تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وأبطال الأجناد والأنجاد من هجم عليه في مكانه ، ومجتمع أعوانه ، فقتل وقتل معه من دنا منه وتابعه ، وورد بشرح قصته السجل من سلطان مصر إلى ثغر عسقلان ، وقرىء على منبرها ومضمونه : بسم الله الرحمن الرحيم (١) ...

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شوال سنة اثنتين وأربعين ، وهو مستهل نيسان ، أظلم الجو ، ونزل غيث ساكن ، ثم أظلمت الأرض في وقت صلاة العصر ظلاما شديدا ، بحيث كان ذلك كالغدرة بين العشائين ، وبقيت السماء في عين الناظر إليها كصفورة الورس ، وكذلك الجبال وأشجار الغوطة ، وكل ما ينظر إليه من حيوان وجماد ونبات ، ثم جاء في إثر ذلك من الرعد القاصف والبرق الخاطف ، والهدات المزعجة والزحفات المفزعة ما ارتاع لها الشيب والشبان ، فكيف الولدان والنسوان ، وقلقت لذلك الخيول في مرابطها ، وأجفلت من هولها ، وبقي الأمر على هذه الحال إلى حين وقت العشاء الآخرة ، ثم سكن ذلك بقدرة الله تعالى ، وأصبح الناس غد ذلك اليوم ينظرون في أعقاب ذلك المطر ، فإذا على الأرض والأشجار وسائر النبات غبار في رقة الهواء ، بين البياض والغبرة بحيث يكون إذا جرد عنها الشيء الكثير ، ويلوح فيه بريق لا يدرى ما لونه ولا جسمه من نعومته ، فعجب الناس من هذه القدرة التي لا يعلم ما أصلها ، ولا شبيه لها ، بل نزلت في جملة المطر ، ممتزجة به كامتزاج الماء بالماء ، والهواء بالهواء.

وفي هذه السنة تواصلت الأخبار من ناحية القسطنطينية ، وبلاد الافرنج والروم وما والاها ، بظهور ملوك الأفرنج من بلادهم منهم ألمان والفنش ، وجماعة من كبارهم في العدد الذي لا يحصر ، والعدد التي لا تحرز ، لقصد بلاد الاسلام ، بعد أن نادوا في سائر بلادهم ومعاقلهم بالنفير إليها ، والاسراع

__________________

(١) لم يثبت نص السجل ، وتحدث المقريزي عن مقتل رضوان بالتفصيل ، ولم يذكر نص السجل المشار إليه. اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٨٢ ـ ١٨٤.

٤٦١

نحوها ، وتخلية بلادهم وأعمالهم خالية ، سافرة من حماتها ، والحفظة لها ، واستصبحوا من أموالهم وذخائرهم وعددهم الشيء الكثير ، الذي لا يحصى ، بحيث يقال ان عدتهم ألف ألف عنان ، من الرجالة والفرسان ، وقيل أكثر (١٦١ و) من ذلك وغلبوا ، على أعمال القسطنطينية ، واحتاج ملكها إلى الدخول في مداراتهم ، ومسالمتهم ، والنزول على أحكامهم ، وحين شاع خبرهم ، واشتهر أمرهم ، شرعت ولاة الأعمال المصاقبة لهم ، والأطراف الاسلامية القريبة منهم ، في التأهب للمدافعة لهم ، والاحتشاد على المجاهدة فيهم ، وقصدوا منافذهم ، ودروب معابرهم التي تمنعهم من العبور والنفوذ إلى بلاد الاسلام وواصلوا شن الغارات على أطرافهم ، واشتجر القتل فيهم ، والفتك بهم ، الى أن هلك منهم العدد الكثير ، وحل بهم من عدم القوت والعلوفات والمير وغلاء السعر إذا وجد ، ما أفنى الكثير منهم بموت الجوع والمرض ، ولم تزل أخبارهم تتواصل بهلاكهم ، وفناء أعدادهم الى أواخر سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بحيث سكنت النفوس بعض السكون ، وركنت إلى فساد أحوالهم بعض الركون ، وخف ما كان من الانزعاج ، والفرق مع تواصل أخبارهم (١).

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

وأولها يوم الجمعة الحادي وعشرين من أيار ، والشمس في الجوزاء ، وفي أوائلها تواترت الأخبار من سائر الجهات بوصول مراكب الأفرنج ، المقدم ذكرهم إلى ساحل البحر ، وحصولهم على سواحل الثغور الساحلية صور وعكا

__________________

(١) الحديث هنا عن الحملة الصليبية الثانية ، وقد ترجمت بعض المواد الوثائقية اللاتينية حولها هي في طريقها الى النشر. وكان أبرز قادة هذه الحملة كونراد امبراطور ألمانيا ولويس ملك فرنسا ، وفي تاريخ وليم الصوري وصف مفصل لحصار دمشق ٢ / ١٨٧ ـ ١٩٦ ، وسأثبت مواد وليم هذه في كتابي المعد عن الحملتين الأولى والثانية.

٤٦٢

واجتماعهم مع من كان بها من الأفرنج ، ويقال أنهم بعد ما فني منهم بالقتل والمرض والجوع تقدير مائة ألف عنان ، قصدوا بيت المقدس ، وقضوا مفروض حجهم ، وعاد بعد ذلك من عاد إلى بلادهم ، في البحر ، وقد هلك منهم بالموت والمرض الخلق العظيم ، وهلك من ملوكهم من هلك ، وبقي ألمان أكبر ملوكهم ، ومن هو دونه ، واختلفت الآراء بينهم فيما يقصدون منازلته من البلاد الإسلامية ، والأعمال الشامية إلى أن استقرت الحال بينهم على منازلة مدينة دمشق ، وحدثتهم نفوسهم الخبيثة بملكتها ، وتبايعوا ضياعها وجهاتها ، وتواصلت الأخبار بذلك ، وشرع متولي أمرها الأمير معين الدين أنر في التأهب والاستعداد لحربهم ، ودفع شرهم ، وتحصين ما يخشى من الجهات ، وترتيب الرجال في المسالك والمنافذ ، وقطع مجاري المياه (١٦١ ظ) إلى منازلهم وطم الآبار ، وعفي المناهل ، وصرفوا أعنتهم الى ناحية دمشق في حشدهم وحدهم وحديدهم ، في الخلق الكثير على ما يقال ، تقدير الخمسين ألف من الخيل والرجل ، ومعهم من السواد والجمال والابقار ما كثروا به العدد الكثير ، ودنوا من البلد ، وقصدوا المنزل المعروف بمنازل العساكر (١) فصادفوا الماء معدوما فيه ، مقطوعا عنه ، فقصدوا ناحية المزة ، فخيموا عليها لقربها من الماء ، وزحفوا إليه بخيلهم ورجلهم ، ووقف المسلمون بإزائهم في يوم السبت السادس من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ، ونشبت الحرب بين الفريقين ، واجتمع عليهم من الأجناد والأتراك الفتاك ، وأحداث البلد والمطوعة والغزاة الجم الغفير واشتجر القتل بينهم ، واستظهر الكفار على المسلمين بكثرة الأعداد والعدد ، وغلبوا على الماء ، وانتشروا في البساتين ، وخيموا فيها ، وقربوا من البلد ، وحصلوا منه بمكان لم يتمكن أحد من العساكر قديما ولا حديثا منه ،

