تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

الى غيره قد ثنيت ، وأعيدت المناجيق الى ناحية حمص من بعلبك ، وقيل إن الخبر وافاه من جهة الرها بأن جماعة من الأرمن عملوا عليها ، وأرادوا الايقاع بمن فيها من مستحفظيها ، وأن مكتوم سرهم ظهر ، ومخفي أمرهم بدا وانتشر ، وأن الجناة أخذوا وتتبعوا ، وقوبلوا على ذلك بما يقابل به من يسعى في الأرض بالفساد ، من : القتل ، والصلب ، والتشريد في البلاد.

وفي أوائل شعبان من السنة وردت الأخبار من ناحية بغداد ، بوصول السلطان غياث الدنيا والدين مسعود بن محمد (١) بن ملك شاه إلى بغداد ، وقيل أنه وجل من أخيه السلطان طغرل بن محمد (٢) ، لأنه قد جمع ، واجتهد فيما حشد ، وهو عازم على لقائه والإيقاع بعسكره.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بوفاة الأمير المعظم أبي المظفر خمارتاش الحافظي ، صاحب باب الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين ، صاحب مصر بعلة عرضت له وقضى فيها نحبه ، وقيل إنه كان حسن الطريقة جميل الفعل ، مشكور القصد.

قال الرئيس الأجل مجد الرؤساء أبو يعلى حمزة بن أسد بن محمد التميمي : قد انتهيت في شرح ما شرحته من (١٥٣ ظ) هذا التاريخ ورتبته وتحفظت من الخطأ والخطل والزلل فيما علقته ، من أفواه الثقات ونقلته وأكدت الحال فيه بالاستقصاء والبحث الى أن صححته إلى هذه السنة المباركة ، وهي سنة أربعين وخمسمائة ، وكنت قد منيت منذ سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وإلى هذه الغاية بما شغل الخاطر عن الاستقصاء عما يجب إثباته في هذا الكتاب ، من الحوادث المتجددة في الأعمال ، والبحث عن الصحيح منها ، في جميع الأحوال ، فتركت بين كل سنتين من السنين بياضا في الأوراق

__________________

(١) في الأصل : «مسعود بن محمود بن محمد» ، ومحمود زيادة حذفت وسبق مثل هذا.

(٢) في الأصل : «طغرل بن محمود» وأبدلت محمود بمحمد ، وسبق مثل هذا.

٤٤١

ليثبت فيه ما يعرف صحته من الأخبار ، وتعلم حقيقته من الحوادث والآثار ، وأهملت فيما ذكرته من أحوال سلاطين الزمان فيما تقدم ، وفي هذا الأوان إستيفاء ذكر نعوتهم المقررة وألقابهم المحررة ، تجنبا لتكريرها بأسرها ، والإطالة بذكرها ، ولم تجر بذلك عادة قديمة ، ولا سنة سالفة في تاريخ يصنف ، ولا كتاب يؤلف ، وإنما كان الرسم جاريا في القديم بإطراح الألقاب والإنكار لها ، بين يدي ذوي العلوم والآداب ، فلما ظهرت الدولة البويهية الديلمية ، ولقب أول مسعود نبغ فيها بعماد الدولة بن بويه ثم أخوه وتاليه في الولادة والسعادة بركن الدولة أبي علي ، ثم أخوهما بمعز الدولة أبي الحسين وكل منهم قد بلغ من علو المرتبة والمملكة ، ونفاذ الأمر في العراق وخراسان والشام إلى أوائل المغرب ما هو مشهور وذكره في الآفاق منشور ، ولما علا قدر الملك عضد الدولة فنّاخسره بن ركن الدولة أبي علي بن بويه بعدهم ، وظهر سلطانه ، وعلا شأنه ، وملك العراق بأسره وما والاه من البلاد والمعاقل ، وخطب له على المنابر ، زيد في نعوته في أيام المطيع لله أمير المؤمنين رحمه‌الله : تاج الملة ، ولم يزد أحد من أخوته : مؤيد الدولة ، صاحب أصفهان ، وفخر الدولة ، صاحب الري وما والاهما ، وانضاف إليهما على اللقب الواحد.

ولم يزل الأمر على ذلك مستمرا إلى أن ظهر أمر السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكال بن سلجق ، وقويت شوكة الترك ، وانخفضت الدولة البويهية واضمحلت وانقرضت ، ولقب السلطان طغرلبك لما ظهر أمره في العراق ، واجتاح شأفة أبي الحارث أرسلان الفساسيري في أيام (١٥٤ و) الإمام الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين رحمه‌الله ب : «السلطان المعظم ، شاهنشاه الأعظم ، ركن [الدنيا و] الدين ، غياث المسلمين ، بهاء دين الله ، وسلطان بلاد الله ، ومغيث عباد الله ، يمين خليفة الله طغرلبك».

ثم زاد الأمر في ذلك إلى أن أضيف الى ألقاب ولاة الأطراف : الدين ، والاسلام ، والأنام ، والملة ، والأمة ، وغير ذلك ، بحيث اشترك في هذا الفن

٤٤٢

الخاص والعام ، لا سيما في هذا الأوان وألقاب سلاطينه ، لأن منهم : سلطان خراسان ، السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم مالك رقاب الأمم ، سيد سلاطين العرب والعجم ، ناصر دين الله ، مالك عباد الله ، الحافظ بلاد الله ، سلطان أرض الله ، معين خليفة الله ، معز الدنيا والدين ، كهف الإسلام والمسلمين ، عضد الدولة القاهرة ، تاج الملة الظاهرة ، وغياث الأمم الباهرة أبو الحارث سنجر ابن ملك شاه ، برهان أمير المؤمنين ؛ وسلطان العراق : السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم ، مالك رقاب الأمم ، مولى العرب والعجم جلال دين الله ، سلطان أرض الله ، ناصر عباد الله ، ظهير خليفة الله ، غياث الدنيا والدين ، ركن الاسلام والمسلمين ، عضد الدولة القاهرة ، ومغيث الأمم الباهرة ، أبو الفتح مسعود ابن محمد (١) بن ملك شاه قسيم أمير المؤمنين.

وسلطان الشام وغيره : الأمير الأسفهسلار الكبير ، العادل المؤيد ، المظفر ، المنصور ، الأوحد عماد الدين ، ركن الإسلام ، ظهير الأنام ، قسيم الدولة ، معين الملة ، جلال الأمة ، شرف الملوك ، عمدة السلاطين ، قاهر الكفرة والمتمردين ، قامع الملحدين والمشركين ، زعيم جيوش المسلمين ، ملك الأمراء ، شمس المعالي أمير العراقين والشام بهلوان جهان ، ألب غازي إيران اينانج قتلغ طغرلبك أتابك أبو سعيد زنكي بن آق سنقر ، نصير أمير المؤمنين.

