تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وورد الخبر في الخامس من المحرم من ناحية حلب بأن عسكرها من التركمان ظفر بابن جوسلين صاحب أعزاز وأصحابه ، وحصوله في قبضة الأسر في قلعة حلب ، فسر بهذا الفتح كافة الناس.

وورد الخبر بأن الملك (١) مسعود وصل في عسكره طالبا أنطاكية ، ونزل على تل باشر ، وضايقها في أيام من المحرم.

وفي أيام من المحرم وصل الى دمشق جماعة من حجاج العراق وخراسان المأخوذين في طريق الحج عند عودهم ، لجماعة من كفار العربان وزطهم وأوباشهم ، تجمعوا في عدد دثر ، وحكوا مصيبة ما نزل مثلها بأحد في السنين الخالية ، ولا يكون أشنع منها ، وذكر أنه كان في هذا الحج من وجوه خراسان وتنائها وفقهائها وعلمائها وقضاتها ، وخواتين أمراء العسكر السلطانية والحرم العدد الكثير ، والأموال الجمة ، والأمتعة الوافرة ، فأخذ جميع ذلك وقتل الأكثر ، وسلم الأقل إلّا نزر ، وهتكت النساء ، وسلبوا ، وهلك من هلك بالجوع والعطش ، فضاقت الصدور لهذه النازلة الفادحة ، والرزيئة الحادثة ، فكسا العاري منهم ، وأطلق لهم ما استعانوا بقدره على عودهم الى أوطانهم ، من أصحاب المروءة والمقدمين بدمشق ، وذلك بتقدير الحكيم القدير (٢).

وقد كان نور الدين عقيب رحيله عن دمشق ، وحصول ابن جوسلين في قلعة حلب أسيرا ، توجه في عسكره الى اعزاز بلد ابن جوسلين ، ونزل عليها ، وضايقها وواظب قتالها ، الى أن سهل الله تعالى ملكتها بالأمان ، وهي على غاية من الحصانة والمنعة والرفعة ، فلما تسلمها رتب فيها من ثقاته من وثق به ،

__________________

(١) هو «الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية» وكان نور الدين زوجا لابنته. انظر زبدة الحلب : ٢ / ٣٠١.

(٢) لمزيد من التفاصيل أنظر الكواكب الدرية : ١٣٦. ونقل صاحب الروضتين هذا النص : ١ / ٧٧.

٤٨١

ورحل (١٦٨ ظ) عنها ظافرا مسرورا ، عائدا إلى حلب ، في أيام من شهر ربيع الأول من السنة.

وورد الخبر بعد المضايقة والمحاربة عن تل باشر ، في يوم الجمعة مستهل ربيع الآخر برحيل الملك مسعود ، ووصل أكثر حماتها ، لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه ، وكان مجاهد الدين بزان قد توجه الى حصنه صرخد ، لتفقد أمواله ، وترتيب أحواله وأحوال ولده النائب عنه في حفظه ، وتقرير أموره ، وعرضت بعده نفرة بين مجير الدين والرئيس بسعايات أصحاب الأغراض والفساد ، واقتضت الحال استدعاء مجاهد الدين لإصلاح الحال ، فوصل وتم ذلك بوساطته على شرط إبعاد الحاجب يوسف ، حاجب مجير الدين ، عن البلد مع أصحابه ، وتوجهوا ، ولم يعرض لشيء من أموالهم ، وقصد بعلبك فأكرمه عطاء واليها.

وقد كانت الأخبار متناصرة من ناحية مصر بالخلف المستمر بين وزيرها ابن مصال ، وبين الأمير المظفر بن سلار ، وجميع العسكرية ، ووقوع الحرب منهم ، وسفك الدماء الى أن أسفرت عن قتل ابن مصال الوزير ، وظفر ابن سلار به ، وغلبته على الأمر ، وانتصابه في الوزارة ، وسعى في الصلاح وترتيب الأجناد ، وإطلاق واجباتهم ، وهدأت النائرة (١) وسكنت الفتنة الثائرة (٢).

وورد الخبر بوصول منكوبرس (٣) في جماعة من الأتراك والتركمان الى ناحية حوران ، واجتماعه مع الأمير سرخاك والي بصرى على العيث والفساد في ضياع حوران ، وقيل إن ذاك بأذن نور الدين ، وقصدوا عمل

__________________

(١) أي الفتنة والشغب.

(٢) انظر اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٩٦ ـ ١٩٨ حيث أوفى التفاصيل.

(٣) لم يذكره غير ابن القلانسي حتى يمكن التعريف به.

٤٨٢

صرخد بالإفساد والإخراب والمضايقة لها ، ورحلوا بعد ذلك إلى غيرها للإفساد ، ومنع الفلاحين من الزرع.

وفي يوم الاثنين السابع عشر من رجب من السنة توفي القاضي بهاء الدين عبد الملك بن الفقيه عبد الوهاب الحنبلي رحمه‌الله ، وكان إماما فاضلا مناظرا مستقلا مفتيا على مذهب الامامين أحمد وأبي حنيفة ، رحمهما‌الله ، بحكم ما كان عليه عند إقامته بخراسان لطلب العلم والتقدم وكان (يعرف) (١) اللسان بالعربية والفارسية ، حسن الحديث في الجد والهزل ، وكان له يوم دفنه في جوار أبيه وجده في مقابر الشهداء (٢) رحمهما‌الله ، مشهود بكثرة العالم والباكين حول سريره ، والمؤبنين له والمتأسفين عليه (١٦٩ و).

وتوفي أيضا عقيب وفاته الشريف القاضي النقيب أبو الحسين ، فخر الدولة بن القاضي بن أبي الجن رحمه‌الله ، في يوم الخميس العشرين من رجب ، من السنة ، ودفن في مقابر فخر الدولة جده رحمه‌الله ، وتفجع الناس له ، لخيريته وشرف بيته.