__________________

(١) يقول وليم الصوري : ٢ / ١٨٧ بأنهم عسكروا أولا قرب داريا.

٤٦٣

واستشهد في هذا اليوم الفقيه الامام يوسف الفندلاوي المالكي (١) رحمه‌الله ، قريب الربوة على الماء ، لوقوفه في وجوههم ، وترك الرجوع عنهم ، اتباعا لأوامر الله تعالى في كتابه الكريم ، وكذلك عبد الرحمن الحلحولي الزاهد رحمه‌الله جرى أمره هذا المجرى.

وشرعوا في قطع الأشجار والتحصين بها ، وهدم الحظائر (٢) وباتوا تلك الليلة على هذه الحال ، وقد لحق الناس من الارتياع لهول ما شاهدوه ، والروع بما عاينوه ، ما ضعفت به القلوب ، وحرجت معه الصدور ، وباكروا إليهم في غد ذلك اليوم ، وهو يوم الأحد تاليه ، وزحفوا إليهم ، ووقع الطراد بينهم ، واستظهر المسلمون عليهم ، وأكثروا القتل والجراح فيهم ، وأبلى الأمير معين الدين في حربهم بلاء حسنا ، وظهر من شجاعته وصبره وبسالته ما لم يشاهد في غيره ، بحيث لا يني في ذيادتهم ولا ينثني عن جهادهم ، ولم تزل رحى الحرب دائرة بينهم ، وخيل الكفار محجمة عن الحملة المعروفة لهم ، إلى أن تتهيأ الفرصة لهم الى أن مالت الشمس إلى الغروب ، وأقبل الليل ، وطلبت النفوس الراحة ، وعاد كل منهم الى مكانه ، وبات الجند (١٦٢ و) بازائهم ، وأهل البلد على أسوارهم للحرس والاحتياط ، وهم يشاهدون أعداءهم بالقرب منهم.

وكانت المكاتبات قد نفذت الى ولاة الأطراف ، بالاستصراخ والاستنجاد ، وجعلت خيل التركمان تتواصل ، ورجاله الأطراف تتابع ، وباكرهم المسلمون ،

__________________

(١) هو «يوسف» بن دوناس بن عيسى ، أبو الحجاج المغربي ، الفقيه المالكي ... قدم الشام ، وسكن بانياس مدة ، وانتقل الى دمشق ، فاستوطنها ، ودرس بها بمذهب مالك ، وحدث بالموطأ وغيره ... وكان شيخا حسن المفاكهة ، حلو المناظرة ... كريم النفس ، مطرحا للتكلف ، قوي القلب ، صاحب كرامات». مرآة الزمان : ١ / ٢٠٠.

(٢) في الأصل «العطاير» وهي تصحيف لعل صوابها ما أثبتنا.

٤٦٤

وقد قويت نفوسهم ، وزال روعهم ، وثبتوا بإزائهم ، وأطلقوا فيهم السهام ، ونبل الجرخ (١) بحيث تنتع في مخيمهم في راجل ، أو فارس ، أو فرس ، أو جمل.

ووصل في هذا اليوم من ناحية البقاع وغيرها ، رجالة كثيرة من الرماة ، فزادت بهم العدة ، وتضاعفت العدة ، وانفصل كل فريق الى مستقره هذا اليوم وباكروهم من غده يوم الثلاثاء كالبزاة الى يعاقيب (٢) الجبل ، والشواهين الى مطار الحجل ، وأحاطوا بهم في مخيمهم ، وحول مجثمهم ، وقد تحصنوا بأشجار الزيتون ، وأفسدوها رشقا بالنشاب ، وحذفا بالأحجار ، وقد أحجموا عن البروز ، وخافوا وفشلوا ، ولم يظهر منهم أحد ، وظن بهم أنهم يعملون مكيدة ، ويدبرون حيلة ، ولم يظهر منهم إلا النفر اليسير من الخيل والرجل على سبيل المطاردة والمناوشة ، خوفا من المهاجنة ، الى أن يجدوا لحملتهم مجالا ، أو يجدون الغرة احتيالا ، وليس يدنو منهم أحد إلا صرع برشقة أو طعنة ، وطمع فيهم نفر كثير من رجاله الأحداث والضياع ، وجعلوا يرصدونهم في المسالك وقد أينوا (٣) فيقتلون من ظفروا به ، ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عنها ، وحصل من رؤوسهم العدد الكثير.

وتواترت إليهم أخبار العساكر الاسلامية ، بالخفوف الى جهادهم ، والمسارعة الى استئصالهم ، فأيقنوا بالهلاك والبوار ، وحلول الدمار ، وأعملوا الآراء بينهم ، فلم يجدوا لنفوسهم خلاصا من الشبكة التي حصلوا فيها ، والهوة التي ألقوا بنفوسهم إليها ، غير الرحيل سحر يوم الأربعاء التالي مجفلين ،

__________________

(١) كانت هذه السهام تطلق من قسي خاصة ، قوية وبعيدة المدى ، وغالبا ما كانت تحمل مواد ملتهبة من النفوط وغير ذلك. انظر مادة جرخ في معجم دوزي : ١ / ١٨٢ ، ونتع الدم خرج من الجرح. القاموس.

