تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

ولاية ألفتكين (١) المعزي لدمشق في بقية سنة أربع (٢) وستين وثلاثمائة

وما بعدها وشرح السبب في ذلك

قد مضى ذكر ما جرى عليه أمر القائد ريان المعزي (٣) الخادم في تولية أمر دمشق ، وما شاهده من أمر الفتن الحادثة فيها ، واتصال الحروب بها ، وما اعتمده من النظر في تسديد أحوالها وتدارك إصلاح اختلالها بعد ذلك ، وتسكين نفوس من بها ، ووافق هذه الحال ما تناصرت به الأخبار من بغداد من اشتداد الفتن والوقائع بين الديلم والأتراك وما كان من عصيان الحاجب سبكتكين المعزي مقدم الأتراك على عز الدولة بختيار ابن مولاه معز الدولة أبي الحسين بن بويه الديلمي ، وما حدث من موت الحاجب سبكتكين المذكور وردّ الأمر في التقدم على الأتراك إلى الحاجب أبي منصور ألفتكين المعزي والرئاسة عليهم ، لسكونهم الى سداده وجميل فعله في الأعمال ، واقتصادهم واعتمادهم عليه في إخماد ثائرة الفتنة ، وسكنت نفوس الأجناد ببغداد.

وفي ذي القعدة من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وردت الأخبار بخلع المطيع لله واستخلاف ولده الطائع لله عند اشتداد الفتنة بين الديلم والأتراك ، وأقام على هذه (١٢ و) الحال برهة خفيفة ، ثم ثارت الفتنة واتصلت الحوادث ،

__________________

(١) يرد رسم هذا الاسم في المصادر بأشكال مختلفة : منها هفتكين ، بغتكين ، ألفتكين ، ألبتكين ، والصحيح هو «ألب تكين أي عبد جلد» ويجوز القول ألف بدلا من ألب فالباء والفاء سواء في الأسماء المعربة عن التركية. انظر ديوان لغات الترك ، تأليف محمود الكاشغري. ط. الآستانة : ١٣٣٣ ه‍ : ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) في الأصل ثلاث وهو خطأ واضح ، انظر أخبار القرامطة : ٦٤ ـ ٦٥.

(٣) ألفتكين المعزي وريان المعزي ، أما الأول فنسبة إلى معز الدولة البويهي ، وأما الثاني فنسبة الى المعز لدين الله الفاطمي.

٢١

وزاد الأمر في ذلك إلى حد أوجب للحاجب الفتكين الانفصال عن بغداد في فرقة وافرة من الأتراك تناهز ثلاثمائة فارس من طراخين (١) الغلمان ، ووصل أولا إلى ناحية حمص للأسباب التي أوجبت ذلك ودعت ، فأقام بها أياما قلائل ، وسار منها الى دمشق والأحداث بها على الحال المقدم شرحهما في تملّكها والغلبة عليها والتحكم فيها ، فنزل بظاهرها ، وخرج إليه شيوخها وأشرافها وخدموه وأظهروا السرور به ، وسألوه الإقامة عندهم ، والنظر في أحوالهم ، وكف الأحداث الذين بينهم ، ودفع الأذيّة المتوجهة عليهم منهم ، فأجابهم إلى ذلك بعد أن توثّق منهم وتوثقوا منه بالأيمان المؤكدة والمواثيق المشددة على الطاعة والمساعدة ، ودخل البلد وأحسن السيرة وقمع أهل الفساد وأذلّ عصب ذوي العيث والعناد ، وقامت له هيبة في الصدور ، وصلح به ما كان فاسدا من الأمور ، وكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به ، فقصدهم وأوقع بهم ، وقتل كثيرا منهم ، وظهر لهم من شجاعته وشهامته وقوة نفس من في جهته وجملته ما دعاهم إلى الاذعان بطاعته والنزول على حكمه ، والعمل بإشارته وأمر بتقرير إمضاء الاقطاعات القديمة ، وارتجاع ما سوى ذلك ، وأحسن التدبير والسياسة في ترتيب العمال في الأعمال ، وأنعم النظر في أبواب المال ووجوه الاستغلال ، فاستقام له الأمر ، وثبتت قدمه في الولاية ، وسكن أهل دمشق إلى نظره.

وكاتب المعز مكاتبة على سبيل المداجاة والمغالطة والمدامجة والتمويه والانقياد له والطاعة لأوامره ، فأجابه بالاحماد له والارتضاء بمذهبه ، والاستدعاء له الى حضرته ، ليشاهده ويصطفيه لنفسه ، ويعيده إلى ولايته بعد ذلك مكرما مولى مشرّفا ، فلم يثق إلى ذلك ، ولا سكنت نفسه إليه وامتنع من الإجابة إلى ما بعثه عليه.

__________________

(١) أي كبار الغلمان ، ومن أجل حوادث الصراع التركي الديلمي انظر تجارب الأمم لمسكويه ، ط. القاهرة ١٩١٥ : ٣١٦ ـ ٣٤٣ ، ووصل ألفتكين الى الشام عام ٣٦٤ ه‍.

٢٢

ووافق أن المعز لدين الله اعتل العلة التي قضى فيها نحبه وصار إلى رحمة ربه في سنة خمس وستين وثلاثمائة وكان مولده بالمهدية (١) ، وعمره خمس وأربعون سنة ، ومولده سنة تسع عشرة (١٢ ظ) وثلاثمائة ، ومدة أيامه في الخلافة ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر وأمه أم ولد ، ونقش خاتمه «بنصر العزيز العليم ينتصر الإمام أبو تميم» ، وكان عالما فاضلا شجاعا جاريا على منهاج أبيه في حسن السيرة وانصاف الرعية (٢) ، ثم عدل عن ذلك وتظاهر بعلم الباطن ، ورد من كان باقيا من الدعاة في أيام أبيه وأذن لهم في الاعلان بمذهبهم ، ولم يزل عن ذلك غير مفرط فيه إلى أن خرج من الغرب (٣) ، وقام في منصبه من بعده ولده نزار أبو منصور العزيز بالله ، مولوده بالمهدية يوم الخميس الرابع عشر من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.

ولما عرف حال الحاجب ألفتكين جهز إليه عسكرا كثيرا مع القائد جوهر المعزي ، ويجري الأمر بينهما على ما هو مشروح في موضعه ، واتفق خروج ابن الشمشقيق (٤) متملك الروم في هذه السنة إلى الثغور ، فاستولى على

__________________

(١) معروفة بالجمهورية التونسية بناها المهدي سنة ٣٠٠ ه‍ / ٩١٣ م على شاطيء البحر الأبيض المتوسط ، وأرضها بالأصل أشبه «بجزيرة متصلة بالبر كهيئة كف متصل بزند». انظر كتابي العصر العباسي منذ القرن الرابع وحتى سقوط بغداد ، ط. دمشق ١٩٨٢ ، ص : ٢٣١ : ٢٣١ ـ ٢٣٨.

