تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وفي يوم السبت السابع عشر من شعبان الموافق للتاسع من نيسان جاء رعد هائل مختلف من عدة جهات ، وبرق زائد ، وجلبات هائلة قبل الظهر ، ثم جاء مع ذلك مطر شديد الوقع ، وبرد هائل ، حكى بعض الثقات أنه وزن واحدة من كبار البرد ، فكان وزنها في ناحية الغوطة والمرج ثمانية دراهم ، وقال آخرون وزنوا واحدة ، فكانت سبعة عشر درهما ، وقتل كثيرا من الطير ، وأتلف كثيرا من الشجر والزرع والثمار.

وفي يوم الأربعاء النصف من شوال ، وردت الأخبار من ناحية مصر ، بالحادثة الكائنة بمصر بين الأجناد (١) بها ، بحيث قتل بينهم من الفريقين الخلق الكثير ، من : الخيالة ، والرجالة.

وعلى مضي ست ساعات من (١٤٦ ظ) نهار يوم الأربعاء ، الحادي والعشرين من شوال ، جاءت رجفة هائلة ، إرتاعت لها القلوب ، ورجفت بها الصدور.

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شوال من السنة في غداته ، ظهرت الحادثة المدبرة على الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بن ظهير الدين أتابك ، وقتله في فراشه ، وهو في نومه في ليلة الجمعة المذكورة ، بيد غلمانه الملاعين : البغش الأرمني الذي اصطنعه وقربه اليه واعتمد في أشغاله عليه ، ويوسف الخادم الذي وثق به في نومه لديه ، والخركاوي الفراش الراقد حواليه ، ووقوع الزحف عند اشتهار هذا الخبر الى كاتبه النفيس أبي طالب عقيل بن حيدرة ، مستوفي ديوان المعاملات ، وقتله في الطريق ، عند أخذه من الدار التي لجأ اليها واختفى عند هروبه فيها ، وكان هؤلاء الثلاثة النفر الجناة الملاعين يبيتون حول سريره ، فلما قرر معهم هذا الأمر ، رقدوا في

__________________

(١) تعلق هذا بالصراع بين الوزير رضوان والخليفة الحافظ. أنظر اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٦٨ ـ ١٧١.

٤٢١

أماكنهم على جاري عادتهم ، فلما انتصف الليل وتحققوا نومه ، وثبوا عليه ، فقتلوه في فراشه على سريره ، وصاح فراش آخر كان معهم ، فقتلوه أيضا ، ودبروا أمرهم بينهم ، وأخفوا سرهم ، بحيث خرجوا من القلعة ، وظهر الأمر ، وطلب البغش لعنه الله ، فهرب ونهب بيته ومسك الآخران (١) ، فصلبا على سور باب الجابية.

وكتب إلى الأمير جمال الدين محمد بن تاج الملوك أخيه ، صاحب بعلبك ، بصورة الحال ، فبادر بالوصول الى دمشق في أسرع وقت ، وأقرب أوان ، فجلس في منصبه ، وعقد الأمر له واستحلف الأمراء والمقدمين والأعيان على الطاعة والمناصحة في خدمته ، فتقررت الحال ، وسكنت الدهماء ، وظهرت الكائنة ، وانكشفت الغماء.

وحين انتهى (الخبر) (٢) الى الخاتون صفوة الملك والدة الأمير شهاب الدين رحمه‌الله ، قلقت وانزعجت وحزنت عليه ، وأسفت وأكبرت هذا الأمر ، وحدوث مثله ، على ولدها ، وراسلت الأمير عماد الدين أتابك ، وهو بناحية الموصل ، معلمة له بصورة الحال ، وباعثة لهمته على النهوض لطلب الثأر ، من غير تلوم ولا إغفال ، فحين وقف على الخبر ، امتعض له ، أشد الامتعاض ولم يكن باستمرار مثله بالراضي ، وصرف الاهتمام الى التأهب لما حرضته عليه ، وأشارت إليه ، والاستعداد له ، والاحتشاد لقصده وثنى أعنّة (١٤٧ و) الاعتزام إلى ناحية الشام ، مجدا في قصد دمشق لبلوغ كل مطلب ينحوه ، ومرام ، وتناصرت الأخبار بهذه العزيمة الى دمشق ، فوقع الاحتياط ، والتحرز من جانبه والاستعداد ، ثم تلا ذلك ورد الخبر بنزوله على بعلبك في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة من السنة ، في عسكر كثيف ، وجم غفير ،

__________________

(١) ذكر سبط بن الجوزي اسميهما فقال : يوسف البواب الخادم وعنبر الفراش ويعرف بالخركاوي. مرآة الزمان : ١ / ١٧١.

(٢) أضيف ما بين الحاصرتين من مرآة الزمان : ١ / ١٧٢.

٤٢٢

وقد كانت قبل نزوله عليها قد شحنت بالرجال المقاتلة ، والعدد الكاملة ، ورد أمر الولاية فيها إلى معين الدين أنر ، وقد تمكنت حالته ، وارتفعت رتبته ، ونفذت أوامره في الدولة ، وأمثلته ، فنصب عليها عدة من المناجيق ، وواصل المحاربة لأهلها وبالغ في المضايقة لها ، وقيل إن عدة المنجنيقات المنصوبة عليها أربعة عشر منجنيقا ، يرمي عليها بالنوبة ليلا ونهارا ، بحيث أشرف من بها على الهلاك ، ولم تزل هذه حالها الى أن ورد الخبر بافتتاحها بالأمان ، لشدة ما نزل بأهلها من البلاء والمضايقة والنقوب ، وبقيت القلّة (١) وفيها جماعة من شجعان الأتراك المندوبين لحمايتها ، والذب عنها ، فلما أيسوا من معين يأتيهم من المعين ، ووصول من ينقذهم من البلاء المحيط ، سلموها الى عماد الدين أتابك ، بعد أخذ أمانه ، والتوثق منه ، فلما حصلت في ملكته ، نكث عهده ، ونقض أمانه لحنق أسره ، وغيظ على من كان فيها أكنه ، فأمر بصلبهم ، ولم يفلت منهم إلا من حماه أجله ، فاستبشع الناس ذلك من فعله ، واستبدعوه من نكثه.