(٢) جمع يعقوب وهو الحجل. القاموس المحيط.

(٣) الأين : الإعياء والتعب. النهاية لابن الأثير.

٤٦٥

والهرب مخذولين مفلولين (١) ، وحين عرف المسلمون ذلك ، وبانت لهم آثارهم في الرحيل ، برزوا لهم في بكرة هذا اليوم ، وسارعوا نحوهم في آثارهم بالسهام ، بحيث قتلوا في أعقابهم من الرجال والخيول والدواب العدد الكثير ، ووجد في آثار منازلهم وطرقاتهم من دفائن قتلاهم ، وفاخر خيولهم ما لا (١٦٢ ظ) عدد له ولا حصر يلحقه ، بحيث لها أرائح من جيفهم ، تكاد تصرع الطيور في الجو ، وكانوا قد أحرقوا الربوة والقبة الممدودة في تلك الليلة ، واستبشر الناس بهذه النعمة التي أسبغها الله عليهم ، وأكثروا من الشكر له تعالى ما أولاهم من إجابة دعائهم ، الذي واصلوه في أيام هذه الشدة ، فلله على ذلك الحمد والشكر.

واتفق عقيب هذه الرحمة ، اجتماع معين الدين مع نور الدين صاحب حلب ، عند قربه من دمشق للانجاد لها في أواخر شهر ربيع الآخر من السنة ،

__________________

(١) وصف سبط ابن الجوزي أحوال دمشق أواخر أيام الحصار بقوله : «ولما ضاق بأهل دمشق الحال أخرجوا الصدقات بالأموال على قدر أحوالهم ، واجتمع الناس في الجامع مع الرجال والنساء والصبيان ، ونشروا مصحف عثمان ، وحثوا الرماد على رؤوسهم ، وبكوا وتضرعوا ، فاستجاب الله لهم ، فكان للفرنج قسيس كبير ، طويل اللحية ، يقتدون به ، فأصبح في اليوم العاشر من نزولهم على دمشق ، فركب حماره ، وعلق في عنقه صليبا ، وجعل في يديه صليبين ، وعلق في عنق حماره صليبا ، وجمع بين يديه الأناجيل والصلبان ، والكتب ، والخيالة والرجالة ، ولم يتخلف من الفرنجية أحد إلا من يحفظ الخيام ، وقال لهم القيسيس : قد وعدني المسيح أنني أفتح اليوم.

وفتح المسلمون الأبواب ، واستسلموا للموت ، وغاروا للاسلام ، وحملوا حملة رجل واحد ، وكان يوما لم ير في الجاهلية والاسلام مثله ، وقصد واحد من أحداث دمشق القسيس ، وهو في أول القوم ، فضربه فأبان رأسه ، وقتل حماره ، وحمل الباقون ، فانهزم الفرنج ، وقتلوا منهم عشرة آلاف ، وأحرقوا الصلبان والخيالة بالنفط ، وتبعوهم الى الخيام ، وحال بينهم الليل ، فأصبحوا قد رحلوا ، ولم يبق لهم أثر». مرآة الزمان : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٤٦٦

وأنهما قصدا الحصن المجاور لطرابلس المعروف [بالعريمة](١) وفيه ولد الملك ألفنش أحد ملوك الأفرنج المقدم ذكرهم ، كان هلك بناحية عكا ، ومعه والدته ، وجماعة وافرة من خواصه وأبطاله ، ووجوه رجاله ، فأحاطوا به ، وهجموا عليه ، وقد كان وصل إلى العسكرين النوري والمعيني فرقة تناهز الألف فارس ، من عسكر سيف الدين غازي بن أتابك ، ونشبت الحرب بينهم فقتل أكثر من كان فيه ، وأسر ، وأخذ ولد الملك المذكور وأمه ، ونهب ما فيه من العدد والخيول والأثاث ، وعاد عسكر سيف الدين (٢) إلى مخيمه بحمص ، ونور الدين عائدا إلى حلب ومعه ولد الملك وأمه ومن أسر معهما وانكفأ معين الدين الى دمشق.

وقد كان ورد إلى دمشق الشريف الأمير شمس الدين ، ناصح الاسلام ، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبيد الله الحسيني النقيب ، من ناحية سيف الدين غازي بن أتابك ، لأنه كان قد ندب رسولا من الخلافة إلى سائر الولاة ، وطوائف التركمان لبعثهم على نصرة المسلمين ، ومجاهدة المشركين ، وكان ذلك السبب في خوف الأفرنج من تواصل الإمداد إليهم ، والاجتماع عليهم

__________________

(١) فراغ بالأصل ، استدرك من الكامل لابن الأثير : ٩ / ٢١. والعريمة كانت احدى قلاع الساحل السوري تربض فوق جرف يتاخم السهل العريض الذي يجتازه النهير الكبير ، وتتحكم بمدخل وادي الأبرش. القلاع أيام الحروب الصليبية : ٦٥. وتمت الحملة ضد العريمة بناء على اقتراح من ريموند الثاني صاحب طرابلس نظرا لاحتلال العريمة من قبل أرملة ألفونسو صاحب تولوز وابنه ، وكان هذا الابن حفيدا لريموند صاحب تولوز ولهذا ادعى الحق ليس في ملك العريمة فحسب بل في عرش طرابلس. انظر وليم الصوري : ٢ / ١٩٧. وكتاب «الصليبيون في المشرق» تأليف ستيفنسون. ط. بيروت ١٩٦٨ (بالانكليزية) ص : ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) ذكر سبط ابن الجوزي أثناء حديثه عن حصار دمشق : ٢ / ١٩٧ ـ ١٩٨ : «وكان معين أنر كاتب سيف الدولة غازي صاحب الموصل قبل نزول الفرنج على دمشق ، يستصرخ به ويخبره بشدة بأس الفرنج ، ويقول : أدركنا ، فسار سيف الدين في عشرين ألف فارس ، فنزل بجوار بحيرة حمص».

