من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

ويبين القرآن السبب الرئيسيّ الآخر الذي يؤدّي بالإنسان إلى الشقاء والعذاب في الحياة وهو أولا : فقدانه بركة رسالات الله وآياته ، وثانيا : اتباعه المناهج البشرية الضالة ، واعتماده على فكره الضّحل وتقديره الخاطئ.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ)

والتفكير هو تقليب وجوه الرأي ، بينما التقدير هو تحويل التفكير إلى خطة بعد الدراسة ، يقال فكّر في الأمر وتفكّر ، إذا نظر فيه وتدبّر ، ثم لمّا تفكّر رتّب في قلبه كلاما وهيّأه ، وهو المراد من قوله : «وقدّر» (١) ، وفي تفسير الميزان قال العلّامة الطباطبائي : والتقدير عن تفكير نظم معاني وأوصاف في الذهن بالتقديم والتأخير ، والوضع والرفع لاستنتاج غرض مطلوب ، وقد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئا يبطل به دعوته (٢). ولقد توهّم الوليد بتفكيره وتقديره أنّ تهمة السحر ستدحض الحق .. وليس الأمر كذلك.

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)

ولقد ذمّ الله تفكيره لأنّه فكّر فكرا يحتال به للباطل ، ولو فكّر على وجه طلب الرشاد لم يكن مذموما بل كان ممدوحا (٣) ، لأنّ التفكير والتخطيط بإعمال العقل على ضوء المعلومات والمعطيات أمر حسن بذاته ، وإنّما جاءت رسالات الله وبعث الأنبياء لغرض إصلاح الناس وهدايتهم باستثارة العقول.

بلى. إنّ العقل بذاته وسيلة خير وصلاح ، وهو يعمل لصالح الإنسان ، ولكن بشرط أن يكون خياره الأول صحيحا ، أمّا لو اختار الباطل ثم استثار عقله في هذه

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٠٠.

(٢) الميزان / ج ٢٠ ص ٨٦.

(٣) التبيان ج ١٠ ص ١٧٧ بتصرف.

٨١

القناة فلن يجني من تفكيره وتقديره سوى الضلال والعذاب ، ويسمّى ذلك بالمكر وهي حيل الشيطان ، وهكذا الفكر ، وذلك أنّه سلاح ذو حدّين ، يكون تارة لصالح صاحبه وخير البشرية إذا كان قائما على أساس العقل ، ويكون أخرى أداة لدمارها ووسيلة لإشعال الحروب ، كما تفعل خبرات القوى الاستكبارية في هذا العصر.

إنّ الإنسان قادر على نيل الحياة بالتفكير والتقدير إذا اختار مسبقا هدفا نبيلا واتخذ فكره وسيلة لتحقيقه ، فالمهم ليس أن تفكّر وتقدّر بل الأهم لما ذا تمارس التفكير والتقدير ، وإلى ذلك يوجّهنا القرآن بطرح السؤال : «كيف قدّر» مكرّرا؟

ويصف عليّ بن إبراهيم القمّي حالة الوليد عند ما فكّر وقدّر ويقول : نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخا كبيرا مجرّبا من دهاة العرب ، وكان من المستهزئين برسول الله (ص) ، وكان رسول الله (ص) يقعد في الحجرة ويقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة ، فقالوا : يا أبا عبد الشمس ما هذا الذي يقول محمد أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنا من رسول الله (ص) فقال : يا محمد أنشدني من شعرك ، قال : «ما هو شعر ، ولكنّه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه» فقال : اتل عليّ منه شيئا ، فقرأ رسول الله (ص) حم السجدة ، فلمّا بلغ قوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا) (يا محمّد أعني قريشا) (فَقُلْ) (لهم) (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فاقشعرّ الوليد ، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته ، ومرّ إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك ، فمشوا إلى أبي جهل فقالوا : يا أبا الحكم إنّ أبا عبد الشمس صبا إلى دين محمد أما تراه لم يرجع إلينا؟ فغدا أبو جهل فقال له : يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا وأشمتّ بنا عدوّنا وصبوت إلى دين محمد ، فقال : ما صبوت إلى دينه ، ولكني سمعت منه كلاما صعبا تقشعرّ منه الجلود ، فقال أبو جهل : أخطب هو؟ قال : لا. إنّ الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور

٨٢

ولا يشبه بعضه بعضا ، قال : أفشعر هو.؟ قال : لا. أما أنّي قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر ، قال : فما هو؟ قال : دعني أفكّر فيه ، فلمّا كان من الغد قالوا : يا أبا عبد الشمس ما تقول فيما قلناه؟ قال : قولوا هو سحر فإنّه أخذ بقلوب الناس (١). لقد انتهى به تفكيره القائم على أساس العناد إلى هذه النهاية الخاطئة ، فتفوّه بهذا الباطل ، وكان من الممكن أن يوصله العقل إلى ساحل الأمن والهدى ، ولكنّه لم يفكّر ويقدّر حينما فكّر وقدّر بمنهجية موضوعية ومنطلقات سليمة ، إنّما مارس كلّ ذلك بهدف تضليل الآخرين ، وتبرير ما هو عليه من الباطل والضلال لنفسه أمام وجدانه أولا ثم للناس المغرورين به ، فأوقع نفسه في الشقاء ، واستحقّ بذلك اللعنة والعذاب.