وقد كان الخبر ورد قبل ذلك بافتتاح عماد الدين أتابك قلعة الأثارب ، في يوم الجمعة أول صفر من السنة المقدم ذكرها.

ووردت الأخبار بأن رجفة عظيمة ، حدثت في الشام ، بعد ما تقدم ذكره ، في ليلة الجمعة الثامن من صفر منها.

وفي شهر رمضان منها ، ورد الخبر بأن الأمير الأفضل رضوان بن ولخشى ، صاحب الأمر بمصر ، خرج منها لأمر خاف معه من صاحبه الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين ، ووصل إلى صرخد ، وأن أمين الدولة كمشتكين الأتابكي واليها ، تلقاه بالإكرام ومزيد الإعطاء والإحترام ، وأقام في ضيافته وكرامته ، مدة ثم عاد من عنده طالبا لمصر لأمر كان دبّره ، وسبب قرره ،

__________________

(١) أعلى مكان بالقلعة ، أو القلعة ذاتها.

٤٢٣

قلما وصل إليها فسد ذلك التدبير عليه ، ولم ينل ما كان صرف همه إليه ، فاعتقل في القصر مكرما ، ومبجلا محترما (١).

(١٤٧ ظ) وفيها توفي النقيب الإمام ، جمال الاسلام ، أبو الحسن علي ابن محمد بن الفتح السلمي الشافعي ، متولي المدرسة الأمينية ، في يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي القعدة منها ، وهو ساجد في صلاة الغداة رحمه‌الله ، وكان مشهورا بوفور العلم في التفقه ، وقوة الفرائض والوعظ والدين والأمانة ، بحيث وقع التألم لفقده ، وافتقر الى مثله من بعده (٢).

سنة أربع وثلاثين وخمسمائة

أول هذه السنة المباركة يوم الثلاثاء بالرؤية مستهل المحرم ، وفيه ورد الخبر بفراغ عماد الدين أتابك من ترتيب أمر بعلبك ، وقلتها وترميم ما تشعث منها ، وشروعه في التأهب للنزول على مدينة دمشق لمضايقتها ، وورد عقيب ذلك الخبر برحيله عنها في العسكر ، ونزوله في البقاع في شهر ربيع الأول منها ، وأنفذ رسوله إلى الأمير جمال الدين محمد بن تاج الملوك بوري بن أتابك صاحبها ، في إلتماس تسليم البلد إليه ، ويعوض عنه بما يقع الاختيار والاقتراح عليه ، فلم يجب إلى ما رغب فيه ، فرحل عن البقاع ، ونزل على داريا ظاهر دمشق في يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر منها ، وكان عند نزوله على داريا قد التقت الطلائع فظفر بجماعة وانهزم الباقون إلى البلد ، وزحف بعد ذلك إلى البلد في عسكر من ناحية المصلى في يوم الجمعة الثامن وعشرين من شهر

__________________

(١) انظر اتعاظ الحنفا للمقريزي : ٣ / ١٧٣.

(٢) نقل سبط ابن الجوزي ترجمته عن ابن عساكر : وضبط اسمه «علي بن المسلم» وذكر ابن عساكر المدرسة الأمينية فقال : بناها كمشتكين المعروف بأمين الدولة ، ونقل الشيخ بدران أنها كانت «قبل باب الزيادة من أبواب الجامع الأموي ، المسمى قديما بباب الساعات» انظر : تاريخ دمشق لابن عساكر : ٢ / ٧٤. مرآة الزمان : ١ / ١٧٠ ـ ١٧١ ، منادمة الأطلال : ٨٦.

٤٢٤

ربيع الآخر من السنة ، فظفر بجماعة وافرة من أحداث البلد ، والغوطة ، وأطلق السيف فيهم ، فمنهم من مضى قتيلا وأسيرا ، ومنهم من عاد الى البلد سالما وجريحا ، وأشرف البلد في هذا اليوم على الهلاك لو لا لطف الله تعالى ، وعاد إلى مخيمه بمن أسر بعد من قتل ، وأمسك أياما عن الحرب ، وتابع المراسلة والتلطف في تسليم البلد ، وأخذ العوض عنه بعلبك وحمص ، وما يقترح معهما ، فآثر جمال الدين محمد بن تاج الملوك الدخول في هذا الأمر ، لما فيه من الصلاح وحقن الدماء ، وعمارة الأعمال ، وسكون الدهماء ، وأباه عند الاستشارة فيه ، وجعل يزحف بعسكره في أيام متفرقة ، بحيث لم يصدق في القتال ، ولا بالغ في التضييق والنزال ، إشفاقا من سفك الدماء ، كالكاف المسالم ، والمتأني في الوقائع والمغانم ، وابتدأ بجمال الدين (١٤٨ و) محمد ابن تاج الملوك مرض اتصل به في جمادى الأولى من السنة ، فصار يخف تارة ، ويثقل ويمضي ويعود ويقل ويزيد الى أن اشتد به اشتدادا ، وقع اليأس معه منه ، ولم يكن له فيه طب ولا راق ، ولم يزل على هذه الحال الى أن قضى محتوم نحبه ، وصار الى رحمة ربه في ليلة الجمعة الثامن من شعبان منها ، في الوقت الذي أصيب فيه أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك رحمهما‌الله ، فعجب الناس من ذلك ، واتفاق الوقت والساعة ، وسبحوا الله وقدسوه ، وجهز ودفن في تربة جدته بالفراديس.

