من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً)

وهكذا ينهار نظام عالمنا ، ذلك أنّه إذا كانت الخليقة قد نظّمت لمصلحة الإنسان وسخّرت لحياته وفرضت عليها السنن إكراما له فها هو يسحب إلى قاعة المحاكمة للحساب والجزاء ، فلم يعد هنالك سبب لاستمرار النظام السائد في الطبيعة.

٢٦١

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠)

___________________

٢٠ [سرابا] : السراب هو خيال الماء في الصحراء وقت الظهيرة.

٢١ [مرصادا] : هو مكان على صراط جهنّم ترصد فيه الملائكة الناس ، فعن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : (المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد).

٢٣ [أحقابا] : جمع حقب والمراد الزمان الطويل والدهور المتتالية.

٢٥ [غسّاقا] : هو صديد أهل النار وقيحهم.

٢٦ [وفاقا] : الوفاق الجاري على مقدار الأعمال في الاستحقاق.

٢٦٢

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

___________________

٣٣ [وكواعب] : جمع الكاعب ، وهي الجارية التي نهد ثدياها واستدارا لكونها في أول زمان رشدها.

[أترابا] : جمع ترب ، وهنّ المستويات في السن ، وقيل : على مقدار أزواجهنّ في الحسن والصورة والسن.

٣٤ [دهاقا] : الدهاق الكأس الممتلئة التي لا مجال فيها للماء أو الشراب وأصل الدهق شدّة الضغط ، وأدهقت الكأس ملأتها.

٢٦٣

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً

هدى من الآيات :

هل وراء ذلك اليوم الرهيب أمر آخر؟ بلى. ما هو أخطر منه النار أو الجنة. أوليست جهنم مرصاد الطاغين ، والجنة مفازة كريمة للمؤمنين؟ ولكن لما ذا يلبث الطغاة في جهنم أحقابا متمادية قد تصل إلى درجة الخلود؟ لأنّها سنّة إلهية كما هي سنّة أنّ النار تحرق والماء يتبخّر ، وحيث أنّهم لم يعوا هذه السنّة ، بل وكذّبوا بها وبآيات الله التي حذّرتهم منها ، فإنّهم انتهوا إليها ، بينما المتقون (الذين وعوا هذه السنة فاتقوا النار وتجنّبوا ما يؤدّي بهم إليها) فإنّهم فازوا بالجنة التي استقبلتهم بحدائقها وفواكهها وكواعبها وأمنها وسلامها. إنّها أيضا الجزاء المناسب الذي أعدّه الله لهم.

ويمضي السياق في تحذير الإنسان من يوم النشور ، ويصوّر بعض مواقفه بعد أن يذكّرنا بالله سبحانه ربّ السموات والأرض وما بينهما ، ففي ذلك اليوم تخشع أصوات العباد وأصوات الروح والملائكة الذين يقفون صفّا لا يتكلّمون إلّا من أذن له

٢٦٤

الرحمن.

في ذلك اليوم يتساقط زيف الباطل ، ويتجلّى الحق بكلّ أبعاده ، ولا تزال فرصة الإختيار للإنسان في هذه الدنيا قائمة ، فمن شاء عاد إلى ربه تائبا خشية ذلك اليوم. أمّا من يكفر فإنّ الله ينذره بعذاب قريب (بالرغم من أنّ الشيطان يبعده عن ذهن البشر) يقع في ذلك اليوم الرهيب الذي يرى الإنسان ما قدّمت يداه من خير وشر (متجسدين في جزاء حسن أو عذاب شديد) ، وحين يرى الكافر حقائق أعماله يتمنّى لو بقي ترابا ولم يحشر لمثل ذلك الجزاء.

بينات من الآيات :

[٢١] يتعامل الإنسان مع سنن الله العاجلة في الطبيعة من حوله ، فتراه يتجنّب النار أن يحترق بها ، والحيّات أن تلدغه ، والجراثيم أن تغزوا جسده فتهلكه ، فلما ذا يا ترى لا يتجنّب تلك السنن الآجلة ، وما الفرق بين نار تحرقه اليوم وأخرى تحرقه غدا ، أو حية تلدغه من جحر في الصحراء وأخرى يصنعها بعمله لتلدغه غدا في الآخرة ، ومن ميكروب يتكاثر في جسمه اليوم وآخر يزرعه في حياته الدنيا ليحصده في تلك الدار الحق؟!