وصاحب دمشق : الأمير الأسفهسلار الكبير ، العادل المؤيد ، المظفر ، المنصور ، ظهير الدين ، عضد الإسلام ، ناصر الامام ، تاج الدولة سيف الملة ، محيي الأمة ، شرف الملوك ، عماد الأمراء ، كهف المجاهدين ، زعيم جيوش المسلمين ، أبو سعيد آبق بن محمد بن بوري أتابك ، سيف أمير المؤمنين.

__________________

(١) في الأصل «مسعود بن محمود بن محمد» ومحمود زيادة حذفت ، وسبق مثل هذا.

٤٤٣

سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

(١٥٤ ظ) قد تقدم من ذكر عماد الدين أتابك زنكي ، في أواخر سنة أربعين وخمسمائة ، في نزوله على قلعة دوسر (١) على غرة من أهلها ، وهجمه على ربضها ونهبه ، وأخذ أهله ما لا حاجة إلى إعادة ذكره ، وشرح أمره ، ولم يزل مضايقا لها ، ومحاربا لأهلها في شهر ربيع الآخر من سنة احدى وأربعين وخمسمائة ، حتى وردت الأخبار بأن أحد خدمه ، ومن كان يهواه ويأنس به ، يعرف بيرنقش واصله افرنجي ، وكان في نفسه حقد عليه لإساءة تقدمت منه إليه فأسرها في نفسه ، فلما وجد منه غفلة في سكره ، ووافقه بعض الخدم من رفقته على أمره ، فاغتالوه عند نومه في ليلة الأحد السادس من شهر ربيع الآخر من السنة ، وهو على الغاية من الاحتياط بالرجال والعدد ، والحرس الوافر العدد حول سرادقة ، فذبحه على فراشه بعدة ضربات تمكنت من مقاتله ، ولم يشعر بهم أحد ، حتى هرب الخادم القاتل إلى قلعة دوسر المعروفة حينئذ بجعبر ، وفيها صاحبها الأمير عز الدين علي بن مالك بن سالم بن مالك ، فبشره بهلاكه ، فلم يصدقه ، وآواه إلى القلعة وأكرمه ، وعرف حقيقة الأمر ، فسر بذلك ، واستبشر بما آتاه الله من الفرج بعد الشدة الشديدة ، والاشفاء على الهلكة ، بتطاول المحاصرة والمصابرة ، وإرسال خواصه وثقاته إليه بما استدعاه منه ، واقترحه عليه من آلات فاخرة ، وذخائر وافرة أشار إليها ، وعين عليها ، ووعده إذا حصلت عنده بالإفراج عنه ، فعند حصول ذلك لديه مع أصحابه ، غدر بهم ، وعزم على الإساءة إليهم ، فأتاه من القضاء النازل ، الذي لا دافع له ولا مانع عنه ، ما صار به عبرة لأولي الأبصار ، وعبرة لذوي العقول والأفكار ، وتفرقت جيوشه أيدي سبأ ، ونهبت أمواله الجمة ، وخزائنه الدثرة ، وقبر هناك بغير تكفين الى أن نقل كما حكي إلى مشهد

__________________

(١) كذا ، وما ذكره المؤلف هو عدم توجه زنكي نحو دمشق وكشف خبر مؤامرة في الرها ، فلعل ذلك سقط من الأصل ، وقلعة دوسر هي قلعة جعبر ، قائمة الآن وسط بحيرة سد الفرات في سورية.

٤٤٤

علي [في](١) الرقة.

وتوجه الملك ولد السلطان المقيم كان معه فيمن صحبه ، وانضم إليه ، إلى ناحية (٢) الموصل ، ومعه سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك ، رحمه‌الله ، وامتنع عليهم الوالي بالموصل على كوجك أياما إلى حين تقررت الحال بينهم ، ثم فتح الباب ، ودخل ولده واستقام له الأمر (١٥٥ و) وانتصب منصبه.

وعاد الأمير سيف الدولة سوار وصلاح الدين في تلك الحال إلى ناحية حلب ، ومعهم الأمير نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك ، وحصل بها ، وشرع في جمع العساكر وانفاق المال فيها ، واستقام له الأمر وسكنت الدهماء وفصل عنه الأمير صلاح الدين (٣) وحصل بحماة ولايته ، على سبيل

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق. انظر الحاشية الثالثة التالية.

(٢) هو الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود ، انظر حول ملابسات الصراع على السلطة بعد مقتل زنكي ، الباهر : ٨٤ ـ ٨٦.

(٣) الياغيسياني ، وقد نقل ابن العديم في ترجمة زنكي في كتابه بغية الطلب أن قاتل زنكي «جاء الى تحت القلعة فنادى أهل القلعة : شيلوني فقد قتلت السلطان فقالوا له : إذهب الى لعنة الله قد قتلت المسلمين كلهم بقتله ، وافترقت العساكر ، فأخذ أولاد الداية نور الدين محمود الملك العادل بن عماد الدين زنكي ، وطلبوا حلب والشام ، فملكها وسار أجناد الموصل بسيف الدين غازي الى الموصل وأعمالها فملكها وملك الجزيرة ، وبقي عماد الدين أتابك زنكي وحده ، فخرج إليه أهل الرافقة فغسلوه بقحف جرة ، ودفنوه على باب مشهد الامام علي عليه‌السلام في جوار الشهداء من الصحابة». ونقل الفارقي في تاريخه رواية وثائقية حول مقتل زنكي ووصف الحال بعده حيث قال : «ولقد سألت الوالي المصدر الكامل قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري ، أدام الله ظله في سنة أربع وأربعين وخمسمائة بالموصل عن قتل أتابك وما جرى ، فقال : كنا نازلنا القلعة مدة ، فلما كان بعض الأيام خرج الأمير حسام الدين المنبجي وصاح : أريد أكلم الأمير علي ـ وهو سيف الدولة أبو الحسن علي بن مالك ـ فتراءى له من على السور ، وقال له : تعلم ما بيني وبينك من الصداقة ، وأنت تعرف أتابك وما هو عليه ، ومالك من تلتجئ إليه ولا من يصرفه عنك ، والرأي أن تسلم وإلا إن أخذها بالسيف يجري

٤٤٥

الاستيحاش ، والخوف على نفسه ، من أمر يدبر عليه على أن الأعمال ، كانت

__________________

ما لا تقدر على دفعه ، وبعد هذا إيش تنتظر؟ فقال له : يا أمير حسان أنتظر الفرج من الله تعالى ، وما انتظرت على منبج لما حاصرها الأمير بلك ، وكفاك الله أمره.

