من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ «والمرسلات عرفا» عرّف الله بينه وبين محمّد صلّى الله عليه وآله».

نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٨٧

٢٠١

الإطار العام

بتكرار آية : «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» يظهر أنّها المحور الرئيس للسورة الكريمة ، والتي تهدف ـ فيما يبدو ـ تأكيد وعد الله الواقع في أنّ الويل للمكذّبين به ، فبعد القسم بالمرسلات والناشرات يؤكّد ربّنا بإنّ الحصر باللام أنّ وعده تعالى واقع لا محالة (الآيات ١ ـ ٧).

ومع أنّ قول الله : «ما توعدون» شامل لكلّ ما يعد الله به أن يقع ، إلّا أنّ يوم القيامة وما يجلي من الحقائق وما يعنيه من (بعث وحساب وجزاء) هو أظهر مصاديق الوعود الإلهية الواقعة ، وحيث يحلّ أجل ذلك الوعد يشهد الوجود حوادث كونية رهيبة ، فتطمس النجوم ، وتشقّ السماء ، وتنسف الجبال ، وأعظم من ذلك شهادة الرسل على أممها عند الحساب والفصل بين الناس وفي مصائرهم ، إذ أجّلها الله «لِيَوْمِ الْفَصْلِ* وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ». إنّه يوم رهيب ومهول لأنّه يوم الفصل في مصائر العباد ، فويل لأولئك الذين كذّبوا رسل الله من شهادتهم ضدهم عنده وما يتلو ذلك من عذاب شديد يصبّه عليهم ربّهم صبّا (الآيات ٨ ـ ١٥).

٢٠٢

وبالرغم من أنّ القرآن يوجّهنا إلى مشاهد ذلك اليوم الأخروي ومصير المكذّبين فيه ، كعلاج لموقف التكذيب بحقائق المستقبل عند الإنسان ، إلّا أنّه لا يكتفي بذلك بل يدعونا إلى الإعتبار بعاقبة المجرمين الآخرين بعد الأولين ، فإنّ المتفكر في هذا الأمر يهتدي إلى واقعية سنّة الجزاء ، وذلك بدوره يهديه إلى واقعية الآخرة باعتبارها التجلّي الأعظم والأشمل لها في واقع الحياة «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» (الآيات ١٦ ـ ١٩).

ويربط القرآن بين خلقة الإنسان وبين حقيقة الآخرة ، وذلك أنّ خلقته بما فيها من أطوار وتقديرات تكشف عن حكمة الخالق (وأنّه لم يخلق الخلق عبثا ، ولن يتركهم سدى) والتي لا تكتمل من دون الإيمان بالآخرة التي هي عنوان الحكمة الإلهية ، ومنتهى الإنسان وغايته التي تقتضيها تلك الحكمة ، كما تقتضي العذاب الأليم للمكذبين بالحق (الآيات ٢٠ ـ ٢٤).

ومن رحلة الإنسان في آفاق نفسه ينطلق به السياق إلى آفاق الكون من حوله بموجوداته وظواهره ، حيث جعل الله الأرض كفاتا تضمّه حيّا وميّتا ، وجعل فيها جبالا راسية بأصولها في الأرض شامخة بقممها في آفاق السماء ، وسقانا منها ماء فراتا سائغا للشاربين ، وكلّ ذلك آيات لحكمة الله ، وعلامات تهدي إلى ذلك اليوم ، فالويل للمكذّبين به (الآيات ٢٥ ـ ٢٨).

ولقطع دابر التبرير والكيد ، اللذين يتخذهما الكاذبون وسيلة لكذبهم ، ويصوّر السياق عاقبة الكذب ، إذ يأتي النداء الإلهي إلى المكذّبين في حال تكاد الحسرة تهلكهم لو لا مشيئته تعالى ؛ يقال لهم : «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» يعني جهنم وعذابها «انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ* لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ» وحيث النار «تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ* كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ» فويل يومئذ للمكذّبين من

٢٠٣

غضب الله وعذابه (الآيات ٢٩ ـ ٣٤).

وهنالك تنطق الحجة البالغة لله ، ولا ينطق المكذّبون باعتبارهم تلجمهم الحجج من جهة ، «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» وكفى بهذا عذابا مهينا لهم بين يدي جبّار السموات والأرض ، وأمام الخلائق في محشر يوم القيامة (الآيات ٣٥ ـ ٣٧).

