تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

برسق فإنه كان يحمل في المحفة ولا يتمكن من فعل ولا قول ، أما أحمد يل

__________________

وفي سنة أربع وخمسمائة نزل الأمير سكمان الى ميافارقين ، وقصد الرها ومعه عساكر عظيمة فمات هناك ، ووصل تابوته الى ميافارقين ، وحمل الى أخلاط ودفن بها ... وفي سنة ست وخمسمائة وصلت خاتون زوجة الأمير سكمان ، وولده الأمير إبراهيم الى ميافارقين ، وعزل غزغلي عن الولاية ، وولي السديد أبو سعد الحويلي الوزارة ، وولى ميافارقين أخوه أبو منصور المعين ، واستقر متوليا ، ... وفي سنة سبع وخمسمائة قتل الأمير ابراهيم بن سكمان الوزير السديد في ولاية منازجرد ، وأظهر أخوه المعين العصيان بميافارقين وبقي مدة متحكما في البلد ... وفي آخر سنة ثمان وخمسمائة وصل قراجا الساقي مملوك السلطان محمد الى باب ميافارقين ، ونزل على الروابي ، وبقي مدة ، والمعين متولي البلد وهو لا يظهر إلا أنه عابر وهو ينتظر من يلحقه من أصحابه ، ولا يراسل المعين ولا يكلمه ، وأخرج له المعين الإقامة والضيافة ، وكان كل يوم يركب الى الصيد ، ويعبر على باب البلد ، فعبر ذات يوم كعادته على باب المدينة بباب الحوش ، وهجم على الباب ، وقطع بسيف كان بيده السلسلة ، ودخل فوثب إليه بعض الخراسانية فجذب سيفه ، وصاح فيه الأمير فدخل الى داخل البلد ، ومعه جماعة فوقف داخل الباب ، فوثب الى بين يديه رجل حداد ، ومشى بين يديه الى باب القصر ، ووقعت الصيحة ، وغلق باب القصر ، واجتمع الناس ، وبقوا ساعة ، ففتح المعين باب القصر ، ودخل عز الدين قراجا الى ميافارقين في آخر سنة ثمان وخمسمائة ونزل المعين الى دار العجمية ، وملك قراجا البلد ، ودخل أصحابه ورحله وثقله وزوجته ، وكانت جارية للسلطان محمد ، وكان معها ابنة السلطان تسمى فاطمة خاتون صغيرة ، وهي التي تزوجها الخليفة المقتفى في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ولقد حضرت لما دخلت إليه الى دار الخلافة في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ببغداد ... وبقي قراجا ثلاثة أيام ، واستوزر المعين ، وخلع عليه ورد الأمور إليه ... ثم ان السلطان نفذ طلبه واستدعاه ، فمضى إليه وأعطاه ولاية فارس وشيراز والمعين معه وزيره. فنفذ السلطان واليا اسمه الرزبيكي فدخل ميافارقين في سنة تسع وخمسمائة وفي ولايته تطاولت الايدي على ميافارقين وبلدها وأخذوا منه من كل جانب وخرب أكثره ، وكان قد أخذ منه في ولاية أتابك خمرتاش مواضع كثيرة فأخذ منه الأمير سكمان بن أرتق بلد حزة لحصن كيفا من قاطع شط ساتيدما الى باب الشعب الى شط أرزن مقدار مائة ضيعة ، وأخذ

٢٨١

فإن عزمه قوي على العود بسبب بلاد سكمان وطمعه في اقتطاعها من السلطان فاستجرهم ظهير الدين أتابك إلى الشام ، فرحلوا في آخر صفر ونزلوا معرة النعمان ، فأقاموا على ذلك المنهاج الأول ، وامتار العسكر من عملها ما كفاهم ، وقصروا عن جملة من العلوفات والأقوات ، وظهر لظهير الدين من سوء نيّة المقدمين فيه ما أوحشه منهم ، ونفّر قلبه من المقام بينهم ، وذكر له أن الملك فخر الملوك رضوان راسل بعض الأمراء في العمل عليه ، والايقاع به ، فاتفق مع الأمير شرف الدين مودود ، وتأكدت المصافاة والمعاهدة بينهما ، وحمل إلى بقية الأمراء ما كان صحبه من الهدايا لهم والتحف ، والحصن العربية السبق ، والأعلاق المصرية (٩٦ ظ) وقوبل ذلك منه بالاستكثار له والاستطراف والشكر والاعتراف ، ووفى له مودود بما بذله ، وثبت على المودة ، وجعل أتابك يحرضهم على قصد طرابلس ، ويعدهم حمل ما يحتاجون إليه من المير من دمشق وعملها ، وإن أدركهم الشتاء أنزلهم في بلاده ، فلم يفعلوا وتفرقوا أيدي سبأ ، وعاد برسق بن برسق وأحمد يل ، وتبعوا عسكر سكمان القطبي ، وتخلف منهم الأمير مودود مع أتابك ، فرحلا عن المعرة ونزلا على العاصي.

__________________

لماردين نجم الدين ايلغازي بلد الحناضلة من قاطع دجلة الى جبل الصور مقدار ثمانين ضيعة ، وأخذ الأمير فخر الدولة ابراهيم صاحب آمد مقدار ثلاثين ضيعة من شرقي نهر الحو ، وأخذ الأمير شاروخ صاحب حاني رأس الجسر الأعلى ، وأخذ الأمير أحمد صاحب ابن مروان (وهو ابن الامير نظام الدين) بلغ الهتاخ ، وأخذت السناسنة مقدار ثلاثين قرية من غاب الجوز وما حوله داخل رأس السلسلة ، وأخذ حسام الدولة صاحب أرزن خمسا وعشرين قرية من بين النهرين ، وكان ذلك لاختلاف الولاة وتغير الدول.

وقال أيضا ان في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة نفذ السلطان الى الرزبيكي رسولا يأمره أن يسلم ميافارقين الى نجم الدين ايلغازي ، فحضر وسلمها إليه ، وملكها وخرج الرزبيكي ونزل على الروابي ، وأقام ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع وصله رسول من السلطان يأمره أن لا يسلم ، فوجد الأمر قد فات ، واستقر نجم الدين بميافارقين ، وأظهر العدل والإنصاف والإحسان الى الناس.