واجتمع رأي المقدمين وأصحاب الأمر من بعده ، على سد ثلمة فقده ، بنصب ولده الأمير عضب الدولة أبي سعيد آبق بن جمال الدين محمد في مكانه ، وأخذت له بذلك العهود المؤكدة بالأيمان المشددة ، على الإخلاص في الطاعة ، والصدق في الخدمة والمناصحة ، فاستقام الأمر ، وصلح التدبير ، وزال الخلف ، وسكنت الأمور بعد اضطرابها ، وقرت النفوس بعد استيحاشها ، وحين عرف عماد الدين أتابك هذه القضية ، زحف في عسكره الى البلد طامعا في خلف يجري بين المقدمين بوفاته ، فينال به بعض طلباته ، فكان الأمر بالضد

٤٢٥

مما أمل ، والحال بالعكس فيما ظن ، ولم يصادف من أجناد دمشق وأحداثها إلا الثبات على القراع ، والصبر على المناوشة والمصاع (١) ، فعاد منكفئا الى عسكره ، وقد ضعفت نفسه ، وضاق لهذا الأمر صدره ، وقد كان تقرر الأمر مع الأفرنج على الإتفاق والاعتضاد والمؤازرة والاسعاد والامتزاج في دفعه ، والاختلاط في صده عن مراده ومنعه ، ووقعت المعاهدة على ذلك بالأيمان المؤكدة ، والضمان للوفاء بما بذلوه ، والتمسوا على ذلك مالا معينا ، يحمل إليهم ليكون عونا لهم على ما يحاولونه ، وقوة ورهانا تسكن بها نفوسهم وأجيبوا إلى ذلك ، وحمل إليهم المال والرهائن من أقارب المقدمين ، وشرعوا في التأهب للانجاد ، والاستعداد للمؤازرة والاسعاد ، وكاتب بعضهم بعضا بالبعث على الاجتماع من سائر المعاقل والبلاد ، على إبعاد أتابك ، وصده عن نيل الأرب من دمشق والمراد ، قبل استفحال أمره ، وإعضال خطبه ، وقوة شوكته ، واستظهاره على عصب الأفرنج وقصد بلادهم.

فحين تيقن صورة الحال في هذا العزم (١٤٨ ظ) وتجمعهم لقصده مع عسكر دمشق ، رحل عن منزله بداريا في يوم الأحد الخامس من شهر رمضان ، طالبا ناحية حوران ، للقاء الأفرنج إن قربوا منه ، وطلبهم إن بعدوا عنه ، وأقام على هذا الاعتزام مدة ثم عاد الى ناحية غوطة دمشق ، ونزل بعذراء يوم الأربعاء لست بقين من شوال ، فأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة الى حرستا التين ، ورحل يوم السبت تاليه متشاملا ، حين تحقق نزول الأفرنج بالميدان في جموعهم ، وكان الشرط مع الافرنج أن يكون في جملة المبذول لهم انتزاع ثغر بانياس من يد إبراهيم بن طرغت ، وتسليمها إليهم فاتفق أن إبراهيم بن طرغت واليه ، كان قد نهض في أصحابه الى ناحية صور ، للإغارة عليها ، فصادفه ريمند صاحب أنطاكية في قصده واصلا إلى إسعاد الأفرنج على إنجاد أهل دمشق ، فالتقيا فكسره ، وقتل في الوقعة ومعه نفر يسير من

__________________

(١) المصاع : الجلاد والضراب. النهاية لابن الأثير.

٤٢٦

أصحابه ، وعاد من بقي منهم الى بانياس ، فتحصنوا بها ، وجمعوا إليها رجال وادي التيم ، وغيرهم ، ومن أمكن جمعه من الرجال ، للذب عنها والمراماة دونها ، فنهض إليها الأمير معين الدين في عسكر دمشق ، ونزل عليها ، ولم يزل محاربا بالمنجنيقات ، ومضايقا لها بأنواع المحارب ، ومعه فريق وافر من عسكر الأفرنج عامة شوال.

وورد الخبر بأن الأمير عماد الدين أتابك قد نزل على بعلبك ، وأنفذ يستدعي التركمان من مظانهم ، في شوال لقصد بانياس ، ودفع المنازلين لها عنها ، ولم تزل الحالة جارية على هذه القضية إلى آخر ذي الحجة من السنة.

ووردت الأخبار من ناحية مصر ، بأن الأفضل بن ولخشى ، لما فصل عن صرخد ، ووصل الى ظاهر مصر ، أن الاتراك الذين انضموا إليه ، عملوا عليه وغدروا به ، وانتهبوا ما كان معه من كراع وسواد ، فحين وجدوا منه الغرة والغفلة لم يبقوا على أي شيء مما صحبه ، وتفرقت عنه أصحابه ورجاله ، وبقي فريدا ، فحصل في أيدي الحافظية أسيرا ، ووصل به من يحفظه ويحتاط عليه ، وهذا الأفضل المقدم موصوف بالشجاعة والفروسية وعلو الهمة ومضاء العزمة والبسالة ، وحسن السياسة ، وذكاء الحس ، ولكن المقادير لا تغالب ، والأقضية لا تدافع ، والله يفعل ما يشاء ويختار.

ولم تزل بانياس على حالها في المضايقة والمحاصرة ، الى أن نفذت منها الميرة ، وقل قوت المقاتلة فسلمت (١٤٩ و) إلى معين الدين ، وعوض عنها الوالي الذي كان بها بما أرضاه من الإقطاع والإحسان ، وسلمها الى الأفرنج ، ووفى لهم بالشرط ، ورحل عنها منكفئا إلى دمشق ظافرا بأمله حامدا لعمله في أواخر شهد شوال.