ويتحدّى السياق المكذّبين من الأولين والآخرين ، بهدف إذلالهم وإظهار صغارهم أمام الناس حيث كانوا يتكبرون في الدنيا بما عندهم من السلطة والمال ؛ يقول لهم : «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» الذي طالما كذّبتهم واستهزأتم به ، وأنتم مجموعون إلى بعضكم (أوّلين وآخرين) «فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ» وذلك جزاء كيدهم ومحاربتهم لله ولأوليائه في الدنيا ، فالويل لهم من ذلك الموقف وعذابه (الآيات ٣٨ ـ ٤٠).

ويبيّن القرآن سبيل النجاة من مصير المكذّبين السيء ، ألا وهو تقوى الله ، وهذا البيان يملأ قلوب المتقين أملا في رحمة الله ، واطمئنانا إلى لطفه ، بالذات والآية ظلال لغضب الله ووعيده بكلّ آياتها ومفرداتها عدا الآيات (٤١ ـ ٤٤) .. فالمتقون في مأمن من العذاب ، «فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ* وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ» يدعوهم ربّهم إلى مائدة فضله ورحمته «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وإنّه لجزاء كلّ تقيّ محسن عنده تعالى (الآيات ٤١ ـ ٤٤).

ويعود السياق موصولا بما سبق من الوعيد للمكذبين ، وهو يهدّدهم بالعذاب ، ويحذّرهم من عواقب انتهاجهم سبيل التكذيب والجريمة ، مؤكّدا بأنّهم لن يطول بهم المقام في متعهم الإجرامية حتى يقع بهم غضبه الذي لا تقوم له السموات والأرض (الآيات ٤٥ ـ ٤٧).

٢٠٤

وكيف لا يلحق بهم الويل والثبور وهم يتمرّدون على أوامر الله وأحكامه ، فلا يتبعون رسله ولا يصدّقون آياته «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ»؟! بلى. سوف يلحقهم العذاب (الآيات ٤٨ ـ ٤٩).

ويختتم ربّنا سورة المرسلات متسائلا سؤال استنكار : «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ»؟! وذلك ممّا يؤكّد القول بأنّ الإيمان بالآخرة وحديثها حجر الأساس في صرح الإيمان بكلّ المبادئ والحقائق الأخرى ، وهذا ما يجعل حديثها مذكورا على الدوام في آيات الوحي وبصورة مفصّلة (الآية ٥٠).

٢٠٥
٢٠٦

سورة المرسلات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ

___________________

٨ [طمست] : قال البعض : أي أنّ النجوم يذهب ضياؤها حتى تصير بلا ضياء أو نور ، والأصح : أنّ ذات النجوم تطمس فلا يبقى منها شيء أو أثر ، جاء في مفردات الراغب : الطمس إزالة الأثر بالمحو ، قال ـ تبارك وتعالى ـ : «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أي أزل صورتها ، «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ» أي أزلنا ضوءها وصورتها كما يطمس الأثر.

٢٠٧

(١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)

___________________

٢١ [مكين] : مستحكم ، وقال القرطبي : اي في مكان حريز وهو الرحم.

٣٢ [كالقصر] : قيل : هو البنيان الضخم ، وقيل : أصل الشجر ، وقال البعض : أنّ الأوّل أظهر والثاني أنسب.

٣٣ [جمالت صفر] : جمل أصفر ، قال البعض : شرر النار كالجمل الأصفر في لونه ، بعد ما كان بقدر القصر في حجمه ، وتشبيه الشرر بالجمالة لأنّه لتتابعه وتطايرها كالجمالات التي ترتع هنا وهناك.

٢٠٨

هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

٢٠٩

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ

بينات من الآيات :

[١ ـ ١٠] أرأيت الذي يكذّب بوعد الله يلغيه؟ كلّا .. إنّه يرتكب أكبر جريمة بتكذيبه بالحق ، فله الويل ثم له الويل.