٢٨٢

ولما عرف الأفرنج رحيل العساكر ، وتفرقهم اجتمعوا ، ونزلوا أفامية بأسرهم : بغدوين ، وطنكري ، وابن صنجيل ، بعد التباين والمنافرة والخلف ، وصاروا يدا واحدة وكلمة متفقة على الاسلام وأهله ، وساروا لقصدهم ، فخرج سلطان بن منقذ من شيزر بنفسه وجماعته ، واجتمع مع أتابك ومودود ، وحرّضهما على الجهاد ، وهون عليهما أمر الأفرنج ، فرحلوا وقطعوا العاصي ، ونزلوا في قبلي شيزر ، وصار سوق العسكر في سوق شيزر ، ونزل عسكر مودود حول شيزر ، وبالغ ابن منقذ وجماعته في الخدمة والمواصلة بالميرة ، وأصعد أتابك ومودود وخواصهما إلى حصن شيزر ، وباشر خدمتهما بنفسه وأسرته ، ونزل الأفرنج شمالي تل ابن معشر ودبر أمر العسكر أحسن تدبير ، وبثت الخيل من جميع جهاتهم تطوف حولهم ، وتجول عليهم ، وتمنع من الوصول إليهم ، وضيقوا عليهم وحلأوهم عن (١) الماء وذادوهم عن العاصي لكثرة الرماة على شطوطه وجوانبه من قبليه ، فما يدنو منه من الأفرنج شخص إلا وقد قتل ، وطمع الأتراك فيهم وسهل أمرهم عليهم ، وكانت خيل المسلمين مثل خيل الأفرنج إلا أن راجلهم أكثر ، وزحف الأتراك إليهم فنزلوا للحرب عن تل كانوا عليه ، فهجمت الأتراك عليهم من غربيهم ونهبوا جانبا من عسكرهم ، وملكوا عدة من خيامهم وأثقالهم ، وجالوا حولهم ، فعادوا إلى مكانهم الذي كانوا به ، ورجعوا منه ، وذلك في شهر ربيع الأول ، واشتد خوف الأفرنج من الأتراك ، وأقاموا ثلاثة أيام لا يظهر أحد منهم ، ولا يصل إليهم شخص ، وعاد المسلمون لصلاة الجمعة في جامع شيزر ، فرحل الأفرنج إلى أفامية ولم ينزلوا فيها ، بل تعدوها ، وتبعهم المسلمون عند معرفة (٩٧ و) رحيلهم ، وتخطفوا أطرافهم ، ومن ظفروا به سائرا على آثارهم ، وعادوا إلى شيزر ، ورحلوا إلى حماة ، واستبشر الناس بعود الأفرنج على هذه الحال.

__________________

(١) أي صدوهم ونفوهم. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير.

٢٨٣

سنة خمس وخمسمائة

و [فيها] استحكمت المودة بين ظهير الدين أتابك ، وبين الأمير مودود.

وفي هذه السنة جمع بغدوين الملك من أمكنه جمعه من الأفرنج ، وقصد ثغر صور ، فبادر عز الملك واليه وأهل البلد بمراسلة ظهير الدين أتابك بدمشق يستصرخون به ويستنجدونه ، ويبذلون تسليم البلد إليه ، ويسألونه المبادرة والتعجيل بإنفاذ عدة وافرة من الأتراك تصل اليهم سرعة لمعونتهم وتقويتهم ، وإن تأخرت المعونة عنهم قادتهم الضرورة الى تسليمه إلى الأفرنج ، ليأسهم من نصرة الأفضل صاحب أمر مصر ، فبادر أتابك بانفاذ جماعة وافرة من الأتراك بالعدد الكاملة تزيد على المائتين فرسانا رماة أبطالا ، فوصلت إليهم ، وأتت أهل صور رجالة كثيرة من صور وجبل عاملة رغبوا في ذلك مع رجالة من دمشق ، وصلوا إليهم ، وحصلوا عندهم ، وشرع أتابك في إنفاذه عدة أخرى ، فحين عرف بغدوين ما تقرر بين أتابك وأهل صور ، بادر النزول عليها فيمن جمعه وحشده في اليوم الخامس وعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة ، وتقدم بقطع الشجر والنخل ، وبنى بيوت الإقامة عليها ، وزحف إليها ، فقاتلها عدة دفعات ، ويعود خاسرا لم ينل منها غرضا ، وقيل إن أهل صور رشقوا في بعض أيام مقاتلتها في يوم واحد بعشرين ألف سهم.

وخرج ظهير الدين من دمشق حين عرف نزولهم على صور ، وخيم ببانياس وبث سراياه ورجالة الحرامية في أعمال الافرنج ، وأطلق لهم النهب والقتل والسلب والإخراب والحرق طلبا لإزعاجهم وترحيلهم عنها ، فتدخل العدة الثانية إلى صور ، فلم يتمكن من الدخول ، ونهض ظهير الدين الى الحبيس (١) الذي

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٠٥ ه‍ ـ «الجيش ، وفي الكامل لابن الأثير : ٨ / ٢٨٤ ، في أخبار سنة / ٥١٢ ه‍ / أخذ الفرنج حصنا من أعمال طغتكين «يعرف بالحبس ، ويعرف بحصن جلدك ، سلمه اليهم المستحفظ به ، وقصدوا أذرعات» وهذا يفيد وجود هذا الحصن قرب درعا ، ومفيد هنا الاشارة الى القسم القديم من درعا ، وهو أشبه بالقلعة يدعوه السكان هناك «الكرك» أي الحصن ..

٢٨٤

في السواد وهو حصن منيع لا يرام ، فشد القتال عليه ، وملكه بالسيف قهرا ، وقتل من كان فيه قسرا ، وشرع الافرنج في عمل برجي خشب للزحف بهما الى سور صور ، وزحف ظهير الدين إليهم عدة دفعات ليشغلهم بحيث يخرج (٩٧ ظ) عسكر صور فيحرق البرجين ، وعرف الأفرنج قصده في ذلك ، وخندقوا عليهم من جميع الجهات ، ورتبوا على الخندق الرجال بالسلاح لحفظه ، وحفظ الأبراج ، ولم يحفلوا بما يفعل وما يجري على أعمالهم من الغارات عليها ، والفتك بمن فيها ، وهجم الشتاء فلم يضر بالأفرنج لأنهم كانوا نزولا في أرض رملة صلبة ، والأتراك بالضد من ذلك قد كابدوا من مقامهم شدة عظيمة ، ومشقة مؤلمة ، إلا أنهم لا يخلون من غارة وفائدة ، وقطع ميرة عن الأفرنج ومادة ، وأخذ ما يحمل إليهم.