وفي صبيحة يوم السبت السابع من ذي القعدة من السنة ، حصل عماد الدين أتابك بعسكره جريدة بظاهر دمشق ، ووصل المصلى ، وقرب من سور

٤٢٧

البلد ، ولم يشعر به أحد لكون الناس في أعقاب نومهم ، فلما تبلج الصباح ، وعرف خبره ، علت الجلبة والصياح ، ونفر الناس ، واجتمعوا إلى الأسوار ، وفتح الباب ، وخرجت الخيل والرجالة ، وكان قد فرق عسكره الى حوران والغوطة والمرج وسائر الأطراف للغارة ، ووقف هو في خواصه بإزاء عسكر دمشق ، بحيث لا يمكن أحدا من أصحابه في اتباع أحد من خيله المغيرة ، ونشبت الحرب بينه وبين عسكر دمشق ، وخرج من الفريقين جملة وافرة ، وأحجم عنهم لاشتغاله بمن بثه من سراياه في الغارات ، وحصل في أيديهم من خيول الجشار والأغنام والأحمال والأبقار والأثاث ما لا يحصى كثرة لأنهم جاؤوا على غفلة ، وغرة ، ونزل من يومه بمرج راهط ، إلى أن اجتمعت الرجال والغنائم ، وسار عائدا على الطريق الشمالية بالغنائم الدثرة المتناهية في الكثرة.

ووردت الأخبار من ناحية بغداد بعزل الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي ، عن وزارة الامام المقتفي بأمر الله ، وتقليدها الوزير نظام الدين بن جهير.

سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

في شهر رمضان منها ورد الخبر بظهور عسكرية عسقلان ، على خيل الأفرنج الغائرين عليها ، وقتل جماعة منهم وعودهم مفلولين خاسرين.

وفيها ورد الخبر ناحية الشمال بتملك الباطنية حصن مصياث بحيلة دبرت عليه ، ومكيدة نصبت له.

٤٢٨

وفيها توفي البدليسي (١) إمام المسجد الجامع بدمشق ، في ثالث ذي الحجة منها رحمه‌الله ، وكان حسن الطريقة قليل التبذل ، جيد الحفظ والقراءة ، والتصون ، ووقع الاختيار على الشيخ الامام أبي محمد بن طاووس في إقامته مكانه ، لما فيه من حسن الطريقة والتصون والتدين ، والقيام بقراءة السبعة المشهورة (١٤٩ ظ).

سنة ست وثلاثين وخمسمائة

فيها ورد الخبر من ناحية الشمال بإغارة الأمير لجه التركي ، النازح عن دمشق إلى خدمة الأمير عماد الدين أتابك ، على بلد الافرنج وظفره بخيلهم ، وفتكه بهم ، بحيث ذكر أن عدة المقتولين منهم تقدير سبعمائة رجل.

وفيها ورد الخبر من ناحية العراق ، بايقاع عسكر السلطان غياث الدنيا والدين ، ركن الإسلام والمسلمين ، مسعود بن محمد ، بحلة بني خفاجة ونهبها وقتل من ظفر به ، لكثرة فسادهم ، وتزايد عنادهم ، وإخافتهم السابلة ، وأخذهم كل رفقة من التجار الصادرة والقافلة ، وعوده الى بغداد ظافرا غانما.

وفيها توفي النقيب الامام أبو القاسم عبد الوهاب بن عبد الواحد الحنبلي رحمه‌الله في [ليلة الأحد سابع عشر صفر سنة ست وثلاثين

__________________

(١) هو اسماعيل بن فضائل بن سعيد البدليسي ، نقل سبط ابن الجوزي عن ابن عساكر أنه «أقام إماما بجامع دمشق نيفا وثلاثين سنة ، يوم الناس ، ويتلو القرآن فظهر عليه شيء من اعتقاده من ميله الى السنة ، فعزل عن الامامة في رمضان سنة ثمان وعشرين وخمسمائة ، وبعث مكانه أبو محمد بن طاووس ، فجاءت في ذلك مرافضات وتعصبات ، فاستقر الأمر على أن لا يبقى في الجامع من يصلي إماما غير إمام الشافعية والحنفية لا غير ، وبطلت إمامة المالكية والحنابلة». مرآة الزمان : ١ / ١٧٧.

٤٢٩

وخمسمائة (١)] بمرض حاد عرض له ، فأضعفه وقضى فيه نحبه ، وكان على الطريقة المرضية ، والخلال الرضية ، ووفور العلم وحسن الوعظ ، وقوة الدين ، والتنزه مما يقدح في أفعال غيره من المتفقهين ، وكان يوم دفنه يوما مشهورا من كثرة المشيعين له ، والباكين حوله ، والمؤبنين لأفعاله ، والمتأسفين عليه.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق ، بالوقعة الهائلة بين السلطان الأعظم شاهنشاه المعظم معز الدنيا والدين أبي الحارث (٢) سنجر بن ملك شاه سلطان الشرق ، وبين كافر ترك الواصل من ناحية الصين عند ما وراء النهر ، وكان في عسكر لا يحصى عددا ، وقصده السلطان سنجر في عسكر يناهزه ، والتقى الجمعان فظهر عسكر كافر ترك على عسكر السلطان سنجر فكسره وهزمه ، وقتل أكثره إلا اليسير ممّن حماه أجله ، واشتمل على ما حواه من الأموال والحرم والكراع والسواد ، وهو شيء لا يحيط به وصف فيوصف ويحصر ، ولا يدركه نعت فيذكر ، وعاد السلطان منهزما الى بلخ (٣).

__________________

(١) فراغ في الأصل تم تداركه من كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي. ط. القاهرة : ١٩٥٢ : ١ / ١٩٨ ـ ٢٠١ ، وقد نقل ابن رجب عن ابن القلانسي.

(٢) في الأصل «السلطان المعظم ناصر الدين الله» والتصحيف واضح على العبارة مع بعض السقط ، وقد تم تقويم ذلك اعتمادا على تاريخ دولة آل سلجوق : ١١٥. راحة الصدور وآية السرور : ٢٥٥.

(٣) ارتبط هذا الصراع بين سنجر وخان الخطا بمحاولات سنجر بسط سيطرته على واحة خوارزم ، وقد علق سبط ابن الجوزي على هزيمة سنجر هذه بقوله : «أخذ الله للمسترشد بالثأر وأحل به الهلاك والبوار ، إن في ذلك عبرة لأولي الأبصار». انظر الكامل لابن الأثير : ٩ / ٥٠٢. راحة الصدور : ٢٦٢. مرآة الزمان : ١ / ١٨٠.