وأنّى له التكذيب بما تواترت شواهده ، وتظافرت آياته ، بوعد الله الواقع الذي تكرّرت مصاديقه على امتداد التاريخ ، وهذه الرياح التي يرسلها ربّها بالعذاب حينا وبالخيرات أحيانا ؛ إنّها بعض آيات الوعد الإلهي. قسما بها وبالملائكة الموكّلين بها وبما تقدمّه لنا من الإعذار والإنذار : إنّ وعد الله لواقع.

هكذا تترى كلمات القسم التي اختلف في تفسيرها وتأويلها ، إلّا أنّها تتصل ـ أنّى كان تأويلها ـ بتلك الحقيقة العظمى : وقوع وعد الله ، كاتصال الشاهد الحضار بالغائب المنتظر ، وكاتصال الحجج بالحقائق ، والإرهاصات بالوقائع .. وهكذا سائر ما في الذكر الحكيم من قسم يتصل بما يقسم عليه اتصالا

٢١٠

واقعيّا. بلى. قد نجهل علاقة بعضه ببعض ، ولكنّا نعرفها عند التدبّر العميق فيها.

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً)

اختلفوا في تأويل «المرسلات» إلى رأيين أساسيين :

الأول : أنّها الرياح ، قال في المجمع : والمرسلات يعني الرياح ، أرسلت متتابعة كعرف الفرس عن ابن مسعود وابن عبّاس ومجاهد وقتادة وأبي صالح ، فعلى هذا يكون «عرفا» نصبا على الحال من قولهم : جاؤوا إليه عرفا واحدا ، أي متتابعين (١). وقد استدل أصحاب هذا الرأي بقول رسول الله (ص) : «الرياح ثمان : أربع منها عذاب ، وأربع منها رحمة ، فالعذاب منها : العاصف ، والصرصر ، والعقيم ، والقاصف ، والرحمة منها : الناشرات ، والمبشّرات ، والمرسلات ، والذّاريات. فيرسل الله المرسلات فتثير السحاب ، ثم يرسل المبشّرات فتقلع السحاب ، ثم يرسل الذاريات فتحمل السحاب فتدرّ كما تدرّ اللقحة ، ثم تمطر وهي اللواقح ، ثم يرسل الناشرات فتنشر ما أراد» (٢) ، وفي نفس المصدر : قام رجل إلى عليّ (ع) فقال : ما العاصفات عصفا؟ قال : «الرياح» (٣).

الثاني : أنّها الملائكة ، وفسّرت «عرفا» على أنّها أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه (٤) ، وقيل : انّهم الأنبياء والرسل ، الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كلّ خير ومعروف ، فإنّه لا شك أنّهم أرسلوا بلا إله إلّا الله ، وهو مفتاح كلّ خير ومعروف (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤١٥.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٠٣.

(٣) المصدر.

(٤) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٤١٥.

(٥) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ٢٦٧.

٢١١

والذي يبدو لي إمكانية الجمع بين القولين ، إذا عرفنا أنّ للرياح ملائكة موكلة بها ترسلها وتزجرها بأمر الله ، بالذات وأنّ الصيغة جاءت للمبني للمجهول. ومن هذا المنطلق نستطيع القول بأنّ الآيات ظاهرها الرياح وباطنها الملائكة ، أمّا عن إلقاء الذكر الذي نتلوه في السياق فيمكن تأويله بالرياح والملائكة معا ، فإذا أوّلنا «المرسلات» بالملائكة فإنّها تلقي وحي الله وآياته إلى الأنبياء ثم إلى الناس. وإذا أوّلناها بالرياح فإنّها الأخرى تلقي الغيث الذي يعدّ تذكرة للناس.

ويمكن أن يقال بأنّ «المرسلات عرفا» تعني الرياح التي تكون في صالح الناس وخيرهم ، أي المرسلات بما يعرفه الناس ويستسيغونه من غيث وبشارة.