(٢) تردد بعض المصادر أن المنصور اسماعيل أوقف النشاط الدعوي وتظاهر بالتقرب إلى أهل السنة وذلك أثناء تصديه لثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي.

(٣) يريد بهذا قدوم المعز من تونس إلى مصر بعدما تعرضت للخطر القرمطي.

(٤) هو الامبراطورJOhn I Tzimisces ولفظة شمشقيق لفظة أرمنية معناها القصير (٩٦٩ ـ ٩٧٦) ، وكان ابن الزيات مقدم أهل طرسوس التي كانت أعظم مدن الثغور ، وقد أفرد ابن العديم في المجلدة الأولى من كتابه بغية الطلب فصلا خاصا حول مدينة طرسوس ، أهم ما فيه مواد نقلها عن أبي عثمان الطرسوسي (ت في مطلع القرن الخامس) صاحب كتاب سير الثغور ، وطرسوس الآن قائمة داخل الحدود التركية وغالبية سكانها عرب يتقنون العربية ، في محراب مسجدها دفن الخليفة المأمون العباسي.

٢٣

أكثرها ودعت أبا بكر بن الزيات الضرورة إلى مصالحته والدخول في طاعته والمسير في عدة وافرة من أهل طرسوس والثغور في خدمته ، وفعلت عدة من بطون العرب مثل ذلك ، فلما نزل ابن الشمشقيق على حمص وافتتحها وانتقل عنها إلى بعلبك وملكها ، وأراد قصد دمشق ، وكتب ابن الزيات الى ألفتكين وأهل دمشق يعرفهم قوة متملّك الروم ، وأنهم لا يقدرون على مقاومته ، ولا يتمكنون من محاربته ، ويشير عليهم بالدخول في طاعته والنزول على حكم إشارته ، وأصغى ألفتكين وأهل البلد إلى ذلك ، وعلموا أن فيه المصلحة ، وقرروا ما يستكفونه به ليصبحوا في كنف السلامة ، ويأمنوا شرّ العساكر الواصلة إليهم ، وكتب إليه بقبول الاشارة وردّ الأمر إليه فيما يدبره ، والعمل فيه بما يراه ويستصوبه ، فدخل ابن الزيات إلى متملك الروم ، وقال له : قد وردت كتب ألفتكين وأهل دمشق بالإنقياد للملك إلى ما يرومه منهم ، ويرسم حمله إليه من الخراج عن بلدهم وسألوا أمانه ، وحسن الرأفة والمحاماة عنهم ، فقال له : قد قبلت طاعتهم ، وأمرت بايمانهم على نفوسهم وأموالهم ، ورضيت منهم بالخراج ، وأنفذ إليهم صليبا بالأمان ، وأنفذ (١) ابن الزيات إليهم مع المعروف بالدمشقي صاحبه ، وكان من وجوه (١٣ ـ و) الطرسوسين ، فتلقوه بالمسرة والاكرام والشكر الزائد عن حسن السفارة وجميل الوساطة ، وأشار ابن الزيات على ألفتكين بالخروج لتلقي الملك فخرج في ثلاثمائة غلام في أحسن زي وعدة ، وأفضل ترتيب وهيئة ، واستصحب أشراف البلد وشيوخه ، ولقيه فأقبل عليه وأكرمه والدمشقيين فيما خاطبهم به من الجميل ، وعاملهم به من وكيد العناية ومرضي الرعاية ، وتوسط ابن الزيات ما بينه وبينهم على تقرير مائة ألف درهم.

__________________

(١) في الأصل : «فأنفذه» أي الصليب ، وهذا يفيد تكرار العبارة ، ولا يتفق مع سياق الخبر وبقيته ، ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

٢٤

وسار ابن الشمشقيق (١) إلى دمشق لمشاهدتها ، فلما وصل إليها ونزل بظاهرها استحسن ما رآه من سوادها ، وتقدم إلى أصحابه بكف الأذية عن أهلها ، وترك الإعتراض لشيء من عملها ، ودخل ألفتكين والشيوخ إلى البلد لتقسيط القطيعة وجمعها ، وتحصيل الملاطفات التي يخدم مثله بمثلها ، وحملوا إليه ما جاز حمله ، وحصل المال المقرر له في بدره ، وخرج ألفتكين إليه لمعاودة خدمته فوجده راكبا والطرسوسيون يتطاردون بالرماح بين يديه ، فلما شاهد ابن الشمشقيق موكبه تقدم إلى ابن الزيات بتلقيه ، وقد كانت الحال تأكدت بين ألفتكين وابن الزيات فتلقاه ووصاه بالتذلل له والزيادة في التعظم له ، والتقرب إليه وأعلمه أن ذلك ينفق عليه ، ففعل ألفتكين ما أشار به ، وترجل له هو وأصحابه ، وابن الزيات ، عند قربهم منه ، وقبلوا الأرض مرارا ، فسر الملك بذلك وأمرهم بالركوب ، فركبوا وأسند إلى ألفتكين ، وسأله عن حاله فأجابه جوابا استرجعه حجة فيه ، وكان الملك فارسا يحب الفرسان ، فلعب الفتكين وابن الزيات بين يديه لعبا استحسنه منه ، وشاهد من فروسية الفتكين

__________________

(١) قاد هذا الامبراطور أول جيش بيزنطي توغل في أعماق بلاد الشام منذ الفتح الاسلامي ، وقد تحدث في رسالة بعث بها إلى أشوت الثالث ملك أرمينية عن أهداف حملته فبين أنها أهداف صليبية بحتة ، ذلك أنه أراد احتلال القدس أو حسب تعبيره أراد تحريرها من المسلمين ، لكن كما قال : «لولا وجود المسلمين المغاربة الذين يعيشون هناك ولو لا اعتصامهم في القلاع الساحلية لدخلنا بيت المقدس وصلينا للرب في الأماكن المقدسة». هذا وتحدث يحيى بن سعيد الأنطاكي عن حملة الامبراطور البيزنطي ووصوله إلى دمشق فذكر أنه «قاطع أهلها على ستين ألف دينار يحملونها إليه في كل عام ، وكتب عليهم بذلك كتابا وأخذ خطوط الأشراف ، وأخذ جماعة منهم رهينة ، واستدعى خروج ألفتكين إليه فخرج في أربعة غلمان فأكرمه الملك ، وضرب له مضربا مفردا وأفطر عنده في تلك الليلة فخلع عليه الملك ووهب له ما أخذ به خطوط أهل دمشق من المال وأطلق أيضا الرهائن ، وحمله على فرس بسرج ولجام». انظر تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكي ط. بيروت : ١٩٠٩ ص : ١٤٥ ـ ١٤٦. تاريخ الامبراطورية البيزنطية (بالانكليزية) تأليف أ. أ. فازلييف ـ كندا ١٩٥٢ : ١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٢٥