(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)

وتكرار اللعنة بالقتل عليه دلالة على استحقاقه ضعفا من العذاب ، الأول على عناده الآيات الربانية ، والآخر على اتباعه هواه وبنات فكره بدل تشريع الله ، أو يكون أحدهما جزاء التفكير المنحرف ، والثاني جزاء التقدير الخاطئ. قال العلّامة الطبرسي : هذا تكرير للتأكيد ، أي لعن وعذّب ، وقيل : لعن بما يجري مجرى القتل ، وقيل : معناه لعن على أيّ حال قدّر ما قدّر من الكلام ، كما يقال : لأضربنه كيف صنع ، أي على أيّ حال كان عليه (٢).

بلى. إنّ الناقد المنصف لا يستطيع إلّا التسليم بصدق الرسول ، وأنّ الرسالة حق ، ولكنّ الوليد وأمثاله من المترفين وأعداء الحق لم يكونوا كذلك ، بل سعوا إلى الانتقاد عبر منهجية خاطئة تتركّز على العزّة بالإثم ، والمواقف العدائية السابقة ،

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٩٣.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٨٨.

٨٣

وهذه من المؤثرات السلبية على نتيجة أيّ بحث وتفكير ، ولعلّ السبب يعود إلى حالتهم الاجتماعية إذ هم من المستكبرين الذين يبنون كيانهم على أساس الظلم واستثمار المحرومين وقهر المستضعفين ، فأنّى لهم القبول بقيادة ربّانية تفتخر بأنّها من الفقراء ، وتسعى من أجل إسعاد المحرومين ، وتحرير المستضعفين من نير المترفين.

(ثُمَّ نَظَرَ)

والأقرب أنّ النظر هنا بمعنى إعمال الفكر والبصر ، فإنّ الطغاة المستكبرين حينما يريدون تضليل الناس عن الحق يفكّرون ويقدّرون أولا ثم ينظرون مفتّشين عن ثغرات وأساليب لبثّ أفكارهم وتقديراتهم ونشرها بين الناس ، فوسائل الاعلام المضللة من إذاعات وتلفزة وصحافة وحتى وسائل التثقيف والتربية التي تروّج ثقافة الباطل ، وتبثّ الإشاعات ضد المؤمنين والقيادات الرسالية .. إنّها لا تتحدث اعتباطا ، بل هناك وراء القناع خبراء إعلاميون ونفسيون وسياسيون و.. و.. يخطّطون للتضليل ، وهذه سمة للأنظمة الفاسدة .. فإلى جانب فرعون كان هامان وجنود كثيرون متخصصون في كلّ في جانب من الجوانب ، ومن قصة قريش وأبي جهل مع الوليد يتضح أنّه من قياداتهم وعقولهم المدبّرة ، وهناك إشارات إلى هذا التفسير وجدتها لدى بعض المفسرين ففي البصائر : أي نظر في وجوه قومه (١) ، وفي الميزان : أي ثم نظر بعد التفكير والتقدير نظر من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه (٢).

وبعد أن اختمرت الفكرة الشيطانية في رأسه بدأ حركته نحو الإنتاج والإخراج كي تكون أمضى أثرا في نفوس الآخرين ، فإذا بكلّ ملامحه مشحونة بأمارات الحقد

__________________

(١) البصائر ج ٥٠ ص ٣٦٢.

(٢) الميزان ج ٢٠ ص ٨٧.

٨٤

والغيظ على الرسالة والرسول (ص).

(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ)

وهذه المظاهر الخارجية وأخرى غيرها ملامح لحالات نفسية من الحقد والعناد يعكسها القرآن بأسلوبه التصويريّ البديع ، وإنّها لطبيعة في الإنسان أن تبدو على مظهره علامات مخبره بحيث يقول علماء النفس أنّك تستطيع قراءة داخل الإنسان بمظاهره ، وفي الحديث الشريف قال أمير المؤمنين (ع) : «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه» (١).