فقال جمال الدين : والله ما كان إلا تلك الليلة نصف الليل ، وكان ذلك اليوم الأربعاء خامس شهر ربيع الآخر ، وقيل تاسعه سنة احدى وأربعين وخمسمائة ، والصائح جاءنا من القلعة يصيح : قتل أتابك ، واختبط الناس وماجوا ، وكان سبب ذلك أن الأمير أتابك كان يبيت في الخيمة وعنده خادم ، فما كان يبيت عنده غيره ، فلما نام تلك الليلة قتله الخادم في الخيمة ، وأخذ السكين بالدم وخرج وطلع الى الربض الى تحت القلعة وصاح إليهم : قتلت أتابك ، فلم يصدقوه ، فأراهم السكين وعلامة أخرى كان أخذها من عنده ، فأصعدوه إليهم وحققوا الحال منه ، وصاحوا ، فاختبط الناس واختلفوا ، وقصد الناس مخيم جمال الدين الوزير فنهب وانهزم ، وجاء إلي ، وقصدني الأمراء والكبار وركبت وقالوا : ما رأي الملك؟ فقصدوا وقصدت خيمة ألب أرسلان بن محمود وقلت : أنا والناس وأتابك ، غلمان الملك ، والبلاد له والكل خدمة ، ومماليك السلطان فاجتمع الناس على الملك ، وتفرق الناس فرقتين ، فأخذ صلاح الدين محمد بن أيوب الياغيسياني نور الدين محمود بن أتابك وعسكر الشام ، ومضوا الى الشام ، فملك حلب وحماة ومنبج وحران وحمص ، وجميع ما بيد أتابك من الشام واستقر به ، وسرنا نحن مع الملك وعساكر ديار ربيعة فطلبنا الموصل ، فوصلنا الى سنجار ، فانهزم الملك ، وطلب الجزيرة ، فلحقه أخي تاج الدين أبو طاهر يحيى بن الشهرزوري ، رحمه‌الله ، وعز الدين أبو بكر الدبيسي ، وحلفا له ، ورداه الى المعسكر ، ونزلوا الى الموصل».

ولتوضيح بعض ما جاء في نص الفارقي روى ابن العديم في ترجمة زنكي قال : «أخبرني الأمير بدران بن جناح الدولة حسين بن مالك بن سالم بن مالك العقيلي قال : لما طال حصار أتابك زنكي لعمي علي بن مالك على قلعة جعبر تقدم حسان البعلبكي صاحب منبج الى عمي وقال له من تحت القلعة : يا أمير علي ايش بقي يخلصك من أتابك ، فقال له : يا عاقل يخلصني الذي خلصك من جب خرتبرت ، فذبح أتابك في تلك الليلة ، وكان حسان قد قبض عليه بلك بن بهرام بن أرتق ، وطلب منه أن يسلم إليه منبج فلم يفعل فسيره الى خرتبرت وحبسه في جب بها ، وحاصر منبج ، فجاءه سهم فقتله عليها ، وخلص حسان ، وعاد الى منبج».

٤٤٦

قد اضطربت ، والمسالك قد اختلت بعد الهيبة المشهورة ، والأمنة المشكورة ، وانطلقت أيدي التركمان والحرامية في الإفساد في الأطراف ، والعيث في سائر النواحي والأكناف ، ونظمت في صفة هذه الحال أبيات من الشعر ، تنطق بذكرها ، وتعرب بالاختصار عن جلية أمرها ، فمنها من جملة قصيدة يطول شرحها بتشبيبها :

كذاك عماد الدين زنكي تنافرت

سعادته عنه وخرّت دعائمه

وكم بيت مال من نضار وجوهر

وأنواع ديباج خوتها مخاتمه

وأضحت بأعلى كل حصن مصونة

يحامي عليها جنده وخوادمه

ومن صافنات الخيل كل مطهم

تروع الاعادي حلبه وبراجمه

ولو رامت الكتّاب وصف شياتها

باقلامها ما أدرك الوصف ناظمه

وكم معقل قد رامه بسيوفه

وشامخ حصن لم تفته غنائمه

ودانت ولاة الأرض فيها لأمره

وقد أمّنتهم كتبه وخواتمه

وأمّن من في كل قطر بهيبة

تراع بها اعرابه واعاجمه

وظالم قوم حين يذكر عدله

فقد زال عنهم ظلمه وخصائمه

واصبح سلطان البلاد بسيفه

وليس له فيها نظير يزاحمه

وكم قد بنى دارا يباهي بحسنها

جنان خلود أحكمتها عزائمه

مزخرفة بالتبر من كل جانب

وأغصان بقش قد تحلّت حمائمه

وزاد على الأملاك بأسا وسطوة

ولم يبق في الأملاك ملك يقاومه

فلمّا تناهى ملكه وجلاله

وراعت­ولاةالأرض منه لوائمه (١٥٥ ظ)

