من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

سورة النّبأ

٢٤١
٢٤٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

روي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال : «من قرأ هذه السورة وحفظها لم يكن حسابه يوم القيامة إلّا بمقدار سورة مكتوبة حتى يدخل الجنة»

البرهان في تفسير القرآن / ج ٤ ص ٤١٩

٢٤٣

الإطار العام

الحقائق الكبرى تحيط بلبّ البشر إحاطة السوار بالمعصم ، كلّما أراد منها هروبا وجدها أمامه ، ولا ريب أنّ النشور للحساب ، والولاية من تلك الحقائق ، فبالرغم من محاولات الفرار منها تراهم يتساءلون عنها ، لأنّها من النبأ العظيم ، والنبأ العظيم يجده الإنسان أمامه أنّى اتجه ، ولأهميته يختلفون فيه ، في تفاصيله مرّة وفي محاولات التهرب منه أحيانا.

كلّا .. إنّه يفرض نفسه عليهم حتى يعلموه علم اليقين ، ثم كلّا سيعلمونه حين يرون عواقب تكذيبهم به.

بعد هذه الفاتحة الصاعقة تمضي السورة تذكّرنا بآيات الله في الخليقة والتي تهدينا إلى أنّه عليم حكيم ، وأنّه لم يخلق العباد سدى ، وإنّما بحكمة بالغة تتجلّى في المسؤولية. لقد خلق ما في الأرض للإنسان فلأي شيء خلق الإنسان نفسه؟ ألم يجعل الأرض مهادا ، والجبال أوتادا ، بل وجعل في ذات الإنسان ما يدل على بديع

٢٤٤

الصنع ، وبالغ الحكمة؟ لقد خلقنا أزواجا ، وجعل لنا النوم استراحة عن العمل ، وجعل الليل لنا سترا والنهار معاشا للنشاط والحركة ، أمّا السماء فقد جعلها سقفا محفوظا بسبع طبقات شداد ، وعلّق فيها لأهل الأرض سراجا وهّاجا ، ثم أنزل منها ماء متواصلا مندفعا ، ثم جعل هذا النظام مترابطا ببعضه فأنبت من الأرض حبّا ونباتا ، وجنّات ألفافا ، كلّ ذلك من أجل الإنسان ، والإنسان من أجل المسؤولية ، ولكي يقدّم للمحاكمة غدا في يوم الفصل الذي كان ميقاتا للحساب ، يوم ينفخ في الصور فيتوافد الخلائق أفواجا أفواجا. أمّا السماء فإنّها تتحول إلى أبواب لتنزل الملائكة بالعذاب أو الثواب. أمّا الجبال التي أكنّت البشر فتكون سرابا.

هنالك الحساب ، فبينما يساق الطغاة إلى جهنم ليبقوا فيها أحقابا بلا برد ولا شراب تجد المتقين في مفاز ، حيث يدخلون الجنة ليتمتعوا بنعيمها وأمنها وخلودها ، وهذا وذاك يكون تجسيدا لمسؤوليتهم في الدنيا ، وجزاء وفاقا لأعمالهم.

وتختم السورة بتصوير مشهد من مشاهد القيامة حيث يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون ، ويذكّرنا ربنا بأنّ فرصة الإختيار السليم لا تزال قائمة فقد أنذرنا عذابا قريبا ، يوم يرى المرء أعماله التي قدّمها متجسدة أمامه. أمّا المؤمن فيفرح بها ، وأمّا الكافر فيقول : يا ليتني كنت ترابا ولم أقدّم مثل هذه الأعمال أو أتحمل تلك المسؤوليات.

٢٤٥
٢٤٦

سورة النّبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً

___________________

١ [عمّ] : أصلها : عن ما ، مركّبة من عن الجارّة وما الاستفهامية ، ثمّ أدغمت النون في الميم لقرب مخرجها ، وحذفت الألف من ما على ما هي عليه القاعدة من حذفها مطلقا إذا دخل على ما حرف الجر.

٦ [مهادا] : وطاء وقرارا مهيّئا للتصرّف ، كالمهد الذي يتصرّف فيه الطفل من غير أذيّة.

٧ [أوتادا] : جمع وتد وهو المسمار إلّا أنّه أغلظ منه ، فالجبال هي مسامير للأرض تحفظها من التشقّق والتبعثر في الهواء من جرّاء الحركة والجاذبيات.