قال القمي : العبوس للوجه ، والبسور إلقاء الشدق (٢) ، وعن قتادة قال : قبض ما بين عينيه وكلح (٣) ، وفي فقه اللغة للثعالبي : إذا زوي ما بين عيني الرجل فهو قاطب عابس ، فإذا كشّر عن أنيابه مع العبوس فهو كالح ، فإذا زاد عبوسه فهو باسر مكفهر (٤) ، وذكر اللغويون الاستعجال كواحد من معاني البسور يقال : بسر الغريم أي تقاضاه قبل الأجل ، وبسر الدمّل : عصره قبل نضجه ، وبسر الفحل الناقة قبل الضبعة أي قبل أن تطلب اللقاح (٥) ، فكان الباسر في وجه أحد يستعجل به الأذى والشر ، وبذلك قال الراغب في مفرداته (٦).

وقد تعبّر عن العبوس والبسور المفردات والتصرفات التي تصدر عن الإنسان بقلمه وفيه ومواقفه ، فالطاغوت قد يعبّر عن عبوسه وبسورة وجهه ، وقد تظهر في قمعه

__________________

(١) نهج البلاغة حكمة ٢٦ ص ٤٧٢.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٩٤ بتصرف.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٣.

(٤) فقه اللغة للثعالبي ص ١٤٠.

(٥) البصائر ج ٥٠ ص ٢٨٠ وإلى مثله ذهب صاحب المنجد.

(٦) مفردات الراغب مادة بسر.

٨٥

الجنوني للمعارضة والجماهير ، وما يقصّه القرآن الكريم عن الوليد بن المغيرة ليس إلّا شاهدا على طبيعة الموقف الذي يتخذه المترفون في كلّ مكان وزمان ضد الدعوات الإصلاحية ، فإنّهم باعتبارهم بؤرة الفساد في المجتمع أول المتضررين بهذا التغيير ، ولهذا يكونون طليعة المعارضة للحق.

(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ)

بلى. إنّه فكّر في الموقف من الرسالة ، كان يريد الوصول إلى أفضل طريقة للمعارضة والتضليل .. بل وتبرير كفره أمام عقله وضميره ، ولكنّه كلّما أعمل فكره ونظره كلّما تجلّت له الحقيقة وعاد بصره خاسئا وهو حسير ، وكان من المفروض أن يقبل على الإيمان بالحق ، ويتواضع له عن مراتب النفور والاستكبار والاعتزاز بالإثم ، إلّا أنّه أصرّ على الكفر من لحظته الأولى فازداد إدبارا ، وحيث اختار موقف الكفر فكّر مرة أخرى لتبرير موقفه من الحقّ المبين ، فما وجد تهمة أصلح ـ في نظره ـ من قذف الرسالة بالسحر.

(فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ)

ولكلمة «يؤثر» هنا معنيان ربما أرادهما السياق معا :

الأول : ينقل عن الآخرين ، وقد اتفق أكثر المفسرين عليه ، أي يؤثره عن غيره من القوى القادرة عليه كالسحرة والشياطين ، من قولهم : اثرت الحديث اثره أثرا إذا حدّثت به عن قوم في آثارهم ، ومنه قولهم : حديث مأثور عن فلان.

الثاني : تميل إليه النفوس وتفضّله على غيره ، قال في المجمع : وقيل هو من

٨٦

الإيثار ، أي سحر تؤثره النفوس ، وتختاره لحلاوته فيها (١) ، وبذلك سعى الطاغية للتقليل من شأن أمرين مهمّين : أحدهما : معجزة القرآن العظيمة بظاهره ومحتواه ، والآخر : ظاهرة الاستجابة للرسالة الجديدة والدخول في دين الرسول ، ومن ثمّ كان الوليد ـ كما هو حال أيّ طاغية ومترف ـ يسعى لتحقيق عدة أهداف خبيثة من وراء هذه الشائعة الضالة :

١ ـ تبرير هزيمتهم في الصراع المبدئي والحضاري مع الإسلام بقيمه وقيادته وحزبه.

٢ ـ تضليل الناس عن الحق ووضع حدّ لزحفهم باتجاه الدخول في الدين الجديد.

وقد جعل تهمة القرآن بالسحر مدخلا إليه لحلّ عقدة تواجه كلّ من يحارب الذكر الحكيم ، ألا وهي أنّ آثار الحكمة والعلم الإلهية واضحة في آياته. وإنّها لتهدي كلّ ذي لبّ منصف إلى كونها متنزّلة من عند ربّ العزة ، وباعتراف الوليد نفسه حينما قال : سمعت منه ـ يعني الرسول (ص) ـ كلاما صعبا تقشعرّ منه الجلود .. لا خطب ولا شعر ، فمستحيل إذن أن ينسبه إلى المخلوقين من دون مقدّمة ، فالمسافة بينه وبين كلام المخلوقين لا تحدّ وفضله عليه لا يوصف ، وهو كفضل الله على سائر خلقه .. ومن هذه المقدمة انطلق إلى ما أراد قوله بالضبط.