أتاه قضاء لا يردّ سهامه

فلم ينجه أمواله ومغانمه

وأدركه للحين منها حمامه

وحامت عليه بالمنون حوائمه

وأضحى على ظهر الفراش مجدلا

صريعا تولى ذبحه فيه خادمه

٤٤٧

وقد كان في الجيش اللهام مبيته

ومن حوله أبطاله وصوارمه

وسمر العوالي حوله بأكفهم

تذود الردى عنه وقد نام نائمه

ومن دون هذا عصبة قد ترتبت

بأسهمها بردى من الطير حائمه

وكم رام في الأيام راحة سرّه

وهمّته تعلو وتقوى شكائمه

فأودى ولم ينفعه مال وقدرة

ولا عنه رامت للقضاء مخاذمه

وأضحت بيوت المال نهبى لغيره

يمزقها أبناؤه ومظالمه

وكم مسلك للسفر أمّن سبله

ومسرح حيّ ان تراع سوائمه

وكم ثغر اسلام حماه بسيفه

من الروم لما أدركته مراحمه

فلما تولى قام كل مخالف

وشام حساما لم يجد وهو شائمه

وأطلق من في أسره وحبوسه

وفكّت عن الاقدام منه اداهمه

وعاد إلى أوطانه بعد خوفه

وطابت له بعد السغوب مطاعمه

وفرت وحوش الأرض حين تمزقت

كواسره عنها وفلّت سواهمه

ولم يبق جان بعده يحذر الردى

ولا داعر يخشى عليه مناقمه

فمن ذا الذي يأتي بهيبة مثله

وتنفذ في أقصى البلاد مراسمه

فلو رقيت في كل مصر بذكره

أراقمه ذلّت هناك أراقمه

ومن ذا الذي ينجو من الدهر سالما

إذا ما أتاه الأمر والله حاتمه

ومن رام صفوا في الحياة فما يرى

له صفو عيش والحمام يحاومه

فاياك لا تغبط مليكا بملكه

ودعه فان الدهر لا شك قاصمه

فإن كان ذا عدل وأمن لخائف

فلا شك أن الله بالعدل راحمه

وقل للذي يبني الحصون لحفظه

رويدك ما تبنى فدهرك هادمه (١٥٦ و)

فكم ملك قد شاد قصرا مزخرفا

وفارق ما قد شاده وهو عادمه

وأصبح ذاك القصر من بعد بهجة

وقد درست آثاره ومعالمه

وفي مثل هذا عبرة ومواعظ

بها يتناسى المرء ما هو عازمه

٤٤٨

وهذه صفاته فيما ملكه من البلاد والثغور والمعاقل ، وحازه من الأموال والقلاع والأعمال ، ونفوذ أوامره في سائر الأطراف والأكناف ، ثم أتاه القضاء الذي لا يدافع ، والقدر الذي لا يمانع ، وحين اتصل هذا الخبر اليقين إلى معين الدين ، وعرف صورة الحال ، شرع في التأهب والاستعداد لقصد بعلبك ، وانتهاز الفرصة فيها بآلات الحرب والمنجنيقات ، ونهد إليها ونزل عليها وضايقها ، ونصب الحرب على مستحفظيها ، ولم يمض إلا الأيام القلائل حتى قل الماء فيها قلة ، دعتهم الى النزول على حكمه ، وكان الوالي بها (١) ذا حزم وعقل ومعرفة بالأمور ، فاشترط ما قام له به من إقطاع وغيره ، وسلم البلدة والقلعة إليه ، ووفى له بما قرر الأمر عليه ، وتسلم ما فيه من غلة وآلة في أيام من جمادى الأولى من السنة ، وراسل معين الدين الوالي بحمص ، وتقررت بينه وبينه مهادنة وموادعة يعودان بصلاح الأحوال وعمارة الأعمال ، ووقعت المراسلة فيما بينه وبين صلاح الدين بحماة ، وتقرر بينهما مثل ذلك ، ثم انكفأ بعد ذلك الى البلد عقيب فراغه من بعلبك ، وترتيب من رتبه لحفظها والإقامة فيها ، في يوم السبت الثامن عشر من جمادى الآخرة من السنة ، وصادف الخادم يرنقش القاتل لعماد الدين أتابك رحمه‌الله ، قد فصل عن قلعة جعبر لخوف صاحبها من طلبه منه ، ووصل إلى دمشق متيقنا أنه قد أمن بها ، ومدلا بما فعله ، وظنا منه أن الحال على ما توهمه ، فقبض عليه ، وأنفذ الى حلب صحبة من حفظه وأوصله إليها ، فأقام بها أياما ، ثم حمل الى الموصل ، وذكر أنه قتل بها.

ووردت الأخبار في أثناء ذلك في أيام من جمادى الآخرة من السنة بأن ابن جوسلين جمع الأفرنج من كل ناحية ، وقصد مدينة الرها على غفلة بموافقة من النصارى المقيمين فيها فدخلها واستولى عليها ، وقتل من فيها (١٥٦ ظ)

__________________

(١) أيوب بن شادي والد صلاح الدين الأيوبي.

٤٤٩

من المسلمين فضاقت الصدور باستماع هذا الخبر المكروه ، ووردت الأخبار مع ذلك ، بأن الأمير نور الدين صاحب حلب نهض في عسكره ، ومن انضاف إليه من التركمان عند وقوعه على الخبر ، وتقدمه سيف الدولة سوار ، وأغذوا السير ليلا ونهارا وغدوا وابتكارا ، مع من اجتمع من الجهات ، وهم الخلق الكثير ، والجم الغفير زهاء عشرة آلاف فارس ، ووقفت الدواب في الطرقات من شدة السير ووافوا البلد ، وقد حصل ابن جوسلين وأصحابه فيه ، فهجموا عليهم ووقع السيف فيهم ، وقتل من أرمن الرها والنصارى من قتل ، وانهزم [من انهزم] الى برج يقال له برج الماء ، فحصل ابن جوسلين في تقدير عشرين فارسا من أبطال أصحابه ، وأحدق بهم المسلمون من جهاته ، وشرعوا في النقب عليهم ، وما كان إلا بقدر كلا ولا ، حتى تعرقب البرج ، وانهزم ابن جوسلين ، وأفلت منه في الخفية مع أصحابه ، وأخذ الباقون ، ومحق السيف كل من ظفر به من نصارى الرها ، واستخلص من كان أسر من المسلمين ، ونهب منها الشيء الكثير من المال والأثاث والسبي ، وسرت النفوس بهذا النصر بعد الحزن والانخزال ، وقويت القلوب بعد الفشل والانخذال ، وانكفأ المسلمون بالغنائم والسبي إلى حلب وسائر الأطراف.

وفي شوال من هذه السنة ، ترددت الرسل والمراسلات بين الأميرين نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك صاحب حلب ، ومعين الدين أنر إلى أن استقرت الحال بينهما على أجمل صفة ، وأحسن قضية ، وانعقدت الوصلة بين نور الدين وبين ابنة معين الدين ، وتأكدت الأمور على ما اقترح كل منهما ، وكتب كتاب العقد في دمشق بمحضر من رسل نور الدين ، في الخميس الثالث والعشرين من شوال سنة احدى وأربعين وخمسمائة ، وشرع في تحصيل الجهاز ، وعند الفراغ منه توجهت الرسل عائدة الى حلب ، وفي صحبتهم ابنة معين الدين ومن في جملتها من خواص الأصحاب في يوم الخميس النصف من ذي القعدة من السنة.