٤٦٧

ورحيلهم على القضية المشروحة ، وهذا الشريف المذكور من بيت كبير في الشرف والفضل والأدب ، وأخوه ضياء الدين نقيب الأشراف في الموصل ، مشهور بالعلم والأدب والفهم ، وكذا ابن عمه الشريف نقيب العلويين ببغداد ، وابن عمه نقيب خراسان ، وأقام بدمشق ما أقام ، وظهر من حسن تأتيه في مقاصده ، وسداده في مصادره وموارده ، ما أحرز به جميل الذكر ، ووافر الشكر ، وعاد منكفئا إلى بغداد بجواب ما وصل (١٦٣ و) فيه يوم الأربعاء الحادي عشر من رجب سنة ثلاث وأربعين.

وفي رجب في هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين أتابك ، أمر بابطال «حي على خير العمل» في أواخر تأذين الغداة ، والتظاهر بسب الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، وأنكر ذلك إنكارا شديدا ، وحظر المعاودة الى شيء من هذا المنكر ، وساعده على ذلك الفقيه الإمام برهان أبو الحسن علي الحنفي وجماعة من السنة بحلب ، وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية ، وأهل الشيع ، وضاقت له صدورهم ، وهاجوا له وماجوا ، ثم سكنوا ، وأحجموا بالخوف من السطوة النورية المشهورة ، والهيبة المحذورة (١).

وفي رجب من هذه السنة أذن لمن يتعاطى الوعظ بالتكلم في الجامع المعمور بدمشق ، على جاري العادة والرسم ، فبدا من اختلافهم في أحوالهم وأغراضهم ، والخوض فيما لا حاجة إليه من المذاهب ، ما أوجب صرفهم عن هذه الحال ، وإبطال الوعظ لما يتوجه معه من الفساد ، وطمع سفهاء الأوغاد ، وذلك في أواخر شعبان منها.

وفي جمادى الآخرة منها ، وردت الأخبار من بغداد باضطراب الأحوال فيها ، وظهور العيث والفساد في نواحيها وضواحيها ، وأن الأمير بوزبه ،

__________________

(١) انظر تفاصيل أوسع في زبدة الحلب : ٣٢ / ٢٩ ـ ٢٩٦.

٤٦٨

والأمير قيس ، والأمير علي بن دبيس بن صدقة اجتمعوا ، وتوافقوا في تقدير خمسة آلاف فارس ، ووصلوا إلى بغداد على حين غفلة من أهلها ، وهجموها وحصلوا بدار السلطان ، وتناهوا في الفساد والعناد ، بحيث وقعت الحرب بينهم ، وقتل من النظار وغيرهم نحو خمسمائة إنسان في الطرقات ، وأن أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله ، رتب الأجناد والعسكرية بإزائهم ، بحيث هزموهم وأخرجوهم من بغداد ، وطلبوا ناحية النهروان ، وتناهوا في العيث والإفساد في الأعمال والاستيلاء على الغلال ، وخرج أمر الخلافة بالشروع في عمارة سور بغداد ، وحفر الخنادق ، وتحصينها ، وإلزام الأماثل والتناء والتجار وأعيان الرعايا القيام بما ينفق على العمارات من أموالهم ، على سبيل القرض والمعونة ، ولحق الناس من ذلك المشقة والكلفة المؤلمة (١).

وذكر أن السلطان ركن الدين مسعود مقيم بهمذان ، وأن أمره قد ضعف عما كان ، والأقوات قد قلّت ، والسعر قد غلا ، والفتن (١٦٣ ظ) قد ثارت ، والفساد في الأعمال قد انتشر ، وأن العدوان في أعمال خراسان قد زاد ، وظهر ، والفناء قد كثر.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ديار مصر ، بظهور بعض أولاد نزار ، واجتمع إليه خلق كثير من المغاربة وكتامة وغيرهم ، وقربوا من الإسكندرية في عالم عظيم ، وأن إمام مصر الحافظ أنهض إليهم العساكر المصرية ، ونشبت الحرب بينهم ، وقتل من الفريقين العدد الكثير من الفرسان والرجالة ، وكان الظهور لعساكر الحافظية على النزارية ، بحيث هزموهم ، وأثخنوا القتل فيهم ، وأجلت الوقعة عن قتل ولد نزار المقدم ، ومعه جماعة من خواصه وأسبابه ، وانهزم من ثبطه الأجل ، وأطار قلبه الوجل ، وخمدت عقيب هذه النوبة

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل انظر المنتظم : ١٠ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٤٦٩

النائرة ، وزالت تلك الفتنة الثائرة ، وسكنت النفوس ، وزال عن مصر الخوف والبؤس (١).

ووردت الأخبار في رجب منها من ناحية حلب ، بأن نور الدين صاحبها ، كان قد توجه في عسكره الى ناحية الأعمال الافرنجية ، وظفر بعدة وافرة من الأفرنج ، وأن صاحب أنطاكية جمع الافرنج ، وقصده على حين غفلة منه ، فنال من عسكره وأثقاله وكراعه ما أوجبته الأقدار النازلة ، وانهزم بنفسه وعسكره ، وعاد الى حلب سالما في عسكره لم يفقد منه إلا النفر اليسير بعد قتل جماعة وافرة من الأفرنج ، وأقام بحلب أياما (٢) ، بحيث جدد ما ذهب له من اليزك (٣) ، وما يحتاج إليه من آلات العسكر ، وعاد إلى منزله ، وقيل لم يعد.

وكان الغيث أمسك عن الأعمال الحورانية والغوطية والبقاعية ، بحيث امتنع الناس من الفلاحة الزراعية وقنطوا ويئسوا من نزول الغيث ، فلما كان في أيام من شعبان في نوء الهنعة (٤) أرسل الله تعالى ، وله الحمد والشكر ، على الأعمال من الأمطار المتداركة ما رويت به الأراضي والآكام والوهاد ، وانشرحت الصدور ، ولحقوا معه أوان الزراعة ، فاستكثروا منها ، وزادوا في الفلاحة ، والعمارة وذلك في شعبان.

وقد كان تقدم من شرح نوبة قتل برق بن جندل التيمي بيد الاسماعيلية

__________________

(١) في اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٨٦ «وعقدوا لرجل قدم من المغرب ، وادعى أنه ولد نزار بن المستنصر ، إنما لا تبيان لاسمه».