وفي رجب من السنة وردت الأخبار من ناحية نور الدين بظفره بعسكر الأفرنج النازلين بإزائه قريبا من تل باشر ، وعظم النكاية فيهم ، والفتك بهم ، وامتلأت الأيدي من غنائمهم وسبيهم ، واستيلائه على حصن (٣) [تل] خالد ، الذي كان مضايقه ومنازله.

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من ذيل طبقات الحنابلة : ١ / ٢١٩ حيث نقل ابن رجب مادته عن ابن القلانسي.

(٢) أضاف ابن رجب الى هذا قوله : «يعني بالباب الصغير». المصدر السابق.

(٣) أضيف ما بين الحاصرتين من زبدة الحلب : ٢ / ٣٠٢ حيث تحدث عن سقوط عدد من الحصون لنور الدين ، وفي معجم البلدان : «تل خالد ، قلعة من نواحي حلب».

٤٨٣

وفي العشر الأخير من رجب ورد الخبر من حوران ، بأن الأمير منكوبرس إلتقى في المعروف بالنويسه (١) الحاجي ورجاله من عسكر دمشق ، فهزمه وجرحه جرحا تمكن منه ، وحمل الى البلد ، فمات في الطريق ، ووصل وقبر في مقابر الفراديس في يوم الاثنين السادس من شعبان من السنة.

وفي يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان أرسلت السماء عزاليها بثلج لم ير في السنين الخالية مثله ، وتمادت به الأيام ، بحيث عم كثيرا من أقطار الأرض : حوران والبقاع والبرية ، وقيل إن أقصاه من بلاد الشمال الى قلعة جعبر ، وجرت أودية حوران ، ودارت أرحيتها ، وامتلأت بركها ، وفاضت آبارها ، واستبشر الناس بهذه النعمة العامة ، وشكروا موليها ، والمنعم بها ، وزادت أنهار بردى والعيون عقيب ذلك زيادة وافرة ، وسرت النفوس وتتابع بعد ذلك غيث كانون الثاني ، روى الزراعات ، ومنابت العشب.

وفي يوم السبت الثالث من ذي الحجة من السنة ، توفي القاضي المكين أبو البركات محفوظ بن القاضي أبي محمد الحسن بن صصرى رحمه‌الله ، بعلة طالت به ، وهو في أواخر الثمانين ، وكان مشهورا بالخير ، والعفاف وسلامة الطبع.

وورد الخبر من ناحية مصر بالخلف المستمر بين وزيرها العادل بن سلار ، وأجنادها بحيث الدماء بينهم مسفوحة ، وأبواب الشر والعناد مفتوحة (٢).

ودخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة

وأولها يوم الجمعة مستهل المحرم ، وفي يوم الأربعاء العاشر من المحرم من هذه السنة المباركة نزل أوائل عسكر نور الدين على أرض عذراء من عمل

__________________

(١) كذا بالأصل ، ولم أجد الخبر في مصدر آخر فاضبطه.

(٢) لمزيد من التفاصيل انظر اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٩٥ ـ ٢٠٠.

٤٨٤

دمشق وما والاها ، (١٦٩ ظ) وفي يوم الخميس تاليه قصد فريق وافر منهم ناحية السهم (١) والنيرب ، وكمنوا عند الجبل لعسكر دمشق ، فلما خرج منها إليها أسرع النذير إليهم ، فحذرهم ، وقد ظهر الكمين فانهزموا الى البلد ، وخرج من أعقابهم ، وسلموا من الايقاع بهم ، وفي يوم الجمعة تاليه وصل نور الدين في عسكره ، ونزل على عيون فاسريا (٢) ما بين عذراء ودومة ، وامتدوا الى تلك الجهات ، وفي يوم السبت التالي له رحلوا من ذلك المكان ونزلوا في أراضي حجيرا وراوية (٣) ، وتلك الجهات في الخلق الكثير ، والجم الغفير ، وانبثت أيدي المفسدين في العسكر الدمشقي والأوباش من أهل العيث والإفساد في زروع الناس ، فحصدوها واستأصلوها وفي الثمار فأفنوها بلا مانع ولا دافع ، وضر ذلك بأصحابها الضر الزائد ، وتحرك السعر وانقطعت السابلة ، وضاقت الصدور ، ووقع التأهب والاستعداد لحفظ البلد والسور ، ووافت رسل نور الدين الى ولاة أمر البلد ، تقول : أنا ما أوثر إلا صلاح المسلمين ، وجهاد المشركين ، وخلاص من في أيديهم من الأسارى فان ظهرتم معي في عسكر دمشق ، وتعاضدنا على الجهاد ، وجرى الأمر على الوفاق والسداد ، فذلك غاية الإيثار والمراد ، فلم يعد الجواب إليه بما يرضاه ويوافق مبتغاه.

وفي يوم السبت الثالث والعشرين منه رحل نور الدين في عساكره عن ذلك المنزل ، بحيث نزل في أرض مسجد القدم وما والاه من الشرق والغرب ، ومبلغ منتهى الخيم الى المسجد الجديد قبلي البلد ، وهذا منزل ما نزله أحد من مقدمي العساكر فيما سلف من السنين ، وجرى بين أوائل العسكر ، وبين من ظهر إليه من البلد مناوشات ، ثم عاد كل الى مكانه ، ولم تزل الحال مستمرة

__________________

(١) السهم والنيرب من منتزهات دمشق في أرض الصالحية. غوطة دمشق : ١٠ ، ٧٦.

(٢) معروفة في سفح جبل دوما. غوطة دمشق : ٧٥.

(٣) راوية هي بلدة الست «السيدة زينب» الحالية ، وحجيرا (واسمها الآن حجرا) على مقربة منها. غوطة دمشق : ٢٢٩ ـ ٢٣٢.

