من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

الليل كما يقومه النبي (ص) تأسيّا به ، إذ جعله الله أسوة المؤمنين ، وكأنّ الآية تبيّن معنى المعيّة بأنّها ليست مجرد الزعم ، ولا الانتماء الديني والاجتماعي الظاهر لقيادة الرسول وخطّه ، بل الصحبة الحقيقيّة تتمثّل في الإتباع العملي لقيادته ورسالته.

(وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)

ونحن الأجيال الحاضرة ـ إذا فاتتنا صحبة النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بالأبدان ومعيّته فإننّا نستطيع أن نكون معه باقتفاء أثره ، ومن أثره جهاده وقيامه بالليل قال الحسكاني : «الذين معك» علي وأبو ذر (١).

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

قال صاحب المجمع : أي يقدّر أوقاتهما لتعملوا فيها على ما يأمركم به ، وقيل : لا يفوته علم ما تفعلون ، والمراد : أنّه يعلم مقادير الليل والنهار ، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل (٢) ، ولعل في التقدير إشارة إلى اختلاف الليالي والأيام في الجانب الزمني ، حيث تطول وتقصر ، وربّنا هو الذي يعيّن المقادير المختلفة.

(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)

وفي معنى الإحصاء قولان : أحدهما : الظاهر أي لن تعدّوه ، والآخر : لن تطيقوا قيامه ، وهو الأقرب بدلالة السياق ، حيث يجري الحديث مباشرة عن التوبة والتخفيف ، وحيث يشير القرآن إلى جانب من الأعذار المشروعة التي تعيق عن قيام الليل بصورته الأولية .. قال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كلّه مخافة أن

__________________

(١) تفسير البصائر / ج ٥٠ ص ١٣٢ عن المجمع.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٨١.

٤١

لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال سبحانه : «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» أي لن تطيقوا معرفة ذلك ، وقال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فقال : إنّكم لا تطيقون إحصاءه على الحقيقة ، وقيل معناه : لن تطيقوا المداومة على قيام الليل ، ويقع التقصير فيه (١).

(فَتابَ عَلَيْكُمْ)

أي رحمكم وتلطّف بكم ، لأنّ من تاب الله عليه فقد رحمه. وإذا أخذنا بالمعنى الأصيل للتوبة وهو الرجوع فإنّ المعنى : يكون : أنّه تعالى بدى له أمر فعادلكم وحيه بحكم آخر غير الحكم الأول الذي يقتضي قيام الليل كلّه إلّا قليلا ، أو الذي كان القيام فيه واجبا لا مستحبا (٢).

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)

وتأكيد الله على قراءة القرآن يهدينا إلى عظمته ، وأنّ تلاوته وتدبّر معانيه روح قيام الليل ومن أهمّ أهدافه ، حيث يعود الإنسان إلى كلام ربه وعهده إليه ، فيستلهم منه بصائر الحق ، ومناهج حياته في كلّ بعد وجانب. إنّ غاية قيام الليل هي تكامل الإنسان ، تكاملا روحيّا بالتهجّد والتبتل والصلاة ، وتكاملا عقليّا بالتفكّر في خلق الله وتدبّر آيات قرآنه .. نعم. إنّ الظروف قد لا تسمح بقيام الليل على صورته الأولية ، ولكن لا ينبغي للمؤمن أن يترك قراءة القرآن على أيّة حال ، ولو قراءة ما تيسر منه. فما معنى قول الله : «ما تَيَسَّرَ مِنْهُ»؟

لقد اختلف المفسرون والقرّاء في القدر الذي تضمّنه هذا الأمر من القراءة ،

__________________

(١) المصدر.

(٢) مع أنّه لا توجد روايات صريحة بأنّ قيام الليل كان واجبا شرعيا على المسلمين في أول الدعوة ، إلّا أنّه محتمل ، أو هكذا استقبلوه ثم تبيّن لهم غير ذلك.

٤٢

فقال سعيد بن جبير : خمسين آية ، وقال ابن عبّاس : مائة آية ، وقال السدّي : مائتا آية ، وقال جويبر : ثلث القرآن لأنّ الله يسّره على عباده (١) إشارة لقوله تعالى : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» (٢) ، وليس بين الأقوال الأربعة تناقض ، لأنّ ما تيسّر هو ما يجده القارئ يسيرا على نفسه ، سواء كان آية واحدة أو القرآن كلّه ، وإن كانت الكلمة في ظاهرها إشارة إلى القليل ، وقد ذهب البعض بعيدا حينما فسّروا الآية في الصلاة وقال معناه : فصلّوا ما تيسّر من الصلاة ، وعبّر عن الصلاة بالقرآن لأنّها تتضمّنه (٣).