(٢) انظر الخبر مفصلا في الكواكب الدرية في السيرة النوية لابن قاضي شبهه. ط. بيروت ١٩٧١ : ١٣٠. الروضتين. ط. مصورة بيروت : ١ / ٥٥.

(٣) في الأصل : «البرك» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا ، واليزك نوع من الحرس الطليعي للجيش. انظر المادة في معجم دوزي.

(٤) النوء : النجم مال للغروب ، والهنعة منكب الجوزاء الأيسر وهي خمسة أنجم مصطفة ينزلها القمر. القاموس المحيط.

٤٧٠

وجمع أخيه ضحاك بن جندل لبني عمه وأسرته وقومه ورجاله ، وكبسه لجماعة خصومه وقتلهم مع رأس طغيانهم ، (١٦٤ و) بهرام الداعي ، ما قد شرح في موضعه من هذا التاريخ ، وعرف ، وورد الخبر في شعبان من هذه السنة بأن المذكورين ندبوا لقتل ضحاك المذكور ، رجلين أحدهما قواسا ، والآخر نشابيا ، فوصلا إليه وتقربا بصنعتهما إليه ، وأقاما عنده برهة من الزمان طويلة الى أن وجدوا فيه الفرصة متسهلة ، وذاك أن ضحاك بن جندل كان راكبا مسيرا حول ضيعة له ، تعرف ببيت لهيا من وادي التيم ، فلما عاد منها ، وافق اجتيازه بمنزل هذين المفسدين ، فلقياه وسألاه النزول عندهما للراحة ، وألحا عليه في السؤال ، فنزل والقدر منازله ، والبلاء معادله ، فلما جلس أتياه بمأكول حضرهما ، فحين شرع في الأكل مع الخلوة ، وثبا عليه فقتلاه ، وأجفلا فأدركهما رجاله ، فأخذوهما وأتوا بهما الى ضحاك وقد بقي فيه رمق ، فلما رآهما أمر بقتلهما ، بحيث شاهدهما ثم فاظت نفسه في الحال ، وقام مقامه ولده من إمارة وادي التيم ، وبهذا الشرح وصل كتابه ، وعلى هيئته أوردته.

وفي ذي الحجة ورد الخبر من ناحية بغداد بوفاة القاضي ، قاضي القضاة الأكمل فخر الدين عز الاسلام أبي القاسم علي بن الحسين بن محمد الزينبي رحمه‌الله ، بيوم النحر من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، وصلى عليه الامام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين ، وصلى عليه بعده نقيب النقباء ، ودفن على والده نور الهدى في تربة الامام أبي حنيفة ، رحمه‌الله ، وولي أمر القضاء بعده القاضي أبو الحسن علي بن الدامغاني.

ودخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

وأولها يوم الأربعاء الحادي عشر من أيار ، قد كان كثر فساد الأفرنج المقيمين بصور وعكا والثغور الساحلية ، بعد رحيلهم عن دمشق ، وفساد شرائط الهدنة المستقرة بين معين الدين وبينهم ، بحيث شرعوا في الفساد في

٤٧١

الأعمال الدمشقية ، فاقتضت الحال نهوض الأمير معين الدين في العسكر الدمشقي الى أعمالها ، مغيرا عليها وعائثا فيها ، وخيم في ناحية حوران بالعسكر ، وكاتب العرب في أواخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، ولم يزل مواصلا للغارات وشنها على (١٦٤ ظ) بلادهم وأطرافهم مع الأيام وتقضيها ، والساعات وتصرمها ، واستدعى جماعة وافرة من التركمان ، وأطلق أيديهم في نهب أعمالهم ، والفتك بمن يظفر به في أطرافهم : الحرامية ، وأهل الفساد ، والاخراب ، ولم يزل على هذه القضية لهم محاصرا ، وعلى النكاية فيهم والمضايقة لهم مصابرا ، الى أن ألجأهم الى طلب المصالحة ، وتجديد عقد المهادنة ، والمسامحة ببعض المقاطعة ، وترددت المراسلات في تقرير هذا الأمر ، وإحكام مشروطه وأخذ الأيمان بالوفاء بشروطه في المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة ، وتقررت حال الموادعة مدة سنتين ووقعت الأيمان على ذلك ، وزال الخلف ، واطمأنت النفوس من أهل العملين بذلك ، وسكنت الى تمامه ، وسرت بأحكامه.

ووافق ذلك تواصل كتب نور الدين صاحب حلب الى معين الدين ، يعلمه أن صاحب أنطاكية جمع أفرنج بلاده ، وظهر يطلب بهم الافساد في الأعمال الحلبية ، وأنه قد برز في عسكره الى ظاهر حلب للقائه ، وكف شره عن الأعمال ، وأن الحاجة ماسة الى معاضدته بمسيره بنفسه وعسكره إليه ، ليتفقا بالعسكرين عليه ، فاقتضت الحال أن ندب الأمير معين الدين ، الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين ، في فريق وافر من العسكر الدمشقي ، للمصير الى جهته ، وبذل المجهود في طاعته ومناصحته ، وتوجه في يوم [السبت](١) من العشر الأول من صفر من السنة ، وبقي معين الدين في باقي العسكر بناحية

__________________

(١) فراغ في الأصل ، والسبت يقابل العاشر من صفر ، ذلك أن ابن القلانسي نفسه وابن العديم في كتاب زبدة الحلب : ٢ / ٢٩٨ أوردا أن نور الدين اشتبك مع الفرنجة «يوم الأربعاء حادي وعشرين من صفر». انظر أيضا الكواكب الدرية : ١٣٠.

٤٧٢

حوران ، لإيناس حلل العرب ، وحفظ أطرافهم ، وتطييب نفوسهم لنقل الغلال على جمالهم الى دمشق ، على جاري العادة ، وحفظها والاحتياط عليها.