(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)

فمتى ما أوصل هذه القناعة إلى أذهان الناس تقدّم خطوات أساسية في الصراع ضد الرسالة الربانية في زعمه ، ومن أجل هذا الهدف جنّد طاقاته .. ففكّر وقدّر ..

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٨٨.

٨٧

أنّه يستطيع إلى ذلك سبيلا ، وغاب عنه أنّ معجزة القرآن أعظم من أن يحجب نورها تقدير الإنس والجن لو تظاهروا ، فكيف بجاهل سفيه كالوليد بن المغيرة؟! «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ»؟!

من هنا فشلت كلّ جهوده ومساعيه الرامية إلى تضليل الناس عن الحقّ وحجبهم عن نوره ، بل وحكم على نفسه بتفكيره وتقديره الخاطئين بالخسارة وباللعنة التي خلّدها القرآن في الأجيال بعد الأجيال في الدنيا ، وجرّ نفسه إلى الهلاك والعذاب المهين في الآخرة ، وأعظم منه غضب الله الذي توعّده بسقر فقال :

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)

قال في التبيان : أي ألزمه جهنم ، والاصطلاء إلزام موضع النار .. وأصله اللزوم (١) ، وصلى الكفّار بالنار جعلها أكثر وأشد مساسا بهم ، قال الإمام الصادق (ع) : «ان في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر ، شكا إلى الله عزّ وجلّ حرّه ، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفّس فأحرق جهنم» (٢) ، وعن ابن عباس قال : سقر أسفل الجحيم ، نار فيها شجرة الزقوم (٣) ، وإنّها من رهبتها وما تتميّز به من الصفات لا يستطيع بشر أن يتصوّر مداها ويعي حقيقتها.

(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ)

وفي هذه الصيغة استثارة للإنسان نحو السعي إلى المعرفة ولو بصورة إجمالية ، والقرآن يبيّن بعض صفات سقر فيقول :

(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)

__________________

(١) التبيان ج ١٠ ص ١٨٠.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٥٧.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٣.

٨٨

قيل : لا تبقيهم أحياء فهي تميتهم ، ولا تترك لأبدانهم أثرا فهي لا تذرهم ، أي أنّ لها أثرين : الأول على الروح ، والآخر على الجسم ، وقيل : أنّ الكلمتين مترادفتين في المعنى مختلفتين في الدرجة والأثر ، وذكرهما معا يفيد المبالغة والتأكيد ، وقال في التبيان : قيل : لا تبقي أحدا من أهلها إلا تناولته ، ولا تذره من العذاب (١) ، وفي الميزان قال العلّامة الطباطبائي : لا تبقي شيئا ممّن نالته إلّا أحرقته ، ولا تدع أحدا ممّن ألقي فيها إلّا نالته ، بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه (٢) ، وعن مجاهد قال : لا تحيي ولا تميت (٣) ، واستدل صاحب الميزان على هذا الرأي بقوله تعالى : «الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» (٤) ، والأقرب عندي أنّ معنى «لا تبقى» لا تدع أحدا من الناس الذين فيها باقيا بل تفنيهم جميعا ، ومعنى «لا تذر» أي لا تذر شيئا من أيّ واحد منهم ، فالأول يشمل كلّ من فيها ، والثاني يتسع لكلّ جزء ممّن فيها ، وهو أعظم ، وهذه ـ فيما يبدو لي ـ صفة النار مع قطع النظر عن صفة جهنم التي يجدّد الله فيها ما تحرقه النار ، فلا منافاة بينها وبين قوله سبحانه «لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» إذ الحديث عن النار هنا جاء بقدر فهمنا لها وحسب مقاييسنا. ولعل من المعاني : أنّ سقر من حيث شدة العذاب ونوعيته لا تبقي من يلقى فيها ، ومن حيث المدة والملازمة فإنّها لا تترك أهلها أبدا ، وهذا يهدينا إلى أنّ أهلها من الخالدين في العذاب ، فلا تترك سقر أهلها بل يبقون خالدين في العذاب ، لأنّ الاحتراق هناك ليس احتراقا عاديا وإنّما هو احتراق يشبه الاحتراق الذري الذي لا ينتهي ، والله العالم.

وصفة أخرى لسقر هو تلويحها أهلها.

__________________

(١) التبيان ج ١٠ ص ١٨٠.

(٢) الميزان ج ٢٠ ص ٨٨.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٣.

(٤) الأعلى ١٢ / ١٣.