٤٣٠

وفيها ورد الخبر بوفاة ضياء الدين أبي سعيد بن الكفرتوثي ، وزير الأمير عماد الدين أتابك في خامس من شعبان ، وكان على ما حكي عنه حسن الطريقة ، جميل الفعل ، كريم النفس ، مرضي السياسة ، مشهور النفاسة والرياسة.

وفيها ورد الخبر بوفاة الأمير سعد الدولة ، صاحب آمد ، وجلوس ولده محمود (١) في منصبه من بعده (١٥٠ و) فانتظم له الأمر من بعد فقده.

وفيها ورد الخبر بوفاة الأمير ولد الدانشمند رحمه‌الله ، وانتصاب ولده في منصبه من بعده واستقام له الأمر.

وفيها توفي الشيخ أبو محمد بن طاووس ، إمام المسجد الجامع بدمشق ، في يوم الجمعة سابع عشر من المحرم من السنة (٢).

سنة سبع وثلاثين وخمسمائة

فيها وردت الأخبار من ناحية مصر بعظم الوباء في الاسكندرية والديار المصرية ، بحيث هلك هناك الخلق العظيم ، والجم الغفير.

وفي يوم الأحد ، السابع والعشرين من شهر ربيع الأول ، توفي القاضي

__________________

(١) في الأصل «محمد» والتقويم من تاريخ الفارقي ـ أخبار سنة ٥٣٦ ه‍ ـ حيث قال : «وفي منتصف جمادى الأولى من هذه السنة مات الأمير سعد الدولة ايكلدي ابن ابراهيم صاحب آمد ، وكان مؤيد الدين بن نيسان متولي آمد ، فرتب ولده شمس الملوك محمود في الإمارة وقررها ، وكانت أمه يمنى خاتون بنت نجم الدين ايلغازي ، وكان حسام الدين خاله ، وكنت في صحبة والدي رحمه‌الله» ، وذكر في أخبار سنة (٥٤٢ ه‍) أنه «وصل عز الدولة أبو نصر بن نيسان الى ميافارقين ، وعقد على صفية خاتون بنت السعيد حسام الدين لجمال الدين شمس الملوك محمود بن ايكلدي صاحب آمد على خمسين ألف دينار».

(٢) هو هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علي بن طاووس المقرىء ، ذكره الحافظ ابن عساكر وقال : كان امام جامع دمشق ، وكان قبل تسلمه الامامة يؤدب الصبيان. مرآة الزمان : ١ / ١٨١ ـ ١٨٢.

٤٣١

بهجة الملك أبو طالب علي بن عبد الرحمن بن أبي عقيل ، بمرض صعب ، كان فيه قضاء نحبه ، وانتقاله إلى رحمة ربه ، وهو من جلالة القدر ، وجميل الذكر على الطريقة المرضية المشهورة ، والسجية المستحسنة المشكورة.

وفيها ورد الخبر بظهور صاحب أنطاكية إلى ناحية بزاعة ، وأن الأمير سوار ، النائب في حفظ حلب ثناه عنها وحال بينه وبينها (١).

وفيها وردت الأخبار بظهور متملك الروم الى الثغور دفعة ثانية بعد أولى ، وبرز إليه صاحب أنطاكية ، وخدمه وأصلح أمره معه ، وطيب نفسه ، وعاد عنه الى أنطاكية (٢).

وفيها وردت الأخبار بأن الأمير عماد الدين أتابك ، استوزر الأجل أبا الرضا ولد أخي جلال الدين بن صدقة ، وزير الخليفة ، وفيها ورد الخبر بأن الأمير عماد الدين أتابك افتتح قلعة أشب (٣) ، المشهورة بالمنعة والحصانة.

وفي شهر رمضان منها ورد الخبر بموت متملك الروم.

وفيها توفي القاضي المنتجب أبو المعالي محمد بن يحيى ، في يوم الأربعاء النصف من شهر ربيع الأول منها ، ودفن بمسجد القدم رحمه‌الله ، وتولى بعده القضاء ولده القاضي أبو الحسن علي بن محمد القرشي ، وكتب له منشور القضاء من قاضي القضاة ببغداد.

__________________

(١) انظر زبدة الحلب : ٢ / ٢٧٧.

(٢) ذكر المؤرخ السرياني المجهول أن الامبراطور وصل الى طرسوس ، ومعه جيش كبير ، وأخذ يعد الترتيبات لغزاة كبرى في سورية ، وأثناء ذلك خرج الى الصيد فأصيب ذراعه بجراح سبب له تورما شديدا دعا الى وفاته بعد أيام ، وقد قاد هذا الى عودة الجيش الى القسطنطينية.

(٣) جاء في الكامل لابن الأثير : ٩ / ٥ ـ ٦ : في هذه السنة ـ ٥٣٧ ه‍ ـ أرسل أتابك زنكي جيشا الى قلعة أشب ، وكانت أعظم حصون الأكراد الهكارية ، وأمنعها ، وبها أموالهم وأهلهم ، فحصروها وضيقوا على من بها فملكوها ، فأمر باخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضا عنها.

٤٣٢

سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

فيها وردت الأخبار من ناحية العراق ، بأن الخبر ورد اليها بهلاك ملك كافر ترك من ناحية الصين ، الذي كان ظفر بعسكر السلطان سنجر ، في تلك الوقعة المقدم ذكرها.

وفيها ورد الخبر بافتتاح الأمير عماد الدين قلعة حيزان (١).

وفي شهر رمضان منها (١٥٠ ظ) وردت الأخبار من ناحية العراق ، بقتل السلطان داود بن السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه بيد نفر ندبوا لقتله فاغتالوه وقتلوه ، ولم يعرف لهم أصل ولا جهة ، ولا علم مستقرهم (٢).