وجدير التساؤل عن السبب في التيسير بعد التشدّد في منهجية التشريع الإسلامي ، الأمر الذي يكاد يصبح ظاهرة في أحكام الله لكثرة شواهده ، فقد فرض الله على المؤمنين تقديم صدقة بين يدي نجواهم الرسول (٤) ثم ألغيت الصدقة ، وحرّم عليهم مقاربة أزواجهم حتى ليالي الصيام ثم أحلّها (٥) وفي الجهاد فرضه واجبا إذا كانت نسبة المؤمنين إلى أعدائهم تعادل واحدا إلى عشرة ، أي أنّهم يجب عليهم الجهاد وخوض الحرب إذا كانوا مائة وكان العدو ألفا ، ثم خفّف الحكم بنسبة واحد إلى اثنين (٦) ، ومثل ذلك أحكام عديدة والتي من بينها قيام الليل الذي نحن بصدد الكلام عنه.

إنّ هذه الظاهرة في التشريع الإسلامي تهدينا إلى أنّ إصلاح الإنسان ـ وبالذات في الانطلاقة ـ بحاجة إلى برنامج مركّز وصعب حتى يصلح نفسه

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٨١.

(٢) القمر / ٤٠.

(٣) نقل هذا القول مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٨١ وبه قال صاحب الكشاف والفخر الرازي.

(٤) المجادلة ١٢ / ١٣.

(٥) البقرة / ١٨٧.

(٦) الأنفال ٦٥ / ٦٦.

٤٣

إصلاحا جذريّا ، كما المقاتل في دورته العسكرية الأولى ، فإذا ما استمرّ قطاره على السكة يخفّف عنه ، وهذه منهجية الإسلام في بناء أفراده ومجتمعة ، وإذا صحّ هذا التحليل فإنّنا يجب أن نستفيد من ذلك في حياتنا ومسيرتنا ، ففي بداية التغيير ينبغي أن تؤخذ الأمة بالشدة حتى تذوب في بوتقة الإيمان والعمل الرسالي ، ثم يأتي دور التخفيف عنها شيئا ما.

ويلفتنا القرآن إلى خصيصة تشريعية في الإسلام وهي واقعيته ، وأخذه ظروف المشرّع له بعين الإعتبار ، فهو ليس نظاما قسريّا ، بل تشريعا واقعيّا مرنا ، وذلك ممّا يؤكّد حقّانيته.

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى)

يعيقهم مرضهم عن القيام ، أو يجعله أمرا مكلّفا. وهذه كناية عن المعوّقات البدنية التي تصيب الإنسان بالضعف.

(وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ)

طلبا للرزق. والضرب في الأرض كناية عن التنقّل والترحّل والسعي الحثيث ، وعلّل الرازي تخفيف الفرض على هذا الفريق ومن يلونهم (المقاتلين في سبيل الله) قائلا : وأمّا المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقّة ، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقّة عليهم (١).

(وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)

إعلاء لكلمته ، وإنفاذا لأمره ، وتحكيما لشرعه ، ودفاعا عن ثغور المسلمين ،

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ١٨٧.

٤٤

وهؤلاء لا شك لهم من الأجر الشيء العظيم ، ولعمري إنّ جهادهم بمثابة قيام الليل أجرا وقدرا عند الله ؛ لأنّهم لو لا جهادهم وقتالهم لكان الأمر كما حكى الله تعالى : «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً» (١). قال الفخر الرازي : ومن لطائف هذه الآية أنّه تعالى سوّى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال (٢) ، وهذا يؤيّد قول رسول الله (ص) : «أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء» (٣) ، وهو تأكيد لقول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله» ، ويؤكد الله مرة أخرى أمره بتلاوة القرآن.

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)

ولو بضع آيات ، المهم أن لا يترك المؤمن رسالة ربه ، لأنّه قد يستغني عن قيام الليل ولكنّه لا يستغني عن بصائر الوحي في حياته مهما كانت الظروف.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)

بممارسة شعائرها وفروضها ، وحقيقيّا بالتزام مضامينها ، وتحقيق أهدافها على الصعيد الشخصي وفي المجتمع.

(وَآتُوا الزَّكاةَ)

كناية عن كلّ إنفاق واجب ، يزكّي المؤمن نفسه وماله بإعطائه.