٨٩

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)

في المنجد : ألاح فلانا أهلكه (١) فهي المهلكة للبشر ، ويقال : لوّح فلانا بالعصا والسيف والسوط والنعل : علاه بها وضربه (٢) ، وقيل : المعطشة ، تقول العرب : إبل لوحى ، ورجل ملواح أي سريع العطش ، ويقال لمن ضربته الشمس وغيّرت لونه لوّحته تلويحا ، وكأنّ سقر من حرارتها تغيّر جلود أهلها ووجوههم.

وحين يرد المجرمون وادي سقر يستقبلهم ملائكة غلاظ شداد .. هم مالك وثمانية عشر ، أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، تسع كفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر ، نزعت منهم الرحمة ، يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم (٣).

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)

وتحتمل الآية معان عدة :

الأول : المعنى الظاهر وهو أنّ خزنة سقر هذه عدتهم ، وليس ذلك بالقليل إذا كانت صفتهم كما ذكر صاحب المجمع ، بل إنّه تعالى قادر أن يجعل عليها واحدا يدير شؤونها ويعذّب أهلها أشد أنواع العذاب.

الثاني : أنّ التسعة عشر خزنة وادي سقر فقط ، ولبقية أجزاء جهنم خزنة آخرون.

الثالث : أنّ العدد المذكور هم بمثابة القوّاد والمدراء ، وتحت إمرتهم ما لا يدرك

__________________

(١) المنجد مادة لوح.

(٢) المصدر.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٨٨.

٩٠

عددهم إلّا الله من الملائكة ، وإلى هذا المعنى إشارة في قول الله : «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» ، والجهل بهذه الحقائق هو الذي دفع المشركين إلى الاستهزاء ، وكفرهم بالغيب .. قال أبو جهل يوما : يا معشر قريش! يزعم محمد أنّ جنود الله الذين يعذّبونكم في النار تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عددا ، أفيعجز مائة رجل منكم عن رجل منهم؟! (١) ، وقال رجل من قريش يدعى أبا الأشد : يا معشر قريش! لا يهولنّكم التسعة عشر ، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة ، وبمنكبي الأيسر التسعة (٢) فأنزل الله : «الآية ٣١».

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً)

إنّ الله يمتحن عباده بما يشاء ، وممّا يمتحنهم به أمرهم بالإيمان بالغيب ، وكلّما كان الغيب أشدّ غموضّا كلّما صعب الإيمان به ، وكان أرفع درجة في القرب من الله ، ولذلك جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) : «إنّا صبّر وشيعتنا أصبر منا» (قال الراوي) قلت : جعلت فداك! كيف صار شيعتكم أصبر منكم؟! قال : «لأنّا نصبر على ما نعلم ، وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون» (٣) ، ولقد جعل الله الإيمان بالغيب ركنا أساسيا في الشخصية الإيمانية ، ومن هذا المنطلق أخفى كثيرا من الحقائق كالموت والبرزخ والآخرة ، فأمّا الكفار والمشركون والذين في قلوبهم مرض فإنّ الغيب يزيدهم فتنة ونفورا ، ليس لأنّه لا واقعية له ، فالآيات الهادية إليه كثيرة ، وإنّما لأنّ الإيمان به درجة رفيعة من العلم والإيمان ، لا يصل إليها إلّا عباد الله المتميّزون المتقون «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» (٤) ، وسبيل المؤمنين إلى اليقين بالغيب أمران :

__________________

(١) أسباب النزول للسيوطي ص ٢٢٤.

(٢) المصدر أخرجه السدي.

(٣) موسوعة بحار الأنوار ج ٧١ ص ٨٠.

(٤) البقرة ٣.

٩١

أحدهما : الآيات والحجج الهادية إليه ، فمن آثار الحكمة والعلم والنظام المتجلية في الكون يهتدون إلى الإيمان بربهم ، ومن شواهد سنّة الجزاء في التاريخ والواقع يؤمنون بالجزاء الأعظم في الآخرة ، فهم لا ينتظرون أن تلامس جلودهم النار ، وتبصر أعينهم الملائكة ، ويقعون في قبضة الموت حتى يؤمنوا بكلّ ذلك ، إنّما يكتفون بظهور الآيات والحجج .. وهذه من أهمّ الخصائص التي تميّز العاقل عمّن سواه.

الثاني : إيمانهم بالله عزّ وجلّ كما وصف نفسه وتجلّى في كتابه وخلقه بأسمائه الحسنى ، فهم يؤمنون بالله القادر ، القاهر ، العليم ، الرحمن الرحيم و.. و.. إيمانا قائما على اليقين والمعرفة. ومتى ما بلغ الإنسان هذه الغاية صار مسلما بكلّ الحقائق الغيبية ، فلا يشك في الجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب ، لأنّ الله الذي وعدنا بهما مطلق القدرة لا يعجزه شيء أبدا ، ولا يدخل في نفق الجدال والشك في عدد أصحاب النار وصفاتهم ، بل يسلّم بما يسمعه عن الله تسليما مطلقا. ولأنّ الكفّار والمشركين ومرضى القلوب لم يبلغوا هذه الغاية الأساسية صاروا إلى الشك في حقائق الغيب ، بل في حقائق الشهود أيضا ، فإذا بواحدهم يشك في أصل وجوده ، كما فعل السوفسطائيون!