وفي ثالث جمادى الأولى منها قبض على الأمير الحاجب أسد الدين أكز ، وأخذ ماله ، وسملت عيناه ، واعتقل ، وتفرق عنه أصحابه.

وفيها ورد الخبر من ناحية الأفرنج بهلاك ملكهم الكندأجور (٣) ملك بيت

__________________

(١) بلد من ديار بكر ، ذكره ياقوت في معجم البلدان ، وجاء في تاريخ ميافارقين في أخبار سنة / ٥٣٧ ه‍ /: «صعد أتابك زنكي الى ديار بكر ، ودخل الى ولاية الأمير يعقوب بن السبع الأحمر قزل أرسلان فقصد حيزان ... وكنت بالموصل في هذه السنة».

(٢) قتل في تبريز من قبل أربعة من حشيشية الشام. الدعوة الاسماعيلية الجديدة : ٨٣.

(٣) هو فولك أوف أنجو ، آل الحكم بعد وفاته الى ولده بلدوين الثالث مع أمه ميليسند. انظر تاريخ وليم الصوري : ١٣٦ ـ ١٤٠.

٤٣٣

المقدس ، بعلة عرضت له كان فيها اتلاف نفسه ، وأقيم ولده الصغير ، وأمه مقامه في الملك ، ورضي الأفرنج بذلك ، واستقامت الحال عليه.

وفي رمضان منها عزل أبو الكرام عن وزارته [في] ديوان دمشق لأسباب أنكرت عليه ، وأشياء قبيحة عزيت إليه.

وفيها ورد الخبر بعزل عماد الدين أتابك وزيره أبا الرضا بن صدقة ، لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه ، وأغراض بعثت عليه ، واستوزر مكانه (١).

سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

في يوم الخميس الحادي عشر من المحرم منها توجه الأمير الرئيس مؤيد الدين رئيس دمشق الى ناحية صرخد ، مستوحشا من أحوال بلغته عن أبي الكرام المستناب في وزارة ديوان دمشق ، وعن الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ ، أنكرها من سعيهما ، واستبشعها من قصدهما ، فسار عن البلد ممتعضا من أقدامهما على ما يخالف أمره ، ويضيق صدره ، ووصل إليها وتلقاه واليها بالإكرام لمثواه ، واحسان لقياه ، وترددت المراسلات بينه وبين الأمير معين الدين أتابك ، صاحب الأمر والتدبير بدمشق في هذا الباب ، وتكرر المقال بينهما بالاعتذار من كل واحد منهما والعتاب ، ولم تزل هذه الحال مترددة بينهما إلى أن أسفرت عن تقرير عوده الى داره ، واخراج أبي الكرام الوزير وأسامة بن منقذ إلى ناحية مصر بأهليهما ومالهما وأسبابهما ، فسارا من دمشق الى ناحية مصر ، بعد استئذان صاحبها في أمرهما ، وخروج أذنه بوصولهما في يوم الخميس السابع من جمادى الأولى من السنة ، على سبيل المداراة والمصانعة ، وقيل أنهما لقيا من إحسان تلك الدولة السعيدة ،

__________________

(١) في زبدة الحلب لابن العديم : ٢ / ٢٧٨ : «واستوزر أبا الغنائم حبشي بن محمد الحلي».

٤٣٤

من الاحسان وجزيل الإنعام ما جرت به عادتها المستحسنة في حق من يلجأ الى ظلها ، وسابغ عدلها.

وفي يوم الجمعة (١٥١ و) الثالث عشر من جمادى الأولى ، عاد الأمير مؤيد الدين إلى دمشق من صرخد ، وخرج أهل البلد لتلقيه ، وإظهار السرور به ، والاستبشار بعوده ، وطابت نفسه ببلوغ أمانيه ، ومضي أعاديه الساعين فيه.

وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر بخروج عسكر الى فرقة وافرة من الأفرنج ، وصلت إلى ناحية بعلبك ، للعيث فيها ، وشن الاغارات فالتقيا فأظفر الله المسلمين بهم ، وأظهرهم عليهم ، فقتلوا أكثرهم ، واستولوا على ما كان معهم ، وامتلأت أيدي المسلمين بغنائمهم ، وعادوا الى بعلبك سالمين مسرورين غانمين ، وعاد الباقون من الأفرنج الى مكانهم مفلولين محزونين خاسرين.

وفي جمادى الأولى منها ، ورد الخبر من ناحية الشمال بأن عسكر حلب ظفر بفرقة كبيرة من التجار والأجناد ، وغيرهم ، خرجت من أنطاكية تريد بلاد الأفرنج ، ومعها مال كثير ودواب ومتاع وأثاث ، فأوقعوا بها ، واشتملوا على ما كان فيها ، وقتلوا من كان معها من خيالة الأفرنج لحمايتها والذب عنها ، وعاد إلى حلب بالمال والسبي والأسرى والدواب (١).

وفي يوم السبت الثالث عشر من رجب من السنة ، توفي الأخ الأمين أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن محمد التميمي عن أربع وثمانين سنة ، بعلة الذرب ، ودفن بتربة اقترحها ، خارج باب الصغير من دمشق ، وكان على الطريقة المرضية من حسن الأمانة والتصون والديانة ، ولزوم داره والتنزه عن