(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً)

__________________

(١) الحج / ٤٠.

(٢) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ١٨٧.

(٣) المصدر عن ابن مسعود.

٤٥

وهو كلّ إنفاق مستحبّ في سبيل الله (١) الذي لا يضيع عنده عمل عامل أبدا.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ)

في الدنيا والآخرة. وفي الآية إشارة ليس إلى العمل الصالح الذي يمهّد للمؤمنين آخرتهم وحسب ، بل أنّ كثيرا من التوفيقات والبركات التي ينالها الإنسان في الدنيا ، وهكذا المكاره التي تدفع عنه ، ليست إلّا نتائج قائمة على مقدّمات سابقة بادر إليها ، والتي من بينها الإنفاق في سبيل الله ، فالمكروه الذي يرتفع عن المتصدّق إنّما ترفعه صدقته التي قدّمها قبل حدوثه .. فالمنفق في حقيقة الأمر يقدّم بإنفاقه خيرا لنفسه.

(هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً)

حيث يتضاعف خيره وأجره بفضل الله تعالى ، وكيف لا يتضاعف والمجازي ربّ المحسنين؟! بلى. إنّ الصدقة القليلة لا ينحصر خيرها وأجرها في الدنيا ، بدفع الشر عن صاحبها ، وجلب البركة والتوفيق إليه ، بل يمتدّ إلى الآخرة أيضا ، فاذا بالدرهم الواحد يستحيل جنة عالية وحورا ونعيما لا ينقطع ، بل يضاعفه الله يوما بعد يوم.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ)

هناك قال وقد خفّف حكم قيام الليل : «فتاب عليكم» وهنا يأمر المؤمنين بالاستغفار ، ممّا يوحي لهم بأنّ ترك القيام بالليل غير محمود عند ربهم في حال وجود العذر ، فكيف بتركه دونه؟! كما يثير في أنفسهم الشعور بالتقصير ، ومن ثمّ يدفعهم للمزيد من السعي والعمل الصالح والتقرب إليه بالاستغفار.

__________________

(١) لقد مر تفصيل في معنى القرض الحسن في سورة الحديد الآية (١١) فراجع.

٤٦

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وهذه الخاتمة تملأ القلوب أملا وطمعا في غفرانه ورحمته تعالى ، حيث أمرهم بالاستغفار ، وأكّد إليهم بأنّه الغفور الرحيم ، وكأنّ الخاتمة ضمانة بالإجابة بعد الأمر المتقدّم بالاستغفار ، ولعل القرآن يريد أن يقول لنا بأن أداء المؤمن للفروض الواجبة ـ كإقامة الصلاة والزكاة والإنفاق ـ ينبغي أن لا يشحنه بالغرور وشعور الاكتفاء ، فيقتصر على ذلك من دون المستحبات المشرّعة في الدين ومن بينها قيام الليل.

٤٧
٤٨

سورة المدّثر

٤٩
٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدّثّر كان حقّا على الله عزّ وجلّ أن يجعله مع محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ في درجة ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدأ إن شاء الله».

نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٥٢

٥١

الإطار العام

بعد أن يستنهض الوحي النبي المدثر لتحمّل أعباء الرسالة بالإنذار ، وتكبير الله ، وتطهير ثيابه من كلّ نجاسة مادية ومعنوية ، ومقاطعة الرجز بالهجران ، ينهاه عن المنّة على الله لأنّها تقطع الخير ، ويأمره بالصبر له كضرورة تفرض نفسها على كلّ داعية حق وحامل رسالة. أوليس يريد الثورة على الواقع المنحرف والمتخلف؟ إذن يجب أن يتوقّع الكثير من المشاكل والضغوط المضادة في هذا الطريق ، وعليه يجب أن يتحمّل ويصبر كشرط للاستقامة وتحقيق الهدف (الآيات ١).

ولأنّ المؤمن يؤلمه تسلّط الطغاة والمنحرفين من قوى سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية ، وبالتالي يستعجل لهم الهلاك والجزاء ، فإنّ القرآن يسكّن ألمه هذا بتوجيهنا إلى يوم القيامة حيث الانتقام الأعظم من أعداء الرسالة والمؤمنين ، إذ ينقر في الناقور إيذانا ببدء يوم عسير لا يسر فيه على الكافرين وأشباههم ، يلاقون فيه ألوانا من العذاب الخالد الذي لا يطاق .. وأنّى يطيق المخلوق الضعيف انتقام ربّ العزة؟! (الآيات ٨).