إنّ المؤمن ليس مسلّما لله بفعله وقوله فقط ، بل هو مسلّم بعقله وعلمه أيضا ، ففي سلوكه ومواقفه لا يخالف الحق ، وفي داخله لا يثير أدنى تساؤل شكّي حول آيات ربه .. وهذه من أهم مرتكزات الإيمان والإسلام ، كما قال الله : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (١) .. بلى. قد لا ندرك خلفيات بعض الأحكام الإلهية ، وقد لا نستوعب بصورة تامة بعض الحقائق ، ولكنّ ذلك ليس مبرّرا للكفر بها أبدا في منطق الإسلام ولا عند العقلاء ، وهذه قيمة علمية مسلّمة ومن صفات الراسخين في

__________________

(١) النساء ٦٥.

٩٢

العلم ، قال تعالى : «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (١) ، فالراسخون في العلم ـ غير أهل البيت ـ قد لا يدركون تأويل بعض الآيات ولكنّهم لا يكفرون بها ، فذلك ليس من منطق العقلاء وأصحاب الألباب ، وإلّا لكان الكفر بالله أولى من كلّ شيء لأنّنا قاصرون عن إدراك كنهه ومعرفة ذاته!

إنّ في قلوب الكفّار والمشركين لمرضا عضالا هو كفرهم بالله ، وذلك الكفر الذي تأباه عقولهم وفطرتهم ومن ثمّ اتباعهم الباطل بصورة مفضوحة ، ولذا فإنّهم يبحثون دائما عمّا يبرّر لهم هذا الموقف ، فإذا بهم يختلفون في عدد الملائكة وألوانهم وأشكالهم ، بدل أن يسلّموا لآيات الذكر الحكيم. وما ذا ينفعهم الاطّلاع على ذلك؟ هل ينجيهم من عذب النار؟ كلّا ..

(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)

فهي من جهة تزيدهم ضلالا ونفورا ، ومن جهة أخرى تظهر حقيقة معدنهم وشخصيتهم ، كما تظهر النار طبيعة المعدن ذهبا وغيره ، بينما ترفع هذه الآية وما تبيّنه من حقيقة المؤمنين درجة رفيعة في الإيمان .. حيث اليقين والتسليم بآيات الله ووعوده.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)

قيل هم اليهود والنصارى ، وسبب استيقانهم أنّه مذكور في كتابهم (التوراة

__________________

(١) آل عمران ٧.

٩٣

والإنجيل) أنّ هذه عدّة ملائكة سقر ، وحيث يبيّنها القرآن فذلك يدعوهم لليقين بأنّه من عند الله ، والأقرب حمل المعنى على أنّهم العلماء الذين حملوا رسالة الله ، أو الذين أعطوا الكتاب ، والكتاب هنا كناية عن العلم الذي يسطّر فيه. وإنّما يستيقنون لأنّ ما تطرحه الآية تكشف لهم عن حقيقة جديدة من الغيب تزيدهم إيمانا باعتبار كلّ حقيقة من الغيب يؤمنون بها يرتفعون بها درجة في معراج اليقين.

(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً)

لأنّ المؤمن كلّما اطّلع على شيء من الغيب كلّما تكاملت معرفته به ، ولا ريب أنّ هذه المعرفة تعكس أثرها الروحي في شخصيته ، فيزداد خوفا من ربه ، وإيمانا به ، وعملا بأحكامه وشرائعه.

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ)

أي يصلون إلى مرتبة من الإيمان لا شك معها ، وهذه من الدرجات الرفيعة ، لأنّ القليل من المؤمنين هم الذين يستطيعون تطهير قلوبهم من رواسب الشك والتردد. وإذا بلغ أحد ذلك فإنّه يتجاوز كلّ ابتلاء وفتنة لأنّ «الشكوك والظنون لواقح الفتن ، ومكدّرة لصفو المنائح والمنن» كما قال الإمام زين العابدين (ع) (١).

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)

يعني المنافقين وضعاف الإيمان ، الذين يخالط إيمانهم الشك والريب والشرك.

(وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)

وبكلمة : إنّ الحكمة من وراء ذكر عدة التسعة عشر ابتلاء الناس ليعلم من

__________________

(١) الصحيفة السجادية / مناجاة المطيعين.