وقطع الأتراك الجسر الذي كان يعبر عليه إلى صيدا لتقطع المادة أيضا عنهم فعدلوا عند ذلك إلى استدعاء الميرة في البحر من جميع الجهات ، ففطن ظهير الدين لذلك ، ونهض في فريق من العسكر إلى ناحية صيدا ، وغار على ظاهرها ، فقتل جماعة من البحرية ، وأحرق تقدير عشرين مركبا على الشط ، وهو مع ذلك لا يهمل إصدار الكتب الى أهل صور بتقوية قلوبهم ، وتحريضهم على استعمال المصابرة للأفرنج ، والجد في قتالهم.

وتم عمل البرجين وكباشهما التي تكون فيهما في تقدير خمسة وسبعين يوما ، وشرع في تقديمهما ، والزحف بهما في عاشر شعبان ، وقربا من سور البلد ، واشتد القتال عليهما ، وكان طول البرج الصغير منهما نيفا وأربعين ذراعا ، والكبير يزيد على الخمسين ذراعا.

ولما كان أول شهر رمضان خرج أهل صور من الأبراج بالنفط والحطب والقطران وآلة الحرق ، فلم يتمكنوا من الوصول إلى شيء منهما ، فألقوا النار قريبا من البرج الصغير بحيث لم يتمكن الافرنج من دفعها فهبت ريح ، وألقت النار على البرج الصغير ، فاحترق بعد المحاربة الشديدة عليه ، والمكافحة

٢٨٥

العظيمة عنه ونهب منه زرديات كثيرة وطوارق وغير ذلك ، واتصلت النار بالبرج الكبير ، واتصل الخبر بالمسلمين بأن الافرنج قد هجموا خربة البلد ، للاشتغال بحريق البرج ، فانثنوا عن المقاتلة على الأبراج ، وشد الأفرنج عليهم وكشفوهم عن البرج ، وأطفأوا ما علق به من النار ، ورتبوا عدة وافرة من أبطالهم لحفظ البرج والمنجنيقات من جميع الجهات (٩٨ و) ، وواظبوا الزحف إليها إلى آخر شهر رمضان ، وقربوا البرج الى بعض أبراج البلد ، وطمّوا الثلاثة الخنادق التي أمامه ، وعمد أهل البلد الى تعليق حائط البرج الذي بإزاء برج الأفرنج ، وأطلقوا النار فيه ، فاحترق التعليق ، وسقط وجه الحائط في وجه البرج فمنع من تقديمه الى السور والزحف به ، وصار الموضع الذي قصدوه قصيرا وأبراج البلد تحكم عليه ، وبطل تقديمه من ذلك الوجه ، وكشف الأفرنج الردم وجروه إلى برج آخر من أبراج البلد ، ودفعوه إليه ، وقربوه من سور البلد ، وصدموا بالكباش التي فيه السور ، فزعزعوه ووقع منه شيء من الحجارة ، وأشرف أهل البلد على الهلاك ، فعمد رجل من مقدمي البحرية عارف بالصندقة (١) من أهل طرابلس له فهم ومعرفة بأحوال الحرب إلى عمل كلاليب حديد لمسك الكبش ، إذا نطح به السور من رأسه ومن جانبه بحبال يجذبها الرجال حتى يكاد البرج الخشب يميل من شدة جذبهم بها ، فتارة تكسره الأفرنج خوفا على البرج ، وتارة يميل أو يفسد ، وتارة ينكسر بصخرتين تلقيان عليه من البلد مشدودة إحداهما الى الأخرى ، فعملوا عدة

__________________

(١) في مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٠٥ ه‍ ـ : «فتحيل واحد من المسلمين له خبرة بالحرب ، فعمل كباشا في أخشاب ، تدفع البرج الذي يلصقونه بالسور ، ثم تحيل في حريق البرج الكبير فاحترق ، وخرج المسلمون فأخذوا منه آلات وأسلحة فحينئذ يأس الفرنج ، فرحلوا وأحرقوا جميع ما كان لهم من المراكب على الساحل والأخشاب والعمائر والعلوفات وغيرها ، وجاءهم طغتكين فما سلموا إليه البلد فقال : أنا ما فعلت ما فعلت إلا لله تعالى لا لرغبة في حصن ولا مال ، ومتى دهمكم عدو جئتكم بنفسي ورجالي ، ورحل عنهم».

٢٨٦

من الكباش ، وهي تكسر على هذه الصفة واحدا بعد واحد ، وكان طول كل واحد منها ستين ذراعا معلقا في البرج الخشب بحبال في رأس كل واحد من الكباش حديد يزيد وزنه على عشرين رطلا ، فلما طال تجديد الكباش ، وقربوا البرج من السور ، عمد هذا الرجل البحري المقدم ذكره إلى خشبة طويلة جافية قوية أقامها في برج البلد الذي بإزاء برج الأفرنج ، وفي رأسها خشبة على شكل الصليب طولها أربعون ذراعا تدور على بكر بلولب كيف ما أراد متوليها ، على مثال ما يكون في الصواري البحرية ، وفي طرف الخشبة التي تدور سهم حديد ، وفي طرفها الآخر حبال مدارة بها على ما يريد متوليها ، وكان يرفع فيها جرار القذر والنجاسة ، ليشغلهم بطرح ذلك عليهم في البرج عن الكباش ، وضاق الأمر بالناس ، وشغلهم ذلك عن أمورهم وأشغالهم ، وعمد البحري المذكور إلى سلال العنب والقفاف ، فيجعل فيها الزيت والقير (٩٨ ظ) والسراقة (١) والقلفونية وقشر القصب ، ويطلق فيها النار ، فإذا علقت بذلك وقع ذلك في الآلة المذكورة حتى يوازي برج الأفرنج ، فتقع النار في أعلى البرج ، فيبادروا بإطفائها بالخل والماء ، فيبادر برفع أخرى ، ومع هذا يرمي أيضا بالزيت المغلي في قدور صغار على البرج ، فيعظم الوقيد ، فلما كثرت النار ، وحمل بعضها بعضا ، وقويت قهرت الرجلين المتولين لرأس البرج ، وقتل أحدهما وانهزم الآخر ، ونزل منه فتمكنت النار من رأسه ، ونزلت إلى الطبقة الثانية من رأسه ، ثم إلى الوسطى ، وعملت في الخشب ، وقهرت من كان حوله في الطبقات ، وعجزوا عن إطفائها ، وهرب كل من فيه وحوله من الأفرنج ، وخرج أهل صور إليه ، فنهبوا ما فيه ، وغنموا من السلاح والآلات والعدد ما لا يحده وصف.