وأنّى كان فإنّ إجمال مثل هذه الكلمات يجعلنا نوصل الحقائق ببعضها ، فلا نميّز بين الرياح المرسلات بالغيث والبركة وبين الملائكة الموكّلين بها أو المرسلين بالوحي والرسالة ، فإنّ فائدة القسم تتحقّق بهما ، كما أنّهما معا من شواهد وعد الله ، ويصحّ القسم بهما ، وهذا من روائع النهج القرآني في الأدب.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً)

في التبيان : يعني الرياح الهابّة بشدّة ، والعصوف مرور الريح بشدة ، وعصفت الريح تعصف عصفا وعصوفا إذا اشتدّ هبوبها (١) ، وإذا صرفنا المعنى إلى الملائكة فللعصف وجهان : أحدهما : السرعة ، فإنّ العرب تقول : فرس عصوف أي سريع الحركة ، قال العلّامة الطباطبائي : والمراد بالعصف سرعة السير ، استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها ، إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه (٢) ، والوجه الآخر : الإهلاك والتدمير ، قال الرازي : يعني أنّ الله لمّا أرسل أولئك

__________________

(١) التبيان / ج ١٠ ص ٢٢٣.

(٢) الميزان / ج ٢٠ ص ١٤٦.

٢١٢

الملائكة فهم يعصفون بروح الكافر ، يقال : عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه (١) ، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم وأهلكتهم ، ويقال : عصف الدهر بهم أي أبادهم (٢).

ويبدو أنّ الأقرب إلى السياق تأويل العصف بسرعة الرياح في حمل الغيث ، وليس في سرعتها في الإهلاك.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً)

إذا قلنا أنّها الرياح فهي تنشر السحاب في الآفاق ، وتنشر الغيث والرحمة الإلهية من زرع وغيره ، كما أنّها تنشر الحبوب واللقاح في بقاع الأرض المختلفة ، كما أنّ الملائكة ينشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي (٣) ، وتنشر الكتب عن الله (٤) ، أو تنشر الرحمة والعذاب ، أو تنشر الكتب يوم الحساب (٥).

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً)

قيل : أنّها الرياح التي تفرّق بين السحاب فتبدّده (بعد اجتماع ، ليقف المطر ، وتطلع الشمس ، ويظهر وجه السماء بعد الغيب) عن مجاهد (٦) ، كما تفرّق الملائكة بين الحقّ والباطل بما تتنزّل به من الآيات والوحي عن الله على رسله. هكذا في التبيان (٧) والتفسير الكبير (٨).

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ٢٦٤.

(٢) المنجد / مادة عصف.

(٣) الكشاف / ج ٤ ص ٤١٠.

(٤) التبيان / ج ١٠ ص ٢٢٣.

(٥) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ٢٦٤.

(٦) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٢٦٦.

(٧) التبيان / ج ١٠ ص ٢٢٤.

(٨) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ٢٦٦.

٢١٣

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً)

الملائكة تلقي رسالات الله على الأنبياء ، ولكنّ الملائكة ليست وحدها التي تذكّرنا بالله إنذارا وإعذارا فإنّ الرياح تفعل ذلك أيضا ، لا فرق إن كانت رياح عذاب أو رياح رحمة ، والغيث النازل منها هو الآخر ذكر عظيم باعتباره يذكّرنا بالبعث والخروج عند ما يسقي الأرض فتراها اهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج ، وهذه الفكرة تفسّر لنا اقتران الكلام عن القرآن ورسلات الله كثيرا بالحديث عن منظر الغيث وما يتلوه من ظواهر طبيعية على الأرض.

(عُذْراً)

عذرا بإقامة الحجة حيث ألقى الله الذكر عبر الملائكة ، أو حذّرهم وذكّرهم بالرياح العاصفة .. كلّ ذلك قبل أن ينزل عليهم العذاب.

(أَوْ نُذْراً)

والإنذار معروف ، ولكن نتساءل عن الفرق بينه وبين الإعذار ، ولعلّ الجواب : أنّ الإعذار يأتي عند ما لا يستجيب الإنسان للإنذار ، بينما الإنذار أعم ، وربما يكون عند الاستجابة إذا قورن بالإعذار ، وقد قيل : لقد أعذر من أنذر ، وربما يعود إلى هذا المعنى جملة ما ذكره المفسّرون ، قال شيخ الطائفة : وقيل : إعذارا من الله ، وإنذارا إلى خلقه ما ألقته الملائكة من الذكر إلى أنبيائه ، وأضاف : فالعقاب على القبيح بعد الإنذار يوجب العذر في وقوعه ، وإن كان بخلاف مراد العبد الذي استحقّه (١). وقيل : عذرا يعتذر الله به إلى عباده في العقاب أنّه لم يكن إلّا على وجه الحكمة ، ونذرا : أي إعلاما بموضوع المخافة ، عن الحسن (٢).

