من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

(لَفِي عِلِّيِّينَ)

قالوا : الكلمة هذه جاءت بصيغة الجمع ولا واحد لها من لفظها مثل ثلاثون وعشرون ، وقال بعضهم : بل انها من عليّ وهو فعيّل من العلو ، ثم قالوا معنى جمع هذه الكلمة العلو والارتفاع بعد الارتفاع ، كأنها أعلى الأعالي ، وقمّة القمم ، فأين هذا المقام؟ جاء في حديث مأثور عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنه قال : «عليّون في السماء السابعة ، تحت العرش» (١) وروي عنه (ص) أيضا أنه قال : «إن أهل الجنة يرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء» (٢).

وقال بعضهم : انه عند سدرة المنتهى ، وأنى كان فإنه مقام كريم ، يتواجد فيه المقربون ، وهم النبيّون والصديقون والخلّص من أولياء الله.

وانما يصعد العمل الى هذا المقام الكريم إذا كان صالحا خالصا لوجه الله حسب الحديث التالي : روي عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ انه قال : «إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به ، فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل : اجعلوها في سجين ، إنّه ليس إيّاي أراد فيها» (٣).

[١٩] أين هذا المقام الأسمى ، وما ذا يجري فيه ، وكيف يتواجد فيه المقربون؟ وأين توضع أعمال الأبرار منه؟ إن معرفتنا بهذه الحقائق محدودة لأنها فوق مستوانا نحن البشر.

__________________

(١) القرطبي ج ١٩ ص ٢٦٢.

(٢) المصدر ص ٢٦٣.

(٣) نور الثقلين ج ٥ ص ٥٣٠.

٤٢١

(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ)

يرى المفسرون في مثل هذا الخطاب : أنه موجّه الى شخص الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ولكن يبدو لي انه موجّه الى كل تال للقرآن ؛ فإن القرآن نزل على الرسول ولكن للناس جميعا ، وأمر الناس بتلاوته والتدبر في آياته ، وفيه خطابات لهم جميعا ، كقوله سبحانه : «يا أَيُّهَا النَّاسُ» أو للمؤمنين وحدهم ، كقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وقد جاء في الحديث : عن الصادق (ع): «نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة» (١).

فهذه الآية لا تدل على أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يكن يعرف ما العلّيّون ، كيف وقد فسره لنا ، بل أساسا هذه الجملة لا تدل على نفي العلم بهذا المقام بقدر دلالته على أنه مقام عظيم ، والله العالم.

[٢٠] في ذلك المقام الشامخ يوجد :

(كِتابٌ مَرْقُومٌ)

قالوا : ان هذه الجملة بيان لكتاب الأبرار ، وإنه كتاب مرقوم واضح لا لبس فيه ، ويحتمل ان تكون الجملة تفسيرا للعليين ، باعتبار أن الكتاب هو الأعلى والأسمى ، لما يحمل من صالح الأعمال ، والله العالم.

[٢١] والمقربون عباد الله شهود عند ذلك الكتاب الكريم ، فيستبشرون به ، ويستغفرون للصالحين لينالوا المزيد من الحسنات.

(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٩٢ ص ٣٨٢.

٤٢٢

ان مجرد حضور المقربين عند الكتاب كرامة وشهادة منهم عليه ، ولذلك فإن الشهادة هنا تأتي بمعنى الحضور والتوقيع أما المقرّبون فهم ـ حسب الآية التالية ـ طائفة من البشر يأكلون ويشربون ، وهم الذين ذكرتهم آيات سورة الواقعة «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» وقد بين القرآن شهادتهم بقوله : «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» (١).

وقال بعضهم : انهم الملائكة المقربون ، وقيل إسرافيل ـ عليه السلام ـ خاصة ، بيد أن التفسير الأول أقرب الى السياق ، وهو يوحي بكرامة المقربين عند ربهم ، حيث جعلهم شهودا على كتاب الصالحين.

[٢٢] الكتاب مظهر بارز لمسؤولية الإنسان عن أفعاله ، أما المظهر الأجلى فانه النعيم المقيم للأبرار ، والجحيم الأليم للفجار.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ)

تحيط بهم آلاء الله ، قالوا : لان كلمة «نعيم» جاءت بصيغة فعيل (صفة مشبهة) فانها تفيد الاستمرار ، ولأنها جاءت نكرة فهي تفيد الكثرة والتنوع ، ويبدو أن التعبير ب «لفي نعيم» هو الآخر يدل على الكثرة والتنوع.