فعند ذلك وقع يأس الافرنج منه ، وشرعوا في الرحيل عنه ، وأحرقوا البيوت التي كانت قد عمروها في المنزل لسكناهم ، وأحرقوا كثيرا من المراكب

__________________

(١) لعل المراد «نشارة الخشب».

٢٨٧

التي كانت لهم على الساحل ، لأنهم كانوا أخذوا صواريها وأرجلها وآلاتها للأبراج ، وكانت عدتها تقدير مائتي مركب كبارا وصغارا ، منها تقدير ثلاثين مركبا حربية ، وحملوا في بعضها ما خف من أثقالهم ، ورحلوا في العاشر من شوال من السنة ، وكانت مدة إقامتهم على محاصرة صور أربعة أشهر ونصف شهر ، وقصدوا عكا وتفرقوا إلى أعمالهم.

وخرج أهل صور وغنموا ما ظفروا به منهم ، وعادت الأتراك المندوبون لإسعادهم إلى دمشق ، وقد فقد منهم في الحرب نحو عشرين رجلا ، وكان لهم فيها الجراية والواجب في كل شهر ، ولم يتم على برج من أبراج الأفرنج في القديم والحديث مثل ما تم على هذا البرج من إحراقه من رأسه إلى أسفله ، والذي أعان على هذا هو تساوي البرجين في الارتفاع ، ولو طال أحدهما على الآخر لهلك أقصرهما ، وكان عدد المفقودين من أهل صور أربعمائة نفس ، ومن الأفرنج في الحرب أيضا على ما حكى الحاكي العارف تقدير ألفي نفس ولم يف أهل صور بما كانوا بذلوه لظهير الدين أتابك من تسليم البلد إليه ، ولم يظهر لهم في ذلك قولا ، وقال : إنما فعلت ما فعلت لله تعالى وللمسلمين ، لا لرغبة (٩٩ و) في مال ولا مملكة ، فكثر الدعاء له ، والشكر بحسن فعله ، ووعدهم أنه متى دهمهم خطب مثل هذا سارع إليه ، وبالغ في المعونة عليه ، وعاد إلى دمشق بعد مكابدة المشقة في مقابلة الأفرنج ، إلى أن فرج الله عن أهل صور ، وشرع أهل صور في ترميم ما شعثه الأفرنج من سورها ، وأعادوا الخنادق إلى حالها ، ورسمها بعد طمها ، وحصنوا البلد ، وتفرق من كان فيه من الرجالة.

وفي الثاني من شعبان ورد الخبر بهلاك بدران بن صنجيل (١) صاحب

__________________

(١) كذا في الأصل : بدران ، وهو تصحيف صوابه برتران. انظر تاريخ طرابلس ١٤٦ ـ ١٤٩ ، ويلاحظ أن تعريب ابن القلانسي لأسماء قادة الصليبيين متفق على العموم مع القاعدة التي اعتمدها المؤرخون العرب.

٢٨٨

طرابلس بعلة لحقته ، وأقام ابنه في الأمر من بعده ، وهو طفل صغير كفله أصحابه ، ودبروا أمره مع طنكري صاحب أنطاكية ، وجعلوه من خيله (١) وأقطعه انطرطوس وصافيتا ، ومرقية (٢) وحصن الأكراد.

وفي هذه السنة حدث بمصر الوباء المفرط ، بحيث هلك به خلق كثير ، يقال تقدير ستين ألف نفس.

وفيها ورد الخبر من ناحية العراق بوصول السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملكشاه (٣) إلى بغداد في جمادى الأولى منها ، وأقام بها مدة ثقل فيها على أهلها ، وارتفع معها السعر إلى أن رحل عنها ، فصلحت الحال ، ورخص السعر.

وفيها وردت الأخبار بوصول الامير شرف الدين مودود صاحب الموصل في عسكره ، ونزوله على الرها ورعيه لزرعها في ذي القعدة منها وأقام عليها الى المحرم سنة ست وخمسمائة ورحل عنها الى سروج ورعى زرعها ، وهو في غفلة غير متحفظ من عدو يطرق ومسلم يرهق ، ولم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل باشر في خيله من الأفرنج ، ودواب العسكر منتشرة في المرعى ، هجم عليها من ناحية سروج ، على حين غفلة من مودود وأصحابه ، فقتلوا منهم جماعة ، واستاقوا أكثر كراعهم ، وقتل بعض المقدمين ، واستيقظ من كان من المسلمين غافلا ، وتأهبوا للقائه ، فعاد الى حصن سروج.

__________________

(١) جعله من خيله أي من فرسانه واسم ابن برتران «بونز» وترسمه المصادر العربية «بنص» انظر طرابلس الشام : ١٥٠.

(٢) قال عنها ياقوت : قلعة حصينة في سواحل حمص ، ويستفاد من أبي الفداء : ٢٩ أنها كانت بين بانياس وطرطوس.

(٣) في الأصل : محمد بن ألبي ، وهو خطأ واضح صوابه ما أثبتنا.

٢٨٩

وفي هذه السنة انتقل تاج الملوك بوري بن أتابك إلى دار الملك شمس الملوك دقاق في قلعة دمشق في المحرم منها.

وفيها ورد الخبر بوفاة قراجه الوالي بحمص بعلة طالت به ، وكان فيها هلاكه ، وقد كان مؤثرا للظلم ، مشاركا للحرامية وقطاع الطريق ، وأقيم في مكانه (٩٩ ظ) ولده خيرخان بن قراجه ، تابعا في الظلم لأفعاله ، ناسجا في العدوان والجور على منواله.