إنّ سنن الله في الدنيا تذكر بما يماثلها في الآخرة ولكنّ الإنسان يؤمن بواحدة ويترك أخرى. لما ذا؟

يبدو من آيات القرآن عموما ، وهذا السياق بالذات ، أنّ الجزاء يوم النشور نوعان : الأول : هو ذات العمل الذي يرتكبه اليوم ويتجسد له جزاء وفاقا في الآخرة ، كمثل نار يوقدها الإنسان في بيته فتحرقه ، أو ثمرة يغرسها في أرضه فيتمتع بثمراتها. النوع الثاني : الجزاء الذي يقدّره الربّ للصالحين في الجنة من فضله

٢٦٥

ويحسب الحسنة بعشرة. والآية التالية تشير إلى النوع الأول :

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً)

فهذه كانت مركز رصد ومرتع الجزاء في الآخرة. إنّها سنّة إلهية ونظام مقدّر لن يفلت منها من يكذّب بها ، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه وآله السلام ـ :

«ولئن أمهل (الله) الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، وبموضع الشجا من مساغ ريقه» (١)

[٢٢] والطغاة الذين يتجاوزون حدّهم ، ولا يتجنّبون ما يقرّبهم إلى النار ، سوف يعودون إلى النار التي صنعوها بأفعالهم.

(لِلطَّاغِينَ مَآباً)

ولعلّ كلمة مآب توحي بأنّهم سبب إيقاد النار التي عادوا إليها ، لأنّها منزلهم الذي بنوه ووطنهم الذي اختاروه لأنفسهم.

[٢٣] كم يبقون في هذه النار؟

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)

جاء في روايات أهل البيت أنّ الآية تخصّ المذنبين الذين يقضون في النار فترة من الوقت بقدر ذنوبهم ، وعلى هذا فمعنى الأحقاب الدهور المتتالية أو السنين المتلاحقة.

__________________

(١) نهج البلاغة / خ ٩٧.

٢٦٦

وقال بعض المفسرين : معنى الآية أنّهم يلبثون في النار أحقابا متتالية لا تنقطع ، فكلّما مضى حقب أدركهم حقب آخر. قالوا : وإنّما استعاضت الآية بالأحقاب عن السنين لأنّها أهول في القلوب وأدلّ على الخلود ، وإنّما كان الحقب أبعد شيء عندهم ، وقالوا : الحقب ثمانون سنة. وإذا كانت السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وكان اليوم في الآخرة كألف سنة مما نعدّه من سنيّ الدنيا فلك أن تتصوّر أيّام الطغاة في جهنم!

وجاء في الحديث عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : «لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا ، والحقب بضع وستون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كلّ يوم ألف سنة ممّا تعدّون ، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار» (١)

[٢٤] خلال هذه الأحقاب المتتالية والدهور المتطاولة لا يجد الطغاة هنالك سوى العذاب الذي لا يفتر عنهم أبدا.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً)

فلا يجدون طعم البرد وبرد الشراب ، ولا لحظة واحدة ولا بقدر بسيط.

قالوا : البرد هنا بمعنى النوم ، واستشهدوا بما تقوله العرب : منع البرد البرد ، أي منع النوم البرد ، وقال بعضهم : بل هو عام يشمل برد ريح أو ظل أو نوم ، وأنشدوا :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء أوقات العشي تذوق (٢)

[٢٥] إنّما يتواصل لهم شراب يغلي وماء نتن.

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٤٢٤.

(٢) راجع القرطبي / ج ١٩ ص ١٨٠.

٢٦٧

(إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً)

الحميم : الماء الحار. أمّا الغسّاق فهو ماء نتن ، وقيل : صديد أهل النار وقيحهم.

[٢٦] أترى هل ظلمهم ربّهم حين أوقعهم في النار؟ كلّا .. لقد ظلموا أنفسهم. أوليس قد واتر عليهم رسله؟ إنّ هذا جزاء أعمالهم ، ونهاية مسيرتهم.

(جَزاءً وِفاقاً)

أي جزاء موافقا لأعمالهم بلا زيادة أو تغيير.

[٢٧] لما ذا انتهى بهم المطاف إلى هذه العاقبة السوئى؟ لأنّهم لم يتوقّعوا الحساب فأفرطوا في السيئات ، كما المجرم حين لا يفكّر في العدالة يتوغّل في اقتراف الموبقات.

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً)

[٢٨] وإذا أنذرهم الرسل والدعاة بالحساب وإذا جاءتهم آيات النشور تترى ، كذّبوا به وبآياته.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً)

[٢٩] بلى. كان الحساب قائما ، وكانت أعمالهم وأنفاسهم ولحظات حياتهم وهواجس نيّاتهم كلّ أولئك كانت محسوبة عليهم.

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً)

فلم يغادر كتاب ربنا صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

٢٦٨

[٣٠] واليوم جاء يوم الجزاء بعد الإحصاء الشامل.