٢٤٧

(٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠)

___________________

٩ [سباتا] : قاطعا للعمل لأجل الاستراحة ، ومنه سبت أنفه إذا قطعه.

١٣ [وهّاجا] : الوهّاج الوقّاد المشتعل بالنور العظيم ، من وهج بمعنى أنار وأضاء.

١٤ [المعصرات] : السحائب تعتصر بالمطر كأنّ السحاب يحمل الماء ثمّ تعصره الرياح وترسله كإرسال الماء بعصر الثوب ، وعصر القوم : مطروا .. وقال البعض : إنّها أودع فيها من الطاقات العاصرة حتى تمطر.

[ثجّاجا] : الثجّاج الدفّاع في انصبابه كثجّ دماء البدن ، من ثجّ بمعنى انصبّ بكثرة.

١٦ [ألفافا] : الألفاف الأخلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض ، وهكذا الجنّات فأشجارها يلتفّ بعضها على بعض.

٢٤٨

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً

هدى من الآيات :

أتراهم يتساءلون عن النبأ العظيم ، عن يوم الجزاء (عن مسئولية الولاية) ويختلفون فيه (ثم لا يبحثون بجدّ عن الإجابة الصحيحة)؟ كلّا .. (دعهم في غيّهم) فسوف يعلمون ، ثم كلّا .. (ليس الأمر بهذه البساطة) فسيعلمون.

أفلا يبصرون شواهد التدبير والحكمة : في الأرض التي مهّدت لهم ووتّدت بالراسيات ، في خلقهم أزواجا تتكامل أبعاد وجودهم ببعضهم ، في حياتهم كيف نظّمت فجعل الليل لهم سكنا وجعل النهار لمعاشهم مبصرا ، وفي السموات التي تحفظهم عن الطوارق ، وكيف جعل الله فيها سراجا وهّاجا ، وفي تدبير رزقهم بالغيث الذي ينزل عليهم ماء ثجّاجا فيخرج الله به حبّا ونباتا وجنّات ألفافا؟!

بلى. لو أنّهم أبصروا شواهد الخلقة وآيات الحكمة لعلموا أنّ يوم الفصل آت وأنّهم لمجموعون إليه عند ما ينفخ في الصور فيتوافدون على ربّهم أفواجا .. ويومئذ

٢٤٩

تفتح أبواب السماء فتنزل الملائكة بالجزاء. أمّا الجبال فتسيّر ثم تتلاشى كما السراب!

بينات من الآيات :

[١] يعرض البشر عادة عن التفكير الجدي في الحقائق الكبرى التي ترسم الخطوط العريضة في حياته ، لما ذا؟ هل لأنّها غامضة؟ كلّا .. بل لأنّ في نفسه نزوعا عنها ، أوليست معرفتها تحمّله مسئوليات كبيرة. إذا لما ذا يكلّف نفسه عناء ذلك؟ دعه يمرّ على آياتها غافلا عساه يتهرب من مسئولياتها. ولكن هل الإعراض عنها يغنيه شيئا؟ كلّا .. إنّه بالغها فمواقعها شاء أم أبى ، آمن أم عاند وكفر.

من تلك الحقائق يوم الفصل وميقاته ، وما فيه من أهوال عظيمة تدع الولدان شيبا ، وما يفرضه علينا من مسئولية التسليم للحق ولقيادته ، فهل يمكن الإعراض عن كلّ ذلك؟ كلّا .. لأنّ آياته ملأت آفاق حياتنا ، وإنّنا لا زلنا نتساءل عنها ونختلف فيها ولكن ليس بصورة جدّية ، وغدا حين نواجهه نعلم مدى الخسارة في هذا التساهل ، ولا يسعفنا الندم يومئذ شيئا.

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ)

[٢] وإذا كان الإنسان يعرض عن النبأ العظيم فلما ذا يتساءل عنه؟ ربما لأنّ شواهده تفرض عليه التساؤل ، فهو من جهة يتهرب من التسليم له لأنّه يحمّله مسئولية التسليم للحق ولقيادته ، ومن جهة ثانية لا يستطيع الفرار من آياته التي تحيط به ، فيظل يتساءل عنه : كيف ومتى وأين ولما ذا!؟ ومراده من كلّ ذلك الفرار منه ، وفي الذكر الحكيم بيان لتساؤلاتهم عن يوم الفصل : أنّى هو ، ومتى هو ، وكيف يحيي الله فيه الأموات ، وما أشبه.