٤٥٠

وكان معين الدين قد حصل آلات الحرب والمنجنيقات ، وجمع من أمكنه جمعه من الخيل والرجل ، وتوجه الى ناحية صرخد وبصرى بعد أن أخفى عزيمته ، وستر نيته استظهارا لبلوغ طلبه ، وتسهيل أربه (١٥٧ و) ونزل غفلة على صرخد ، وكان المعروف بها بالتونتاش غلام أمين الدولة كمشتكين الأتابكي ، الذي كان واليها أولا ، وكانت نفسه قد حدثته بجهله ، أنه يقاوم من يكون مستوليا على مدينة دمشق ، وأن الافرنج يعينونه على مراده وما يلتمسه من إنجاده وإسعاده ، ويكونون معه على ما نواه من عيثه وإفساده ، وكان قد خرج للأمر المقضي من حصن صرخد إلى ناحية الأفرنج للاستنصار بهم ، وتقرير أحوال الفساد معهم ، ولم يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين ، ولم يشعر بما نواه معين الدين من إرهاقه بالمعاجلة ، وعكس آماله بالمنازلة فحال بينه وبين العود الى أحد الحصنين المذكورين ، ولم تزل المحاربة بين من في صرخد والمنازلين متصلة ، والنقوب مستعملة ، والمراسلات مترددة ، والتهديد ، إن لم يجب الى المطلوب ، ومعين الدين لا يعدل عن المغالطة والمدافعة ، وكان قد عرف تجمعهم وتأهبهم للنهوض إليه وإزعاجه وترحيله (١) عنها ، فأوجبت هذه الحال أن راسل نور الدين صاحب حلب يسأله الانجاد على الكفرة الأضداد بنفسه وعسكره ، فأجابه الى ذلك ، وكان لاتفاق الصلاح مبرزا بظاهر حلب في عسكره ، فثنى إليه الأعنة ، وأغذ السير ، ووصل الى دمشق في يوم الأربعاء السابع وعشرين من ذي الحجة من السنة ، وخيم بعين (٢) شواقة ، وأقام أياما يسيرة ، وتوجه نحو صرخد ، ولم يشاهد أحسن من عسكره وهيئته وعدته ، ووفور عدته.

واجتمع العسكران وأرسل من بصرخد اليهما يلتمس الأمان ، والمهلة أياما ، ويسلم المكان ، وكان ذلك منهم على سبيل المغالطة والمخاتلة ، إلى حين

__________________

(١) في الأصل «وترحيلهم» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

(٢) لم أجدها في المصادر الجغرافية.

٤٥١

يصل عسكر الأفرنج لترحيل النازلين عليهم ، وقضى الله تعالى للخيرة التامة للمسلمين ، والمصلحة الشاملة لأهل الدين وصول من أخبر بتجمع الافرنج واحتشادهم ونهوضهم في فارسهم وراجلهم مجدين السير إلى ناحية بصرى ، وعليها فرقة وافرة من العسكر محاصرة لها ، فنهض العسكر في الحال والساعة عند المعرفة بذاك إلى ناحية بصرى ، كالشواهين إلى صيدها والبزاة (١٥٧ ظ) الى حجلها ، بحيث سبقوا الأفرنج الى بصرى ، فحالوا بينهم وبينها ، ووقعت العين على العين ، وقربت المسافة بين الفريقين ، واستظهر عسكر المسلمين على المشركين ، ملكوا عليهم المشرب والمسرب وضايقوهم برشق السهام وإرسال نبل الحمام ، وأكثروا فيهم القتل والجراح وإضرام النيران في هشيم النبات في طرقهم ومسالكهم ، وأشرفوا على الهلاك والدمار ، وحلول البوار ، وولوا الأدبار ، وتسهلت الفرصة في إهلاكهم ، وتسرعت الفوارس والأبطال إلى الفتك بهم ، والمجاهدة فيهم.

وجعل معين الدين يكف المسلمين عنهم ، ويصدهم عن قصدهم ، والتتبع لهم في انهزامهم ، إشفاقا من كرة تكون لهم ، وراجعة عليهم ، بحيث عادوا على أعقابهم ناكصين ، وبالخذلان منهم منهزمين ، قد شملهم الفناء ، وأحاط بهم البلاء ، ووقع اليأس من فلاحهم ، وسلمت بصرى الى معين الدين بعد تقرير أمر من بها ، وإجابتهم على ما اقترحوه من اقطاعاتهم ، ورحل عنها عائدا الى صرخد ، وجرى الأمر في تسليمها إلى معين الدين على هذه القضية ، وعاد العسكران إلى دمشق ووصلاها في يوم الأحد السابع والعشرين من المحرم سنة اثنتين وأربعين ، وأقام نور الدين في الدار الأتابكية ، وتوجه عائدا إلى حلب في يوم الأربعاء انسلاخ المحرم من السنة المذكورة.

وفي هذا الوقت وصل ألتونتاش ، الذي خرج من صرخد إلى الأفرنج بجهله وسخافة عقله ، إلى دمشق من بلاد الأفرنج ، بغير أمان ولا تقرير واستئذان ، توهما منه أنه يكرم ويصطنع بعد الإساءة القبيحة ، والارتداد

٤٥٢

عن الإسلام فاعتقل في الحال ، وطالبه أخوه خطلخ ، بما جناه عليه من سمل عينيه ، وعقد لهما مجلس حضره القضاة والفقهاء ، وأوجبوا عليه القصاص ، فسمل كما سمل أخاه ، وأطلق الى دار له بدمشق فأقام بها.

وفي ذي الحجة من سنة احدى وأربعين ورد الخبر بأن السلطان شاهنشاه مسعودا عمل رأيه وتدبيره على تطييب نفس الأمير عباس ، فسكن إلى ذلك بعد التوثقة بالأيمان المؤكدة والعهود المشددة ووصل إليه الى بغداد ساكنا الى ما كان تأكد من إيمانه على نفسه وجماعته ، وكان السلطان قد تمكن في نفسه من الرعب منه ، والخوف على عسكره من قوة شوكته ، ومشهور هيبته ، وكثرة عدده (١٥٨ و) وعدته ما لم يمكنه ترك الفرصة فيه ، وقد أمكنت ، والغرة قد تسهلت وتيسرت ، فرتب له جماعة للفتك به عند دخوله عليه ، فعوجل عليه بالقتل (١) ونهبت خزائن أمواله وآلاته وكراعه ، وامتلأت أيدي جماعة من نهبها ، وتفرق عسكره في البلاد والأعمال ، وكان له الذكر الحسن والفعل المستحسن ، والأجر الوافر ، والمدح السائر بما كان له في مجاهرة أحزاب الباطنية ، والفتك بهم ، والقمع لهم والحصر في معاقلهم ، والكف لشرهم ، ولكن الأقدار لا تغالب ، والأقضية لا تدافع.