__________________

(١) التبيان / ج ١٠ ص ٢٢٤.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٤١٥.

٢١٤

وإنّ أهم ما تلقيه المرسلات ملائكة ورياحا تذكيرها بالآخرة وبأنّ وعد الله صادق. أوليس تتلاحق الظواهر الطبيعية في الكائنات فتأتي الرياح مرسلات عاصفات ناشرات فارقات ، وتأتي بعدها المواسم الخيّرة والسنين المباركة ، أو تأتي العواصف الهوج ويأتي من بعدها الدمار؟ أوليست هذه الظواهر يشهد أوّلها على آخرها؟ كذلك شواهد العذاب تنذرنا بوعد الله الواقع به ، كما شواهد الرحمة تبشّرنا بوعد الله الواقع بها.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ)

وهذا جواب القسم المتقدّم في الآيات السابقة ، وهو مدعوم بثلاثة تأكيدات : إنّ ، والحصر ، واللام في : «لواقع». ومع أنّ البعض حصر الوعد في القيامة واحتجّ : بأنّه تعالى ذكر عقيب هذه الآيات علامات يوم القيامة (١) ، إلّا أنني أختار الإطلاق الشامل لكلّ وعد إلهي ، كوعده بنصر المؤمنين ودحر الظلمة ، وإحياء الأرض بعد موتها بالمؤمنين ، وغلبة دينه ورسله والمؤمنين على الدّين كلّه في آخر الزمان بظهور منقذ البشرية الإمام الحجة المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ والذي يهدينا إلى هذا التفسير الشامل هو أنّ القرآن حمّال ذو وجوه ، وتفسيره يكون أصحّا كلّما كان أشمل ، وقد وجدت من قال بإطلاق الوعد من المتقدّمين الكلبي الذي قال : المراد أنّ كلّ ما توعدون به من الخير والشر لواقع. وحيث أنّ وعد الله بالبعث والحساب والجزاء هو أظهر مصاديق الوعد وأقربها إلى الأذهان كما إلى دلالة السياق فإنّه الأظهر تأويلا من أيّ مصداق آخر.

وإنّ اطمئنان الإنسان لوعد ربه ـ وبالذات الآخرة ـ أمر في غاية الأهمية ، باعتباره يبعث روح التسليم لله في كلّ أبعاد الحياة ، ويبعث فاعلية العمل وتقوى

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ٢٦٨.

٢١٥

الالتزام بشرائعه ومناهجه .. فلو يئس المؤمنون من الإنتصار والتغيير لما أكملوا مسيرة الجهاد والإصلاح ، ولو كفر الإنسان بالآخرة (البعث والحساب والجزاء) لما التزم بالنظم والشرائع الإلهية ، ذلك أنّ الإيمان بسنّة الجزاء الممتدة من الدنيا إلى الآخرة هو الذي يحرّك فيه روح الانضباط والمسؤولية.

والذي يتدبّر آيات القران في موضوع الآخرة يلاحظ أنّها أصبحت من الكثرة والتفصيل والتأكيد من أبرز خصائص هذا الكتاب ممّا يبعث السؤال عن سبب ذلك وخلفياته.

لعلّ أهم الأسباب هي التالية :

أوّلا : أهمية موضوع الآخرة ، فإنّ الآخرة ـ كما سبق وأن قلنا في مواضع كثيرة ـ تعتبر حجر الأساس في تفكير الإنسان المؤمن وإيمانه.

ثانيا : إنّ الآخرة غيب في المستقبل والإسلام يريدها حاضرة في وعي المؤمنين ، من هنا يفصّل الحديث فيها وينوّعه ويكرّره حتى يوصل ذلك الغيب إلى مستوى الشهود عندهم ، لذا نجد القرآن بعد الإشارة إلى الآخرة يبيّن الأمر ويفصّل في توجيهنا إلى مشاهدها العظيمة.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ)

قال القمي : يذهب نورها وتسقط (١) ، وقال العلّامة الطوسي : والطمس محو الأثر الدال على الشيء ، والطمس على النجوم كالطمس على الكتاب ، لأنّه يذهب نورها والعلامات التي كانت تعرف بها (٢) ، وقال الفخر الرازي : يحتمل أن يكون

__________________

(١) تفسير القمّي / ج ٢ ص ٤٠٠.