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً)

إنّها النهاية المريعة ، ومعرفة الإنسان في الدنيا بهذه الحقيقة : أنّ عذاب جهنم يزداد كما أنّ نعيم الجنة في اضطراد ، هذه المعرفة تجعل هذه الزيادة حكيمة وعادلة لأنّ الإنسان باختياره الحر بلغ هذه العاقبة.

حقّا : إنّ تصوّر هذه الحقيقة يجعلنا أكثر حذرا من جهنم وأشدّ شوقا إلى الجنة ، وقد روي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار» (١).

[٣١] بإزاء ذلك نجد المتقين الذين تحذّروا موجبات النار في الدنيا ، وتجنّبوا السيئات التي تدخلهم جهنم ، نجدهم بعيدين عنها بعدهم عنها في الدنيا.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً)

وأعظم فوز لهم نجاتهم من نار جهنم. أولا ترى قول الله سبحانه : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ»؟

[٣٢] وبالإضافة إلى النجاة من النار فإنّهم يحظون بنعيم الأبد.

(حَدائِقَ وَأَعْناباً)

ولعل ذكر العنب بين سائر الثمار لأنّه طعام وفاكهة وفيه من الفوائد ما ليس في غيره ، حتى جاء في الحديث : «خير فواكهكم العنب» (٢).

__________________

(١) عن تفسير الكشاف / ج ٤ ص ٦٩٠.

(٢) تفسير نمونه / ج ٢٦ ص ٤٨.

٢٦٩

[٣٣] الزوجة الموافقة تكمل السعادة ، ليس لأنّها فقط للتمتع الجنسي ، وإنّما أيضا لحاجة الروح إلى تفاعل مع روح أخرى ، تكون لها كالمرآة تنظر فيها نفسها والعكس ، وقد وفّر الله لعباده الصالحين الحور العين في الجنة ، بأفضل ما يتصوره البشر ، بل وأفضل مما قد يتصوره جمال قمة في الروعة والجمال الظاهري ، ومثل أعلى لجمال الروح ، والخلق الفاضل والأدب الرفيع حتى يصلحن للمؤمنين ومستواهم السامي.

(وَكَواعِبَ أَتْراباً)

الكاعب : البنت عند استدارة صدرها ، وتفتّح أنوثتها مما تكون ألذ للرجل وأشهى ، فهنّ كواعب ، ثم هنّ أتراب موافقات لروح الرجل خلقا وعقلا وشهوات. ويملك المؤمن أكثر من واحدة منهنّ حسب أعماله الصالحة ممّا يستحيل مثل ذلك في الحياة الدنيا.

[٣٤] جلسات الأنس لا تصفوا بدون شراب منشّط ، وقد وفّره الله للصالحين بأحسن ما يشتهون.

(وَكَأْساً دِهاقاً)

قالوا : الدهاق ما امتلأت من الشراب ، وقيل : ما تواصلت ، وقيل : ما صفت.

وكلّها تصدق في شراب الجنة.

[٣٥] ولا تكتمل نعم الحياة بسوى الأمن ، والجنة دار السلام فلا اعتداء ولا ظلم ولا مرض ولا سبات ولا خشية فناء النعم وزوالها .. وحتى الكلمات الجارحة التي تبعث الرعب والقلق والألم في النفس لا وجود لها.

٢٧٠

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً)

وإنّما يتبادلون العلم والمحبّة وذكريات الماضي ويحمدون ربهم على النعم. ولما ذا قول اللغو من غيبة وتهمة وفحش ما دامت نفوسهم طيبة والخيرات متوافرة لهم؟ ولما ذا الكذب وهو لا يكون إلّا لخبث أو خوف أو طمع وأهل الجنة مبرّأون من كلّ ذلك؟

[٣٦] كل هذه النعم تترى عليهم بفضل الله لأنّهم اختاروا الصراط المستقيم والعمل الصالح.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً)

يبدو أنّ معناه أنّ هذا العطاء العظيم يكون حسب أعمالهم حيث أنّ درجات المؤمنين تختلف هناك حسب درجاتهم هنا.

وقيل : «حسابا» بمعنى الجزاء الوافي بحيث يقول المجزي : حسبي ، يقال : أحسبت فلانا أي كثّرت له العطاء حتى قال حسبي.

وقيل : «حسابا» لما عملوا ، فالحساب بمعنى العد أي بقدر ما وجب له في وعد الرب ، فإنّه وعد للحسنة عشرا ، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار ، كما قال تعالى : «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ».

وتعود الأقوال جميعا إلى حقيقة واحدة هي العطاء الجزيل.