سنة ست وخمسمائة

فيها اشتد خوف أهل صور من عود الأفرنج إلى منازلتهم ، فأجمعوا أمرهم مع عز الملك أنوشتكين الأفضلي الوالي بها ، على تسليمها إلى ظهير الدين أتابك ، بحكم ما سبق من نصرته لهم في تلك النوبة ، ومعاضدته إياهم في تلك الشدة ، وندبوا رسولا وثقوا به وسكنوا إليه في الحديث مع ظهير الدين أتابك في هذا الباب ، ووصل إلى بانياس وواليها الأمير سيف الدولة مسعود ، فتحدث معه ، وسار الأمير مسعود مع الرسول إلى دمشق لتقرير الحال بمحضر منه ، فصادف ظهير الدين أتابك قد توجه إلى ناحية حماة ، لتقرير الحال فيما بينه وبين فخر الملوك رضوان ، صاحب حلب ، فأشفق الأمير مسعود أن يتأخر الأمر إلى حين عود ظهير الدين من حماة ، فيبادر بغدوين بالنزول على صور ، ويفوت الغرض المطلوب فيها ، فقرر مع ولده تاج الملوك بوري النائب عنه في دمشق ، المصير معه إلى بانياس ، وانتهاز الفرصة في تسليم صور إليه ، فأجاب الى ذلك ، وتوجه معه إلى بانياس ، وتم مسعود الى صور ، ومعه من يعتمد عليه من العسكر ، ولم ينتظر وصول أتابك ، ووصل إليها وحصل بها ، وانتهت الحال في ذلك الى أتابك ، فأنهض فرقة وافرة من الأتراك الى صور تقوية لها ، فوصلت إليها وحصلت بها ، واستقر أمر الأتراك فيها ، وحمل اليهم من دمشق ما أنفق فيهم ، وطيب نفوس أهل البلد وأجروا

٢٩٠

على الرسم في اقامة الدعوة والسكة على ما كانت عليه لصاحب مصر ، ولم يغير لهم رسم.

وكتب ظهير الدين أتابك الى الأفضل بمصر يعلمه : «إن بغدوين قد جمع وحشد للنزول على صور ، وان أهلها استنجدوا بي عليه ، والتمسوا مني دفعه عنهم ، فبادرت بإنهاض من أثق بشهامته لحمايتها ، والمراماة دونها إليه ، وحصلوا فيها ، ومتى وصل إليها من مصر من يتولى أمرها ، ويذب عنها ، ويحميها بادرت بتسليمها إليه ، وخروج نوابي منها ، وأنا أرجوا أن لا يهمل أمرها ، وإنفاذ الاصطول بالغلة إليها ، والتقوية لها».

وحين عرف بغدوين هذا الخبر رحل في (١٠٠ و) الحال من بيت المقدس إلى عكا ، فوجد الأمر قد فات ، وحصل بها الأتراك ، فأقام بعكا ووصل إليه من العرب الزريقيين من بلد عسقلان رجل يعلمه «ان القافلة الدمشقية قد رحلت من بصرى إلى ديار مصر ، وفيها المال العظيم ، وأنا دليلك إليها ، وتطلق لي من أسر من أهلي» ، فنهض بغدوين من وقته عن عكا في طلب القافلة ، واتفق أن بعض بني هوبر تخطف بعضها ، وخلصت منهم ، ووصلت إلى حلة بني ربيعة ، فمسكوها أياما وأطلقوها بعد ذلك ، وخرجت من نقب عازب (١) وبينه وبين بيت المقدس مسافة يومين للفارس ، فلما حصلت بالوادي أشرفت الأفرنج عليها ، فهرب من كان بها ، فالذي صعد منها الجبل سلم ، وأخذ ماله ، وأخذت العرب أكثر الناس ، فاشتمل الأفرنج على ما فيها من الأمتعة والبضائع ، وتتبعت العرب من أفلت منهم فأخذوه ، وحصل لبغدوين منها ما يزيد على خمسين ألف دينار وثلاثمائة أسير ، وعاد إلى عكا ، ولم يبق بلد من البلاد إلا وقد أصيب بعض تجاره في هذه القافلة.

__________________

(١) في الأصل «غارب» وهو تصحيف قوم من معجم البلدان ، والمقصود هنا صحراء النقب.

٢٩١

وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن موسى البلاساغوني التركي ، في يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة بدمشق ، رحمه‌الله ، وهو معزول عن قضائها ، ولازم منزله (١).

وفي هذه السنة وصل ابن الملك تكش بن السلطان ألب أرسلان أخي السلطان العادل ملك شاه ، إلى حمص هاربا من ابن عمه السلطان غياث الدنيا والدين محمد ، ولم يمكنه المقام بحمص ولا حماة فتوجه إلى حلب ، وكان فخر الملوك رضوان صاحب حلب في الدركاه السلطانية ، فأشفق من المقام بحلب ، فتوجه إلى طنكري صاحب أنطاكية فاستجاره فأجاره ، وأكرمه وأحسن إليه ، واجتمع إليه جماعة من الأتراك الذين مع طنكري ، فأقام عنده ، وخرج طنكري من أنطاكية في أول جمادى الآخرة إلى ناحية كريسيل (٢) ، مقدم الأرمن وكان قد هلك طمعا في تملك بلاده ، فعرض له مرض في طريقه أوجب عوده إلى أنطاكية ، فاشتد به المرض ، فهلك في يوم الأربعاء الثامن من جمادى الآخرة ، وقام في الأمر بعده ابن أخيه سير رجال (٣) فتسلم أنطاكية وأعمالها ، واستقام له (١٠٠ ظ) الأمر فيها ، بعد أن جرى بين الافرنج خلف بسببه إلى أن أصلح بينهم القسوس ، وطلب من الملك رضوان مقاطعة حلب المستقرة ،

__________________

(١) من كبار علماء الفقه الحنفي ، ولي القضاء في دمشق ، كان متعصبا لمذهبه مما أثار الشافعية ضده. مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٠٦ ه‍ ـ.

(٢) كذا في الأصل ، وقد لحق الاسم تصحيف ، فهو «طوروس الأول» [١١٠٠ ـ ١١٢٣] بارون دولة أرمنية الصغرى التي قامت مع نجاح الحملة الصليبية الأولى ، وتمركزت في المنطقة الواقعة فيما بين طرطوس وعين زربة. انظر القلاع أيام الحروب الصليبية ط. دمشق ٩٨٢ : ٣١ ـ ٣٤. صفحات من تاريخ الأمة الأرمنية لعثمان الترك ، ط حلب ١٩٦٠ : ١٣٤ ـ ١٣٥.

(٣) يرسمه ابن العديم في زبدة الحلب : ٢ / ١٦٣ «روجار» وهو أصح من رسم ابن القلانسي لأن أصل الاسم ROGER.