[٢٣] لأن الإنسان روح وجسد فإنّ روحه تتطلع الى لذات خاصة بها بعد أن يتشبع الجسد بالنعم ، فما هي لذة الروح في الجنة؟ يبدو أنها تتمثل في مجالس المؤانسة والمعرفة ، فالحديث مع الأخوة الأصفياء يعطي النفس لذة عظيمة ، كما أن العلم غذاء شهي للروح والعقل.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ)

__________________

(١) النحل ٨٩.

٤٢٣

جلوسهم على الأرائك مع إخوانهم المتقابلين لذة للنفس ، ونظرهم الى خلق الله وتجليات رحمته وقدرته لذة للعقل ، وروي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «ينظرون إلى أعدائهم في النار»

قالوا : الأرائك جمع أريكة ، أي السرير ، وقيل : أصلها فارسية ، وقيل : إنها مشتقة من اسم شجر يسمى بأراكة.

[٢٤] عند ما يصفو عيش المرء من الأكدار ، وقلبه من الضغائن والطمع والحرص ، يتلألأ وجهه بآثار النعم ، كما يزهر النبات ويتنور ، كذلك أهل الجنة تفيض على وجوههم الجميلة آثار النعم نضارة ونورا.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)

ولعل التعبير ب «تعرف» يوحي بأنك تعرف مدى النعيم الذي هم مستقرون فيه بنظرة الى وجوههم ، ومدى نضارتها ؛ فإن النضارة درجات وأنواع ، وهي تعكس ما وراءها من عوامل النعيم ودرجاتها.

[٢٥] وجلسات الأنس لا تكتمل إلّا بشراب يزيدهم نشاطا وسرورا.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ)

قالوا : الرحيق : صفوة الخمر ، وقال بعضهم : إنها الخمرة العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيّرة ، وأما المختوم فإنه يوحي بكرامة الشارب ألّا تسبق الى الشراب يد غيره.

[٢٦] وإذا كان ختم الشراب عادة قطعة طين لازب ، فإن ختم رحيق الجنة المسك الأذفر.

٤٢٤

(خِتامُهُ مِسْكٌ)

فيزيده عطرا وجمالا ، ولنا أن نتصور آماد هذه النعم فنسعى إليها بكلّ همّة ونشاط.

(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)

في ضمير الإنسان نزعة راسخة تدعوه الى التسابق والتقدم على الآخرين ، وكثير منا يستثير هذه النزعة الفطرية في التسابق على الدنيا ونعيمها الزائل ، بينما العقل يهدينا الى أن التنافس ينبغي أن يكون على المكرمات والجنة ، والآية هذه واحدة من عدّة آيات قرآنية تستثير هذه النزعة المباركة في الطريق القويم ، وهو التسارع الى الخيرات ، والتنافس في المكرمات ، قال ربنا سبحانه : «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ» (١) وقال سبحانه : «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً» (٢) وقال تعالى : «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» (٣).

وإذا كان الإنسان يتنافس على شيء فإن أفضل ما يتنافس عليه ذلك الرحيق المختوم ، الذي يأتي مكملا لسلسلة من النعم المتواصلة ، ولعل هذا هو السر في ذكر هذه الجملة عند بيان هذه النعمة ، لأنها مكملة لسائر النعم ، أو لبيان عظمة هذه النعمة وما فيها من لذّة عظيمة لا تقاس بسائر اللذات حتى لذات الاخرة ونعيمها ، أو لأن من آداب الشرب عند أهله في الدنيا تنازع الكؤوس بينهم وتنافسهم فيها.

وأنّى كان فإن التّنافس في الرحيق المختوم في ذلك اليوم يتم اليوم في الدنيا

__________________

(١) الحديد / ٢١.

(٢) البقرة / ١٤٨.

(٣) الأنبياء / ٩٠.

٤٢٥

بالتسارع في الخيرات ، والتنافس فيها ، وقد جاء في الأثر أن ترك الخمر في الدنيا ثمن الرحيق المختوم في الآخرة ، كما أن ثواب سقاية المؤمن وإطعامه هو الرحيق المختوم.

جاء في وصية النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لعلي ـ عليه السلام ـ أنه قال : «يا علي! من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم ، فقال علي : لغير الله؟ قال : نعم. والله ، صيانة لنفسه فيشكره الله تعالى على ذلك» (١).

وروي عن علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ أنه قال : «من أطعم مؤمنا من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن وسقا مؤمنا من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم» (٢).