٤٨٥

من العسكر النوري على إهمال الزحف الى البلد ، ومحاربة من فيه إشفاقا من قتل النفوس ، واثخان الجراح في مقاتلة الجهتين ، بحيث انطلقت أيدي المفسدين من الفريقين في الفساد ، وحصد زراعات المرج والغوطة ، وضواحي البلد ، وخراب مساكن القرى ، ونقل أنقاضها الى البلد والعسكر ، وزاد الأضرار بأربابها من التناء والفلاحين وتزايد طمع الرعاع والأوباش في التناهي في الفساد بلا رادع لهم ولا مانع منهم وعدم التبن لعلف الكراع في جميع الجهات وارتفع السعر وعظم (١٧٠ و) الخطب وصعب الأمر ، والأخبار تتناصر باحتشاد الأفرنج واجتماعهم للإنجاد لأهل دمشق والإسعاد ، وقد ضاقت صدور أهل الدين والصلاح ، وزاد إنكارهم لمثل هذه الأحوال المنكرة والأسباب المستبشعة ، ولم تزل الحال على هذه القضية المكروهة ، والمناوشات في كل يوم متصلة من غير مزاحفة ولا محاربة الى يوم الخميس الثالث عشر من صفر من السنة.

ثم رحل العسكر النوري من هذه المنازل ونزل في أراضي فذايا وحلقبلتين والخامسين (١) المصاقبة للبلد ، وما عرف في قديم الزمان من أقدم من الجيوش على الدنو منها ، ونشبت المطاردة في اليوم المذكور ، وكثر الجراح في خيالة البلد ورجالته ، وملك مواشي الفلاحين والضعفاء ودواب المتعلقة من البلد ، وما يخص فلاحي الغوطة والمرج والضواحي ، ثم رحل في يوم الخميس لعشر بقين من صفر عائدا الى ناحية داريا ، لتواصل الارجاف بقرب عسكر الأفرنج من البلد للانجاد ، ليكون قريبا من معابرهم لقوة العزائم على لقائهم ، والإستعداد لحربهم ، لأن العسكر النوري قد صار في عدد لا يحصى كثرة ، وقوة ، وفي كل كل يوم زيادة بما يتواصل من الجهات وطوائف التركمان ، ونور الدين مع هذه

__________________

(١) مناطق مصاقبة لدمشق حول طريق مطار دمشق الدولي الآن ، فموقع فذايا جنوب مقبرة اليهود الحالية ، وضبط كرد علي «حلقبلتين» «حلفبلتا» وهي مجاورة لفذايا وضبط «الخامسين» «الخامس» انظر غوطة دمشق : ٢٣٩ ـ ٢٤١.

٤٨٦

الحال لا يأذن لأحد من عسكره في التسرع الى قتال أحد من المسلمين من رجال البلد وعوامه ، تحرجا من إراقة الدم فيما لا يجدي نفعا ، إذ كانوا يحملهم الجهل والغرور على التسرع والظهور ، ولا يعودون إلا خاسرين مفلولين ، وأقام على هذه الصورة ، ثم رحل الى ناحية الأعوج لقرب عسكر الافرنج ، وعزمهم على قصده ، واقتضى رأيه الرحيل الى ناحية الزبداني استجرارا لهم ، وأفرق من عسكره فريقا يناهز أربعة آلاف فارس ، مع جماعة من المقدمين ، ليكونوا في أعمال حوران مع العرب ، لقصد الأفرنج ولقائهم وترقبا لوصولهم ، وخروج العسكر الدمشقي إليهم ، واجتماعهم [بهم] ثم يقاطع عليهم (١).

واتفق أن عسكر الأفرنج وصل عقيب رحيله الى الأعوج ، ونزل به في اليوم الثالث من شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين ووصل منهم خلق كثير الى البلد ، لقضاء حوائجهم ، وخرج مجير الدين ومؤيده في خواصهما ، وجماعة وافرة من الرعية ، واجتمعا بملكهم وخواصه وما (١٧٠ ظ) صادفوا عندهم شيئا مما هجس في النفوس من كثرة ، ولا قوة ، وتقرر بينهم النزول بالعسكرين على حصن بصرى ، لتملكه ، واستغلال أعماله.

ثم رحل عسكر الأفرنج الى رأس الماء ، ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم لعجزهم واختلافهم ، وقصد من كان بحوران من العسكر النوري ، ومن انضاف إليهم من العرب في خلق كثير ، ناحية الأفرنج ، للايقاع بهم والنكاية فيهم ، والتجأ عسكر الأفرنج الى لجاة حوران للاعتصام بها ، وانتهى الخبر الى نور الدين ، فرحل ونزل على عين الجر ، من البقاع ، عائدا

__________________

(١) في الأصل : «واجتماعهم ثم تقاطع عليهم» وقد زيد ما بين الحاصرتين وقومت العبارة من الروضتين : ١ / ٩٠.

٤٨٧

إلى دمشق ، وطالبا قصد الأفرنج ، والعسكر الدمشقي ، وكان الأفرنج حين اجتمعوا مع العسكر الدمشقي ، قد قصدوا بصرى لمنازلتها ومضايقتها ومحاربتها فلم يتهيأ ذلك لهم ، وظهر إليهم سرخاك واليها في رجاله ، وعادوا عنه خاسرين ، وانكفأ عسكر الأفرنج إلى أعماله في العشر الأوسط من شهر ربيع الأول من السنة ، وراسلوا مجير الدين ومؤيده ، يلتمسون باقي المقاطعة المبذولة لهم على ترحيل نور الدين عن دمشق ، وقالوا : لولا نحن ندفعه ما رحل عنكم.

وفي هذه الأيام ورد الخبر بوصول الاصطول المصري إلى ثغور الساحل في غاية من القوة ، وكثرة العدة والعدة ، وذكر أن عدة مراكبه سبعون مركبا حربية مشحنة بالرجال ، ولم يخرج مثله في السنين الخالية ، وقد أنفق عليه ما حكي وقرب ثلاثمائة ألف دينار ، وقرب من يافا من ثغور الأفرنج فقتلوا وأسروا وأحرقوا ما ظفروا به ، واستولوا على عدة وافرة من مراكب الروم والأفرنج ، ثم قصدوا ثغر عكا ، وفعلوا فيه مثل ذلك ، وحصل في أيديهم عدة وافرة من المراكب الحربية الأفرنجية ، وقتلوا من حجاج [الأفرنج] وغيرهم خلقا عظيما ، وأنفذوا ما أمكن الى ناحية مصر ، وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس ، وفعلوا فيها مثل ذلك.