[٣٧] ولكي لا يستكثر الإنسان هذه النعم بيّن الله أنّها من عند الربّ العظيم ، الذي له ملك السموات والأرض وهو الرحمن.

٢٧١

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ)

وما ظنّك بالرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء إذا شاء أن يجزل العطاء؟

(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)

إنّه عظيم إلى درجة تعاليه عن تخاطب خلقه ، لو لا رحمانيته التي ينزل بها وحيه على عباده عبر رسول أو من وراء حجاب.

ولو لا أنّ الله سبحانه أذن لعباده بدعائه ، وألقى في قلوب مريديه أنوار محبته ومناجاته ، لما استطاع الإنسان ـ أيّ إنسان ـ أن يسمو إلى درجة مخاطبته. أليس الخطاب بحاجة إلى توافق طرفين ، أو فرض طرف على آخر؟ والله ليس بمستوى خلقه حتى يتوافق معه ، ولن يفرض عليه شيء. وهكذا تشير الآية إلى أنّ البشر وسائر الخلق ليسوا بمستواه ، وأنّهم لا يملكون منه شيئا فلا يفرضون عليه شيئا ، وهو يملكهم ، وبرحمته يتفضّل عليهم بمخاطبتهم ، وقد يأذن لبعضهم إذنا تكوينيّا وتشريعيّا بمخاطبته ، وذلك حين يعرّفهم نفسه ويلهمهم مناجاته.

وقد اختلفوا فيمن لا يملك الخطاب ، هل المؤمنون الذين ذكروا آنفا ، أم الكفّار باعتبارهم المطرودون عن باب رحمته ، أم كلا الفريقين؟ يبدو أنّ الضمير ليس يعم المؤمنين والكفّار فحسب بل ويشمل سائر الخلائق (الجن والملك والروح) بشهادة الآية التالية التي جاءت تفصيلا لهذه الآية ، ومثلا ظاهرا .. بالرغم من أنّ هذه الآية ـ فيما يبدو لي ـ لا تخص يوم القيامة ، بلى. يوم القيامة تتجلّى هذه الحقيقة بوضوح أكبر.

[٣٨] تتجلّى عظمة ربنا لعباده يوم البعث الأكبر حين يقوم الروح بكلّ عظمته وجلاله بين يديه ، والملائكة صفّا لا يتكلّمون ، وقد خشعت أصوات الخلائق

٢٧٢

لعظمة الرب. ثم يأذن الله برحمانيته لبعضهم بالكلام شريطة ألّا يتكلّم إلّا صوابا.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ)

وما الروح؟ اختلفوا في ذلك ، فقال البعض : إنّه خلق أكبر من سائر الخلق حتى من الملائكة المقرّبين جبرائيل وميكائيل ، جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل» (١).

وعلى هذا فإنّ الروح هو روح القدس الذي يؤيّد به الله أنبياءه ، قال سبحانه : «نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ» (٢) ، وهو حسب تفسيرنا المراد بقوله سبحانه : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً» (٣) ، وقوله سبحانه : «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» (٤).

وقال البعض : إنّه جند من جنود الرحمن كما الملائكة ، وروي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال :

«الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيدي وأرجل ، ثم قرأ : «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا» ، قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند.» (٥)

وقال بعضهم : إنّه جبرئيل أليس يقول ربنا عنه : «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» (٦)

__________________

(١) عن تفسير مجمع البيان / ج ١٠ ص ٤٢٧ راجع تفسير نمونه / ج ٢٦ ص ٥٨.

(٢) النحل / ١٠٢.

(٣) الإسراء /

(٤) القدر / ٤.

(٥) عن الدر المنثور / ج ٦ ص ٣٠٩ تفسير نمونه / ج ٢٦ ص ٥٨ ومثله القرطبي / ج ١٩ ص ١٨٧.

(٦) الشعراء / ١٩٣.

٢٧٣

وقال بعضهم : المراد أرواح الخلائق ، وقال آخرون : المراد القرآن ، وقالوا : أشراف الملائكة ، وقالوا : بنو آدم والمعنى ذووا الروح (١).

ويبدو لي أنّ الروح في الأصل خلق نوراني أعظم من الملائكة وله جنود وامتدادات ، فمنه تستمد أرواح الناس قوتهم وحياتهم ، وبه يؤيد الله أنبياءه وأولياءه ، وهو الذي يتنزّل في ليلة القدر ، وهو الذي يقوم بين يدي الله يوم القيامة مع صفوف الملائكة.

(وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ)

لأنّ هيبة الله تقفل ألسنتهم ، ولأنّهم محكومون مربوبون ، فمن السفه أن يتّخذ أحد منهم إلها لأنّ كل ما لديهم من الله سبحانه ، وحتى الشفاعة لا يقدرون عليها إلّا بعد أن يأذن الله لهم بها ، والله لا يأذن بها إلّا لمن يشاء وبحكمة أي بحساب دقيق.

(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)

وهذه الآية تذكّرنا بقوله سبحانه : «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً» والتي قلنا فيها : إنّ للشفاعة شرطين : إذن الله ، وأن تكون مرضية أي عبر مقياس الثواب والعقاب وليس بلا أيّ ميزان ومقياس ، ويبدو أنّ قوله سبحانه هنا : «وقال صوابا» يشير إلى ذلك.

[٣٩] كما تتجلّى عظمة الله في ذلك اليوم ، يتجلّى كذلك الحق ، فلا شفاعة بالباطل ولا كذب ولا دجل ولا أحكام جائرة.

__________________

(١) تفصيل هذه الأقوال مذكور في تفسير القرطبي / ج ١٩ ص ١٨٦ ـ ١٨٧ فراجع.

٢٧٤

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ)

فهو حق لا ريب فيه ، ولأنّه رهيب بأحداثه التي تنوء بها السموات والأرض فكيف بهذا الإنسان المسكين؟! لذلك فإنّه يستحق أن يسمّى بالحق.

وفيه لا ينفع إلا الحق ، وهو ابتغاء مرضاة الرب.

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً)

أي طريقا للعودة إليه. أولسنا قد فطرنا على الايمان ثم انحرفت بنا الدنيا وشهواتها؟ تعالوا نعود إلى الطريق الأول ، إلى سبيل الله ، إلى الرب الودود.

[٤٠] وقبل يوم القيامة عذاب قريب يقع قبل الموت وبعد الموت ، فإذا مات ابن آدم قامت قيامته الصغرى فيرى عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً)

قال بعضهم : المراد الحساب بعد الموت ، وقال البعض : إنّه يوم القيامة ذاته باعتباره حقّا لا ريب فيه وأنّه يأتي وأنّ كلّ آت قريب ، أو باعتبار الإنسان إذا مات انعدم إحساسه حتى يبعث للحساب ففي حسابه يتصل يوم موته بيوم بعثه ، إلّا إذا محض الإيمان أو محض الكفر فإنّه يحس بالثواب أو بالعقاب.

وسواء بعد الموت أو بعد النشور فإنّ أعمال الإنسان تتجسد ثوابا أو عقابا ينظر إليها.

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)

من خير أو شر ، والمراد من اليد مجمل ما يقوم به الإنسان. وحين يرى المؤمن

٢٧٥

عمله يفرح كثيرا ، ولكن حين يرى الكافر عمله يتمنّى لو كان ترابا ولم يرتكب ذلك العمل السيء.

(وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)

ما أشد هذا الإنسان ندما أن يصل إلى هذه الدرجة فيتمنّى لو كان ترابا ولم يقترف تلك الجرائم!

هذا الإنسان الذي خلقه الله سبحانه ليكون ضيفا عنده في جنات الخلد بلغ به الحال أن يكون أرذل من التراب. فكيف والتراب ينتفع به وهو لا ينتفع به؟! بل يستحق المزيد من الهوان والأذى.

٢٧٦

سورة النّازعات

٢٧٧
٢٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ والنازعات لم يمت إلّا ريّانا ، ولم يبعثه الله إلّا ريّانا»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٩٧

٢٧٩

الإطار العام

يبدو أنّ سورة النازعات تنزع من نفس المهتدين بها طغيانها ، ولكن كيف؟

أولا : بتلاحق كلمات القسم الصاعقة ، وبما هو مجهول عندنا ، من ملائكة لموت أو حالة الموت أو خيل الغزاة.

ثانيا : تنذر بيوم الراجفة ويوم الرادفة حيث تكون القلوب واجفة ، أبصارها خاشعة. من هم أولئك؟ إنّهم الذين يقولون في الدنيا : أإنا لمردودون إلى الحياة كما نحن الآن حتى ولو كنّا عظاما نخرة؟! فيقول لهم القران : بلى وبزجرة واحدة تخرجكم الأرض إلى ظهرها المستوي ، لا يرون فيها أمتا ولا عوجا.

ثالثا : تقص علينا حديث موسى وفرعون ، وكيف أنّ فرعون طغى ولم يستمع إلى إنذار رسول الله إليه فأخذه الله نكال الآخرة والدنيا.

رابعا : ترينا آيات الله في السموات والأرض ، وحكمته البالغة التي تتجلّى في

٢٨٠