٥٢

وهكذا نهتدي إلى أنّ محور السورة ـ فيما يبدو لي ـ صراع الرسول مع مراكز القوة التي لا بد أن يتحدّاها بكلّ اقتدار.

ويعالج السياق طائفة من الأفكار الخاطئة التي يتشبّث بها المتسلّطون والمترفون لدعم مواقعهم القيادية ، منها الزعم بأنّه لو لا رضا الله عنهم لما أوسع عليهم نعمة.

إذا فما في يد الكفّار والطغاة من نعيم ليس دليلا على حبّ الله لهم ، ولا على صحة منهجهم في الحياة .. بلى. إنّ عندهم مالا ممدودا ، وأتباعا كثيرة وأبناء ، وممهّدة لهم وسائل العيش الرغيد ، الذي لا يشبعون منه ، بل يطمعون في زيادته .. ولكنّهم ضالون عن الصراط السوي ، جاحدون لآيات الله .. وبالتالي مستحقون لعذابه وانتقامه ، والمقياس السليم للتقييم ليس المادة ، بل القيم ، وليس الدنيا بل الآخرة ، والمترفون على عناد مع قيم الحق ، وخاسرون في الآخرة ، فهنالك لا يبقى لهم نعيم ولا أنصار ، ولا مقام احترام كما هم في الدنيا ، بل يتبدّل واقعهم إلى قطع من العذاب الأليم والمهين ، وتصبح كلّ نعمة أعطيت لهم وبالا عليهم حيث لم يؤدّوا شكرها .. فهم أشدّ الناس عذابا لأنّهم قد أملي لهم من فضل الله ، ومن آلم ما يلقون عذابا الصعود المرهق (الآيات ١١).

وليس إرهاقهم بالعذاب مجرد انتقام عبثي ، بل هو انتقام متأسس على الحساب الدقيق والحكمة والعدل ، فإنّك حيث تحقّق في سببه تجده منهجيتهم الخاطئة والضالة في الحياة ، والتي ترتكز على التفكير المنحرف والتقديرات الخاطئة .. فإنّها حقّا هي المسؤولية عمّا يحلّ بهم من اللعن والقتل والعذاب ، فهم الذين عبسوا وبسروا ثم أدبروا واستكبروا ، وكان هذا موقفهم من الحق قيما وقيادة وحزبا ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما رموا الحق بالتهم الرخيصة الباطلة ، فقالوا : «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» ، وقالوا : بل هو من صنع البشر وليس رسالة من الله .. من دون دليل إلّا

٥٣

للطعن فيه والتهرب من مسئولية الإيمان ، وإلّا لتضليل الناس عن طريق الهدى وسبيل الرشاد (الآيات ١٨).

من هنا حقّ لو عذّب الله الكفّار المعاندين باعتبارهم يبارزون ربّ العزة ويحاربون الحق ، وبالذات كبراؤهم والملأ المترفين منهم ، كالحكّام الطغاة ، وأصحاب الثروة ، وأدعياء العلم ، ولذلك يتوعّد الجبّار واحدهم بأشدّ العذاب ، ويؤكّد ذلك لرسوله (ص) وكل رسالي يقف على خط المواجهة وفي جبهة التحدي والصراع ضد الباطل بأنّه سيصليه سقر ، وهي أشد أقسام النار تلظّيا وحرارة ورهبة بحيث لا يمكن لبشر أن يتصوّرها ويدري ما هي ، إلّا أنّ القرآن يشير إلى بعض صفاتها الرهيبة حيث أنّها لا تبقي ولا تذر ، لوّاحة للبشر .. ومنظر آخر مخيف منها يمثّله ملائكة غلاظ شداد النار نفسها فرقة منهم.

إنّهم تسعة عشر .. هكذا يقول الله .. فأمّا المؤمنون فإنّهم تقشعر جلودهم ثم تلين ، وهكذا يزداد خوفهم وتقواهم لمجرد سماعهم قول ربّ العزة ، لأنّ المهم عندهم حقيقة الأمر لا تفاصيله حتى يختلفون في ألوان أولئك النفر الموكّلون بسقر من الملائكة ، ولا في أحجامهم وأوزانهم وعددهم .. كما اختلف الكفّار والذين في قلوبهم مرض ، وفتنوا أنفسهم قائلين : «ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً»؟! فضلّوا عن الهدف والحكمة ألا وهي التذكرة. (الآيات ٢٦).