وفي صفر من السنة وردت البشائر من جهة نور الدين ، صاحب حلب ، بما أولاه الله وله الحمد من الظهور على حشد الأفرنج المخذول ، وجمعهم المفلول ، بحيث لم يفلت منهم إلا من خبر ببوارهم ، وتعجيل دمارهم ، وذلك أن نور الدين لما اجتمع إليه ما استدعاه من خيل التركمان والأطراف ، ومن وصل إليه من عسكر دمشق مع الأمير مجاهد الدين (١٦٥ و) بزان قويت بذلك نفسه ، واشتدت شوكته ، وكثف جمعه ، ورحل الى ناحية الأفرنج بعمل أنطاكية ، بحيث صار عسكره يناهز الستة آلاف فارس مقاتلة ، سوى الأتباع والسواد والافرنج في زهاء أربعمائة فارس طعانة ، وألف راجل مقاتلة ، سوى الأتباع ، فلما حصلوا بالموضع المعروف بإنب (١) نهض نور الدين في العسكر المنصور نحوهم ، ولما وقعت العين على العين حمل الكفرة على المسلمين حملتهم المشهورة ، وتفرق المسلمون عليهم من عدة جهات ، ثم أطبقوا عليهم واختلط الفريقان ، وانعقد العجاج عليهم ، وتحكمت سيوف الاسلام فيهم ، ثم انقشع القتام ، وقد منح الله ، وله الحمد والشكر المسلمين النصر على المشركين ، وقد صاروا على الصعيد مصرعين وبه معفرين وبحربهم مخذولين ، بحيث لم ينج منهم إلا النفر اليسير ممن ثبطه الأجل ، وأطار قلبه الوجل ، بحيث يخبرون بهلاكهم واحتناكهم ، وشرع المسلمون في إسلابهم ، والاشتمال على سوادهم ، وامتلأت الأيدي من غنائمهم وكراعهم ، ووجد اللعين البلنس مقدمهم (٢) صريعا بين حماته وأبطاله ، فعرف ، وقطع رأسه ،

__________________

(١) حصن من أعمال عزاز في جهات حلب. ياقوت.

(٢) هو ريموند أمير أنطاكية ، استمر في حكمه ثلاث عشرة سنة ، وقد خلف وراءه زوجته كونستانس مع أربعة أولاد : ذكرين وابنتين. تاريخ وليم الصوري : ٢ / ١٩٨ ـ ٢٠٠. الباهر : ٩٨ ـ ١٠٠.

٤٧٣

وحمل الى نور الدين ، فوصل حامله بأحسن صلة ، وكان هذا اللعين من أبطال الأفرنج المشهورين بالفروسية ، وشدة البأس ، وقوة الحيل ، وعظم الخلقة ، مع اشتهار الهيبة ، وكبر السطوة ، والتناهي في الشر ، وذلك في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين ، ثم نزل نور الدين في العسكر على باب أنطاكية ، وقد خلت من حماتها والذابين عنها ، ولم يبق فيها غير أهلها مع كثرة أعدادهم ، وحصانة بلدهم ، وترددت المراسلات بين نور الدين وبينهم في طلب التسليم الى نور الدين ، وإيمانهم وصيانة أحوالهم ، فوقع الاحتجاج منهم بأن هذا الأمر لا يمكنهم الدخول فيه الا بعد انقطاع آمالهم من الناصر لهم والمعين على من يقصدهم ، فحملوا ما أمكنهم من التحف والمال ، واستمهلوا فأمهلوا وأجيبوا الى ما فيه سألوا ، ثم رتب بعض العسكر للاقامة عليها ، والمنع لمن يصل إليها.

ونهض نور الدين في بقية (١٦٥ ظ) العسكر الى ناحية أفامية ، وقد كان رتب الأمير صلاح الدين في فريق وافر من العسكر لمنازلتها ومضايقتها ومحاربتها ، فحين علم من فيها من المستحفظين هلاك الأفرنج ، وانقطع أملهم من مواد الإنجاد وأسباب الإسعاد ، التمسوا الأمان ، فأمنوا على نفوسهم ، وسلموا البلد ، ووفى لهم بالشرط ، فرتب فيها من رآه كافيا في حفظها والذب عنها ، وذلك في الثامن عشر من شهر ربيع الأول من السنة.

وانكفأ نور الدين في عسكره الى ناحية [أنطاكية ، وقد انتهى الخبر بنهوض الفرنج من ناحية](١) الساحل الى صوب أنطاكية ، لإنجاد من بها وطلب نور الدين تسهل الفرصة في قصدهم للايقاع بهم ، فأحجموا عن الإقدام على التقرب منه ، وتشاغلوا عنه ، واقتضت الحال مهادنة من في أنطاكية وموادعتهم ، وتقرير أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية له ، وما قرب من

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين من الروضتين : ١ / ٥٨ ، حيث نقل عن ابن القلانسي ، وهو خبر أورده وليم الصوري في تاريخه : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٤٧٤

أنطاكية لهم ، ورحل عنها الى جهة غيرهم ، بحيث قد كان في هذه النوبة قد ملك ما حول أنطاكية من الحصون والقلاع والمعاقل ، وغنم منها الغنائم الجمة ، وفصل عنه الأمير مجاهد الدين بزان في العسكر الدمشقي ، وقد كان له في هذه الوقعة ولمن في جملته البلاء المشهور ، والذكر المشكور ، لما هو موصوف به من الشهامة والبسالة وأصالة الرأي ، والمعرفة بمواقف الحروب ، ووصل إلى دمشق سالما في نفسه وجملته في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر من السنة ، ومن لفظه وصفته ، هذا الشرح معتمدا فيه على الاختصار دون الإكثار ، وفيه من تقوية أركان الدين وإذلال ما بقي من الكفرة الملحدين ما هو مشهور بين العباد ، وسائر البلاد ، مشكور مذكور ، والله تعالى اسمه ، عليه المحمود المشكور.

وقد مضى من ذكر معين الدين أنر فيما كان أنهضه من عسكره الى ناحية حلب ، لإعانة نور الدين صاحبها ، على ملاقاة الأفرنج المجتمعين من أنطاكية وأعمالها للإفساد في الأعمال الشامية ، وما منح الله تعالى ، وله الحمد ، من الظفر بهم والنصر عليهم ، ما أغنى عن ذكر شي منه ، واتفق أن معين الدين فصل عن عسكره بحوران ، ووصل إلى دمشق في أيام من آخر شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة ، لأمر أوجب ذاك ، ودعا إليه ، وأمعن في الأكل لعادة جرت (١٦٦ و) له فلحقه عقيب ذلك انطلاق تمادى به ، وحمله اجتهاده فيما يدبره على العود إلى العسكر بناحية حوران ، وهو على هذه الصفة من الانطلاق ، وقد زاد به ، وضعفت قوته ، وتولد معه المرض المعروف بدوسنطريا (١) وعمله في الكبد ، وهو مخوف لا يكاد يسلم صاحبه منه ، وأرجف به وضعفت قوته ، فأوجبت الحال عوده الى دمشق في محفة لمداواته ، فوصل في يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر من السنة ، فزاد به المرض والإرجاف بموته ، وسقطت قوته ، وقضى نحبه في الليلة التي

__________________

(١) في الأصل : بجوسنطريا وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا وهو الزحار الشديد.