٩٤

يؤمن بالغيب فيزداد درجة في إيمانه حتى يبلغ مستوى اليقين الذي لا ريب معه ، وليعلم المنافق والكافر بالغيب فيزداد شكّا وضلالا. وهكذا نجد هذه الحكمة في سائر شرائع الدين.

وإشارة القرآن لسؤال الكافرين ومرضى القلوب : «ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً» يكشف عن جهلهم ومدى ضلالهم وطريقتهم الاستهزائية بالآيات ، فإنّ هدفهم من وراء ذلك ليس البحث عن الحق ، بل هو مجرد السؤال كطريق للهروب من مسئولية الإيمان ، وتشكيك أنفسهم والمؤمنين في الحق .. فهم لا يعلمون الغيب حينما راحوا يشكّكون في صحة قول الله عن عدّة أصحاب النار ، ولا يستطيعون انكار ذلك إذ لا دليل عندهم على خلافه .. ولذلك تساءلوا عن الخلفيات لهذه الحقيقة. ولو أجابهم القرآن ببيان سرّ هذا العدد لاختلقوا سؤالا آخرا ، وهكذا.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)

أي أنّ ما طرحته الآيات هو مثل حيّ للضلال والهداية ، فالحقيقة التي بيّنها الله في كتابه واحدة ، والمعطيات لدى الفريقين ومن بينها العقل والإرادة واحدة ، إلّا أنّ الموقف مختلف تماما ، وهذه الصورة العملية للموقفين تكشف عن أنّ الهدى والضلالة وإن كانا بيد الله إلّا أنّ العامل الرئيسي فيهما هو الإنسان نفسه .. بإرادته واختياره ، وليس كما يزعم الجبرية أبدا.

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)

لأنّهم غيب مستور ، ولأنّهم من الكثرة بحيث لا يستطيع عدّهم أحد ، فكيف وربنا يخلق كلّ لحظة من ملائكته ما لا يحصيه إلّا هو سبحانه وتعالى؟! ففي الأخبار أنّ لكلّ قطرة غيث تنزل من السماء إلى الأرض ملكا موكّلا بها ، وأنّه عزّ

٩٥

وجلّ خلق ملكا اسمه الروح له ألف رأس في كلّ رأس ألف لسان وكلّ لسان ينطق بألف لغة يسبّح الله تعالى ، فيخلق الله بكلّ تسبيحة من تسبيحاته ملكا يسبّح الله إلى يوم القيامة ، أي أنّه يخلق عند كلّ تسبيحة واحدة مليارد ملك (سبحان الله).

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ)

قيل : أنّ الضمير عائد إلى سقر ، وقيل : عائد إلى عدّة الملائكة ، وكلاهما صحيحان لأنّ الحقيقة واحدة ، فكلاهما ذكرى للناس ومتصلان بموضوع الجزاء والعذاب. فالمهم إذا أن يتذكّر الإنسان ربه وحقائق الغيب ، لا أن يجادل في القشور .. وقد حذّرنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) من النار مبيّنا صفة واحد من خزنة جهنم فقال : «واعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار ، فارحموا نفوسكم ، فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه ، والعثرة تدميه ، والرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجره ، وقرين شيطانه؟! أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه ، وإذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته .. فالله الله معشر العباد! وأنتم سالمون في الصحة قبل السقم ، وفي الفسحة قبل الضيق ، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة خ ١٨٣ ص ٢٦٧.

٩٦

كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

٩٧

كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ

هدى من الآيات :

«كلّا» .. بهذا الردّ القاطع والعنيف يواجه القرآن أباطيل الكفّار في شأن الوحي ، إذ زعموا أنّه سحر يؤثر ، وأنّه قول البشر ، ويوجّهنا إلى ثلاث من آيات الله في الطبيعة ، وهي القمر ، وحين إدبار الليل ، وعند إسفار الصباح ، فعند ما يتدبّر الإنسان في هذه الآيات تتجلّى له ذات الحقيقة العظمى التي تهدي إليها آيات الذكر وهي حقيقة التوحيد ، بل يجدها شهادات هادية إلى الإيمان بالرسالة .. وكأنّها تقرأ عليه الآيات الثلاث (٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧) من المدثر ، وهكذا نجد القرآن في كثير من آياته يربط بين التفكّر في الطبيعة والإيمان بالحق المنزل في الكتاب ، ذلك أنّ القرآن ينطق بسنن الله في الخليقة ، والكائنات تجسّد آيات الله في القرآن ، وهنا وهناك نجد تجلّيات أسماء الله سواء بسواء ، وكلّ واحد منهما يهدي إلى الآخر ، فكما أنّ آياته تكشف عن حقائقها والأنظمة الحاكمة فيها ، وتفسّر ظواهرها ، فإنّها هي الأخرى تهدي إلى الإيمان به (الآيات ٣١) من خلال توافقها مع الكتاب ،

٩٨

وتمثيلها لما فيه.