٢٩٢

فأجابه إلى ذلك ، ومبلغها عشرون ألف دينار ، والخيل ، وطلب مقاطعة شيزر ، فأجاب صاحبها إليها ، وهي عشرة آلاف دينار ، وتواترت غارات بغدوين على عمل البثنية من أعمال دمشق ، وانقطعت الطريق ، وقلت الأقوات بها وغلا السعر فيها ، وتتابعت كتب ظهير الدين أتابك إلى الأمير شرف الدين مودود صاحب الموصل بشرح هذه الأحوال في هذه الأعمال ، وبعثه على الوصول اليه للاعتضاد على دفع المردة الأضداد ، والفوز بفضيلة الجهاد ، وكان مودود قد شنع عليه عند السلطان غياث الدنيا والدين ، بشناعات من المحال لفقها الحسدة الأعداء ، أوجبت استيحاشه منه وبعده عنه ، قيل في جملتها أنه عازم على الخلاف والعصيان ، وأن يده ويد أتابك قد صارت يدا واحدة ، وآراؤهما متوافقة ، وأهواؤهما متوافقة ، فلما عرف ذلك سير ولده وزوجته إلى باب السلطان بأصفهان للتنصل والاعتذار ، وإبطال ما رقي إليه من المحال ، والتبرىء مما افتري عليه وعزي إليه ، والاستعطاف له ، والإعلام بأنه جار على ما ألف منه على إخلاص الطاعة والعبودية والمناصحة في الخدمة ، والاهتمام بالجهاد.

ثم جمع عسكره من الأتراك والأكراد ومن أمكنه ، وتوجه إلى الشام ، وقطع الفرات في ذي القعدة من السنة ، فحين اتصل خبره ببغدوين الملك قلق لذلك ، وانزعج لخبره ، وكان جوسلين صاحب تل باشر قد اختلف هو وخاله بغدوين الرويس ، صاحب الرها ، وصار مع بغدوين صاحب بيت المقدس ، وأقطعه طبرية ، واتفقا على أن راسل جوسلين لظهير الدين أتابك يبذل المصافاة والمودة ، ويرغبه في الموادعة والمسالمة ، ويسلم إليه حصن تبنين المجاور لحصن هونين (١) وجبل عاملة ، ويتعوض عن ذلك بحصن الحبيس الذي في

__________________

(١) فراغ بالأصل ، وجميع الذين تعرضوا لهذا الموضوع لم يأت واحد منهم على ذكر هذه التفاصيل حتى وليم الصوري : ١ / ٤٩٧ ـ ٥٠٠ ، اكتفى بذكر أسباب الخلاف بين بلدوين صاحب الرها وجوسلين صاحب تل باشر ، فبين

٢٩٣

السواد ، ونصف السواد ، ويضمن عن بغدوين الوفاء بذلك ، والثبات على المودة ، والمصافاة وترك التعرض لشيء من أعمال دمشق ، ولا يعرض هو لشيء من أعمال الافرنج ، فلم يجب إلى ذلك ، ونهض من دمشق في العسكر للقاء الأمير مودود ، والاجتماع به ، على الجهاد ، فاجتمعا بمرج سلمية ، واتفق رأيهما على قصد بغدوين (١٠١ و) وسارا وقد استصحب أتابك جميع العسكر ، ومن كان بحمص وحماة ورفنية ، ونزلا يوم عيد النحر بقدس (١) ورحلا منها الى عين (٢) الجر بالبقاع ثم منها الى وادي التيم ، ثم نزلا بانياس ، ونهضت فرقة من العسكر فقصدت ناحية تبنين (٣) فلم يظفر منها بمراد وعادت.

ووصل إليها بغدوين ، وقد كان لما يئس من إجابة أتابك إلى الموادعة ، واصل الغارات والفساد في الشام الى أن وصل عسكر المسلمين الى عمله ، وبالغ أتابك فيما حمله إلى الأمير مودود وإعظامه وإكرامه ، وما حمله إليه وإلى مقدمي عسكره ، وخواصه من أنواع الملبوس ، والمأكول ، والمركوب ، ثم نهضوا معلمين على النزول على الإقحوانة ، ووصل إلى بغدوين سير رجال صاحب أنطاكية ، وصاحب طرابلس ، وأجمعوا رأيهم على النزول غربي جسر

__________________

أنها أسباب مالية ، ووصف القاء القبض على جوسلين وطرده الى مملكة القدس ، وكذا فعل ابن الأثير في الكامل : ٨ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦. الباهر : ١٧ ـ ١٩ ، ورسم الناسخ في هذه الصفحة اسم الحصن الأول مرة «ثمانين» ومرة ثانية «تمنين» وحيث أن المنطقة هي جبل عاملة وجدت في كل من الأعلاق الخطيرة ـ قسم الأردن : ١٥٢. وصبح الأعشى : ٤ / ١٥١ ـ ١٥٢ : هونين وتبنين «حصنان» بنيا بعد الخمسمائة بين صور وبانياس بجبل عاملة» وهنا رجحت أن يكون اسم «ثمانين ، تمنين» مصحف صوابه تبنين ، وبناء على هذا قدرت أن الاسم الساقط هو : هونين.

(١) هي بحيرة قطينة قرب حمص.

(٢) على مقربة من الحدود السورية اللبنانية بعد (المصنع) قرب قرية «عنجر» الحالية.

(٣) في الأصل «تمنين» انظر الحاشية (١) للصفحة السابقة.

٢٩٤

الصّنّبرة (١) ، ثم يقطعون الى الإقحوانة للقاء المسلمين ، وقد احتاطوا على أثقالهم وراء الجسر ، والمسلمون لا يعلمون بذلك ، وأنهم عارضوهم في المسير إلى هذا المنزل ، فسبق الأتراك إلى نزولهم في الاقحوانة ، وقطع بعض عسكر الأتراك الجسر لطلب العلوفات والزرع ، فصادفوا الافرنج قد ضربوا خيامهم ، وقد تقدم بغدوين للسبق إلى هذا المنزل ، ونزل صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وراءه يتبعونه إليه.

ونشبت الحرب بين المتعلفة وبين الأفرنج ، وصاح الصائح ، ونفر الناس ، وقطعوا الجسر ، وهم يظنون أنه جوسلين لأنه صاحب طبرية ، فوقف أتابك على الجسر ، وتسرع خلق كثير من العسكر إلى قطع الجسر ، وقطع الأمير تميراك بن أرسلانتاش في فريق وافر من العسكر ، ونشبت الحرب بين الفريقين من غير تأهب للقاء ، ولا ضرب خيام ولا استقرار في منزل ، ولا مجال ، واختلط الفريقان ، فمنح الله الكريم ، وله الحمد ، المسلمين النصر على المشركين بعد ثلاث كرّات ، فقتل فيها من الأفرنج تقدير ألفي رجل من الأعيان ، ووجوه الأبطال والشجعان ، وملكوا ما كان نصب من خيامهم ، والكنيسة المشهورة (٢) ، وأفلت بغدوين بعد ما قبض ، وأخذ سلاحه ، وملكت دواب الرجالة ، وما كان لهم ، وغرق منهم خلق كثير في البحيرة (٣) ، واختلط الدم والماء ، وامتنع الناس من الشرب منها أياما حتى صفت منه ، وراقت ، والتجأ من نجا من الأفرنج (١٠١ ظ) إلى طبرية ، وأكثرهم جرحى ، وذلك في يوم السبت الحادي عشر من المحرم سنة سبع وخمسمائة ، وبعد انفصال الأمر

__________________

(١) الصنّبرة موضع بالأردن مقابل لعقبة أفيق بينه وبين بحيرة طبرية ثلاثة أميال. معجم البلدان.

