليه من العساكر ، لكشف غمته ، وتفريج كربته ، وقد كان الأمير سكمان بن أرتق ، والأمير جكرمش صاحب الموصل ، قد اتفقا على الجهاد في المشركين ، ونصرة المسلمين ، فنتج لظهير الدين فكرة ، ورأى (٢) فيما نزل به من المرض

__________________

(١) أقيم هذا الحصن على تلة أبي سمرة الحالية الواقعة على الضفة اليسرى من نهر قاديشا ، وهي التي كانت تعرف بتلة الحجاج. طرابلس الشام في التاريخ الاسلامي : ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) في الأصل : «ورأيه» وهي تصحيف صوابه ما أثبتنا بناء على رواية سبط ابن الجوزي.

٢٣٦

المخوف أن يرسل [إلى] الأمير سكمان بن أرتق ، يستدعي وصوله إلى دمشق في عسكره ، ليوصي إليه ، ويعتمد في حماية دمشق عليه ، ونفذت إليه أيضا مكاتبة ابن عمار ، بتحريضه على المسارعة إلى ذلك ، والقصد لنصرته ، وبذل له مالا جزيلا على معونته ونصرته ، فحين وقف على مضمون المكاتبات أجاب إلى المقترح عليه ، وسارع إليه ، وثنى عنانه الى دمشق مغذا في سيره ، مواصلا لجده وتشميره ، وقطع الفرات إلى ما حض عليه والمغارات ، فلما وصل إلى القريتين ، واتصل خبره إلى أتابك ، لامه أصحابه وخواصه على ما فرط في تدبيره ، وعنفوا رأيه فيما استدعاه ، وخوفوه عاقبة ما أتاه ، وقالوا له : وليت الأمير سكمان بن أرتق دمشق ، وأخرجتها من يدك ، كيف يكون حالك وأحوالنا ، أو ليس قد عرفت نوبة أتسز ، لما استدعى السلطان تاج الدولة بن ألب أرسلان ، وسلم إليه دمشق ، وكيف بادر بإهلاكه ولم يمهله ولا أهله فعند ذلك أفاق لغلطته ، وتنبه لغفلته ، وندم ندامة الكسعي (١) وزاده هذا الأمر مرض الفؤاد مع مرض الجسم ، وبينما هو وأصحابه من التفكير فيما يعتمد من أمره ويدبر به حاله عند وصوله (٢) ، والخبر ورد من القريتين بأن الأمير سكمان ساعة وصوله في عسكره إلى القريتين ، ونزوله ، لحقه مرض شديد ، وقضى منه محتوم نحبه ، وصار إلى رحمة ربه ، وحمله أصحابه في الحال ، ورحلوا عائدين به ، فسر أتابك بهذه الحال سرورا زائدا ، كان معه بدء سعادته ، وعود برئه إلى جسمه وعافيته ، فسبحان مدبر الخلق بحكمته

__________________

(١) الكسعي هو محارب بن قيس وقيل غامد بن الحارث ، له قصة ذكرها الميداني في مجمع الأمثال ـ المثل رقم ٤٢٩٢ ـ وبين في نهايتها أنه كسر قوسه «فندم على كسر القوس ، فشد على ابهامه فقطعها».

(٢) في مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٤٩٨ ـ أن طغتكين كتب إلى سكمان وهو في القريتين يقول : «تثبت مكانك ، فأنا خارج إلى خدمتك ، فاتفق أن سكمان مرض ...».

٢٣٧

ومسبب الأسباب بقدرته ، وقصدوا ناحية الجزيرة ، وذلك في أول صفر من السنة.

وفي هذه السنة وردت الأخبار بهلاك صنجيل مقدم الأفرنج النازلين على ثغر طرابلس ، في رابع جمادى الأولى ، بعد أن كان الأمر استقر بينه وبين فخر الملك بن عمار ، صاحب طرابلس من المهادنة ، على أن يكون ظاهر طرابلس لصنجيل بحيث لا (٨٠ و) يقطع الميرة عنها ، ولا يمنع المسافرين منها.

وفي أول السنة ورد الخبر بوصول السلطان محمد تبر بن ملك شاه إلى الموصل ، ونزوله عليها وخروج الأمير جكرمش صاحبها إليه ، باذلا له الطاعة ، وشروط الخدمة ، ورحل عنها.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان بركيارق ابن السلطان ملك شاه رحمه‌الله ، بنهاوند ، بعد أن تقررت الحال بينه وبين أخيه ، بحيث تكون مملكة خراسان بأسرها للسلطان أبي الحارث سنجر وأصفهان وأعمالها ، وبغداد وما والاها برسم السلطان بركيارق ، والسلطنة له ، وأرمينية وأذربيجان وديار بكر والموصل والجزيرة والشام وما يليها للسلطان محمد تبر.