ما أعجبه ، فتقدم إليه بالزيادة في اللعب والتفرد به ففعل ، والتفت الملك إلى ابن الزيات فأثنى على ألفتين ، وقال : هذا غلام نجيب وقد أعجبني ما شاهدته منه في حسن أفعاله وجميع أحواله ، فأعلم ابن الزيات ألفتكين ، فترجل وقبل الأرض وشكره ودعا له ، فأمره بالركوب فركب وقال لابن الزيات : عرّفه أن ملكي (١) قد وهب له الخراج وترك طلبه منه ، فأعاد ألفتكين الترجل والشكر (١٣ ظ) والدعاء ، وعاد الملك إلى بلاطه وألفتكين معه أثناء مسيره يلعب ويرى بالزوبين (٢) ، والملك شديد التوفر عليه ، حتى إذا نزل أحضره وخلع عليه ، وحمله على شهري ، واستهداه الملك الفرس الذي كان تحته ، والسلاح الذي عليه الرمح ، فعاد وأضاف اليه عشرين فرسا بتجافيفها وعدة رماح وشيئا كثيرا من أصناف الثياب والطيب والتحف التي يتحف بها مثله ، فشكره الملك على هذا الفعل ، وقبل الفرس وآلته ، ورد ما سوى ذلك وكافأه على الهدية بأثواب ديباج كثيرة ، وصياغات وشهاريّ وبغلات.

وسار على طريق الساحل فنزل على صيدا ، وخرج إليه أبو الفتح بن الشيخ ، وكان رجلا جليل القدر ، ومعه شيوخ البلد ، ولقوه وقرروا معه أمرهم على مال أعطوه إياه وهدية حملوها إليه ، وانصرف عنهم على سلم وموادعة ، وانتقل إلى ثغر بيروت فامتنع أهله عليه ، فقاتلهم وافتتح الثغر عنوة ونهبه وسبى السبي الكثير منه ، وتوجه الى جبيل فاعتصم أهلها عليه ، وجرى أمرها مجرى بيروت ، ونزل على طرابلس فأقام عليها تقدير أربعين يوما يقاتل أهلها

__________________

(١) أي ملك ابن الزيات الامبراطور نفسه صاحب الخطاب حسب الطريقة البيزنطية في الرسوم ، أو لعل الامبراطور لم يرد نفسه ، ذلك أنه حكم باسم ولدي الامبراطور رومانوس الثالث وهما باسيل الثاني وقسطنطين الثامن ، أنظر كتاب أوربا في العصور الوسطى لسعيد عبد الفتاح عاشور. ط. القاهرة ١٩٦٦ ص : ٤٢٢ ـ ٤٢٦.

(٢) حربة ذات رأسين ، باللغة الفارسية.

٢٦

ويقاتلونه ، فبينما هو على ذلك إذ دسّ اليه خال بسيل وقسطنطين سما فاعتل منه ، ورحل إلى أنطاكية فطالب أهلها بتسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك ، وقطع ما كان في بساتينها من شجر التين وهو يجري هناك مجرى النخل في البصرة ، وحفزه المرض الذي لحقه واستخلف البرجي (١) البطريق على منازلتها وتوجه الى القسطنطينة ، وتوفي بعد أن افتتح البرجي أنطاكية في سنة خمس وستين وثلاثمائة.

وورد (٢) الخبر بوفاة أبي تميم معد المعز لدين الله صاحب مصر في يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة ، وكان مولده بالمهدية على أربع ساعات وأربعة أخماس ساعة من يوم الاثنين الحادي عشر من شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة ، وعمره خمس وأربعون سنة ، وتقلد الأمر بعد أبيه في يوم الجمعة التاسع عشر من شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة ، ومدة أيامه بمصر ثلاث سنين ، وانتصب مكانه ولده نزار أبو المنصور العزيز بالله ، وقد تقدم ذكر ذاك إلا أن هذه الرواية أجلى من تلك الحكاية.

وقيل أن المعز كان (١٤ و) مغرى بعلم النجوم ، والنظر فيما يقتضيه أحوال مولده وأحكام طالعه ، فحكم له بقطع فيه واستشار منجمه فيما يزيله عنه ، فأشار عليه أن يعمل له سردابا تحت الأرض ويتوارى فيه إلى حين زوال الوقت وتقضّيه ، فعمل على ذلك ، وأحضر قواده وكتابه ، وقال لهم : إن بيني وبين الله تعالى عهدا في وعد وعدنيه ، وقد قرب أوانه ، وجعلت ولدي نزارا ولي العهد بعدي ، ولقّبته العزيز بالله ، واستخلفته عليكم ، وعلى تدبير أموركم مدة غيبتي ، فالزموا الطاعة له والمناصحة واسلكوا الطريق الواضحة ، فقالوا له : الأمر أمرك ونحن عبيدك وخدمك ، ووصى إلى العزيز بما أراد ، وجعل

__________________

(١) ميخائيل البرجي. انظر تاريخ يحيى بن سعيد : ١٤٧.

(٢) في الأصل ولما ، ولا وجه لها ، ولعل ما أثبته هو الصواب.

٢٧

جوهرا مدبره والمشار إليه في الأمور وتنفيذها بين يديه ، ونزل إلى السرداب الذي اتخذه ، وأقام فيه سنة ، فكانت المغاربة إذا رأوا غماما سائرا ترجلوا الى الأرض وأوموا إليه بالسلام بقدر ذاك ، ثم خرج بعد ذلك وجلس للناس ، فدخلوا إليه على طبقاتهم وخدموه بأدعيتهم وما أقام على هذه الحال الّا مديدة واعتل علته التي قضى فيها نحبه (١).

وقام العزيز بالله في منصبه ، وقد كان ألفتكين [بدمشق](٢) والقرامطة يكاتبونه بأنهم قاصدون الشام إلى أن وافوا الى دمشق في سنة خمس وستين وثلاثمائة ، وكان الذي وافى منهم اسحق وكسرى وجعفر ، فنزلوا على ظاهر دمشق نحو الشماسية ، ووافى معهم كثير من العجم ، وأكرمهم ألفتكين ، وحمل إليهم الميرة ، وخرج نحوهم ، وأقاموا على دمشق أياما ورحلوا متوجهين الى الرملة ، وكان أبو محمود ابراهيم بن جعفر لما عرف خبرهم تحصن بيافا ، فلما نزلوا الرملة شرعوا في القتال ، ولما أمن ألفتكين من ناحية مصر والرملة عمل على أخذ ثغور الساحل ، وسا فيمن اجتمع إليه ، ونزل صيدا فكان بها ابن الشيخ واليا ومعه رؤوس من المغاربة ، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي الذي تقدم

__________________

(١) فكرة الغيبة في هذه الرواية مقبولة ، بصرف النظر عما أحاط بها هنا من أخبار ، وفكرة الغيبة موجودة لدى معظم فرق الشيعة ، فالكيسانية اعتقدوا بغيبة محمد بن الحنفية ، وبعدهم رأى الاثنا عشرية وما زالوا يرون أن الامام الثاني عشر تغيب في غار في سامراء وأنه مهدي الزمان وسيظهر عندما يحين الوقت ، وكذلك اعتقد الدروز بغيبة الحاكم بأمر الله ، والجديد المختلف في غيبة المعز هنا ان غيبته كانت محدودة المدة محدودة الهدف ، وهي هنا مرتبطة بمكانة الامام الدينية لدى الاسماعيلية وبما ورد في القرآن الكريم عن غيبة النبي موسى عليه‌السلام ، هذا ومفيد أن نشير هنا أن يحيى بن سعيد الأنطاكي : ١٤٦ ، ذكر أن وفاة المعز كتمت مدة ثمانية أشهر.