وأما أخبار المغرب ، والحوادث فيه ، فلم تسكن النفس الى إثبات شيء من طوائح أخباره ، وما يؤخذ من أفواه تجاره ، وقد أفردت من أحوال الخوارج فيه ، والفتن المتصلة بين أهليه من الحروب المتصلة ، وسفك الدماء ما لا تثق النفس به ، لاختلاف الروايات وتباين الحكايات ، وكان قد ورد من فقهاء المغاربة من وثقت النفس بما أورده ، وسكنت الى ما شرحه ، وعدده ، وحضرت كتب من أهل المغرب الى أقاربهم ببعض الشرح ، ووافق ورود ذلك

__________________

(١) كان عباس صاحب الري «عسكره أكثر من عسكر السلطان» الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٥.

٤٥٣

في سنة احدى وأربعين وخمسمائة بالتواريخ المتقدمة والحكايات المختلفة ، فرأيت ذكر ذلك وشرحه في هذا المكان : فمن ذلك ظهور المعروف بالفقيه السوسي ، الخارج بالمغرب ، وما آل إليه أمره ، الى أن هلك ، ومن قام بعده واستمر على مذهبه ، وما اعتمده من الفساد ، وسفك الدماء ، ومخالفة الشريعة الإسلامية ، ومبدأ ذلك على ما حكي ظهور المعروف بالفقيه أبي [عبد الله](١) محمد بن تومرت من جبل السوس ، ومولده به ، وأصله مصمودي ، وكان غاية في التفقه والدين ، مشهورا بالورع والزهد ، وكان قد سافر الى العراق وجال في تلك الأعمال ، ومهر في المناظرة والجدال ، واجتمع بأئمة الفقهاء ، وأخذ عنهم ، وسمع منهم ، وعاد إلى ناحية مصر وما والاها ، واجتمع مع علمائها ، وقرأ عليهم ، ثم عاد الى المغرب ودعا إلى مذهب الفكر ، وابتداء ظهوره في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة في مدينة تعرف بدرن (٢) في جبل أوله في البحر المحيط وآخره في بحر الاسكندرية في رأس أوثان ، وغلب على جبل السوس ، واجتمع إليه خلق كثير من قبائل المصامدة بجبل درن ، وقيل أنه وصل الى المهدية وأمر أهلها أن يبنوا قصرا على نية الفكرة ، (١٥٨ ظ) وأن يعبدوا الله فيه بالفكرة ، فاجتمع مشايخ أهل المهدية وفقهاؤها ، وعزموا على بناء ما أمرهم به ، والعبادة لله تعالى فيه ، فقام رجل من كبار الفقهاء ، وقال : نقيم ما أقمنا بالمهدية ، ويجيء إليكم رجل بربري مصمودي ، يأمركم بالعبادة بالفكرة فتجيبون الى ما أمركم به ، وتسارعون الى قبول ما ذكره لكم؟! وأنكر هذا الأمر إنكارا شديدا ، حتى عادوا عنه ، وأبطلوه ، واقتضت هذه الحال خروج الخارجي من المهدية ، إذ لم يتم له فيها أمر ،

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين تقويما. أنظر الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية ، بتحقيقي. ط. الدار البيضاء : ١٩٧٩ ص : ١٠٣.

(٢) كذا ، فدرن اسم الجبل ، وهو ما ندعوه الآن باسم الأطلس الكبير ، وقد ولد وسط هرغة وهي قبيلة بالسوس الأقصى. الحلل الموشية : ١٠٣.

٤٥٤

ولا بلغ غرضا ، وقصد بلدا في الغرب يعرف ببجاية (١) في أيدي بني حماد من صنهاجة ، وشرع في الانكار على أهله شرب الخمور ، وجعل يكسر الأواني الى أن منع من شربها ، وساعده على ذلك ابن حماد (٢) مقدم هذا البلد وحمل إليه مالا ، فامتنع من أخذه ، وتعفف عنه لما أظهره من الزهد في الدنيا ، والتفقه والورع ، ثم خرج من هذا البلد وقصد مدينة أغمات ، فأظهر فيها الزهد وتدريس الفقه ، وصار معه من أتباعه تقدير أربعمائة رجل من المصامدة ، ثم ارتفع أمره ، وظهر شره ، واتصل خبره إلى الأمير ابن يوسف بن تاشفين (٣) وما هو عليه وما يظهره ويطلقه من إباحة دمه ودم أصحابه ، وأهل مملكته ، فاستدعاه الأمير المذكور إلى حضرته ، وجمع له وجوه الفقهاء والمقدمين ، إلى مجلس حفل ووقع الاختيار من الجماعة على فقيه يعرف بأبي عبد الله محمد ابن مالك بن وهيب الأندلسي (٤) ، لمناظرته فناظره في هذا المحفل ، فاستظهر عليه في المناظرة ، وقهره وغلبه ، فقال الخارجي السوسي المناظر له : انظرني ، فأجابه إلى ما طلب ، ثم قال لابن يوسف بن تاشفين ، المقدم : ينبغي أن يأمر الأمير بحبس هذا المفتن ليكشف سره ، ويحقق أمره ، ويظهر لكافة المسلمين صحة خبره ، فإنه لا يريد غير الدنيا والسلطنة والفساد في الأرض ، وقتل

__________________

(١) في الأصل : بجامه ، وهي عبارة مصحفة صوابها ما أثبتناه ، انظر الحلل الموشية : ١٠٦ حيث جاء : «ولما وصل الى المهدية غير بها المنكر ، فرفع أمره الى العزيز ابن الناصر [علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس] فهم أن يأخذه فهرب الى بجاية ، فبلغ خبره لابن حماد صاحبها ، فاختفى وخرج منها».

(٢) في الأصل : ابن حمدون ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا وكان يحكم بجاية من آل حماد يحيى بن العزيز ، انظر أخبار المهدي بن تومرت للبيذق صاحب المهدي ط. الرباط ١٩٧١. ص : ١٣. أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب ط. الدار البيضاء ١٩٦٤ : ٣ / ٩٩.

(٣) علي بن يوسف بن تاشفين. الحلل الموشية : ٩٧ ـ ١٠٢.