وتوجهت عساكر السلطان بركيارق بعد وفاته إلى بغداد ، ومقدمها الأمير إياز ومعه الأمير صدقة بن مزيد بن دبيس ، وتوجه السلطان محمد إلى بغداد أيضا ، فلما عرف الأمير اياز خبره خاف منه على نفسه ، فهرب منه ومعه ولد السلطان بركيارق ، ودخل السلطان محمد بغداد ، ووصل إليه الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي ، واستقر أمره معه ، وعرف إياز أن حاله لا تستقر إلا بالعود الى طاعة السلطان محمد ، والدخول في جملته ، والكون في خدمته ، فراسله والتمس الأمان منه ، والتوثقة باستحلافه على الوفاء بما عاهده عليه ، فأجابه إلى ما رامه منه ، ووصل إليه في العسكر مع ولد السلطان

٢٣٨

بركيارق ، وكان طفلا صغيرا ، فانضاف في جملته مع عسكره ، فلما كان بعد أيام غدر بإياز ، ونكث عهده ، وأخلف وعده ، وقبض عليه وهو آمن مطمئن بما توثق به من إيمانه وقتله ، وجعل سبب هذا الفعل أمورا أسرها في نفسه ، وأوردها واحتج بأمور أضمرها وعددها ، ليعذر في فعله ، وما هو بمعذور في فعله ولا بمشكور.

وفي أول شعبان توجه ظهير الدين أتابك إلى بعلبك في العسكر ، ونزل عليها متنكرا على كمشتكين الخادم التاجي واليها ، لأسباب انتهت إليه عنه فأنكرها منه ، فلما نزل عليه وضايقه وعرف ما في نفسه ، أنفذ اليه يبذل الطاعة والخدمة ، والانكار لما افتري به عليه ، والتنصل مما نسب اليه والحلف على البراءة مما اختلق من المحال عليه ، فصفح له عن ذلك ، ورضي عنه ، وقرر (٨٠ ظ) أمره ، وأوعز بكف الأذية عن ناحيته ، ورحل عنها متوجها إلى ناحية حمص ، وقصد رفنية ، ونزل عليها ، ووفد عليه خلق كثير من جبل بهرا (١) ، فهجموا رفنية على حين غفلة من أهلها ، وغرة من مستحفظها ، وقتلوا من بها ، وبأعمالها ، والحصن المحدث عليها من الأفرنج ، وأحرق ما أمكن إحراقه في الحصن وغيره ، وهدم الحصن ، وملكت أبراج رفنية ، وقتل من كان فيها ، وعاد العسكر إلى حمص.

وفي رجب خرج الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب ، وجمع خلقا كثيرا ، وعزم على قصد طرابلس لمعونة فخر الملك بن عمار على الأفرنج النازلين عليه ، وكان الأرمن الذين في حصن أرتاح قد سلموا إليه الحصن ، لما شملهم من جور الأفرنج ، وتزايد ظلمهم ، فلما عرف طنكرى ذلك ، خرج من أنطاكية لقصد أرتاح ، واستعادتها ، وجمع من في أعماله من الأفرنج ، ونزل عليها ،

__________________

(١) جبال النصيرية أو العلويين حاليا.

٢٣٩

وتوجه نحوه فخر الملوك في عسكره لإبعاده عنها ، وقد جمع وحشد من أمكنه من عمل حلب ، والأحداث الحلبيين ، لقصد الجهاد ، فلما تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين ، فثبت راجل المسلمين ، وانهزمت الخيل ، ووقع القتل في الرجالة ، ولم يسلم منهم إلا من كتب الله سلامته ، ووصل الفل إلى حلب وأحصي المفقود من الخيل والرجل ، فكان تقدير ثلاثة آلاف نفس ، وحين عرف ذلك من كان في أرتاح من المسلمين ، هربوا بأسرهم منها ، وقصد الأفرنج بلد حلب ، فأجفل أهله منه ، ونهب من نهب ، وسبي من سبي ، وذلك في الثالث من شعبان ، واضطربت أحوال من بالشام بعد الأمن والسكون (١).

وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل مع الأمير شرف المعالي ولد الأفضل ، وكوتب ظهير الدين أتابك بالاستدعاء للمعونة والاعتضاد الى جهاد الكفرة الأضداد ، فلم يتمكن من الإجابة إلى المراد ، لأسباب عاقته عن المعونة والاسعاد ، وتوجه في العسكر إلى بصرى ، فنزل عليها عازما على مضايقتها ، وفيها الملك أرتاش بن تاج الدولة وايتكين الحلبي ، لأنهما كانا عند الأفرنج على ما شرح من أمرهما أولا ، ثم استدرك الرأي واستصوب المسير إلى العسكر المصري للاعتضاد على الجهاد ، فسار اليه ووصل (٨١ و) إلى ظاهر عسقلان ، ونزل قريبا منه ، وعرف الأفرنج الخبر ، فتجمعوا ، وقصدوا عسقلان ، والتقى الفريقان في رابع عشر ذي الحجة من السنة ، فيما بين يافا وعسقلان ، فاستظهر الأفرنج على المسلمين ، وقتلوا والي عسقلان ، وأسروا بعض المقدمين ، وانهزم عسكر مصر إلى عسقلان ، وعسكر دمشق إلى بصرى ، وقيل ان الذين قتلوا من المسلمين

__________________

(١) هناك مطابقة شبه كاملة بين رواية ابن القلانسي هذه ، وما جاء عند العديم في زبدة الحلب : ٢ / ١٥٠ ـ ١٥١ ، وفي بغية الطلب يقدم ابن العديم في ترجمة رضوان تفاصيل اضافية. انظر مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية :

٣٩٢ ـ ٣٩٣.

٢٤٠