__________________

(١) انظر زبدة الحلب : ٢ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٤٣٥

كل ما يوتغ (١) الدين ، ويكره بين خيار المسلمين ، غير مكاثر للناس ، ولا معاشر لهم ، ولا متخلط بهم.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية الشمال بأن الأمير عماد الدين أتابك افتتح مدينة الرها بالسيف ، مع ما هي عليه من القوة والحصانة والامتناع على قاصديها ، والحماية على طالبيها من العساكر الجمة ومنازليها ، وإن السبب في ذلك أن الأمير عماد الدين أتابك ، لم يزل لها طالبا ، وفي تملكها راغبا ، ولانتهاز الفرصة فيها مترقبا ، لا يبرح ذكرها جائلا في خلده وسره ، وأمرها ماثلا في خاطره وقلبه ، إلى أن عرف أن جوسلين صاحبها ، قد خرج منها في جل رجاله وأعيان حماته وأبطاله لأمر اقتضاه ، وسبب من الأسباب الى البعد عنها دعاه ، للأمر المقضي والقدر النازل ، فحين تحقق (١٥١ ظ) ذاك بادر بقصدها ، وسارع الى النزول في العسكر الدثر عليها لمضايقتها ، والحصر لمن فيها ، وكاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم للمعونة عليها ، والإسعاد وأداء فريضة الجهاد ، فوصل إليه منهم الخلق الكثير ، والجم الغفير بحيث أحاطوا بها من جميع الجهات ، وحالوا بينها وبين ما يصل إليها من المير والأقوات ، والطائر لا يكاد يقرب منها خوفا على نفسه من صوائب سهام منازليها ، ويقظة المضيّقين عليها ، ونصب على أسوارها المناجيق ، ترمي عليها دائما ، والمحاربة لأهلها مصرا ومواظبا ، وشرع الخراسانيون والحلبيون العارفون بمواضع النقوب ، الماضون فيها ، فنقبوا في عدة مواضع عرفوا أمرها ، وتيقنوا نفعها وضرها ، ولم يزالوا على هذه الحال في الإيغال في النقب ، والتمادي في بطن الأرض إلى أن وصلوا الى تحت أساس أبراج السور ، فعلقوه بالأخشاب المحكمة ، والآلات المنتخبة ، وفرغوا من ذلك ، ولم يبق غير إطلاق النار فيها ، فاستأذنوا عماد الدين أتابك في ذلك ، فأذن لهم بعد أن دخل في النقب ، وشاهد حاله ، واستعظم كونه وهاله ، فلما أطلقت النار في تعليق النقوب

__________________

(١) وتغ : أهلك. النهاية لابن الأثير.

٤٣٦

تمكنت من أخشابها وأبادتها ، فوقع السور في الحال ، وهجم المسلمون البلد بعد أن قتل من الجهتين الخلق الكثير على الهدم ، وقتل من الأفرنج والأرمن وجرح ما أوجب هزيمتهم عنه ، وملك البلد بالسيف في يوم السبت سادس وعشرين من جمادى الآخرة منها ، ضحوة النهار (١) ، وشرع في النهب والقتل والأسر والسبي والسلب ، وامتلأت الأيدي من المال والأثاث والدواب والغنائم والسبي ، ما سرت به النفوس ، وابتهجت بكثرته القلوب ، وشرع عماد الدين أتابك بعد أن أمر برفع السيف والنهب في عمارة ما انهدم ، وترميم ما تشعث ، ورتب من رآه لتدبير أمرها (٢) وحفظها ، والاجتهاد في مصالحها ، وطيب بنفوس أهلها ، ووعدهم بإجمال السيرة فيهم ، وبسط المعدلة في أقاصيهم وأدانيهم ، ورحل عنها وقصد سروج ، وقد هرب الأفرنج منها ، فملكها وجعل لا يمر بعمل من أعمالها ، ولا معقل من معاقلها ، فينزل عليه إلا سلم إليه في الحال (١٥٢ و).

وتوجه الى حصن البيرة من تلك الأعمال ، وهو غاية في الامتناع على طالبه ، والصعوبة على قاصده ، فنزل عليه وشرع في محاربته ومضايقته ، وقطع عنه سائر من يصل إليه بالقوت والميرة والمعونة والنصرة ، ولم يزل محاصرا له ومحاربا ومضيّقا الى أن ضعف أمره ، وعدمت الميرة فيه ، وورد على عماد الدين وقد أشرف على ملكته من خبر نائبه في الموصل الأمير جقر بن يعقوب ،

__________________

(١) في ترجمة زنكي في بغية الطلب لابن العديم مواد جيدة عن سقوط الرها ، وأنا بصدد نشر هذه الترجمة في كتاب عن الحملتين الصليبيتين الأولى والثانية ، إنما على أهمية المواد في المصادر العربية يبقى ما ذكره المؤرخ السرياني المجهول أكثر تفصيلا وأعظم أهمية ، لأنه كان من أهل الرها وشاهد عيان لما حصل وأنا بصدد نشر هذه المواد في الكتاب المشار إليه آنفا.

(٢) عين زين الدين علي كوجك صاحب اربيل وشهرزور حاكما على الرها ، هذا ما ذكره المؤرخ السرياني المجهول.

٤٣٧

في الوثوب عليه وقتله ، ما أزعجه وأقلقه ، ورحله عنها لكشف الحال الحادثة بالموصل (١) ، مما يأتي شرح ذلك في موضعه.

وفي جمادى الأولى منها ورد الخبر بأن الأمير عماد الدين أتابك إنتهى إليه أن أهل حديثه (٢) عانة قد خالفوا أمره ، وعصوا عليه ، فأنهض إليها من عسكره فريقا وافرا ، فقصدها ونزل عليها وحاربها وضايقها ، وملكها بالسيف وقتل أكثر أهلها ونهبها ، وبالغ في إهلاك من بها.

وفي شهر رمضان منها ورد الخبر من ناحية الشمال بأن عسكر الأفرنج المجتمع بناحية أنطاكية لإنجاد أهل الرها من جميع أعمالها ومعاقلها (٣) ...

وكان عماد الدين أتابك قد أنهض إليه جيشا وافر العدد ، من طوائف التركمان والأجناد ، فهجموا عليه بغتة وأوقعوا بمن وجدوه في أطرافه ونواحيه ، وفتكوا به ، فرحل في الحال وقد استولوا على كثير من الأفرنج قتلا وأسرا ، واشتملوا على جملة وافرة من كراعهم ، وتحكم السيف في أكثر الراجل ، وتفرقوا في أعمالهم ومعاقلهم مفلولين مخذولين خاسرين.

وفيها كانت الحادثة على الأمير نصير الدين جقر بن يعقوب ، النائب عن الأمير عماد الدين في ولاية الموصل.