(٢) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق ويتضح المعنى ، فالقرامطة كاتبوا ألفتكين «بأنهم قاصدون الشام» ، ولم يقوموا لا هم ولا ألفتكين بالكتابة للعزيز الفاطمي.

٢٨

ذكره في دمشق ، فقاتلوه وكانوا في كثرة وطمعوا في ألفتكين ، وامتدوا خلفه ونزل على نهر وطفت الرعية من صيدا ، وخرج منهم خلق كثير ، وقال ألفتكين لساقة العسكر : اطلبوا طريق بانياس ، وتبعوهم ، فحملت عليهم الأتراك ، ورمتهم المغاربة بالحرب فلقوهم بالصدور (١٤ ظ) وأقبلوا باللتوت (١) عليهم وداسوهم بالخيل عليها التجافيف (٢) ، فانهزموا وأخذهم السيف ، وكان ظالم ابن موهوب معهم ، فانهزم إلى صور وأحصي القتلى فكانوا أربعة آلاف ، وطمع في أخذ عكا وتوجه نحوها.

وقد كان العزيز بالله كاتب ألفتكين بمثل ما كاتبه به المعز لدين الله من الاستمالة ، ووعده بالاصطناع إذا (٣) أخذت عليه البيعة ، وظهرت منه الطاعة ، فأجابه فيه جوابا فيه بعض الغلظة ، وقال : هذا بلد أخذته بالسيف وما أدين فيه لأحد بطاعة ولا أقبل منه أمرا ، وغاظ العزيز هذا الجواب منه ، وأحفظه واستشار أبا الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس (٤) وزيره فيما يدبّر أمر

__________________

(١) في الأصل «أقلبوا» وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه واللتوت جمع لت وهو العمود أو ما ناظره بالفارسية.

(٢) هو شيء من سلاح يترك على الفرس بغية الأذى ، وقد يلبسه الانسان أيضا. النهاية لابن الأثير.

(٣) في الأصل «وأخذت» وهو غير مستقيم المعنى ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

(٤) عراقي الأصل من يهودها ، قدم الرملة وعمل بها ثم توجه إلى مصر حيث التحق بكافور الأخشيدي ، فنفق عنه وأعلن اسلامه فاستوزره ، توجه بعد وفاة كافور إلى افريقية فالتحق بالفاطميين ورافق جيوشهم التي فتحت مصر ، وفي مصر وضع أسس نظام الادارة الفاطمي بشكل يكاد يكون علميا ، كما كتب في الدعوة الاسماعيلية وأسهم في اعادة تنظيمها ، تسلم الوزارة الفاطمية أكثر من مرة ، وتوفي في أيام العزيز ، والمثير في أمره أن وثائق الجنيزا اليهودية المصرية المعاصرة له تشير إليه باسم الأخ يعقوب مما يدفع إلى القول بأنه تمسك باليهودية وتظاهر بالاسلام. انظر كتاب «يهود في الحياة الاقتصادية والسياسية للاسلام الوسيط» تأليف والتر فيشل (بالانكليزية) ط. لندن ١٩٦٨ ص : ٤٥ ـ ٦٨. مجتمع البحر الأبيض المتوسط ، تأليف س. د. جويتين (بالانكليزية) كاليفورنيا ١٩٦٧ ص : ٣٣ ـ ٣٤. الاشارة إلى من نال الوزارة لعلي بن منجب الصيرفي ط. القاهرة ١٩٢٤ ص : ١٩ ـ ٢٣.

٢٩

ألفتكين به ، فأشار باخراج القائد جوهر إليه مع العساكر ، فأمر بالشروع في ذلك وترتيب الأمر فيه.

وعرف ألفتكين ذلك وما وقع العزم عليه ، فجمع وجوه أهل دمشق وأشرافها وشيوخها ، وقال لهم : قد علمتم أنني لم أتوسطكم وأتولى تدبيركم إلا عن رأيكم ومرادكم ، وقد طلبني من هذا السلطان ما لا طاقة لي به ، وأنا منصرف عنكم وداخل إلى بلاد الروم ، وعامل على طلب موضع أكون فيه ، وأستمد ما أحتاج إليه منه ، لئلا يلحقكم بقصد من يقصدكم ما يثقل به الوطأة عليكم ، وتصل به المضرة إليكم ، وكان أهل دمشق يأبون المغاربة لمخالفتهم لهم في الاعتقاد ، ولأنهم أمويون ، ولقبح سيرة الناظرين الذين كانوا عليهم ، فقالوا : اما اخترناك لرئاستنا ، وسياستنا على أن [لا] نمكنك من تركنا ومفارقتنا أو نألوك جهدا من نفوسنا ومساعدتنا ونفوسنا دونك ، وبين يديك في المدافعة عنك ، وجددوا له التوثقة على الطاعة والمناصحة.

وفصل جوهر في العسكر الكثيف (١) من مصر بعد أن استصحب أمانا من العزيز بالله لألفتكين ، وخاتما ودستا من ثيابه وكتابا إليه بالعفو عنه ، وعمّا فرط منه ، فلما حصل بالرملة كاتب ألفتكين بالرفق والملاطفة ، وأن يبلغ له ما يريد وأعلمه ما قرّره له مع العزيز بالله ، وأخذه أمانه المؤكد والتشريف الفاخر ، وأشار عليه في أثناء ذلك بترك إثارة الفتنة وأن يطلب صلاح الحال من جهته وأقرب طرقه ، فلما وصل الكتاب إليه ووقف عليه ، أجابه عنه بالجميل من (١٥ و) الجواب ، والمرضيّ من الخطاب ، والشكر على ما بذله له من نفسه ، وغالطه في المقال واحتجّ عليه بأهل دمشق فيما يصرف رأيه

__________________

(١) ذكر المقريزي في كتابه المقفي في ترجمة جوهر الصقلبي : «وسار من القاهرة في عسكر لم يخرج الى الشام قبله مثله ، بلغت عدتهم عشرين ألفا». أنظر كتابي مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية ص : ٢٤٢.