(٤) مالك بن وهيب الاشبيلي ، كان فقيها فيلسوفا ، ذكره صاحب المعجب : ١٨٤ ـ ١٨٦. ط. القاهرة ١٩٤٩. أخبار المهدي : ٢٧. الحلل الموشية : ١٠٠.

٤٥٥

النفوس ، فما حفل بكلامه ، ولا أصغى إلى إشارته ، وتغافل عنه للأمر المقضي ، وأعان هذا الخارجي قوم من المقدمين على مرامه وحامى عنه (١).

ثم عاد إلى السوس إلى جبل درن ، وكان يقول للناس : كلما قربتم من المرابطين وملتم إليهم ، كانوا مطاياكم إلى الجنة ، لأنهم حماة الدين والذابّون عن المسلمين ، ثم حمل المرابطين والملثمين ، وقد مال معه منهم الخلق الكثير والجم الغفير على محاربة الأمير علي بن يوسف بن تاشفين (٢) وجمع عليه وحشد ، وقويت نفسه (١٥٩ و) ونفوس من معه على اللقاء ، ومعهم أصحاب القوة والبسالة ، وشدة البأس والشجاعة ونشبت الحرب بين الفريقين ، وأريقت الدماء بين الجهتين ، ولم تزل رحى الحرب دائرة بينهم الى أن كان بينهم في عدة سنين متوالية أربعة مصافات هائلة منكرة ، قتل فيها من الفريقين ما قدر وحزر تقدير مائتي ألف نفس ، ولم تزل الحرب على هذه القضية الشنيعة ، والصفة الفظيعة الى أن أهلكه الله تعالى بمدينة درن في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة (٣) ، وخلف جماعة من تلامذته وأصحابه ، سلكوا سبيله ، وبنوا على بنائه ، وسلكوا مذهبه في الفساد ، وتولد بينهم مذهب سموه «تكفير الذنب» (٤) ، هذا ما أورده وحكاه وشاهده ، واستقصاه الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الجبار الصقلي بإملائه من لسانه.

__________________

(١) ممن دافع عنه القائدان ينتان بن عمر ، وسير بن وربيل. أخبار المهدي : ٢٨.

(٢) كذا وهو وهم ، فالمهدي حارب المرابطين والملثمين وأميرهم علي بن يوسف ، حاربهم بمصمودة وسواها من القبائل. انظر المصادر المذكورة أعلاه.

(٣) كذا وهو وهم ، فقد توفي المهدي في تينملل في جبل درن «يوم الاثنين الرابع عشر لشهر رمضان المعظم من عام أربعة وعشرين وخمسمائة». الحلل الموشية : ١١٧.

(٤) يبدو أن المقصود بهذا ما يعرف في المصادر المغربية والأندلسية باسم «التمييز» حيث كانت تجري مذابح كبيرة جدا.

٤٥٦

ثم تناصرت الأخبار بعد ذلك من ناحية المغرب ، بظهور أحد تلامذة المذكور يعرف بالفقيه عبد المؤمن ، فلقب بالمهدي ، أمير المؤمنين وخليفة المهدي إلى سبيل الموحدين (١) ، واجتمع اليه مع من كان في حزبه من طوائف السوس ، والبربر ، والمصامدة ، والمرابطين ، والملثمين ما لا يحصى له عدد ، ولا يدركه أمر ، وشرع في سفك الدماء ، وافتتاح البلاد المغربية بالسيف والقتل لمن بها من الرجال والحرم والأطفال ، ما شاعت به الأخبار وانتشر ذكره في سائر الأقطار ، ووردت مكاتبات السفار والتجار ، ومن جملتها كتاب وقفت عليه من هذا الخارجي ما نسخة عنوانه :

من أمير المؤمنين ، وخليفة المهدي إلى سبيل الموحدين إلى أهلية (٢).

بسم الله الرحمن وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

أما بعد : يا عضد الفجار ، وعناد الفساق الأشرار ، فقد كاتبناكم بالبنان ، وخاطبناكم بالبيان ، حتى سار كالبدر ، واستمر مرور الدهر ، فلم تجيبوا ، ولا أطعتم ، بل تثاقلتم عن الحق ، وعصيتم ، وإن الله سينتقم منكم لأوليائه نقمة من كان قبلكم من الأمم الجاحدة ، والفرق المعاندة ، فانتظروا سيف الدم ينهلكم ، وحجارة المدر تدمغكم ، ثم لا يكون لكم استرجاع ، ولا يقبل فيكم استشفاع ، وهذه خيل الله قد أظلتكم وبلها ، وطمى عليكم سيلها ، فتأهبوا للموت ، والسلام على من اتبع (١٥٩) الهدي هداه ، ولم يغلب عليه هواه ورحمة الله وبركاته.

__________________

(١) كذا وفي الخبر وهم وفي العبارة اضطراب ، فابن تومرت أعلن مهدي زمانه ، أما عبد المؤمن فقد «لقبه الموحدون بالخليفة أمير المؤمنين» انظر الحلل الموشية ١٠٧ ـ ١٠٨ ، ١٤٢.

(٢) هذه الرواية شاذة ، ففي عدد من رسائل عبد المؤمن وصلتنا نصوصها ونشرت في كتاب رسائل موحدية. ط. الرباط : ١٩٤١ نجد مطلع كل رسالة هو : «من أمير المؤمنين ، أيده الله بنصره ، وأمده بمعونته الى ...» هذا ولم أجد الرسالة التي أوردها ابن القلانسي في هذا المجموع.

٤٥٧

سنة إثنين وأربعين وخمسمائة

في صفر منها عاد الحاجب محمود الكاتب من بغداد ، بجواب ما صدر على يده من المكاتبات المعينة ، ومعه رسولا للخليفة والسلطان وعلى أيديهما التشريف برسم ظهير الدين ومعينه ، ولبساه وظهرا فيه في يوم السبت الثامن عشر من ربيع الآخر ، وأقاما أياما ، وعادا بجواب ما وصل معهما.

وورد الخبر عقيب ذلك من بغداد بأن السلطان كان قد توجه منها بعد قتل الأمير عباس ، في العسكر الى ناحية همذان ، عند انتهاء الأخبار إليه بأن الأمير [ابن] عباس ، وعسكره قد انضاف إلى الأمير بوزبه ، وصارا يدا واحدة ، في خلق عظيم ، وقصدا ناحية أصفهان ، ونزلا عليها وضايقاها الى أن أسلمت الى بوزبه بأسباب اقتضت ذلك ، ولما حصل السلطان بظاهر همذان تواصلت العساكر من كل جهة إليه ، وصار في خلق كثير.