ولأنّ سبيل الكتاب قويم وقائم على التوازن بين السلب والإيجاب فإنّه يؤكد صدق آياته «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ* نَذِيراً لِلْبَشَرِ» وذلك مباشرة بعد أن يسفّه مزاعم الكفار حول الرسالة ، مؤكّدا بأنّ الموقف منها هو العامل الرئيسي في تقدّم البشرية أو تأخّرها ، وذلك أنّ النفس البشرية رهينة في سجن الجهل والظلم والهوى والشيطان و.. و.. وسعيها لا يزيدها إلّا ارتهانا وقيودا على قيودها ، إلّا أن تفك رهانها وتصلح سعيها بالسير على هدى ذكر الله ونذيره للبشر وهو كتابه الكريم ، كما فك رهانهم به أصحاب اليمين (الآيات ٣٥).

ومن خلال حوار بين هذا الفريق المفلح وبين المجرمين الذين سلكوا سقر المحرقة والمخزية يبيّن لنا القرآن معالم الطريق إليها ، فهي وإن كانت في الآخرة دركة من النار إلّا أنّها منهجية عملية في الدنيا تتمثّل في ترك الصلاة ، وعدم مساعدة المحتاجين والضعفاء ، والخوض مع الخائضين ، والتكذيب بالآخرة ، ولقاء الله على هذا الضلال البعيد ، والذي لا ريب أنّ أحدا لا يشفع لصاحبه عند الله ، بل لا تنفعه فيه شفاعة الشافعين (الآيات ٤٠).

ويستنكر ربنا على الكفّار حماقتهم واستحمارهم بالإعراض عن التذكرة التي جاءت لإنقاذهم من سقر الجهل والتخلف والضلال في الدنيا ومن سقر النار في الآخرة ، ولكنّ هزيمة الإنسان أمام هوى نفسه وهمزات الشيطان ، وعدم حضور الآخرة في وعيه ، هما اللذان يدفعانه إلى الإعراض عن التذكرة المبينة (الآيات ٤٩).

ولأنّ المقياس السليم لمعرفة الحق ليس موقف الناس ، بل معرفته بذاته ، فإنّ إعراض المجرمين عن القرآن لا يعني من قريب ولا بعيد أنّه باطل ، ولا يغيّر من

٩٩

واقعه .. «كلّا» إنّه تذكرة اقبل عليه الناس أو أدبروا عنه ، فمن شاء تذكّر به ربّه والحق ، «وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ» بلطفه وتوفيقه (الآيات ٥٤).

بينات من الآيات :

[٣٢ ـ ٣٧] إنّ الرسالة الإلهية ذكرى للبشر ، ولكنّ الكفّار ـ وبالذات المترفين وأصحاب السلطة منهم ـ يخشون من الاعتراف بها ، لأنّها تفضح ما هم عليه من الإثم والضلال ، ولذلك تجدهم لا يعترفون ؛ تمنعهم عن ذلك عزّة الجاهلية ، كما أنّها تفرض عليهم مجموعة من المسؤوليات والتنازلات كمسؤولية الإنفاق في سبيل الله ، والطاعة للرسول (ص) ، والتنازل عن السلطة ، وذلك ممّا لا تطيقه أنفسهم الضيقة المستكبرة .. فلا بدّ إذا من إخراج لموقفهم الباطل من هذه الذكرى ، ولما فكّروا وقدّروا بهذه الخلفيّة الثقيلة تمخّضت أفكارهم وتقديراتهم عن نتائج خاطئة ، فزعموا أنّ الرسالة «سحر يؤثر» وأنّها ليست «إلّا قول البشر» ، وحتى إنذار الله لهم بالسقر لم ينفعهم ، بل اتخذوه تبريرا جديدا لكفرهم ، حيث قالوا بأنّ العدد المذكور عن حرّاسها التسعة عشر : عدد قليل يمكن مواجهتهم!

وهكذا يفعل كلّ مترف ومتسلّط ، لا تزيده الحجج إلّا لجاجا ، إذ يبحث فيها عن تبرير جديد يزعم أنّه يسوغ له الكفر وحتى الاستهزاء حتى أنّك تجد مثلا بعض المتصوّفة يستهزئ بالنار ويقول : سوف أطفئها بطرف ردائي!

وهكذا توالت كلمات القسم في السياق لعلنا نستجيب لها ، ونفكّر جدّيّا بأمر لعقاب.

(كَلَّا وَالْقَمَرِ)

قيل : معناه ليس الأمر على ما يتوهّمونه من أنّهم يمكنهم دفع خزنة جهنم

١٠٠