٣٠

وتدبيره عليه ، وكان كاتب ألفتكين المعروف بابن الخمّار ، وهو يرى غير رأي المغاربة ، ويزري عنده على اعتقادهم ، ويقرّر في نفسه وجوب قتالهم ، ووقف جوهر على كتابه فعلم أنه مصرّ على الحرب ، فسار إليه حتى إذا قرب منه ، ووصل إلى دمشق نزل في العسكر بالشماسيّة ، وبرز إليه ألفتكين في أصحابه ومن حشده من العرب وغيرهم ، ونشبت الحرب بين الفريقين ، واتصلت مدة شهرين ، وقتل فيها عدد كثير من الطائفتين ، وظهر من شجاعة ألفتكين والغلمان الذين معه ما عظموا به في النفوس ، وتحصّلت لهم الهيبة القوية في القلوب ، وأشار عليه أهل دمشق بمكاتبة أبي محمد الحسن بن أحمد القرمطي (١) ، واستدعائه للاجتماع به على دفع المغاربة ، ففعل وسار الحسن متوجها إليه في عسكره ، وعرف جوهر خبره ، فعلم أنه متى حصل بين عدوّين ربما تمّ عليه مكروه منهما ، فرجع إلى طبرية ، ووصل الحسن بن أحمد إلى ألفتكين ، واجتمعا وتحالفا ، وتعاقدا وسارا في أثر جوهر ، فاندفع منهما إلى الرملة ، وأقام بها ، وأنفذ رحله وأثقاله إلى عسقلان ، وكتب إلى العزيز يعرّفه بصورة الحال ويستأذنه في قصد عسقلان إن دعته إلى ذلك ضرورة ، ووافى ألفتكين والحسن بن أحمد القرمطي ونزلا على الرملة ، ونازلا جوهرا وقاتلاه ، واجتمع إليهما من رجال الشام وعربها تقدير خمسين ألف فارس وراجل ، ونزلوا بنهر الطواحين (٢) على ثلاثة فراسخ من البلد ولا ماء لأهله إلا منه ، فقطعاه عنهم ، واحتاج جوهر وعسكره إلى الماء المجتمع من المطر في الصهاريج وغناء له قليل ، ومادّته إلى نفاد ، ورأى جوهر أنه لا قدرة له على المقام ومقاومة القوم ، فرحل إلى عسقلان في أول الليل ، ووصل إليها في آخره ، وتبعه ألفتكين والقرمطي إليها ، ونزلا عليها وحاصراه فيها ، وضاقت الميرة به ،

__________________

(١) الحسن الأعصم زعيم قرامطة الأحساء انظره في كتابي أخبار القرامطة : ٦٨ ، ٧٣ ، ٣٦٣ ـ ٣٨٣ ، ٣٩٣ ، ٤٠٢ ـ ٤٠٥.

(٢) نهر الرملة كانت عنده طواحين كثيرة ـ معجم البلدان.

٣١

وغلت الأسعار عنده ، وكان الوقت شتاء لم يمكن حمل الأقوات إليه في البحر ، واشتدّت الحال حتى أكلت المغاربة وأهل البلد الدواب الميتة ، وابتاعوا الخبز إذا وجدوه (١٥ ظ) حساب كل خمسة أرطال بالشامي بدينار معزّي ، وكان جوهر شجاعا مبارزا ، وربّما خرج وتقدّم وإذا وجد فرصة من ألفتكين دعاه إلى الطاعة وبذل له البذول المرغّبة فيسترجعه ألفتكين ويسترجله ويهم أن يقبل منه ويجيبه ، ثم يثنيه عنه الحسن بن أحمد وابن الخمّار الكاتب ، ويمنعناه ويخوّفانه ويحذّرانه ، وزاد الضيق والشدّة على المغاربة ، وتصوّر جوهر العطب إن لم يعمل الحيلة في الخلاص ، فراسل ألفتكين سرا وسأله القرب منه والاجتماع معه ، ففعل ذلك ألفتكين ووقفا على فرسيهما فقال له جوهر : قد علمت ما يجمعني وإياك من حرمة الاسلام وحرمة الدين ، وهذه فتنة قد طالت وأريقت فيها الدماء ، ونحن المأخوذون بها عند الله تعالى ، وقد دعوتك إلى الصلح والموادعة والدخول في السلم والطاعة ، وبذلت لك كل اقتراح ، وإرادة واحسان وولاية فأبيت إلّا القبول ممّن يشبّ نار الفتنة ويستر عنك وجه النصيحة ، فراقب الله تعالى ، وراجع نفسك وغلّب رأيك على هوى غيرك ، فقال له ألفتكين : أنا والله واثق بك وبصحة الرأي والمشورة منك ، لكنني غير متمكن مما تدعوني إليه ولا يرضى القرمطي بدخوله فيه معي ، فقال له : إذا كان الرأي والأمر على ذلك فإني أصدقك على أمري تعويلا على الأمانة وما أجده من الفتوة عندك فقد ضاق الأمر وامتنع الصبر وأريد أن تمن عليّ بنفسي وبهؤلاء المسلمين الذين معي وعندي ، وتذمّ لي لأمضي وأعود إلى صاحبي شاكرا ، وتكون قد جمعت بين حقن الدماء ، واصطناع المعروف ، وعقدت عليّ وعلى صاحبي منّة تحسن الأحدوثة عنك فيها ، وربّما أملت المقابلة لك عنها ، فقال له ألفتكين : أفعل وأمنّ على أن أعلّق سيفي ورمح الحسن بن أحمد على باب عسقلان وتخرج أنت وأصحابك من

٣٢

تحتهما ، فرضي جوهر بذلك وتعاهدا وتصافحا عليه ، وأخذ ختم ألفتكين رهنا على الوفاء به وافترقا ، وعاد ألفتكين إلى عسكره وجوهر إلى البلد ، وأنفذ جوهر إلى ألفتكين ألطافا كثيرة ومالا فقبل ذلك منه وكافأه عليه ، وأنفذ ألفتكين إلى القرمطي يعرفه ما جرى بينه وبين جوهر ، (١٦ و) فركب الحسن إليه وقال له : لقد أخطأت فيما فعلته وبذلته ، وجوهر هذا ذو رأي وحزم ودعاء ومكر وقد استقلّك بما عقده معك ، وسيرجع إلى صاحبه ويحمله على قصدنا ، ثم لا يكون لنا به طاقة فيأخذنا ، ومن الصواب أن ترجع عن ذلك حتى يهلك هو وأصحابه جوعا وتأخذهم بالسيف ، فقال له ألفتكين : قد عاهدته وحلفت له وما استجيز الغدر به ، وعلقا السيف والرمح وخرج جوهر وأصحابه تحتهما ، ووصل إلى مصر ودخل على العزيز بالله وشرح له الحال واستفحال أمره ومن معه ، فقال له : ما الرأي؟ قال : إن كنت تريدهم فاخرج بنفسك إليهم والّا فإنهم واردون على أثري.