ووردت الأخبار إلى بغداد بأن السلطان لما كثف جمعه ، وقويت نفسه ، وقصد المذكورين ، وقصدوه ، وترتب المصاف بينهم ، والتقى المصافان ، ومنح الله السلطان النصر عليهم ، وكسرهم ، وقتل بوزبه وابن عباس ، واستولى عسكر السلطان على الفل والسواد. وحكى الحاكي المشاهدة لهذه الوقعة في كتابه بشرحها ، ما ذكر فيه أن مبدأ الفتح أن السلطان كان في مخيمه بباب همذان في تقدير ثلاثة آلاف فارس ، وبوزبه في عسكره على باب أصفهان في خلق عظيم ، وأن بوزبه لما عرف ذلك طمع فيه ونهض في عسكره إليه وقطع مسافة ثلاثين فرسخا في يوم وليلة ووصل إلى قراتكين (١) وقد كلّت الخيل ونزل هناك ، فلما عرف السلطان ذلك التجأ إلى بساتين همذان ، وجعلها

__________________

(١) في الأصل مكر بايكان وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا ، وهو موقع على مرحلة من همذان ، انظر راحة الصدور : ٣٤٨ ـ ٣٥٠. تاريخ دولة آل سلجوق : ٢٠٠ ـ ٢٠١. الكامل : ٩ / ١٦.

٤٥٨

ظهره مع جبلين هناك ، ووصل إليه الأمير جندار صاحب أذربيجان (١) في ألف فارس ، ووصله الأمير ايلدكز (٢) في خمسة آلاف فارس ، ووصله خاصبك بلنكري (٣) في إثني عشر ألفا ، قويت بهم شوكته ، ونهض إلى جهة بوزبه عند ذلك ، وعبأ كل فريق منهما مصافه في يوم السبت من شهر (٤) ... منذ غداته إلى وقت العصر منه ، وكسرت الميمنة السلطانية ، وفيها الأمير (٥) جندار (١٦٠ و) والميسرة فيها الأمير تبر ، وبقي السلطان في القلب ، وعرف أن بوزبه يقصده ، فقال للأمير جندار : أنا المطلوب أقم أنت مكاني تحت الشمسة ، فإن بوزبه يطلبها لقصدي ، ففعل ونهض السلطان في جملة وافرة من العسكر ، وجاء من وراء عسكر بوزبه ، وحمل بوزبه وقصد مكان السلطان تحت الشمسة ، فلما قرب بوزبه في حملته من الشمسة كبابه جواده ، وسقط إلى الأرض ، فانفل عسكره ، وأدركته الخيل ، فأخذ هو وخواصه وابن عباس ، ووزير بوزبه يقال له صدر الدين بن الخوجندي وكان قد أعان بوزبه على تسلم أصفهان ، فجازاه على ذلك باستيزاره (٦).

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر ، وصل رسول مصر إلى دمشق بما صحبه من تشريف وقود ومال برسم ظهير الدين ومعينه ، على جاري الرسم في مثل ذلك.

__________________

(١) في الأصل : «حيدر صاحب زنكان» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا. انظر المصادر المذكورة سابقا.

(٢) في الأصل «أكز» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا. انظر المصادر السابقة.

(٣) في الأصل : «بلنكي» وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا. انظر المصادر السابقة.

(٤) لم أعثر في المصادر على من حدد شهر المعركة ، الذي جاء فراغا بالأصل.

(٥) هو جاولي بك الجندار صاحب أذربيجان.

(٦) صدر الدين بن الخجندي هو محمد بن عبد اللطيف ، كان من كبار علماء الشافعية ، توفي سنة ٥٥٢ ه‍ ، ترجم له السبكي في طبقات الشافعية الكبرى. ط. بيروت : ٤ / ٨٠ ، ونقل أنه «كان إماما فاضلا مناظرا ، فحلا واعظا ، مليح الوعظ ، سخي النفس جوادا ... وكان بالوزراء أشبه من العلماء ... وكان لرياسته يمشي وحوله السيوف».

٤٥٩

وفي ليلة الجمعة الثالث من شهر ربيع الأول من السنة توفي الفقيه شيخ الاسلام أبو الفتح ، نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي ، بدمشق رحمه‌الله ، وكان بقية الفقهاء المقيمين على مذهب الشافعي رحمه‌الله ولم يخلف مثله بعده (١).

وفي جمادى الآخرة منها ، تقررت ولاية حصن صرخد للأمير مجاهد الدين بزان بن مامين ، على مبلغ من المال والغلة ، وشروط وأيمان دخل فيها ، وقام بها ، وتوجه اليه ، وحصل به في النصف من الشهر المذكور ، واستبشر من بتلك الناحية من حصوله فيه ، لما هو عليه من حب الخير والصلاح والتدين والعفاف ، عقيب من كان قبله ، ممن لا يدين لله بدين ولا صلاة ، ولا إنصاف ولا نزاهة نفس ، ولا جميل فعل.

وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بأن رضوان بن ولخشي ، المنعوت كان بالأفضل ، وزير صاحب مصر ، الذي كان معتقلا بالقصر ، وقد تقدم ذكره فيما مضى ، نقب من المكان الذي كان فيه الى مكان ظاهر القصر ، نقبا يكون تقدير طوله أربعون ذراعا ، واجتمع إليه خلق كثير من العسكرية ، ممن كان يهواه ، ويتولاه في العشر الأخير من ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وأنه راسل سلطان مصر يلتمس منه إعادته الى منصبه وإخراج المال لينفق على العسكرية والأجناد ، فعاد الجواب إليه بالوعد (١٦٠ ظ) بالإجابة على سبيل المغالطة والمدافعة ، الى حين دبّر الأمر عليه ، ورتب له من الرجال الأجلاد

__________________

(١) ترجم له السبكي في الطبقات الكبرى : ٤ / ٣١٩ وقال عنه : «الشيخ أبو الفتح المصيصي ثم اللاذقي ثم الدمشقي ، الامام فقها وأصولا وكلاما ، مولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ونشأ بصور وسمع بها ... وبدمشق ... وببغداد. وبالأنبار ... ثم سكن دمشق ودرس بالزاوية الغربية وهي الغزالية ... وبه كثرت أوقافها ، لأن كثيرا من الناس وقفوا بعده عليها ، ومنهم من وقف عليها ابتداء بواسطته ، وهو أيضا وقف شيئا جيدا».

٤٦٠