ووعد نور الدين بمسيره الى ناحية الأسطول المذكور لإعانته على تدويخ الأفرنجية ، واتفق اشتغاله بأمر دمشق ، وعوده إليها لمضايقتها ، وحدث نفسه بملكتها لعلمه بضعفها ، وميل الأجناد والرعية إليه ، وإشارتهم لولايته وعدله ، وذكر أن نور الدين أمر بعرض عسكره وحصره ، فذكر أنه بلغ كمال ثلاثين ألف مقاتلة ، ثم رحل ونزل بالدلهمية من عمل البقاع ، ثم رحل منها طالبا نحو دمشق ، ونزل في (١٧١ و) أرض كوكبا من غربي داريا في يوم السبت الحادي والعشرين من ربيع الأول ، وغارت الخيل على طريق حوران الى دمشق ، فاشتملت على الشيء الكثير من الجمال والغلة والمواشي ،

٤٨٨

وغاروا على ناحية الغوطة والمرج ، واستاقوا ما صادفوا من المواشي ، ثم رحل عن هذا المنزل في يوم الاثنين ، ونزل من أرض داريا الى جسر الخشب ، ونودي في البلد بخروج الأجناد والأحداث إليه ، فلم يظهر منهم إلا اليسير ممن كان يخرج أولا (١).

وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من الشهر ، رحل من هذا المنزل ، ونزل في أرض القطيعة (٢) وما والاها ، ودنا منها بحيث قرب من البلد ، ووقعت المناوشة بين الفريقين من غير زحف ، ولا شد في محاربة.

وورد الخبر الى نور الدين بتسليم نائبه الأمير حسان (٣) المنبجي مدينة تل باشر بالأمان في يوم الخميس الخامس وعشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين ، وضربت في عسكره الطبول والكوسات والبوقات بالبشارة ، وورد مع البشير جماعة من أعيان تل باشر ، لتقرير الأحوال.

واستمر رأي نور الدين على [وقف](٤) الزحف الى البلد ، ومحاربة أهله وعسكريته تحرجا من قتل المسلمين ، وقال : لا حاجة الى قتل المسلمين بأيدي بعضهم بعضا ، وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين ، وحدثت مع هذه النية تردد المراسلات في عقد الصلح في أيام من شهر ربيع الآخر على شروط أشير اليها ، واقتراحات عين عليها ، وتردد فيها الفقيه برهان الدين البلخي ، والأمير أسد الدين شيركوه ، وأخوه نجم الدين أيوب ،

__________________

(١) زاد سبط ابن الجوزي في روايته معللا عدم استجابة الأجناد والأحداث بقوله : «لما وقر في نفوسهم من استنجاد مجير الدين وابن الصوفي بالفرنج». مرآة الزمان : ١ / ٢١٠.

(٢) قرية ظاهر دمشق قرب ميدان الحصا. غوطة دمشق : ٢٣٥ ، ٢٤٢.

(٣) في الأصل «الأمير نائبه الأمير حسن» وحذفت عبارة الأمير الأولى واستبدلت عبارة حسن بحسان لأنها مصحفة صوابها ما أثبتنا ، وقد ورد اسم حسان فيما مضى. انظر زبدة الحلب : ٢ / ٣١٠. الروضتين : ١ / ٨١.

(٤) زيد ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

٤٨٩

وتقارب الأمر في ذلك ، وترددت المراسلات الى أن استقرت الحال على قبول الشروط المقترحة ، ووقعت الأيمان من الجهتين على ذلك ، والرضا به في يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة.

ورحل نور الدين في عسكره في يوم الجمعة غد اليوم المذكور ، طالبا ناحية بصرى ، للنزول عليها ، والمضايقة لها ، والتمس من دمشق ما تدعو إليه الحاجة من آلات الحرب والمناجيق ، لأن سرخاك الوالي المذكور ، كان بها ، كان شاع عصيانه وخلافه ، ومال إلى الأفرنج ، واعتضدهم ، فأنكر نور الدين ذلك عليه ، وأنهض فريقا وافرا من عسكره إليه.

وورد الخبر من ناحية قلعة جعبر في يوم السبت الثالث عشر من (١٧١ ظ) شهر ربيع الآخر بأن صاحبها الأمير عز الدين علي بن مالك بن سالم بن مالك ، خرج في أصحابه إلى عسكر الرقة ، وقد غار على أطراف أعماله لتخليص ما استاقوا منه ، فالتقى الفريقان ، وسبق اليه سهم من كمين ظهر عليهم قضى عليه ، وعاد به أصحابه الى قلعة جعبر ، وجلس ولده مالك ابن علي في منصبه ، واجتمع عليه جماعة أسرته ، واستقام له الأمر من بعده.

ووردت الأخبار في سنة ست وأربعين من ناحية مصر بأن أهل دمياط ، حدث فيهم فناء عظيم ما عهد مثله في قديم ولا حديث ، بحيث أحصي المفقود منهم في سنة خمس وأربعين وخمسمائة ، سبعة آلاف شخص وفي سنة ست وأربعين مثلهم سبعة آلاف بحيث يكون الجميع أربعة عشر ألفا ، وخلت دور كثيرة من أهلها ، وبقيت مغلقة ، ولا ساكن فيها ، ولا طالب لها.

وفي يوم السبت الثاني من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين توفي القاضي السديد الخطيب أبو الحسين بن أبي الحديد خطيب (١) دمشق رحمه

__________________

(١) هو «عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ، ولد سنة اثنتان وستون وأربعمائة ، وسمع الحديث الكثير ... وكان بيت أبي الحديد يتوارثون نعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلمّ» مرآة الزمان : ١ / ٢١١ ـ ٢١٢.