٢٥٠

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)

فما هو ذا النبأ العظيم؟ هل هو مجمل الحقائق العظيمة كالتوحيد والرسالات والبعث والجزاء ، أم أنّه يوم الفصل الذي يذكره السياق لا حقا ، أم أنّه ولاية الإمام علي ـ عليه السلام ـ حسبما ذكر في رواية مأثورة عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ؟

كلّ ذلك محتمل ، لا سيما ونحن نعرف أنّ الحديث عن موضوعات الرسالة متواصل بعضها مع بعض ، فمن تساءل عن يوم الفصل فإنّما يتساءل عنه ليعرف هل عليه أن يسلّم للنذير به وهو الرسول ولمن يأمره الرسول باتباعه.

وإذا كان الفرار من المسؤولية هو الباعث نحو جحد يوم الفصل فإنّ أعظم المسؤوليات التسليم للقيادة الشرعية والتي تمثّلت في ولاية أئمة الهدى وفي طليعتهم الإمام علي عليه السلام.

وهكذا روي عن الحافظ أبي بكر محمد بن المؤمن الشيرازي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في تفسير هذه الآية أنّه قال : «المراد ولاية علي الذي يسأل عنها في القبر» (١).

وروي عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال : «النبأ العظيم الولاية» (٢)

وقال الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه السلام ـ : «قال أمير المؤمنين

__________________

(١) عن رسالة الإعتقاد للحافظ أبو بكر محمد بن المؤمن الشيرازي في تفسير نمونه ج ٢٦ ص ١٠.

(٢) المصدر / ص ١١.

٢٥١

ـ عليه السلام ـ : ما لله نبأ أعظم منّي ، وما لله آية أكبر منّي» (١).

وروي عن الإمام الحسين بن علي ـ عليه السلام ـ أنّه قال : «قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لعليّ ـ عليه السلام ـ : يا علي! أنت حجّة الله ، وأنت باب الله ، وأنت الطريق إلى الله ، وأنت النبأ العظيم ، وأنت الصراط المستقيم ، وأنت المثل الأعلى» (٢).

[٣] واختلافهم في النبأ العظيم دليل على أنّهم لا يملكون حجة دامغة لنفيه فإذا بهم يترددون في أمره ، تدعوهم آياته للإيمان به بينما تدعوهم أهواؤهم إلى الجحود.

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)

ولعل اختلافهم يكون أيضا في تفسير دلائله وكيف يتهربون منها. ألا تجد كيف ضربوا للرسول الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فقالوا إنّه مجنون بل هو شاعر بل افتراه ، وهكذا يكون الاختلاف دليل عجزهم عن تفسير آيات الحقيقة التي ينكرونها.

[٤] وهل إنكارهم للحقيقة يلغيها أو اختلافهم فيها يخفّف عنهم ووطأتها حين تنزل بهم!؟

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)

يوم يساقون إلى الجزاء فلا يجدون عنه محيصا.

[٥] بل إنّهم سيجدون الجزاء في الدنيا قبل الآخرة.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٩١.

(٢) المصدر.

٢٥٢

(ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)

وقال بعضهم : إنّ هذه الآية تشير إلى أنّهم سيعلمون الحق في الآخرة بينما الآية السابقة تشير إلى ما يعلمونه في الدنيا. ويحتمل أن يكون الإتيان بمفهوم واحد للتأكيد.

[٦] أو لا يبصرون آيات الله في الخلق فيعرفون حكمته وأنّه لم يخلقهم عبثا ولن يتركهم سدى؟

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً)

أولا تراها كيف ذلّلت لمعاشك تذليلا؟ انبسطت عليها طبقة من التراب تستخدمه للسكنى والزراعة ، وتسوّيه لحركتك ، ويحتضن أجسادنا بعد الموت ، ويستوعب سائر أنشطتنا في الحياة.

وإذا أمعنا النظر رأينا أنّ سائر ما في الأرض هيّء لحياة الإنسان ، ولا نعرف مدى أهمية الأنظمة التي أجراها الربّ في الأرض إلّا بعد قياسها بسائر الكرات القريبة التي لم نعهد في أيّ منها أثرا للحياة ولا فرصة للعيش. أوليس في كلّ ذلك دليل على التدبير والحكمة؟ أولا نهتدي بها إلى أنّ الله لم يخلقنا عبثا؟

[٧] ولكي تستقر الأرض وما فيها ، ولا تتعرض لأمواج الأعاصير التي تحيط بها ، ولا لتناوب المدّ والجزر الناشئين من جاذبية القمر كما البحر ، ولكي تتحصن قشرة الأرض من أخطار الزلازل والبراكين والانهيارات بسبب الغازات التي تتفاعل في نواتها الداخلية ، لكلّ ذلك ولأسباب أخرى عديدة نعرف بعضها ونجهل الكثير جعل الله للأرض أوتادا هي الجبال.