فأمر العزيز بإخراج الأموال ووضع العطاء في الرجال ، وبرّز برزوا كليا واستصحب الخزائن والذخائر وتوابيت آبائه على عادة القوم في ذلك ، وسار جوهر على مقدّمته ، ووردت الأخبار على ألفتكين والحسن والقرمطي بما جرى ، فعادا إلى الرملة ، وجمعا العرب واتفقا واحتشدا وتأهبا واستعدّا ، وورد العزيز في العساكر ، ونزل في الموضع المعروف بقصر ابن السرح بظاهر الرملة وألفتكين والقرمطي على قرب منه في الموضع المعروف ببركة الخيزران ، وبات العسكران على إعداد للحرب ، وباكراها وقد اصطفّ كل منهما ميمنة وقلبا وميسرة ، وجال ألفتكين بين الصفّين يكرّ ويحمل ويطعن ويضرب ، فقال العزيز لجوهر : أرني ألفتكين : فأشار إليه وقيل أنّه كان في ذلك اليوم على فرس أدهم بتجافيف من مرايا ، وعليه كذاغند أصفر ، وهو يطعن تارة بالرمح ويضرب أخرى بالسيف والناس يتحامونه ويتّقونه ، فأعجب العزيز ما رأى منه ومن هيئته ، وعلى رأسه المظلّة ووقف وأنفذ إليه ركابيا

٣٣

يختص بخدمته يقال له نميرة وقال له : قل : يا ألفتكين أنا العزيز وقد أزعجتني عن سرير ملكي ، وأخرجتني لمباشرة الحرب بنفسي وأنا مسامحك بجميع ذلك ، وصافح لك عنه ، فاترك ما أنت عليه ولذ بالعفو (١٦ ظ) مني فلك عهد الله وميثاقه أني أو منك وأصطفيك وأنوّه باسمك ، وأجعلك إسفهسلّار (١) عسكري ، وأهب لك الشام بأسره وأتركه في يدك ، فمضي نميرة الركابي إليه وأعاد الرسالة عليه ، فخرج بحيث يراه الناس ، وترجّل وقبّل الأرض مرارا ، ومرّغ خدّيه عليها معفّرا ، وقال له : قل لأمير المؤمنين لو تقدّم هذا القول منك لسارعت إليه وأطعت أمرك ، فأما الآن فليس إلا ما ترى ، وعاد نميرة وقال ذلك للعزيز ، فقال له : ارجع إليه وقل له يقرب مني ، ويكون بحيث أراه ويراني ، فإن استحققت أن يضرب في وجهي بالسيف فليفعل ، فمضى نميرة وقال له ذلك ، فقال : ما كنت الذي أشاهد طلعة أمير المؤمنين وأنابذه بالحرب ، وقد خرج الأمر عن يدي ، ثم حمل على الميسرة فكسرها وقتل كثيرا ممن كان فيها ، وشاهد العزيز ما جرى ، وكان في القلب فراسل الميمنة بالحملة وحمل هو والمظلّة على رأسه ، فانهزم ألفتكين والقرمطي ووضع السيف في عسكريهما ، فقتل منه نحو عشرين ألف رجل ومضى الحسن القرمطي هاربا على وجهه ، وعاد العزيز إلى معسكره ، ونزل في مضاربه ، وجلس الأسرى بحضرته ، والعرب تجيئه بمن يقع في أيديها من أصحاب ألفتكين ، والخلع تخرج إليهم مقابلة عن ذلك ، وقد بذل لمن يجيئه بألفتكين مائة ألف دينار ، وكان ألفتكين يميل إلى المفرج بن غفل بن الجراح ويتمرده لأنه كان وضيء الوجه صبيحه ، وشاع ذلك عنه فيه واتفق أن انهزم ، فطلب ساحل البحر ومعه ثلاثة من غلمانه رفقائه وبه جراح ، وقد كدّه العطش فلقيته سريّة من الخيل فيها المفرج فلما رآه التمس ماء فأعطاه إياه وقال له : احملني إلى

__________________

(١) فارسية تعني القائد العام.

٣٤

أهلك ، ففعل حتى إذا وصل إلى قرية تعرف بلبنى (١) أنزله فيها وأحضره ماء وفاكهة ، ووكل به جماعة من أصحابه ، وبادر إلى العزيز فتوثّق منه في المال الذي بذله في ألفتكين ، ثم عرّفه حصوله في يده ، وأخذ جوهرا ومضى فسلمه إليه ، وورد المبشرون إلى العزيز بحصوله ، فتقدم بضرب نوبة من مضاربه وفرشها ، وإعداد ما يحتاج إلى إعداده من الآلات (١٧ و) للاستعمال فيها ، وإحضار كل من حصل في الأسر منسوبا إليه فأحضر ، وأومنوا وكسوا ، ورتبوا في أشغالهم المنسوبة إليهم في خدمته ، ووصل ألفتكين وقد خرج العسكر لاستقباله ، وهو غير شاكّ في أنه مقتول ، فأمر العزيز أن يعدل به إلى النوبة المضروبة ، وكانت قريبا من مضاربة وبين يديه مختار الصقلبي صاحب الصقر في جماعة من الخدم والصقالبة يمنعون الناس منه ، ويحولون بينه وبينهم ، فلما رأى القوّاد والصقالبة والمغاربة باب سرادق العزيز ترجلوا عن دوابهم وقبلوا الأرض ، ففعل ألفتكين مثل ذلك ، ودخل المضارب المعدّة له فشاهد أصحابه وحاشيته على ما كانوا عليه من الحال ، والعمل في خدمته ، وحمل إلى دست قد نصب له ليجلس عليه ، فرمى نفسه الى الأرض ورمى ما على رأسه وعفر خديه على التراب ، وبكى بكاء شديدا (٢) سمع منه نشيجه ، وقال : ما استحققت الإبقاء عليّ فضلا عن العفو الكريم والاحسان الجسيم ، ولكن مولانا أبى إلا ما تقتضيه أعرافه الشريفة وأخلاقه المنيفة ، وامتنع من الجلوس في الدست وقعد بين يديه ، وأتاه بعد ساعة أمين الدولة

__________________

(١) ذكرها ياقوت في معجمه فقال : قرية بفلسطين فيها قبض على ألفتكين المعزي وحمل إلى العزيز.

(٢) أورد يحيى بن سعيد الأنطاكي في تاريخه ص : ١٥٤ ـ ١٥٥ ، والمقريزي في ترجمته لجوهر ، معلومات تتوافق مع معلومات ابن القلانسي وتختلف وهي جميعا متكاملة مفيد العودة إليها. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص : ٣٤٢ ـ ٣٤٣. اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا للمقريزي. ط القاهرة ١٩٦٧ : ١ / ٢٣٦ ـ ٢٤٦.