٤٩٠

الله وكان خطيبا سديدا مبلغا متصونا عفيفا ، ولم يكن له من يقوم مقامه في منصبه ، سوى أبي الحسن الفضل ولد ولده [وهو](١) حدث السن ، فنصب مكانه ، وخطب وصلى بالناس ، واستمر الأمر له ومضى فيه.

ووردت الحكايات بحدوث زلزلة ، وافت في الليلة الثالثة عشر من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين اهتزت الأرض لها ثلاث رجفات ، في أعمال بصرى وحوران ، وسكنت ، وما والاها من سائر الجهات ، وهدمت عدة وافرة من حيطان المنازل ببصرى وغيرها ، ثم سكنت بقدرة من حركها وسكنها ، سبحانه وتعالى ، انه على كل شيء قدير.

وفي يوم الخميس الثاني عشر من رجب سنة ست وأربعين توجه مجير الدين صاحب دمشق الى حلب في خواصه ، ووصل إليها ، ودخل على نور الدين صاحبها ، وأكرمه وبالغ في الفعل الجميل في حقه ، وقرر معه تقريرات اقترحها عليه ، بعد أن بذل له الطاعة ، وحسن النيابة عنه في دمشق ، وانكفأ عنه مسرورا بما قصده في حقه من الاكرام ، وحسن الاحترام ، ووصل الى دمشق في يوم الثلاثاء السادس من شعبان من السنة.

وفي آخر شعبان ورد الخبر من ناحية بانياس بأن فريقا وافرا (١٧٢ و) من التركمان غاروا على ظاهرها ، وخرج إليهم واليها من الأفرنج في أصحابه ، ووافقهم ، فظهر التركمان عليهم ، وقتلوا منهم وأسروا ، ولم يفلت منهم غير الوالي ، ونفر يسير ، واتصل الخبر بمن في دمشق ، فأنكر مثل هذا الفعل بحكم انعقاد الهدنة والموادعة ، وأنهض اليهم من العسكر الدمشقي من صادف بعض التركمان متخلفا عن رفقتهم ، فحصلوا منهم ما كان في أيديهم وعادوا بثلاثة نفر منهم.

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من الروضتين : ١ / ٨٣. حيث الرواية عن ابن القلانسي.

٤٩١

وفي أيام من أوائل رمضان من السنة ، ورد الخبر بأن أكثر عسكر الافرنج قصدوا ناحية البقاع ، على غرة من أهلها ، وغاروا على عدة وافرة من الضياع ، فاستباحوا ما بها من رجال ونسوان وشيوخ وأطفال ، واستاقوا عواملها ومواشيها ودوابها ، واتصل الخبر بوالي بعلبك ، فأنهض إليهم رجاله ، واجتمع إليهم خلق كثير من رجال البقاع ، وأسرعوا نحوهم القصد ، ولحقوهم وقد أرسل الله تعالى عليهم من الثلوج المتداركة ما ثبطهم وحيرهم فقتلوا من رجالتهم الأكثر ، واستخلصوا من الأسرى والمواشي ما سلم من الهلاك بالثلج ، وهو الأقل ، وعادوا على أقبح صفة من الخذلان وسوء الحال ، بحمد الله ، ونصره المسلمين (١).

وفي يوم السبت الثاني والعشرين من شوال من السنة ، وهو اليوم الثالث من شباط وافت قبيل الظهر زلزلة اهتزت لها الأرض ثلاث هزات هائلة ، وتحركت الدور والجدران ، ثم سكنت بقدرة الله تعالى ذكره.

ودخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة

وأولها يوم الثلاثاء مستهل المحرم ، وفي المحرم منها ورد الخبر من ناحية نور الدين بنزوله على حصن انطرطوس في عسكره ، وافتتاحه له ، وقتل من كان فيه من الأفرنج ، وطلب الباقون الأمان على النفوس ، فأجيبوا الى ذلك ورتب فيه الحفظة وعاد (٢) عنه ، وملك عدة من الحصون ، بالسيف والسبي والإخراب ، والحرق والأمان.

__________________

(١) كان والي بعلبك آنذاك أيوب بن شادي ، والد صلاح الدين ، ومفيد أن نشير أنه في هذه السنة التحق صلاح الدين بعمه أسد الدين بحلب فقدمه الى نور الدين. الروضتين : ١ / ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) في الأصل : «وعادوا» والتقويم من الروضتين : ١ / ٨٦ حيث الرواية عن ابن القلانسي.

٤٩٢

ووردت الأخبار من ناحية عسقلان ، في يوم الخميس العاشر من المحرم بظفر رجال عسقلان بالأفرنج المجاورين لهم ، بغزة بحيث هلك منهم العدد الكثير ، وانهزم الباقون.

وفي ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من المحرم من أواخر نيسان أرسل الله تعالى غيثا (١٧٢ ظ) هطالا مجللا بالرعود والبروق المتتابعة ما زادت معه مياه بردى زيادة وافرة ، وتصندل لون مائها بمسايل الأودية والجبال ، وانتفعت به زراعات السقي والبعول نفعا ظاهرا.

وفي النصف من شهر أيار من صفر سنة سبع وأربعين كان من زمجرة الرعود وتتابع البروق والأمطار في عدة جهات ما زادت به الأنهار ، وسالت معه شعاب الجبال والأودية ، وفي وقت العصر من يوم الأحد الثاني والعشرين من أيار والعشرين من صفر من السنة ، نشأت غمامة برعود مجلجلة هائلة متتابعة لا تفتر مزعجة ، ثم انهلت بوابل هطال جود بالمطر الى آخر النهار ، ثم أقبلت بردى بالليل بالسيل الزائد المتغير اللون ، بماء الجبال المختلف ، بحيث أفعمت الأنهار والسواقي والمجاري ، واحمرت أماكنها ، وصادفت طرحات الزرع وأكداسة ، فغيرت الشعير وصفرته ، وسكنت بقدرة الله ، ونفع من نشأتها ، ثم حضر من شاهد هذا العارض ، وحكى أنه كان من البرد الكبار ما لا حدّ له بحيث أفسد من المواشي الكثير ، وهدم بعض دور الغوطة ، وصار الماء في الحقول راكدا وسائحا بالأنهار المغدقة ، وحكى الحاكي أن هذا لم ير مثله في الأزمان.