(٢) لم يذكر وليم الصوري هذه الواقعة حتى نحدد هوية الكنيسة هذه.

(٣) بحيرة طبرية.

٢٩٥

وصل باقي الأفرنج أصحاب طنكري وابن صنجيل ، فلاموه على التسرع وفندوا رأيه ، ونصبوا ما كان سلم من خيامهم على طبرية ، وفي غد يوم الوقعة نهض فريق من عسكر الأتراك إلى ناحية طبرية ، وأشرفوا على الأفرنج بناحية طبرية وعزموا على النزول إليهم والإيقاع بهم ، فخافهم الافرنج وأيقنوا بالهلاك وأقام الأتراك على الجبل عامة نهارهم ، وانكفأوا إلى معسكرهم ، وطلع الافرنج إلى الجبل وتحصنوا به لصعوبة مرتقاه ، وهو من غربي طبرية ، والماء ممتنع على من يكون فيه ، فعزم المسلمون على الصعود إليه ومواقعتهم ، واستدعى أتابك العرب الطائيين والكلابيين (١) والخفاجيين ، فوصلوا في خلق كثير بالزادات والروايا والابل لحمل الماء ، وصعدت الطلائع إلى الجبل من شماله ، وعرفوا أن هذا الجبل لا يمكن الحرب فيه لصعوبته على الفارس والراجل ، وعلم المسلمون أن الظفر قد لاحت دلائله وأماراته ، والعدو قد ذل وانخزل (٢) وفل وانخذل ، وسرايا الاسلام قد بلغت في النهيض إلى أرض بيت المقدس ويافا وأخربت أعمالهم ودوختها ، واستاقت عواملها ومواشيها ، وغنمت ما وجدته فيها فانثنى الرأي عن الصعود ، ودامت الحال على هذه القضية إلى آخر صفر.

وعقيب هذه النوبة ، وصل من حلب من عسكر الملك فخر الملوك رضوان مائة فارس على سبيل المعونة ، خلاف ما كان قرره ، وبذله فأنكر ظهير الدين أتابك وشرف الدين مودود ذلك منه ، وأبطلا العمل بما كانا عزما عليه من الميل إليه ، وإقامة الخطبة له ، وذلك في أول شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة ، وسيرا رسولا الى السلطان غياث الدنيا والدين الى مدينة أصفهان ، بالبشارة بهذا الفتح ، ومعه جماعة من أسارى الأفرنج ، ورؤوسهم وخيولهم وطوارقهم ، ومضاربهم ، وأنواع سلاحهم.

__________________

(١) كذا في الأصل وفي النفس شيء منه ، فكلاب ديارها في شمال الشام ، وكلب في الجنوب.

(٢) أي انقطع وانفرد. النهاية لابن الأثير.

٢٩٦

ثم إن العسكر رحل من المنزل الى وادي المقتول (١) ونزل الافرنج عند ذلك عن الجبل إلى منزلهم ، والتجأوا الى جبل في المنزل ، وتواصلت إليهم ميرهم وأزوادهم وامدادهم من أعمالهم ، فعاد إليهم عسكر الأتراك من منزلهم جرائد في بضع عشرة كردوسا ، ولزموا أياما يرومون أن يخرجوا إليهم ، فلم يظهروا للحرب ، ولازم بعضم (١٠٢ و) بعضا الفارس والراجل في مكان واحد ، لا يظهر منهم شخص ، وجعل الأتراك يحملون عليهم فيصيبون منهم بالنشاب ما يقرب منهم ، ويمنعون الميرة والعلوفة عنهم ، وقد أحدقوا بهم كالنطاق أو هالة بدر الآفاق ، فاشتد الأمر بهم فرحلوا عن منزلهم في ثلاثة أيام تقدير فرسخ عائدين ، فلما كان الليل قصدوا الجبل الذي كانوا أولا عليه ملتجئين إليه ومحتمين به ، وواظب المسلمون قصدهم والتلهف على ما يفوت منهم ، ومن غنائمهم بالاستمرار على الاحجام عن ظهورهم ، على أن مقدمي العسكر يمنعونهم من التسرع إليهم والإقدام في منزلهم عليهم ، ويعدونهم بفرصة تنتهز فيهم ، فطال أمد المقام ، وضاقت صدور أصحاب مودود لبعد ديارهم ، وتأخر عودهم ، وتعذر أوطارهم ، فتفرق أكثرهم وعادوا إلى بلادهم ، فاستأذن آخرون في العود فأذن لهم ، وعزم مودود على المقام بالشام ، والقرب من العدو ينتظر ما يصله من الأمر السلطاني ، والجواب عما أنهاه وطالع به ، فيعمل بحسبه ، ولم يبق في بلاد الأفرنج مسلم ، إلا وأنفذ يلتمس الأمان من أتابك ، وتقرير حاله ، ووصل إليه بعض ارتفاع نابلس ، ونهبت بيسان ، ولم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة ، والأفرنج على حالهم في التضييق عليهم ، والحصر على الجبل.

واقتضى الرأي عود أتابك ومودود ، فعادا إلى دمشق في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة ، ونزل مودود في حجرة

__________________

(١) لم أجده في المصادر.

٢٩٧

الميدان الأخضر ، وبالغ أتابك في إكرامه واحترامه وإعظامه ، بما يجد إليه السبيل ، وتأكدت المودة بينهما والمصافاة ، وتولى خدمته بنفسه وخاصته ، وواصلا صلاة الجمعة جميعا في مسجد الجامع بدمشق ، والتبرك بنظر المصحف الكريم الذي كان حمله عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه من المدينة إلى طبرية ، وحمله أتابك من طبرية الى جامع دمشق (١).