«كَلَّا وَالْقَمَرِ* وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ* وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» هكذا يقسم ربنا أقساما غليظة عظيمة مترادفة ، ويؤكّد بأنّ القضية كبيرة ومشتملة على موعظة وإنذار عظيمين للبشر لو كانوا يعقلون .. بل إنّها ركيزة أساسية وملحّة للإنسان في مسيرته ومصيره ، وذلك أنّ تقدمه (فردا وأمة) وكذلك تأخّره رهين موقفه من حقائق هذه الذكرى الإلهية للبشر (الآيات ٣٣).

٥٤

وفي سياق الحديث عن الآخرة وعذاب سقر ينعطف بنا القرآن إلى آية مهمة في سورة ، بل في المنهجية الإسلامية بصورة عامة ، وذلك حينما يربط بين مستقبل الإنسان وحاضره وبين سعيه ومصيره ومؤكّدا بأنّه المسؤول عن نفسه ، فهو الذي بيده حبسها في العذاب كما بيده فك رهانها منه ، والدخول بها إلى جنّات الخلد والنعيم. ويضع الله الناس فردا فردا أمام حقيقة عظيمة ومهمة يجب أن يضعوها نصب أعينهم ، ويتحركوا في الحياة على إيحاءاتها ومستلزماتها .. ألا وهي أنّ الأنفس كلّها رهينة .. رهينة شهواتها وضلالها وقراراتها المنحرفة الخاطئة ، إلا أن يعتصم البشر بحبل الإيمان ويتبع منهجه فيخلّصها الله من سجنها الخطير ، كما صنع ويصنع بأصحاب اليمين (الآيات ٣٨).

ومن خلال حوار قصصي يدور بين أصحاب الجنة والمجرمين ـ ينقله القرآن ـ تبصّرنا الآيات الربّانية بأهمّ ركائز الجريمة التي تؤدّي إلى سقر والتي حذّرنا ربنا منها ، وبذلك يجيب القرآن على سؤال يفرض نفسه على كلّ من يعرف حقيقة سقر ، حيث يبحث عن النجاة من شرّها ، ويسعى لتجنّب أسباب التورّط فيها ، وهي أربعة أساسية كما يقرّ المجرمون أنفسهم : (عدم كونهم من المصلين ، وعدم إطعامهم المسكين ، وخوضهم مع الخائضين ، والتكذيب بالآخرة) وما ذا يرتجى لمن يوافيه الأجل ، ويلقى ربه على هذا الضلال البعيد والجريمة؟ (الآيات ٤٠).

ومن يتورّط في الذنوب الأربعة الكبيرة التي مرّ ذكرها فإنّ مصيره النار لا محالة ، لأنّه لا عمل صالح عنده ينجيه من العذاب ، ولن تدركه رحمة من الله وقد بارزه وحاربه ، ولن يشفع له أحد ، ولو استشفع له أحد ـ جدلا ـ فلن تنفعه شفاعة أبدا ، لأنّ الشفاعة تنفع من تكون مسيرته العامة في الحياة مسيرة سليمة ، ثم يرتكب بعض الذنوب والمعاصي .. وليس المجرمون كذلك (الآية ٤٨).

٥٥

وفي خاتمة السورة يستنكر القرآن على المجرمين (الكفّار ومرضى القلوب) إعراضهم عن تذكرة الله لهم ورحمته المتمثلة في آيات وحيه الهادية ، مع أنّهم مستقبلون أمرا عظيما ونارا لا تبقي ولا تذر .. ولا خلاص لهم إلّا بالإقبال على التذكرة ، والعمل على ضوء بصائرها وهداها!! إنّهم حقّا يشبهون ـ حيث يعرضون عن آيات الله ـ قطيع حمر انقضّ عليه ليث لا يدرون قسورة إلى أين يفرّون منه ، وما الحيلة للخلاص .. والحال أنّ آيات الله على عكس ذلك جاءت لتأخذ بأيديهم إلى ساحل الأمن والرحمة والسعادة ، وأولى بهم أن يستقبلوها كما يستقبل الضمأى والمجدبون غيث السماء .. «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» ولن يكون ذلك أبدا ، «بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» وهذا في الحقيقة ـ أعني الكفر بالآخرة وعدم حضورها في وعي الإنسان ـ أكبر عامل في الانحراف ، وعدم الاهتمام بالتذكرة والتأثّر بها (الآيات ٤٩).