وفي أواخر صفر سنة سبع وأربعين توجه مجير الدين في العسكر ، ومعه مؤيد الدين الوزير إلى ناحية حصن بصرى ، ونزل عليه محاصرا لسرخاك واليه ، ومضايقا لأهليه لمخالفته لأوامره ونواهيه ، وجوره على أهل الضياع الحورانية ، واعتدائه عليهم وإلزامهم ما لا طاقة لهم به ، واستدعى المنجنيقات وآلة الحرب لمنازلتها ، واتفق لمجير الدين المصير الى صرخد لمشاهدته ، واستأذن مجاهد الدين واليه في ذلك ، فقال له : هذا المكان بحكمك وأنا فيه من قبلك ،

٤٩٣

وأنفذ الى ولده سيف الدين محمد ، النائب فيه باعتداد ما يحتاج إليه ، وتلقى مجير الدين بما يجب له ، فخرج إليه في بعض أصحابه ، ومعه المفاتيح ، فوفاه ما يجب له من الإعظام ، وأخلى الحصن من الرجال ، ودخل إليه في خواصه ، فسر بذلك ، وتعجب من فعل مجاهد الدين ، وشكره على ذلك ، وقدم إليه ما أعده من القود والتحف ، وعاد عنه شاكرا إلى مخيمه على بصرى وحاربها عدة أيام الى أن استقر (١٧٣ و) الصلح ، والدخول فيما أراد وعاد الى البلد.

وفي أوائل شعبان من السنة ، وردت الأخبار بوفاة السلطان غياث الدنيا والدين مسعود بن السلطان محمد.

وفي العشر الأول من شوال من السنة ، الموافق للعشر الأول من تشرين الثاني ، تغير الماء والهواء في دمشق ، وعرض لأهلها الحمى والسعال ، بحيث عم الخاص والعام ، والشيوخ والشباب والأطفال ، بحيث وقع الزحام على حوانيت العطارين لتحصيل المغلي ، وحكى الحاكي أن بعض العطارين أحصى ما باعه في يوم ، فكان ثلاثمائة وثمانين صفة ، والسالم منه والمعافي الأكثر ، وما يقيم هذا المرض بالإنسان أكثر من الاسبوع ودونه ، ويمضي من قضى أجله ، وصعب أمر المغسلين والحفارين ، واحتيج إليهم لكثرة الموتى.

وفي يوم السبت الرابع وعشرين من شوال من السنة ، توفي الأمير سعد الدولة أبو عبد الله محمد بن المحسن بن الملحي رحمه‌الله ، ودفن في مقابر الكهف (١) وكان فيه أدب وافر ، وكتابة حسنة ، ونظم جيد ، وتقدم والده في حلب في التدبير والسياسة ، وعرض الأجناد.

__________________

(١) خارج دمشق في جبلها معروف حتى الآن ، لم يتغير اسمه.

٤٩٤

ودخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

أولها يوم الأحد ، والشمس في برج الحمل ، والطالع الجدي ، وفي سادس وعشرين من المحرم منها ورد الخبر من ناحية مصر بأن العادل المعروف بابن سلار ، الذي كانت رتبته قد علت ، ومنزلته في الوزارة قد تمكنت ، ونفذ أمره في البسط والقبض ، وحكمه في الابرام والنقض ، وأنه كان قد جلس للانفاق في رجال الأسطول ، ليجهزه في البحر الى ناحية عسقلان بالميرة ، لتقوية من بها على النازلين عليها من الأفرنج ، والمضايقين لها ، وهم في الجمع الكثير والجم الغفير ، بالمال والرجال والغلال ، وإشراف أهلها على الخطر ، وأنه نهض من المجلس على العادة للراحة من النصب ، والهجعة عقيب التعب ، وكان لزوجته ولد يعرف بالأمير عباس ، وقد قدمه واعتمد عليه في الأعمال ، ولعباس هذا ولد قدمه الوزير وأنعم عليه ، وأذن له في الدخول بغير اذن إليه ، فدخل عليه وهو نائم في فرشته على (١٧٣ ظ) العادة ، فأخذ سيفه وضربه به فقطع رأسه وخرج به بين أثوابه ، ولم يشعر أحد ، وأتى به الى باب القصر في يوم الأحد الثاني عشر من المحرم ، وقال لخدم الإمام الظافر بالله : هذا رأس المنافق ، فقيل له : ما كان منافقا ، وكان جماعة من الأتراك قد اصطنعهم الوزير المقتول لنفسه ، فتجمعوا في زهاء ثلاثمائة فارس ، وأنهم طلبوا ليقتلوا ، فحموا نفوسهم بالسهام ، وحصلوا بظاهر القاهرة ، وصادفهم عباس عائدا من بلبيس حين وافاه الخبر ، فوعدهم الجميل ، وإقرارهم على واجباتهم ، فلم يثقوا به ، وتفرقوا على أقبح حال ، ووصلوا الى دمشق في أواخر المحرم ، وقيل إن عباسا المذكور حصل في منصب العادل المذكور ، واستقام له الأمر ، وتمكن في الأعمال ، وقيل إن العادل كان قد قتل [كثيرا] من الحجرية والريحانية وأصناف الأجناد حتى استقام له الأمر ، وتمكن في الأعمال.