٤٧٥

صبيحتها يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الآخر من السنة ، ودفن في إيوان الدار الأتابكية التي كان يسكنها ، ثم نقل بعد ذلك الى المدرسة التي عمرها ، ولما دفن في قبره وفرغ من أمره ، اجتمع حسام الدين بلاق ، ومؤيد الدين الرئيس ، ومجاهد الدين بزان ، وأعيان الأجناد في مجلس مجير الدين بالقلعة ، وإليه الأمر والتقدم ، وتقررت الحال بينهم على ما اتفق من صلاح الحال.

وفي مستهل جمادى الأولى من السنة توفي أبو عبد الله البسطامي المقرىء المصلي في مشهد زين العابدين رحمه‌الله.

وورد الخبر من ناحية الموصل بوفاة الأمير سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك رحمه‌الله ، بعلة قولنجية دامت به ، في أوائل جمادى الأولى من السنة وأنه قرر الأمر لأخيه مودود بن عماد الدين ، والنظر في أمره للأمير علي كوجك ، والوزارة لجمال الدين.

وفي يوم الجمعة التاسع من رجب سنة أربع وأربعين وخمسمائة قرىء المنشور المنشأ عن مجير الدين بعد الصلاة على المنبر بإبطال الفيئة المستخرجة من الرعية وإزالة حكمها ، وتعفية رسمها ، وابطال دار الضرب ، فكثر دعاء الناس له وشكرهم.

وحدث عقيب هذه الحال استيحاش مؤيد الدين الرئيس ، من مجير الدين استيحاشا أوجب جمع من أمكنه من سفهاء الأحداث والغوغاء وحملة السلاح من الجهلة العوام ، وترتيبهم حول داره ودار أخيه زين الدولة حيدرة للاحتماء بهم من مكروه يتم عليهما ، وذلك في يوم الأربعاء الثالث وعشرين من رجب ، ووقعت المراسلات من مجير الدين بما يسكنهما ، ويطيب قلوبهما ، فما وثقا بذلك ، وجدّا في الجمع والاحتشاد من العوام ، وبعض الاجناد (١٦٦ ظ)

٤٧٦

وأثارا الفتنة في ليلة الخميس تالي اليوم المذكور ، وقصدوا (١) باب السجن ، وكسروا أغلاقه ، وأطلقوا من فيه ، واستنفروا جماعة من أهل الشاغور وغيرهم ، وقصدوا الباب الشرقي (٢) ، وفعلوا مثل ذلك ، وحصلوا في جمع كثير ، وامتلأت بهم الأزقة والدروب فحين عرف مجير الدين وأصحابه هذه الصورة ، اجتمعوا في القلعة بالسلاح الشاك ، فأخرج ما في خزائنه من السلاح والعدد ، وفرقت على العسكرية ، وعزموا على الزحف الى جمع الأوباش ، والايقاع بهم ، والنكاية فيهم ، فسأل جماعة من المقدمين التمهل في هذا الأمر ، وترك العجلة بحيث تحقن الدماء ، وتسلم البلد من النهب والحريق ، وألحوا عليه الى أن أجاب سؤالهم ، ووقعت المراسلة والتلطف في إصلاح ذات البين ، فاشترط الرئيس وأخوه شروطا أجيبا إلى بعضها ، وأعرض عن بعض ، بحيث يكون ملازما لداره ، ويكون ولده وولد أخيه في الخدمة في الديوان ولا يركب الى القلعة إلا مستدعيا إليها ، وتقررت الحال على ذلك ، وسكنت الدهماء ، ثم حدث بعد هذا التقرير عود الحال الى ما كانت عليه من العناد ، وإثارة الفساد ، وجمع الجمع الكثير من الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين ، واتفقوا على الزحف الى القلعة وحصر من بها وطلب من عيّن عليه من الأعداء والأعيان ، في أواخر رجب ، ونشبت الحرب بين الفريقين ، وجرح وقتل بينهم نفر يسير ، وعاد كل فريق منهم الى مكانه.

ووافق ذلك هروب السلار زين الدين اسماعيل الشحنة ، وأخيه الى ناحية بعلبك ، ولم تزل الفتنة ثائرة ، والمحاربة متصلة ، إلى أن اقتضت الصورة إبعاد من التمس إبعاده من خواص مجير الدين ، وسكنت الفتنة ، وأطلقت أيدي النهابة في دور السلار زين الدين وأخيه وأصحابهما ، وعمهما النهب والإخراب ، ودعت الصورة الى تطييب نفس الرئيس وأخيه ، والخلع عليهما

__________________

(١) كذا في الأصل ، بالجمع بدلا من التثنية.

(٢) ما تزالان تحملان نفس الاسمين.

٤٧٧

بعد أيمان حلف بها ، واعادة الرئيس الى الوزارة والرئاسة ، بحيث لا يكون له في ذلك معترض ولا مشارك.

وورد الخبر بظهور الأفرنج الى الأعمال للعيث فيها والإفساد ، وشرعوا في التأهب لدفع شرهم.