٣٥

الحسن بن عمّار ، وهو أجلّ كتّابه وجوهر ومعهما من الخدم على أيديهم الثياب ، فسلّما عليه وأعلماه رضى العزيز عنه وتجاوزه عن الهفوة الواقعة منه ، وألبسه جوهر دستا من ملابس العزيز كان في جملة الثياب ، وقال له : أمير المؤمنين يقسم عليك بحقه إلا طرحت سوء الاستشعار ، وعدت إلى حال السكون والانبساط ، فجدّد الدعاء وتقبيل الأرض ، وشكر جوهرا على ما ظهر منه في أمره ، وعاد الحسن وجوهر إلى العزيز فأخبراه ما كان منه ، وواصله العزيز بعد ذلك بالمراعاة والملاطفة في الفواكه والمطاعم ، وتقدم من غد إلى البازياريّة وأصحاب الجوارح بالمصير الى باب مضربه ، وراسله بالركوب الى الصيد تأنيسا له ، وقاد إليه عدّة من دواب بمراكبها فركب وهو يشاهد القتلى من أصحابه ، وعاد من متصيّده عشاء فاستقبله الفراشون بالشمع ، والنفاطون بالمشاعل ، ونزل في (١٧ ط) مضاربه ، فلما كان في الليل ركب العزيز إليه ودخل عليه ، فبادر إلى استقباله وتقبيل الأرض وتعفير خديه بالتراب ، فأخذ العزيز بيده وأمره بالجلوس فامتنع ثلاث مرات ، ثم جلس فسأله عن خبره وخاطبه بما سكن نفسه ، وقال له : ما نقمت عليك إلا أنني دعوتك إلى مشاهدتي تقديرا أن تستحيي مني فأبيت ، وقد عفوت الآن عن ذلك ، وعدت إلى أفضل ما تحب أن تطيب نفسك به ، وسأصطنع لك اصطناعا يسير ذكره ، وأفعل معك فعلا أزيد على أملك وأمنيتك فيه ، فبكى ألفتكين بين يديه ، وقال : قد تفضّلت يا أمير المؤمنين عليّ تفضلا ما استحققته ولا قدرته ، وأرجو أن يوفقني الله بخدمتك ومقابلة نعمتك ، وأنس ألفتكين بعد ذلك وخاطب فيمن بقي من أصحابه حتى أوجب لهم الأرزاق الواسعة والتقريرات المتتابعة ، ونزلوا على مقاديرهم ، ورتبهم في مواضعه ، واستحجبه العزيز ، وجعله من أخص خاصته وأقرب صاحب من خدمة حضرته.

وكان العزيز قد أنفذ النّجب بالرسل والكتب تابعة للحسن بن أحمد القرمطي ، فلحقوه بطبرية ، وأعادوا عليه الرسائل بالصفح عمّا جرى منه ،

٣٦

والدعاء إلى وطء البساط ليصطنعه ويصطفيه ، والتماس ما يريده ليبلغه له ، ويرجع إلى بلاده فأقام على أمره ، وترددت المراسلات إليه ومنه ، والوسيط جوهر إلى أن تقرر الأمر على ثلاثين ألف دينار له ولأصحابه ، تحمل إليه في كل سنة ، ويكونوا على الطاعة والموادعة ، وحمل إليه مال سنة وأضيف اليه ثياب كثيرة وخيل بمراكب ، وتوجه إليه جوهر وقاضي الرملة ، فاستحلفاه للعزيز على الوفاء والمصالحة ، وأخذا له المواثيق المشدودة المؤكدة ، وأعطياه المال والخلع والحملان وانصرف إلى الأحساء (١) ، وعاد العزيز إلى مصر وألفتكين حاجبه ، ولم يزل المال المقرر للقرمطي يحمل إليه في كل سنة على يد أبي المنجا صاحبه إلى أن مات.

ووصل العزيز الى مصر والقاهرة ، فدخلها ونزل في قصره وأنزل ألفتكين في دار حسنة بعد أن فرشت بالفروش الكثير ، وركب وجوه سائر الدولة إليه حتى لم يتأخر أحد منهم عنه ، ووافاه فيمن وافاه أبو الفرج (١٨ و) يعقوب ابن يوسف بن كلّس الوزير ، بعد أن لاطفه وهاداه ، وزاد أمر ألفتكين بين يدي العزيز ، وتكبر على ابن كلس الوزير ، وامتنع من قصده ، والركوب إليه وأمره العزيز فلم يفعل ، وتدرجت الوحشة بينهما حتى قويت واستحكمت ، وأعمل الحيلة الوزير في الراحة منه ، ودسّ إليه سما فقتله به ، ولما مضى لسبيله حزن العزيز حزنا شديدا عليه ، واتهم ابن كلس واعتقله نيفا وأربعين يوما صح له خمسمائة ألف دينار ، ووفقت الأمور باعتزاله النظر فيها ، فأعاده العزيز وجدّد اصطناعه واستخدامه.

__________________

(١) ذكر المقريزي في اتعاظ الحنفا ١ / ٢٤٩ «أن العزيز لما سار من الرملة بألفتكين إلى مصر جعل بلد فلسطين لمفرج بن دغفل بن الجراح» أمير قبائل طيء ، ولا شك أنه استهدف من وراء ذلك أن تقوم طيء حليفة القرامطة فيما مضى بالدفاع عن فلسطين وبالتالي حماية حدود مصر من القرامطة ، لكن هذه القبائل نشطت ضد الفاطميين لتحقيق مطامح خاصة بها.

٣٧

ولاية قسام التراب لدمشق بعد الحاجب ألفتكين المقدم ذكره

والسبب في غلبته على الأمر في سنة ثمان وستين وثلاثمائة وما آل أمره إليه

السبب في غلبة قسّام على ولاية دمشق أن ألفتكين المعزي المذكور كان قد استخدمه وقدمه واعتمد عليه وسكن في كثير من أمره إليه ، فصار له بذلك صيت يخشى به ويرجى له ، واتفق خلو البلد من أكابر الولاة بعد ألفتكين وفراغه من شجعان الرجال ، وكان فيه المعروف بحميدان قد وليه (١) ، وأمر فيه ونهى وأخذ وأعطى ، ففسد الأمر بين قسّام وبين حميدان ، فصار حميدان من تحت حكم قسّام لقهره له بكثرة من معه من الأحداث واستيلائه على البلد ، فطرده قسّام عن الولاية ونهب أصحابه ما كان في داره ، وخرج هاربا ، فتمكن قسّام من البلد ، واستقامت حاله فيه واجتمعت إليه الرجال ، وكثر ما في يده وقويت شوكته وتضاعفت عدته وعدته ، وولي القائد أبو محمود البلد بعد حميدان في نفر يسير وهو ضميمة لقسّام ، واتفقت النوبة الحادثة ببغداد بين الديلم والعرب من بني حمدان ، وهروب أبي تغلب الغضنفر بن حمدان في البرية والجبال إلى أن خرج الى حوران ، فقصد دمشق ونزل عليها فمنع قسّام من دخول أحد من رجاله إليها ، ووصل كتاب العزيز بالمنع له من البلد ، فسأل أبو تغلب عامل الخراج بدمشق أن يمكن أصحابه من ابتياع ما يحتاجون إليه من الأسواق ، فكلم العامل قسّاما في ذلك فأذن له فيه ، ودخل أصحابه (١٨ ظ) البلد وقد كان طمع أن يوليه العزيز ، وكان قسّام قد خاف من ذلك وسعى قوم بينهما ، وكان أبو تغلب نازلا بالمزة (٢) ،

__________________

(١) ذكر المقريزي في اتعاظ الحنفا : ١ / ٢٤٩ أن العزيز الفاطمي أنفذ قبل عودته من الرملة إلى مصر «واليا من العرب يقال له حميدان بن جواس العقيلي في نحو مائتي رجل».