وتواصلت الأخبار من ناحية نور الدين سلطان حلب والشام ، بقوة عزمه على جمع العساكر والتركمان من سائر الأعمال والبلدان ، للغزو في أحزاب

٤٩٥

الشرك والطغيان ، وبنصرة أهل عسقلان على النازلين عليها من الأفرنج ، وقد ضايقوها بالزحف إليها بالبرج المخذول ، وهو في الجمع الكثير ، والله يحرسها من شرهم ، واقتضت الحال توجه مجير الدين صاحب دمشق الى نور الدين ، في جمهور عسكره ، للتعاضد على الجهاد ، في يوم السبت الثالث عشر من المحرم ، واجتمع معه في ناحية الشمال ، واتفق بينهما وجماعة المقدمين من أمراء الأعمال والتركمان ، وهم في العدد الدثر ، وقد ملك نور الدين الحصن المعروف بأفلس (١) بالسيف بأمر قضاه الله وسهله ويسره وعجله ، وهو في غاية المنعة والحصانة ، وقتل من كان فيه من الأفرنج والأرمن ، وحصل للعسكر من المال والسبي الشي الكثير.

ونهضوا طالبين ثغر بانياس ، ونزلوا عليه في يوم السبت تاسع وعشرين صفر ، وقد خلا من حماته وتسهلت أسباب ملكته ، وقد تواصلت استغاثة أهل عسقلان واستنصارهم بنور الدين ، فقضى الله تعالى بالخلف بينهم ، والقتل ، وهم في تقدير عشرة آلاف فارس وراجل ، فأجفلوا عنها من غير طارق من الأفرنج طرقهم ولا عسكر (١٧٤ و) منهم أرهقهم ، ونزلوا على المنزل المعروف بالأعوج ، وعزموا على معاودة النزول على بانياس وأخذها ، ثم أحجموا عن ذلك من غير سبب ولا موجب وتفرقوا ، وعاد مجير الدين الى دمشق ودخلها سالما في نفسه وجملته ، في يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الأول من السنة ، وعاد نور الدين إلى حمص ، ونزل بها في عسكره.

ووردت الأخبار بوصول اسطول مصر إلى عسقلان ، وقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال ، وظفروا بعدة وافرة من مراكب الأفرنج في البحر ، وهم على حالها في محاصرتها ومضايقتها ، والزحف بالبرج إليها.

وقد تقدم من شرح الحال للرئيس في تمكنه من منصب الوزارة ، بنفيه

__________________

(١) لم أجده في المصادر الجغرافية وسواها.

٤٩٦

من نفاه من المعاندين له ، بحيث طابت نفسه ، وتوكد أنسه ، فعرض بينه وبين أخويه عز الدولة وزينها مشاحنات ومشاجرات ، اقتضت المساعدة الى مجير الدين ، في جمادى الأولى من السنة ، وأنفذ مجير الدين الى الرئيس يستدعيه للاصلاح بينهم في القلعة ، فامتنع من ذلك ، وجلس في داره ، وهم بالتحصن عنه بأحداث البلد والغوغاء ، وآلت الحال إلى تمكن زين الدين منه بمعاونة مجير الدين عليه لأسباب تقدمت ، وتقرر بينهما إخراج الرئيس من البلد وجماعته الى حصن صرخد مع مجاهد الدين بزان واليه في يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأولى ، بعد أن قرر له بقاء داره وبستانه وما يخصه ويخص أصحابه ، وتقلد أخوه زين الدين له مكانه ، وخلع عليه ، وأمر ونهى ، ونفذ الأشغال على عادته في العجز والتقصير وسوء الأفعال والتماس الرشاء على أقل الأعمال ، ورأى مجير الدين عقيب ذلك التوجه الى بعلبك لتطييب نفس واليها عطاء الخادم ، واستصحابه معه الى دمشق لينوب عنه في تدبير الأمور ، والمعونة على مصالح الأحوال ، وعاد وهو معه ، واستشعر مجاهد الدين أن نية مجير الدين قد تغيرت فيه ، فاستوحش من عوده الى البلد عن غير يمين يحلف له بها على إيمانه على نفسه ، فوعد بالإجابة الى ما رغب فيه ، وبقي الأمر موقوفا لأسباب اقتضت التوقف.

ووردت الأخبار في أثناء ذلك بأن الافرنج النازلين على عسقلان قد (١٧٤ ظ) ضايقوها بمغاداة القتال ومراوحته ، الى أن تسهلت لهم أسباب الهجوم عليها من بعض جوانب سورها ، فهدموه وهجموا البلد ، وقتل بين الفريقين الخلق الكثير ، وألجأت الضرورة والغلبة الى طلب الأمان ، فأجيبوا إليه ، وخرج منها من أمكنه الخروج في البر والبحر الى ناحية مصر وغيرها ، وقيل إن في هذا الثغر المفتتح من العدد الحربية والأموال ، والميرة والغلال ما لا يحصر فيذكر ، ولما شاع هذا الخبر في الأقطار ساء سماعه ، وضاقت الصدور ، وتضاعفت الأفكار بحدوث مثله ، فسبحان من لا يرد نافذ قضائه ، ولا يدفع محتوم أمره عند نفوذه ومضائه.

٤٩٧

وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الأديب أبي الحسين أحمد بن منير الشاعر ، في أيام من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، بعلة هجمت عليه ، ربا فيها لسانه ، بحيث قضى نحبه وكان أديبا شاعرا عارفا بفنون اللغة ، وأوزان العروض ، لكنه مرهوب اللسان ، خبيث الهجاء مجيد فيه ، لا يكاد يسلم من مقاطيع هجائه : منعم عليه ، ولا مسيء اليه ، وكان طبعه في الذم أخف منه في المدح وكان يصل بهجائه ، لا بمدحه وثنائه.

ووصل إلى دمشق الأديب أبو عبد الله محمد بن [نصر بن](١) صغير القيسراني الشاعر من حلب يوم الأحد الثاني عشر من شعبان سنة ثمان وأربعين باستدعاء مجير الدين له ، وحضر مجلسه وأنشده قصيدة حبرها يائية ، مقيدة حسنة المعاني والمقاصد ، فاستحسنها السامعون واستجادها ، وشفعها بغيرها ووصله أحسن صلة واتفق عوده الى منزله ، فعرضت له حمى حادة ، وجاء معها إسهال مفرط قضى نحبه في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان من السنة ، وكان أديبا شاعرا مترسلا فاضلا ، بليغ النظم ، مليح المعاني ، كثير التطبيق والتجنيس ، وله يد قوية في علم النجوم والأحكام والهيئة ، وحفظ الأخبار والتواريخ ، وكان بينه وبين أبي الحسين أحمد بن منير على قديم الزمان مشاحنات ، حرص معها على الاصلاح بينهما فما تهيأ ذلك لمن رامه ، وكان بينهما هذه المدة اليسيرة.