ويردّ القرآن على أباطيل المدبرين عنه والمستكبرين على الحق ، الذين قالوا : «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» ردّا موضوعيّا حاسما في آيات ثلاث (٥٤ ، ٥٥ ، ٥٦) تبيّن في نفس الوقت دور القرآن بأنّه التذكرة بالله وبالحق ، وأنّ الإنسان مكلّف بالاستجابة لهداه ، ولكنّه غير مجبور على ذلك بل مخيّر ، وإن كان توفيق التذكّر والهداية لا يحصل «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» ومعرفة هذه الحقيقة أمر ضروري بالنسبة للإنسان ، لأنّها تحيي فيه روح التوكل على الله والتضرع إليه ، وتبعده عن الغرور الناشئ من الاعتماد على الذات.

خلاصة القول : إنّ الموضوع الرئيسي في السورة تصدي الرسول لمراكز القوى الجاهلية ، ولكنّها تعالج أيضا قضايا هامّة أخرى وهي : أنّ الغنى والقدرة وسائر نعم الله مجرد ابتلاء ، وليست دليلا على رضا الله عن أصحابها ، وأنّ الإنسان رهن سعيه ، وأنّ عليه هو أن يسعى نحو الهداية ، وأنّه لا يكره عليها إكراها.

٥٦

سورة المدّثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ

٥٧

(٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١)

٥٨

وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ

هدى من الآيات :

في البداية تبيّن الآيات الكريمة أهم الصفات التي يجب توافرها في كلّ منذر يتصدّى لهداية الناس وتغيير الواقع بالرسالة ، وهي : تكبير الله وحده ، وتطهير الثياب من كلّ دنس ونجاسة ، ومقاطعة الرجز بكلّ أشكاله وصوره ، وعدم المنّة على الله ، والصبر والاستقامة في الطريق الشائك ، فالمنذر الرسالي لا يكون منذرا إلّا إذا تحلّى بهذه الصفات اللازمة ، وكذلك لا يمكنه تحقيق أهدافه (الهداية والتغيير) إلّا بها (الآيات ١).

ثم تنذر الكفّار بيوم عسير عليهم لا يسر فيه ، يوم الانتقام ، الذي يشفي به الله صدور المؤمنين الذين يتذوّقون مرارة الأذى منهم ، وبالتالي يبعث فيهم روح الصبر والاستقامة (الآيات ٨).

ومن هذا الوعيد العام لكلّ الكافرين ومرضى القلوب ، يخصّ الله بوعيده

٥٩

أقطاب الضلال وأئمة الكفر .. بصيغة الإفراد .. وكأنّه يهدّدهم واحدا واحدا بالذات ، لا فرق بين من عاصر النبي منهم ومن يأتي بعدهم ، مؤكّدا بأنّ ترفهم وما هم فيه من نعمة ليس دليلا على قربهم منه وسلامة منهجهم ، كلّا .. بل هو كيد عظيم ضدهم كما يأتوا في الآخرة ما لهم من خلاق ولا نصيب سوى العذاب الأليم ، لأنّهم جحدوا بالآيات وفكّروا وقدّروا فما أسوء ما فكّروا فيه وقدّروا فأصيبت مقاتلهم ، ودفعوا أنفسهم في نار سقر لا تبقي ولا تذر ، عليها تسعة عشر من ملائكة الله الغلاظ الشداد (الآيات ١١).

بينات من الآيات :

[١] مع اختلاف الكلمتين (المزمل والمدثر) في معناهما ، واستقلال السورتين في موضوعهما وسياقهما ، إلّا أنّ البعض خلط بينهما إلى حدّ التطابق في النصوص الواردة في أسباب التنزيل ممّا يضعّف رواياتها عندي. قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)

لقد أجمع المفسرون على أنّ «المدثر» هو رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ سمّاه ربّه بذلك ، قال الكلبي عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «يا كلبي كم لمحمد (ص) من اسم في القرآن؟» فقلت : اسمان أو ثلاثة ، فقال : «يا كلبي له عشرة أسماء» وعدّها إليّ أن قال : «ويا أيّها المدثر ويا أيّها المزمل» (١) ووقع الاختلاف في أنّه (ص) لم سمّي مدثّرا ، فمنهم من أول الظاهر ، ومنهم من بقي عليه ، وتساءل : لما ذا تدثر الرسول بثيابه؟

فقال جابر عن رسول الله (ص) أنّه قال : جاورت بحراء شهرا ، فلمّا قضيت

__________________

(١) البرهان ج ٣ ص ٢٨.

٦٠