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً)

٢٥٣

هذه القمم السامقة ، وتلك السفوح المنبسطة ، وهذه الشبكة من الصخور التي تتصل ببعضها من فوق الأرض ومن تحتها. إنّها تحصّن الأرض كما الدروع السابغة. أفلا نبصر آثار القدرة ولمسات الحكمة على الطبيعة من حولنا؟ فسبحان الله وتعالى عن العبث واللغو.

[٨] وإذا عدنا إلى الأنظمة التي تسود حياتنا أبصرنا المزيد من آثار القدرة والحكمة فيها ، فهذه سنّة الزوجية التي تكشف من جهة مدى حاجتنا إلى بعضنا ، كما تعكس من جهة ثانية حسن تدبير الخالق ، ودقّة تنظيمه.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً)

لو كنا قد خلقنا أنفسنا لكنا جعلناها أكمل وأقوى منها الآن ، مثلا ربما لم نوجد فيها حاجة إلى الجنس الآخر أو إلى الطعام والشراب والراحة والسكن وما أشبه. ولو أوجدتنا الصدفة لم نجد فيها هذا التكامل مما نجده مثلا بين الزوجين ، تكاملا في الروح والجسد ، في الغرائز والشهوات والحاجات حتى اغتدى كل جنس سكنا للجنس الآخر يجد فيه ما يفتقر إليه ، قال سبحانه : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (١).

[٩] وبمناسبة الحديث عن الزوجة وعن السكن الذي توفّره يذكّرنا الرب بنعمة النوم الذي هو نوع من السكن ، يهيمن على ذرأت وجودنا ويقطعها عن التفاعل المجهد مع المحيط ، ويبسط على أرجاء الجسد غلالة من الهدوء والراحة.

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً)

ويبدو أنّ معنى السبات هو الفراغ الموقّت أو التعطيل وقطع تيّار النشاط.

__________________

(١) الروم / ٢١.

٢٥٤

ما هو النوم ، وكيف يحدث ، وما أسراره؟ إنّ العلم الحديث لا يزال يتوغّل في رحاب هذه الظاهرة العامة من حياة الإنسان ويكشف المزيد من أسراره ، إلّا أنّ الثابت أهمية دور النوم في تهدئة أعصاب البشر ، ومساعدة مخه على تنظيم المعلومات وتخزينها ، وعودة الجسم إلى أنظمته الذاتية بعد تعرّضه للمؤثرات الخارجية ، وبسط قدر من الهدوء إلى مختلف الأعضاء ، وبكلمة : النوم استراحة الجسم بعد جهد متواصل.

[١٠] ويتمّ النوم عادة في الليل حيث يسدل أستاره على الطبيعة ، ويضفي عليها جوّ الهدوء والسكينة.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً)

أرأيت لو كانت الأرض بمن فيها وما فيها تتعرض لأشعة الشمس باستمرار أفلم تكن تؤثّر الأشعة فيها وتجهدها؟ هكذا نظّم الله الأرض بحيث يتناوب عليها الليل والنهار لضمان استمرار الحياة فيها.

والتعبير ب (لباس) بالغ في الروعة والدقة. أوليس اللباس يستر الشيء عما يشينه ويضره ، كذلك ظلام الليل يستر الطبيعة والأحياء عن استمرار تعرضهما للأشعة.

[١١] وبعد أن تسترخي الطبيعة فوق فراش الظلام ، يستنهضها النهار لمسيرة متجددة ، فها هي خيوط أشعة الشمس توقظ الروابي والسهول ، وتبعث في النبات والأحياء النشاط والحيوية لتجديد نفسها ، وتواصل حركتها.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)

٢٥٥

أي ميعادا للعيش ، ووقتا مناسبا للاسترزاق ، وهكذا جعل الله في كلّ حيّ حاجة إلى النمو والاستمرار ، وأودع فيه إحساسا بهذه الحاجة لكي يسعى إليها ، ووفّر له فرص تحقيقها. أفلا يهدينا ذلك إلى أنّه المدبّر العليم ، وأنّه قادر على نشرهم إلى يوم الفصل ومحاسبتهم؟