__________________

(١) أورد ابن الأثير في كتابه الباهر تفاصيل عظيمة عن حوادث الموصل الانقلابية ضد زنكي ص : ٧١ ـ ٧٢.

(٢) في الأصل «الحديثة عانة» وحذفت أداة التعريف كيما يستقيم المعنى.

(٣) ألم بالنص سقط لم أتمكن من جبره من المصادر العربية المتوفرة ، وقد تحدث المؤرخ السرياني أن أحد قادة جوسلين صاحب الرها ، واسمه روبرت السمين قام بعدما انضم إليه عدد من قادة الفرنج بالتوجه نحو البيرة لمساعدتها فنال عظيم الاخفاق.

٤٣٨

شرح الحال في ذلك

كان الملك فرخانشاه (الخفاجي) بن السلطان محمود بن محمد بن (١) ملك شاه قد حدث نفسه على العمل على الأمير نصير الدين ، الوالي بالموصل ، والفتك به ، وملكة الموصل ، وبالتفرد بالأمر ، واشتمال جماعة من غلمان الأمير عماد الدين أتابك ، تقدير أربعين غلاما ، من وجوه الغلمان مع أصحابه وخواصه ، ورقب الفرصة فيه والغفلة منه ، مع شدة تيقظه ، ومشهور احتراسه وتحفظه ، إلى أن اتفق ركوبه (١٥٢ ظ) في بعض الأيام للتسليم على الخاتون في دارها ، وقد خلا من حماته ووجوه أصحابه ، ورصدوه ، فلما حصل في دهليز الدار ، وثبوا عليه فقتلوه ، وأدركه أصحابه ، ومن في البلد من أصحاب عماد الدين ، فهرب من هرب ، ومسكوا الملك ابن السلطان ، فمانع فجرح ، وأخذ واعتقل معه أكثر الغلمان المشاركين في دمه ، وتوثق منهم بالاعتقال لهم والاحتياط عليهم ، وذلك في يوم [الثامن من ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة](٢) وكتب إلى عماد الدين بصورة هذه الحال وهو منازل لقلعة البيرة في عسكره ، وأقلقه سماع هذا الخبر الشنيع ، والرزء الفظيع ، ورحل في الحال عن البيرة ، وقد شارف افتتاحها والاستيلاء عليها ، وهو متفجع بهذا المصاب ، متأسف على ما أصيب به متيقن أنه لا يجد بعده من يقوم مقامه ولا يسد مسده ، وارتاد من يقيمه في موضعه وينصبه في منصبه ، فوقع اختياره على الأمير علي كوجك لعلمه بشهامته ومضائه في الأمور ، وبسالته ، وولاه مكانه ، وعهد إليه أن يقتفي آثاره في الاحتياط والتحفظ ، ويتبع أفعاله في التحرز والتيقظ ، وإن كان لا يغني غناءه ، ولا يضاهي كفايته ومضاءه ،

__________________

(١) في الأصل : «كان الملك فرخانشاه بن السلطان ... أخي السلطان محمود بن» وقد ألم بالنص اضطراب مرده الى الناسخ ، وتم التقويم من دولة آل سلجوق للعماد الأصفهاني : ١٨٧ ، حيث جاء في : «كان مع زنكي ملكان من أولاد السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه ، أحدهما يسمى ألب أرسلان وهو في معقل من معاقل سنجار ، والآخر يسمى فرخانشاه ، ويعرف بالملك الخفاجي وهو بالموصل ...».

(٢) فراغ في الأصل ، وقد أضفت ما بين الحاصرتين من تاريخ الفارقي / ١٧٩ و/.

٤٣٩

فتوجه نحوها ، وحصل بها ، وساس أمورها سياسة سكنت معها نفوس أهلها ، واطمأنت معها قلوب المقيمين فيها ، وبذل جهده في حماية المسالك ، وأمن السوابل ، وقضاء حوائج ذوي الحاجات ، ونصرة أرباب الظلامات ، فاستقام له الأمر ، وحسنت بتدبيره الأحوال ، وتحققت بيقظته في أعماله الآمال ، وقد كان لنصير الدين هذا المقصود أخبار في العدل والإنصاف وتجنب الجور والاعتساف متداولة بين التجار والمسافرين ، ومتناقلة بين الواردين والصادرين من السفار ، وقد كان دأبه جمع الأموال من غير جهة من حرام وحلال ، لكنه يتناولها بألطف مقال وأحسن فعال ، وأرفق توصل واحتيال ، وهذا فن محمود من ولاة الأمور وقصد سديد في سياسة الجمهور ، وهذه هي الغاية في مرضي السياسة ، والنهاية في قوانين الرئاسة.

وفي أواخر هذه السنة فرغ من عمارة المسجد ، الذي تولى عمارته واختيار بقعته الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين (١٥٣ و) مقدم الأكراد بظاهر باب الفراديس من دمشق ، بعقب الجسر القبلي ، وكان مكانه أولا مستقبح المنظر ، وأجمع الناس على استحسان بقعته ، واقتراح هيئته بعد أن أنفق عليه المبلغ الوافر ، من ماله ، مع جاهه ، رغبة في حسن الذكر في الدنيا ، ووفور الثواب والأجر في الأخرى ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين.

سنة أربعين وخمسمائة

في جمادى الأولى منها ، تناصرت الأنباء من ناحية الأمير عماد الدين أتابك ، بصرف الاهتمام الى التأهب والاستعداد والجمع والاحتشاد ، لقصد الغزو والجهاد ، وشاعت عنه الأنباء بأنه ربما قصد الأعمال الدمشقية ، والنزول عليها ، ولم تزل أخباره بذلك متصلة ، وما هو عليه بالاستكثار من عمل المناجيق وآلة الحرب ، وما يحتاج إليه لتذليل كل ممتنع صعب الى أوائل شعبان ، ووردت الأخبار عنه بأن عزيمته عن ذلك قد انحرفت ، وأعنة رأيه

٤٤٠