(٢) التبيان / ج ١٠ ص ٢٢٥.

٢١٦

المراد محقت ذاتها ، وهو موافق لقوله «انتثرت» و «انكدرت» وأن يكون المراد : محقت أنوارها ، والأوّل أولى لأنّه لا حاجة فيه إلى الإضمار (١). والأقرب عندي ما قاله الرازي لأنّ أصل الطمس من المحو وغياب المطموس.

كما يظهر من ملاحظة الآيات القرآنية التي تناولت موضوع القيامة من زاوية حال النجوم يومئذ أنّها كما الجبال تمرّ بمراحل حتى تنتهي وتزول ، فهي تنتثر عن بعضها ونسقها بسبب اختلال نظامها الكوني أوّلا ، ثم تنكدر واحدة واحدة ، ثم تطمس تماما فلا يبقى منها شعاع يدلّ عليها.

(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ)

في تفسير القمّي : «تنفرج وتنشق» هكذا جاء في رواية عن أبي الجارود عن الإمام الباقر (ع) (٢) ، وفي مجمع البيان : أي صارت فيها فروج (٣) ، بعد أن كانت محبوكة محكمة لا ثغرة في نظامها ولا منفذ في بنيانها أبدا (لا تفاوت ولا فطورا) ، ولعل هذه مرحلة أولية تعقبها مراحل متتالية أخرى. وحسبما يظهر من آيات كريمة أخرى : أنّ مراد القرآن من ذكر تبدّل نظام الخليقة سلب اعتماد الإنسان عليه ، ليصبح وجها لوجه أمام مسئولياته ، فالسماء التي كانت سقفا محفوظا تصبح يومئذ واهية ، والجبال التي كانت ملاذا وكهفا تصبح كثيبا مهيلا ، والأرض التي كانت مهدا مطمئنا تميد بزلزال عظيم ، وهكذا.

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ)

قالوا : نسف البناء : قلعه من أصله ، والجبال : دكّها .. ونحن ندرك ما ذا يعني

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ٢٦٩.

(٢) تفسير القمّي / ج ٢ ص ٤٠٠.

(٣) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٤١٥ بتصرف.

٢١٧

نسف الجبال التي جعلها الله أوتاد الأرض ، فلا تستقرّ وتميد بأهلها ويتحطّم نظامها بحيث لا تصلح للعيش.

وتلك كلّها بعض مشاهد القيامة الرهيبة ، ولك أن تتصوّر هذا المخلوق الضعيف كيف يعاصر تلك الأهوال الكونيّة ، وأنّى له بركن يأوي إليه منها؟! إلّا أن يكون قد سعى سعيا صالحا يخلّصه منها.

[١١ ـ ١٩] ويبقى المشهد الأهم من ذلك والموقف العصيب حينما يحين ميعاد الشهادة فيأتي الرسل شهداء على المكذّبين من أممهم.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)

جعل لها ميعاد محدّد في وقت معلوم للابتعاث وفي أرض معلومة ولهم وقت معلوم للشهادة ، وذلك يهدينا إلى أنّ حركة الأنبياء وبعثهم ليست اعتباطية بل هم في الدنيا والآخرة يسيرون على أساس حكمة إلهية ، فلو أنّنا درسنا حركتهم التاريخية من جميع جهاتها وحيثيّاتها لوجدنا أنّ بعثهم قائم على مجموعة من القوانين الاجتماعية والحضارية ، بحيث أنّ زمن بعث نبيّنا محمد (ص) ومكان بعثته مثلا كانا مناسبين تماما لرسالته ودوره ، وربما أشار إلى ذلك الإمام الباقر (ع) في رواية أبي الجارود عنه قال : «بعثت في أوقات مختلفة» (١). كما أنّ شهاداتهم في الآخرة لا تبدأ في أيّ وقت أو بمجرّد أن تقوم القيامة بالبعث ، كلّا .. بل للرسل ميقات معلوم لا تؤدّي دورها المناسب إلّا فيه.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ)

قال العلّامة الطباطبائي : الأجل المدّة المضروبة للشيء ، والتأجيل جعل

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٤٠٠.