[١٢] وهكذا جعل الله الأرض دارا مهيّأة لحياتنا وبنى فوقها سقفا محفوظا ، لكي لا تتساقط علينا النيازك والأحجار السابحة في الفضاء ولا ينزل علينا ما يضرنا من أشعة النجوم الضارة ومن حرارة الشمس المهلكة.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً)

ما هي هذه السبع الشداد؟ هل هي المجرات المحيطة بمجرّتنا أو المنظومات الشمسية القريبة منا ، أم هي السموات التي زيّنت واحدة منها بالنجوم وهي التي نعرف عنها شيئا قليلا أمّا الست الباقيات فعلمها عند الله ... أم ما ذا؟

لعلّ أقرب المعاني هو ذلك الغلاف الجوي المحيط بالأرض ذو الطبقات المختلفة التي تمتد في عمق مائة كيلومتر ، وتشكّل سقفا متينا للأرض ، يحفظها من الأجرام التائهة في رحب الفضاء ومن الأشعة الضارة.

[١٣] من أين تستقي الأرض قدراتها؟ إنّها أمّنا فمن هي أمّها التي تغدق عليها بالطاقة؟ إنّها الشمس التي ترضعها عبر مسافة مائة وخمسين مليون كيلومترا تقريبا بالنور والحرارة ، ومن خلال أشعة الشمس تتغذى النباتات والأحياء وتتكون في الأرض المعادن المختلفة.

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً)

ويبدو أنّ المراد من الوهج هو الأشعة حسب الراغب في مفرداته.

٢٥٦

أفلا نهتدي إلى أسماء ربنا الحسنى من خلال آياته التي ذكّرنا بها القرآن ، فإذا لم نتعرف على قدرة ربنا وحكمته وعلمه وتدبيره من خلال آية الشمس فبما ذا نهتدي؟ لقد سخّر الله الشمس لحياة البشر ، وأشعل هذه الكرة الملتهبة في الفضاء.

إنّ درجة حرارة الشمس تناهز ستة آلاف درجة فهرنهايت. هذا عن سطحها ، أمّا العمق فإنّ درجة حرارتها تبلغ الملايين ، وهكذا تنفث هذه الكرة اللاهبة أشعة قد تمتد أكثر من مائة ألف كيلومتر وذلك بسبب التفاعلات الذرية التي تلتهم من جرمها في كلّ ثانية زهاء أربعة ملايين طن. (١)

وقد جعل الله بين الشمس والأرض هذه المسافة المحدودة لكي تستفيد منها الأرض دون أن تضربها ، ولو كانت المسافة أبعد لتجمدت أو أقرب لاحترقت.

[١٤] وإذا كانت الأرض تتغذى بأشعة الشمس ككل فإنّ حياة البشر تعتمد عليها أيضا ، وأقرب مثل لذلك دورة الماء. أوليست أشعة الشمس التي تشرق على المحيطات هي التي تسبب في تصاعد الغيوم عنها ، ثم إنّها تكوّن الرياح التي تحملها ، ثم تتمخّض السحب عن الغيث الذي يرزقنا الله به كلّ خير؟

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً)

لما ذا سمّيت السحب معصرات؟ هل لأنّها تتراكم على بعضها فتسبب الأمطار ، أم لأنّ نظاما طبيعيّا يسودها حين هطول المطر بسبب اعتصارها (كما قالوا) أم أنّ ذلك إشارة إلى حالة نزول الغيث الشبيهة بعصر الثياب؟ كلّ ذلك محتمل.

أمّا الثجّاج فقد قالوا أنّه المتتالي في السقوط.

__________________

(١) تفسير نمونه / ج ٢٦ ص ١٨٦ نقلا عن طائفة من الكتب العلمية.

٢٥٧

[١٥ ـ ١٦] هكذا يرفع الله مياه البحر بعد تحليتها إلى عنان السماء ، ويبسطها في صورة السحب المتراكمة فوق مساحات شاسعة ، ثم يسوقها إلى حيث يشاء من الأرض فيسقيها ، لكي لا يبقى سهل أو جبل إلّا وتشمله بركاتها .. ثم إنّها تصفّي الجو من الأدران والغبار ، وتساعد في قتل الجراثيم. أمّا على الأرض فينبت الله بها ألوانا من المواد الغذائية كالحبوب التي تشكّل أهم مصدر للغذاء عند البشر فالخضروات ثم الثمار.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً)

أرأيت البساتين والغابات كيف تلتف أشجارها ببعضها؟ إنّها من بركات الغيث.