وروي : «من صام لله في يوم صائف سقاه الله من الظمأ من الرحيق المختوم» (٣)

[٢٧] قيل : بأن في الجنة عينا تجري في الهواء ثم تصب في كؤوس الأبرار ، وقالوا : إنها تجري من تحت العرش وتسمى بالتسنيم ، لأنها في أعلى الجنة ، وهي شراب المقربين خالصا ، ويضاف شيء منه إلى شراب الأبرار فيعطيه نكهة خاصة ليس فقط لأنه عظيم اللذة ، بل ربما أيضا لأن فيه أثرا من روح المقربين وريحهم ، وعبق درجاتهم المتسامية ، وقالوا : انه أشرف شراب في الجنة ، قال الله سبحانه :

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)

قال الرازي : تسنيم علم لعين بعينها في الجنة ، سميت بالتسنيم الذي هو

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٣٤.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

٤٢٦

مصدر سنمه إذا رفعه ، إمّا لأنها أرفع شراب في الجنة ، أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روي : انها تجري في الهواء مسنمة فتنصب في أوانيهم ، وإما لأنها لأجل كثرة مائها وسرعته تعلو على كل شيء تمر به وهو تسنيمه ، وإما لأنها عند الجري يرى فيه ارتفاع وانخفاض فهو التسنيم أيضا ، وذلك لأن أصل هذه الكلمة العلو والارتفاع ومنه سنام البعير ، وتسنمت الحائط إذا علوته (١).

وقال بعضهم : ان كل عين تجري من الأعالي تسمى بالتسنيم ، وبالرغم من أن هذا أقرب المعاني إلى سياق الآية إلا اني لم أجد مصدرا لغويا يؤيده.

[٢٨] وللجنة درجات تتعالى حتى تتصل بعرش الله ، فعنده جنات عدن حيث منازل المقربين من عباده الأنبياء والصديقين ، وقد بينت سورة الواقعة جانبا من الفرق بين درجات المقربين السابقين ودرجات أصحاب اليمين ، وفي هذه السورة إشارة الى جانب منه ، حيث أن مزاج شراب الأبرار التسنيم ، بينما يرتوي منه المقربون ، فهو شرابهم الخالص.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)

ولعل في شراب التسنيم آثارا معنوية ، حيث يكسب شاربه قربا الى الله ورضوانا ، وهكذا خمرة الجنة تزيد العقل ، وتنشط الفكرة ، وتلهم الروح إيمانا وعرفانا ، فأين هي من خمرة الدنيا التي تزيل العقل ، وتخمل الفكر ، وتبعد الروح من مقام ربها؟!

[٢٩] تلك كانت مجالس الأنس والمصافاة ، وشرب الرحيق والسلسل يجازي الرب بها عباده الذين عانوا الآلام الروحية ، فكم ضحك منهم المجرمون وكم

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣١ ص ١٠٠.

٤٢٧

تفاخروا ، وكم سرقوا منهم لقمة العيش فتفكهوا بها وتركوهم يتضورون جوعا.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)

ذكروا في تنزيل الاية سببين : الأول : أن المجرمين هم أكابر قريش كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزءون بهم ، الثاني : أنه جاء علي ـ عليه السلام ـ في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتفاخروا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع ، فضحكوا منه ، فنزلت هذه الآية قبل ان يصل علي إلى رسول الله. (١) والظاهر أن سبب النزول الثاني أقوى لأن السورة مدنية.

[٣٠] أول شهادة تسجل ضد المجرم هي شهادة ضميره الذي لا يني يلومه ويؤنبه على جريمته ، لذلك تراه يسعى جاهدا للتخلص منه فما ذا يفعل؟ انه ينتقم من أهل الصلاح وينتقص منهم ويستهزئ بهم لعله يخفف من وطأة اللوم الذي يتعرض له داخليا. كلا ... إنه يزداد وخزا وألما لأن الاستهزاء بالمؤمنين جريمة أخرى ارتكبها واستحق عليها لوم ضميره ، وهكذا يزداد استهزاء وسخرية دون أية فائدة.

(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ)

اي يشيرون إليهم بأعينهم وأيديهم استهزاء ، وقيل : الغمز بمعنى العيب.

والله يدري كم تكون جراحة اللسان أليمة بالنسبة الى المؤمن الشريف الذي لا يزال يجتهد من أجل تزكية نفسه.

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣١ ص ١٠١.

٤٢٨

وإذا كان الغمز في الجاهلية بالعين واليد فإنه أصبح اليوم بالأقلام والأفلام وسائر وسائل التشهير التي امتلكها أعداء الإنسان ، أعداء الله والدين ، وإن صمود المجاهدين اليوم أمام هذه الدعايات المضللة يزيدهم عند الله أجرا وزلفا ، لأنهم يصبرون على أذى عظيم ، وآلام نفسية لا تحتمل.