(٢) أنظر تجارب الأمم لمسكوية : ٢ / ٣٨٣ ـ ٣٩٢.

٣٨

فأقام بها شهورا فشق على قسّام مقامه وظن أنه يلي البلد ، فلما كان في بعض الأيام وقف رجل من العجم من أصحاب أبي تغلب في باب الجابية ، وكان نشوانا ، فجرد سيفه وقال : إلى كم يكون هذا العيّار ، فعظم ذلك على قسّام وتخوف أن يكون لأبي تغلب سلطنة فيملكه ومن معه ، ففسد الأمر بينهما بهذا السبب ، وتقدم قسّام إلى أصحابه بأخذ كل من يدخل من أصحاب أبي تغلب ، فكمنوا في خراب قينية فأخذوا منهم نحو سبعين رجلا وقتلوا منهم جماعة ، وعاد من أفلت منهم الى أبي تغلب عراة قد أخذت ثيابهم ودوابهم ، فلم يتمكن أبو تغلب من شيء يفعله ، وكتب الى مصر بذلك ، فلما وقف ابن كلس الوزير على الكتاب أنهاه إلى العزيز ، فعلم العزيز أن هذا من تدبير الوزير وحيله ، وكتب قسّام إلى مصر يذكر أن أبا تغلب قد حصر دمشق ومد يده في الغوطة ، وخرج من مصر غلام لابن كلس يقال له الفضل بن أبي الفضل في عسكر كثيف للحيلة على أبي تغلب وإهلاكه ، ونزل الرملة وأوصل الى ابن جراح سجلا بولاية الرملة وقال : إن هذا أبا تغلب يريد أن يسير اليها ليأخذها بسيفه ، وأنا معين لك عليه ، وكان أبو تغلب قد رحل عن دمشق نحو الفوّار (١) ونزل عليه ، وسار الفضل ، ونزل طبرية وراسل أبا تغلب في الاجتماع معه ، وكان الفضل يهوديا أولا ، وكان أبوه طبيبا ، فكبرت نفس أبي تغلب أن يجلس معه على سرير من جهة اليهودية ، فأعلم ذلك ، فقال : كلّ منا على سرير ، فاجتمعا في طبرية وجلس كل منهما على سرير ، وجرت بينهما محاورات على أن الرملة ولاية لأبي تغلب ويقلع ابن جرّاح منها «وأنا معين لك عليه» وقرر ذلك في نفسه ، وسار الفضل الى دمشق يجبي الخراج ويفضّه في الجند ، وزاد في العطاء ، وزاد في جنده وعسكره ، وسار عن دمشق وأخذ طريق الساحل ، وشرع أبو تغلب في أمره ، وتوجه نحو الرملة وقد اجتمع إليه بنو عقيل مع شبل بن معروف العقيلي ، فهرب ابن جرّاح (١٩ و) منها ، وجعل يحشد العرب ويحشد ثقة بمعونة الفضل له ، وكذلك

__________________

(١) هو أحد ينابيع بلدة الحمة ـ المحتلة ـ.

٣٩

أبو تغلب مثله أيضا ، فلما توجه الفضل على الساحل ونزل على عسقلان ، وقصد ابن جراح أبا تغلب بعسكره ، وسارت بنو عقيل وشبل بن معروف واصطفوا لقتال الطائيين (١) وأبو تغلب واقف في مصافّه ، وعاد الفضل واجتمع مع ابن الجرّاح بعسكره ، وكان معه مغاربة كثيرة ، فقالوا لأبي تغلب : قد اجتمع عسكر الفضل مع عسكر ابن جرّاح؟ فقال : على هذا جرت الموافقة بيني وبينه ، فلما نظر المغاربة الذين كانوا مع أبي تغلب إلى مغاربة الفضل قد أقبلوا مع عسكر ابن جرّاح حملوا يريدون الدخول معهم ، فقالوا لابي تغلب : إحمل في إثر هؤلاء من قبل أن يدهمك الأمر ، فبقي متحيرا وعلم أن الحيلة قد تمّت عليه ، فلما حمل المغاربة الذين كانوا معه وساروا مع أصحابهم ، وأقبل العسكران على عسكر أبي تغلب فانهزم جميع من كان معه ، ثم انهزم هو ، فلم يدر في أي طريق يأخذ ، وكانت عدته في الغابة جميعها ، وذكر انه لم يتقدّم اليه رجل إلا ضربه ، ولم يزل على ذلك حتى تبعه رجل من أصحاب ابن جرّاح يقال له منيع فصاح إليه : يا انسان اسمع مني أنا أنجو بك ، وظن أن كلامه حق ، فقال له : هذه الخيل التي أمامك خيلنا فلو وقفت عليّ لنجوت بك ، وكان يتكلم معه وهو يقرب منه وبيده رمح ، فطول الرمح وهو يكلمه وهو يظن ألا يقدر عليه فلم يمكنه في أبي تغلب شيء ، فطعن عرقوب فرسه ، فوقف به الفرس فأخذه وسار به الى ابن جراح ، فأركب جملا وأشهر بالرملة وقتله وأحرقه ، وذلك في صفر سنة تسع وستين وثلاثمائة وخلت الديار لابن جراح ، وأتت بنو طيء على الناس (٢) ، وشملهم البلاء منهم.

وكان العزيز قد خاف من الملك عضد الدولة فناخسره بن بويه خوفا شديدا لأنه كان عازما على انفاذ العساكر إلى مصر ، فعاقه عن ذلك الخلف الجاري بينه وبين أخيه واشتغاله به سنة تسع وستين وثلاثمائة (٣).

__________________

(١) في الأصل واصطلوا القتال للطائيين ، وهي عبارة فيها تصحيف وغموض دفع ناشر الكتاب إلى قراءة عبارة للطائيين «للطاس» ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

(٢) عند يحيى بن سعيد الأنطاكي المزيد من المعلومات ص : ١٥٩ ـ ١٦٠. أنظر أيضا تجارب الأمم : ٢ / ٤٠١ ـ ٤٠٤.

(٣) أنظر ذيل أبي شجاع على تجارب الأمم : ١ / ٩.

٤٠