سنة سبع وخمسمائة

قد ذكرنا ما ذكرناه من الحوادث في سنة ست وخمسمائة وسياقة الأمر إلى أوائل سنة سبع وخمسمائة رغبة في صلة الحديث ، ورغبة عن قطعه ، ولما كان يوم الجمعة الأخيرة من شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسمائة دخل (١٠٢ ظ) الأمير مودود من مخيمه بمرج باب الحديد إلى الجامع ، على رسمه ، ومعه أتابك ، فلما قضيت الصلاة ، وتنفل بعدها مودود ، وعادا جميعا وأتابك أمامه على سبيل الإكرام له ، وحولهما من الديلم والأتراك والخراسانية والأحداث والسلاحية بأنواع السلاح من الصوارم المرهفة والصمصامات الماضية ، والنواجح المختلفة والخناجر المجردة ما شاكل الأجمة المشتبكة ، والغيضة الآشبة ، والناس حولهما لمشاهدة زيهما وكبر شأنهما ، فلما حصلا في صحن الجامع ، وثب رجل من بين الناس لا يؤبه له ، ولا يحفل به فقرب من الأمير مودود ، كأنه يدعو له ، ويتصدق منه فقبض ببند قبائه بسرعة وضربه بخنجره أسفل سرته ضربتين إحداهما نفذت إلى خاصرته ، والأخرى الى فخذه ، هذا والسيوف تأخذه من كل جهة ، وضرب بكل سلاح وقطع رأسه ليعرف شخصه ، فما عرف ، وأضرمت له نار فألقي فيها ، وعدا أتابك خطوات وقت الكائنة ، وأحاط به أصحابه ، ومودود متماسك يمشي إلى أن قرب من الباب

__________________

(١) في تاريخ الاسلام للذهبي أن هذا كان سنة / ٤٩٢ / خوفا على المصحف من الوقوع بيد الفرنج.

٢٩٨

الشمالي من الجامع ، ووقع فحمل إلى الدار الأتابكية ، وأتابك معه ماش ، واضطرب الناس اضطرابا شديدا ، وماجوا واختلفوا ثم سكنوا بمشاهدتهم له يمشي ، وظنوا به السلامة ، وأحضر الجرائحي فخاط البعض ، وتوفي رحمه‌الله بعد ساعات يسيرة في اليوم المذكور ، فقلق أتابك لوفاته على هذه القضية ، وتزايد حزنه وأسفه وانزعاجه (١) ، وكذلك سائر الأجناد والرعية ، وتألموا لمصابه ، وزاد التأسف والتلهف عليه ، وكفن ودفن وقت صلاة العصر من اليوم في مشهد داخل باب الفراديس من دمشق ، وكل عين تشاهده باكية ، والمدامع على الوجنات جارية ، وشرع أصحابه في التأهب للعود إلى أماكنهم من الموصل وغيرها من البلاد ، وتقدم أتابك باطلاق ما يستدعونه لسفرهم ، واستصحبوا معهم أثقاله وجواريه (٢) وماله.

وقد كانت سيرته في ولايته جائرة ، وطريقته في رعية الموصل غير حميدة ، وهرب خلق كثير من ولايته لجوره ، فلما بلغه تغيّر نيّة السلطان فيه ، عاد عن تلك الطريقة وحسنت أفعاله ، وظهر عدله وإنصافه ، واستأنف ضد ما عرف منه وسمع (١٠٣ و) عنه ، ولزم التدين والصدقات ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المكروه ، فشاعت بالجميل أخباره ، وبحسن الارتضاء آثاره ، ثم توفي سعيدا مقتولا شهيدا ، ولم يزل مدفونا في ذلك المشهد مخدوم القبر بالقومه والقراءة إلى آخر شهر رمضان من السنة ، ووصل من عند ولده وزوجته من حمل تابوته إليهما (٣).

__________________

(١) انظر الدعوة الاسماعيلية الجديدة : ١١٩.

(٢) في الأصل «لجواره» وهو تصحيف قوم من مرآة الزمان ـ أخبار سنة ٥٠٧ ه‍ انظر أيضا ص : ١ / ٥١ من ط. حيدرأباد ١٩٥١.

(٣) الى الموصل ـ مرآة الزمان : ١ / ٥١. وزاد هنا صاحب المرآة أن بلدوين ملك القدس كتب الى أتابك طغتكين يقول معلقا على اغتيال مودود «إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها».

٢٩٩

وفي هذه السنة ورد الخبر من بغداد بوفاة الفقيه الإمام أبي بكر محمد ابن أحمد الشاشي ، رحمه‌الله ببغداد يوم السبت الخامس والعشرين من شوال منها ، وقد انتهت الرئاسة إليه على أصحاب الشافعي ، ودفن في تربة شيخه أبي اسحق الشيرازي ، رحمه‌الله (١).

وقد تقدم من ذكر ما كان من نوبة صور ، وانتقال ولايتها الى ظهير أتابك ، واستنابته مسعودا في حفظها وحمايتها ، وتدبير أمرها وإنفاذ رسوله إلى الأفضل بشرح حالها ، ولم يزل الرسول المسير الى مصر مقيما بها الى ذي الحجة من سنة ست وخمسمائة وظهر للأفضل صورة الجال فيها ، وجلية الأمر بها ، وأعاد الرسول بالجواب الجميل ، وأن : «هذا أمر وقع منا أجمل موقع ، وأحسن موضع» ، واستصواب رأي ظهير الدين فيما اعتمده وإحماد ما قصده ، وتقدم بتجهيز الاسطول اليها بالغلة والميرة ، ومال النفقة في الأجناد والعسكرية ، وما يباع على الرعية من الغلات ، ووصل الاسطول بذلك إلى صور ـ ومقدمه شرف الدولة بدر بن أبي الطيب الدمشقي ، الوالي كان بطرابلس عند تملك الأفرنج لها ـ في آخر صفر سنة سبع وخمسمائة ، بكل ما يحتاج إليه ، فرخصت الأسعار بها ، وحسنت حالها ، واستقام أمرها ، وزال طمع الأفرنج فيها ، ووصل في جملته خلع فاخرة من طرف مصر ، برسم ظهير الدين وولده تاج الملوك بوري وخواصه ، ولمسعود الوالي المستناب بها ، وأقام الاسطول عليها الى أن استقام الريح له ، فأقلع عنها في العشر الأخير من شهر ربيع الأول منها.

وأرسل بغدوين الملك إلى الأمير مسعود واليها يلتمس منه المهادنة والموادعة والمسالمة ، لتحسم أسباب الأذية عن الجانبين ، فأجابه إلى ذلك ،

__________________

(١) انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى. ط. دار المعرفة بيروت : ٤ / ٥٧ ـ ٦١.

٣٠٠