وكان قد ورد من بغداد الى دمشق في أوائل سنة ثمان وأربعين وخمسمائة الشيخ الإمام الفيلسوف أبو الفتوح ابن الصلاح ، وكان غاية في الذكاء ، وصفاء الحس ، والنفاذ في العلوم الرياضية : (١٧٥ و) الطب والهندسة والمنطق والحساب ، وفنون النجوم والأحكام والمواليد ، والفقه وما يتصل به ، وتواريخ الأخبار والسير

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني الكاتب ـ قسم شعراء الشام ـ ط. دمشق ١٩٥٥ : ١ / ٩٦ ، وفي هذا الجزء حديث مطول عن كل من ابن منير والقيسراني : ٧٦ ـ ١٦٠.

٤٩٨

والآداب ، بحيث وقع الإجماع عليه ، بأنه لم ير مثله في جميع العلوم ، وحسن الخلق ، ونزاهة النفس ، بحيث لا يقبل من أحد من الولاة صلة قلت أو كثرت ، واتفق للحين المقضي أنه عرض له مرض حاد ، ومعه اسهال مفرط أضعف قوته ، أقام به أياما وتوفي الى رحمة الله في دمشق يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة ، وقيل إنه من بيت كبير في العلم والأصل ، ونظم فيه هذه الأبيات بصفة حاله في هذا الموضع ، ليعرف محله :

سررت أبا الفتوح نفوس قوم

رأوك وحيد فضلك في الزمان

حويت علوم أهل الأرض طرّا

وبيّنت الجليّ من البيان

دعيت الفيلسوف وذاك حقّ

بما أوضحت من غرر المعاني

ووافاك القضاء بعيد دار

غريبا ما له في الفضل ثان

فأودعت القلوب عليك حزنا

يعضّ عليه أطراف البنان

لئن بخل الزمان عليّ ظلما

بأني لا أراك ولن تراني

فقد قامت صفاتك عند مثلي

مقام السمع مني والعيان

سقى جدثا به أصبحت فردا

ملث الغيث بهمي غير وان

وفي أيام من تشرين الثاني الموافق لأيام من شعبان سنة ثمان وأربعين أرسل الله تعالى ، وله الحمد والشكر ، من الغيث المتدارك الهطال ما أحيا به الأرض بعد القحط والجدب ، وأجرى أودية حوران وأفعم بركها بعد جفافها ، وقيل إن هذا الغيث لم ير مثله في هذا الوقت في السنين الماضية ، وأنه أفرط في أعمال طبرية ، بحيث حدث منه سيل جارف هدم عدة من مساكنها ، ورماها الى البحيرة ، فسبحان محيي عباده ، ومغيث بلاده.

وفي يوم الخميس انسلاخ شعبان من السنة توفي الشيخ الإمام الفقيه برهان الدين أبو الحسن علي البلخي ، رئيس الحنفية رحمه‌الله ، ودفن في مقابر باب الصغير المجاور لقبور الشهداء ، رضي‌الله‌عنهم ، وكان من التفقه

٤٩٩

على مذهب الإمام أبي حنيفة (١٧٥ ظ) رحمه‌الله ، ما هو مشهور شائع ، مع الورع والدين والعفاف والتصون ، وحفظ ناموس الدين ، والعلم والتواضع والتردد الى الناس على طريقة مرضية ، وسجية محمودة ، لم يشاركه فيها غيره ، ووقع الأسف عليه من جميع الخاص والعام ، والتأبين له ، والحزن عليه.

قد مضى من ذكر الرئيس المسيب في حصوله بصرخد ، وتقرر بعد ذلك تطييب نفس مجاهد الدين ، والحلف له على إزالة ما خامره من الاستيحاش والنفار ما سكن إليه ، واعتمد عليه ، وعاد إلى داره بدمشق أواخر شعبان وصام رمضان فيها ، ثم هجس في خاطره من مجير الدين وخواصه ما أوحشه منهم ، ودعاه ذلك الى الخروج من البلد سرا في يوم الثلاثاء الثاني عشر من شوال طالبا صرخد ، فحين عرف خبره ، نهض في طلبه وقص أثره جماعة من شوال طالبا صرخد ، فحين عرف خبره ، نهض في طلبه وقص أثره جماعة من الخيل ، فأدركوه وقد قرب من صرخد ، فقبض عليه ، وأعيد الى القلعة بدمشق واعتقل بها اعتقالا جميلا.

وحدث في هذه الأيام من تتابع الأمطار في الأماكن والثلوج في الجبال والأعمال البقاعية ، ما لم ير مثله ، ثم ذاب الثلج ، وسالت بمائه الأودية والشعاب ، وساح على الأرض كالسيل الجارف ، وامتلأت به الأنهار ، والتقت الشطط ، وأفسد ما مر به من الأراضي المنخفضة ، ووصل المد الى بردى ، وما قرب منها ، ورؤي من كثرته وعظمه وتغير لونه ما كثر التعجب منه ، والاستعظام له ، فسبحان مالك الملك ، منزل الغيث من بعد القنوط ، إنه على كل شيء قدير.

ثم تجدد عقيب ذلك من الرئيس الوزير حيدرة المقدم ذكره أشياء ظهرت عنه ، مع ما في نفس الملك مجير الدين منه ، ومن أخيه المسيب ، والمعرفة بالسعي والفساد ما اقتضت الحال استدعاءه الى القلعة ، على حين غفلة منه ، وعن القضاء النازل به ، لسوء أفعاله ، وقبح ظلمه وخبثه ، ثم عدلت به

٥٠٠