وورد الخبر من ناحية مصر بوفاة صاحبها الإمام الحافظ بأمر الله أمير المؤمنين عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله ، في الخامس (١٦٧ و) من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين ، وولي الأمر من بعده ولده الأصغر أبو منصور اسماعيل بن عبد المجيد الحافظ ، ولقب بالظافر بالله ، وولي الوزارة أمير الجيوش أبو الفتح بن مصال المغربي ، فأحسن السيرة ، وأجمل السياسة ، واستقامت بتدبيره الأعمال ، وصلحت الأحوال ، ثم حدث من بعد ذلك من اضطراب الأمور ، والخلف المكروه بين السودان والريحانية ، بحيث قتل بين الفريقين الخلق الكثير ، وسكنت الفتنة بعد ذلك ، وانتشر الأمن بعد الخوف ، وقد كان الحافظ رحمه‌الله ولي الأمر أولا في المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة ، بحيث كانت مدة إقامته فيه ثماني عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوما ، وكان أول زمانه حسن الأفعال والسيرة ، وبث الاحسان في العسكرية والرعية (١).

وقد كان الخبر اتصل بنور الدين بإفساد الأفرنج في الأعمال الحورانية بالنهب والسبي ، فعزم على التأهب لقصدهم ، وكتب الى من في دمشق يعلمهم ما عزم عليه من الجهاد ، ويستدعي منهم المعونة على ذلك بألف فارس ، تصل اليه مع مقدم يعول عليه ، وقد كانوا عاهدوا الأفرنج أن يكونوا يدا واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين ، فاحتج عليه ، وغولط ، فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس وبعض العسكرية (٢) بيعفور ، فلما قرب من

__________________

(١) انظر اتعاظ الحنفا : ٣ / ١٨٩ ـ ١٩٢ حيث المزيد من التفاصيل.

(٢) خارج دمشق تعرفان بهذين الاسمين.

٤٧٨

دمشق ، وعرف من بها خبره ، ولم يعلموا أين مقصده ، وقد راسلوا الأفرنج بخبره وقرروا معهم (١) الإنجاد عليه ، وكانوا قد نهضوا الى ناحية عسقلان لعمارة غزة ، ووصلت أوائلهم الى بانياس ، وعرف نور الدين خبرهم ، فلم يحفل بهم ، وقال : لا أنحرف عن جهادهم ، وهو مع ذلك كاف أيدي أصحابه عن العيث والإفساد في الضياع ، وإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف ، والدعاء له مع ذلك متواصل من أهل دمشق وأعمالها ، وسائر البلاد وأطرافها ، وكان الغيث قد انحبس عن حوران والغوطة والمرج حتى نزح أكثر أهل حوران عنها للمحل واشتداد الأمر ، وترويع سربهم ، وعدم شربهم ، فلما وصل الى بعلبك اتفق للقضاء المقدر ، والرحمة النازلة أن السماء أرسلت عزاليها بكل وابل وطل وانسكاب وهطل ، بحيث أقام ذلك منذ الثلاثاء الثالث من ذي الحجة سنة أربع وأربعين الى مثله (١٦٧ ظ) وزادت الأنهار ، وامتلأت ، برك حوران ، ودارت أرحيتها ، وعاد ما صوح (٢) من الزرع والنبات غضا طريا ، وضج الناس بالدعاء لنور الدين ، وقالوا : هذا ببركته وحسن معدلته وسيرته.

ثم رحل من منزله بالأعوج ونزل على جسر الخشب المعروف بمنازل العساكر (٣) في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وأربعين ، وراسل مجير الدين والرئيس ، بما قال فيه : إنني ما قصدت بنزولي هذا المنزل طالبا لمحاربتكم ، ولا منازلتكم ، وإنما دعاني الى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين من أهل حوران والعربان ، بأن الفلاحين الذين أخذت أموالهم وشتتت نساؤهم وأطفالهم ، بيد الأفرنج ، وعدم الناصر لهم ، ولا يسعني مع ما أعطاني الله ، وله الحمد ، من الاقتدار على نصرة المسلمين ، وجهاد المشركين ، وكثرة المال والرجال ، ولا يحل لي ، القعود عنهم ، والانتصار لهم ، مع

__________________

(١) في الأصل «معه».

(٢) صوح النبات إذا يبس وتشقق. النهاية لابن الأثير.

(٣) في الأصل «العاسر» وهو تصحيف قوم من الكواكب الدرية : ١٣٤.

٤٧٩

معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم ، والذب عنها ، والتقصير الذي دعاكم الى الاستصراخ بالأفرنج على محاربتي ، وبذلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ، ظلما لهم وتعديا عليهم ، وهذا ما لا يرضي الله تعالى ، ولا أحد من المسلمين ، ولا بد من المعونة بألف فارس مزاحي العلة ، تجرد مع من يوثق بشجاعته من المقدمين لتخليص ثغر عسقلان وغيره.

فكان الجواب عن هذه الرسالة : ليس بيننا وبينك إلا السيف ، وسيوافينا من الأفرنج ما يعيننا على دفعك إن قصدتنا ، ونزلت علينا ، فلما عاد الرسول بهذا الجواب ، ووقف عليه ، أكثر التعجب منه ، والإنكار له ، وعزم على الزحف الى البلد ، ومحاربته في غد ذلك اليوم ، وهو يوم الأربعاء الخامس والعشرون من نيسان ، فأرسل الله تعالى من الأمطار وتداركها ودوامها ، ما منعه من ذلك ، وصرفه عنه.

ودخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة

أولها يوم الاثنين مستهل المحرم ، وفيه تقرر الصلح بين نور الدين وأرباب دمشق ، والسبب في ذلك أن نور الدين أشفق من سفك دماء المسلمين إن أقام على حربها والمضايقة لها ، مع ما اتصل به من أخبار دعته الى ذلك ، واتفق أنهم (١٦٨ و) بذلوا له الطاعة ، وإقامة الخطبة له على منبر دمشق ، بعد الخليفة والسلطان والسكة ، ووقعت الأيمان على ذلك ، وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة كاملة بالطوق ، وأعاده مكرما محترما ، وخطب له على منبر دمشق يوم الجمعة رابع عشر المحرم ، ثم استدعى الرئيس الى المخيم ، وخلع عليه خلعة مكملة أيضا ، وأعاده الى البلد ، وخرج إليه جماعة من الأجناد والخواص الى المخيم ، واختلطوا به ، فوصل من استماحه من الطلاب والفقراء والضعفاء ، بحيث ما خاب قاصده ، ولا أكدى من سأله ، ورحل عن مخيمه ليلة الأحد عائدا الى حلب ، بعد إحكام ما قرر ، وتكميل ما دبّر.

٤٨٠