إنّ هذا النظام الذي لا نجد فيه ثغرة أو فراغا ، ويمتد من أعماق الفضاء حيث تشع الشمس بوهجها ، إلى كفّ المحيطات حيث تتبخّر بفعل الحرارة ، وإلى الصحاري المترامية حيث تنبت الأرض زرعا وشجرا. أليس يهدينا هذا النظام إلى وحدة التدبير وحكمة المدبّر؟! أفلا نؤمن بقدرته على أن يعيدنا للحساب؟ وهل من المعقول أن يترك ربنا الحكيم خلقه سدى؟

[١٧] لا نجد في أيّ بقعة من أطراف الخليقة ثغرة أو تفاوتا إلّا فيما يتصل بهذا الإنسان الذي سلّطه الله على الطبيعة ، وأكرمه بالعقل والحرية ، فقد أخذ يعيث في الأرض فسادا ، فهل يعقل أن يكون ذلك من عجز؟ وهل يعجز ربّ السموات والأرض شيء؟ أم سوء تدبير؟ ولا نجد في تدبيره شينا أو نقصا. أم ما ذا؟ يهدينا التفكر في كلّ ذلك إلى أنّ هذا الإنسان الذي هو محور حكمة الخلق وهدف سائر ما في العالم لم يكن ليخلق بلا حكمة ، فما هي حكمة خلقه؟ فإذ لا نجد ذلك في الدنيا نهتدي (بنور العقل) إلى أنّها تتحقق في يوم الفصل.

٢٥٨

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً)

عند ما يلتقي الإنسان بجزائه ، ويجتمع الأولون بالآخرين ، وتنصب موازين القسط ، ويحاكم الظلمة والمجرمون ، ويقوم الأشهاد بالحق ، عندئذ تتجلّى حكمة خلقه.

في ذلك اليوم يتزيّل المؤمنون عن المجرمين ، وتتميّز الأعمال الخالصة لله عن أفعال الرياء والنفاق ، وتنفصم عرى الأرحام ووشائج الصداقات والولاءات ، ولا تنفع شفاعة الأحبّة والأولياء.

[١٨] ويتقاطر الناس على صحراء المحشر زمرا ، كل وفد يقودهم إمامهم الذي اتبعوه في الدنيا.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ)

تلك النفخة الثانية التي يحيي بها الله العباد جميعا.

(فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)

كل فوج يأتون تحت راية إمامهم.

وفي الحديث عن البرّاء بن عازب قال : كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول الله في منزل أبي أيّوب الأنصاري فقال معاذ : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ... الآيات» فقال : «يا معاذ سألت عن عظيم من الأمر ، ثم أرسل عينيه ، ثم قال : يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميّزهم الله تعالى من المسلمين وبدّل صورهم : بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكّسون ، أرجلهم من فوق ، ووجوههم

٢٥٩

من تحت ، ثم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يترددون ، وبعضهم صم وبكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فيسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم ، فأمّا الذين بصورة القردة فالقتات من الناس (أي النمّامون) وأمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السحت ، وأما المنكّسون على رؤوسهم فآكلة الربا ، والعمي الجائرون في الحكم ، والصمّ البكم المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون بألسنتهم العلماء والقضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم ، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران ، والمصلّبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، والذين أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ، ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم ، والذين هم يلبسون الجباب فأهل الفخر والخيلاء» (١).

[١٩] ولأنّ الإنسان محور خلق عالمنا فإنّ سائر ما في الخليقة يتصل به ويتغيّر معه ، فترى الأرض والسماء المحيطة بها تخضع لتطورات هائلة.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً)

فتلك السماء التي جعلها الله سقفا محفوظا غدت منفطرة منشقة ، ولعلّ تلك الأبواب تكون مهبطا ظاهرا للملائكة ، ومعراجا للمؤمنين إلى الجنة ، ومخرجا للكفّار إلى النار.

[٢٠] أمّا الجبال التي كانت تحافظ على توازن الأرض فإنّها تفقد وزنها ، وتسيّر ، وتنبثّ كما الهباء في الفضاء الأرحب ، ثم تتلاشى وتصبح سرابا.

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٤٢٣.

٢٦٠