٢١٨

الأجل للشيء ، ويستعمل في لازمه وهو التأخير ، كقولهم : دين مؤجّل أي له مدّة بخلاف الحال ، وهذا المعنى هو الأنسب للآية (١). وقد اختلف في الشيء الذي يعود عليه الضمير من «أجّلت» ، فقال صاحب الميزان أنّه : للأمور المذكورة قبلا ، من طمس النجوم ، وفرج السماء ، ونسف الجبال ، وتأقيت الرسل ، والمعنى : لأيّ يوم أخّرت يوم أخّرت هذه الأمور (٢) ، وقيل : هو عائد إلى الرسل فقط. ومع أنّ لرأي صاحب الميزان محمل في الآيات حيث تفيد «إذا» الواردة في الآيات كلّها معنى التأجيل ، إلّا أنّ الأقرب هو عودة الضمير إلى الرسل باعتبار التصاق كلمة «أقّتت» بهم دون النجوم والسماء والجبال ، ولأنّهم أصحاب الشهادة وميزان الفصل بين الناس عند ربّ العزّة ، الذي جعل لهم شهادتين متكاملتين : إحداهما في الدنيا بقيامهم شهداء لله بالقسط وقد تقدّمت ، والأخرى في الآخرة ، بجعلهم الحجة والمعيار في محكمة القيامة ، وقد أجّلها ربّنا لذلك اليوم.

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ)

بين الناس في اختلافهم من كلّ الجهات ، وبين أهل الجنة وأهل النار ، وسمّيت القيامة بيوم الفصل لأنّها اليوم الذي يفصل فيه الخطاب ويحكم للناس في مصائرهم. وإذا كانت الآخرة مقسّمة أيّاما ومراحل فإنّ الرسل يدلون بشهاداتهم ليس في يوم البعث عموما ـ حسبما يبدو ـ بل في ساعات الفصل عند الميزان.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ)

إنّه يوم رهيب لا يمكن لبشر أن يستوعب أحداثه ووقائعه على طبيعتها وبحجمها

__________________

(١) تفسير الميزان / ج ٢٠ ص ١٤٩.

(٢) المصدر.

٢١٩

أبدا مهما عرّف له ، وذلك لأنّ تلك الحقائق كبيرة ليست بحجم معارفنا ، فهل نقدر أن نستوعب ـ مثلا ـ معنى انفجار ألف قنبلة نووية في لحظة واحدة؟ كلّا .. من هنا يؤكّد ربّنا في مواضع كثيرة بعد الحديث عن الآخرة القول : «وما أدراك» تارة وما يدريك تارة أخرى.

ولا يفصل السياق في بيان أحوال الناس ومصائرهم يومئذ ، بل يكتفي بإشارة تتضمّن الوعيد والإنذار بمصير أولئك المكذّبين بالآخرة ، الذين أبعدوا عن أفكارهم مشاهد الحساب وحقائق الجزاء الأكبر فيها ، فأطلقوا لأنفسهم عنان الهوى والشهوة ، وتخبّطوا في الجريمة والفاحشة خبط عشواء ، دون أدنى حساب أو إحساس بالمسؤولية.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)

وكلمة «ويل» كما تكرّر القول مطلقة تشمل ألوان العذاب المادي والمعنوي ، والتي تتجسّد في واد من أشدّ أودية جهنم خزيا وعذابا ، ولهذا تخصّص الويل بقوله تعالى : «يومئذ» حيث لا يعني أنّهم لا ويل لهم هنا في الدنيا ، ولكنّه يحمل على أشدّ ألوان الويل هناك ، باعتبار ذلك اليوم أظهر مصاديق ورطتهم في الويلات والثبور.

وأيّ ويل هذا الذي يهدّد به القرآن المكذّبين؟ لكي نعرفه دعنا نتذكّر نموذجا صغيرا منه يتمثّل في عذاب المكذّبين في الدنيا.

وهكذا يذكّرنا القرآن بعاقبة المكذّبين في الدنيا عبر أرقام وحقائق مادية محسوسة لا تقلّ حقيقة الآخرة عنها وضوحا لدى العقلاء إن لم تكن أشدّ وأصفى ، فيتساءل السياق سؤال مستثير لأولي الألباب نحو التفكير في مصائر المكذّبين من خلال دراسة

٢٢٠