[٣١] وبينما يعيش المؤمنون والمجاهدون أشد حالات الألم والخوف وتنتفض أطفالهم ونساؤهم في المخابئ والمهاجر خشية مداهمة جنود إبليس المعسعسون ترى المجرمين ينقلبون الى بيوتهم في أمن ظاهر ، يتبادلون نخب الانتصارات الزائفة ، ويرتادون مجالس اللهو والعربدة.

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ)

قالوا : اي معجبين بما هم عليه من الكفر ، متفكهين بذكر المؤمنين ، ولعل المراد من الأهل هنا أصحابهم وأهل مؤانستهم.

[٣٢] ويحاول أعداء الرسالة إلصاق تهمة الضلالة الى المؤمنين لعلهم يعزلونهم عن المجتمع.

(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ)

ويبدو ان هدف هذه التهمة إثارة حساسية الناس ضدهم ، لأنهم يخالفون الخرافات الشائعة التي ينصب المجرمون أنفسهم مدافعين عنها ، بينما يسعى المؤمنون نحو إنقاذ المجتمع من ويلاتها.

[٣٣] وهؤلاء المجرمون الذين هم عادة أصحاب الثروة والقوة والجاه العريض يزعمون أنهم الموكلون بأمر الناس فتراهم يوزعون التهم يمينا ويسارا ، بينما هم بشر

٤٢٩

كسائر الناس لم يجعل لهم ميزة وسلطانا على أحد.

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ)

بل كل امرء مسئول عن نفسه ، وبهذه الكلمة الحاسمة سلب القرآن الشرعية المزيفة التي تدّعيها السلطات والمترفون لتسلطهم على الناس. كلا .. السلطة انما هي لله ولمن يخوّله الله ، أما أولئك المجرمون فإنهم غاصبون ، وان على المؤمنين ألّا يأبهوا بأحكامهم الجائرة عليهم ، لأنه لا شرعية لها أبدا.

[٣٤] بسبب تلك المعاناة الشديدة والآلام المبرحة التي ذاقها المؤمنون المجاهدون في سبيل الله من أيدي المجرمين تنقلب الصورة تماما في يوم الجزاء.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)

قال بعضهم : انه يفتح للكفار في أطراف النار باب الى الجنة ، فإذا سعوا إليها ووصلوه بعد عناء عظيم أغلق دونهم فيثير ذلك ضحك المؤمنين عليهم ، وروي مثل ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله. (١)

[٣٥] والمؤمنون جالسون على الأرائك فرحين بما آتاهم الله ، وينظرون الى ما يجري هناك في نار جهنم.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ)

جاء في الحديث في قوله تعالى : «اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» أي المنافقين : وأمّا استهزاؤه بهم في الآخرة فهو أنّ الله عزّ وجلّ إذا أقرّ المنافقين المعاندين لعليّ

__________________

(١) انظر الدر المنثور ج ٦ ص ٣٢٨ / عن نمونه ج ٢٦ ص ٢٨٨.

٤٣٠

ـ عليه السلام ـ في دار اللّعنة والهوان ، وعذّبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب ، وأقرّ المؤمنين الّذين كان المنافقون يستهزءون بهم في الدنيا في الجنان بحضرة محمد صفيّ الملك الديّان ، أطلعهم على هؤلاء المستهزئين بهم في الدنيا حتّى يروا ما هم فيه من عجائب اللّعائن وبدائع النقمات ، فيكون لذّتهم وسرورهم بشماتتهم بهم كما لذّتهم وسرورهم بنعيمهم في جنان ربّهم ، فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين بأسمائهم وصفاتهم ، وهم على أصناف :

منهم من هو بين أنياب أفاعيها تمضغه ، ومنهم من هو بين مخاليب سباعها تعبث به وتفترسه ، ومنهم من هو تحت سياط زبانيتها وأعمدتها ومرزباتها يقع من أيديهم عليه تشدّد في عذاب وتعظم خزيه ونكاله ، ومنهم من هو في بحار حميمها يغرق ويسحب فيها ، ومنهم من هو في غسلينها وغسّاقها تزجره زبانيتها ، ومنهم من هو في سائر أصناف عذابها ؛ والكافرون والمنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الّذين كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالات محمّد وعليّ وآلهما ـ صلوات الله عليهم ـ يعتقدون ، فيرونهم : منهم من هو على فراشها يتقلّب ، ومنهم من هو على فواكهها يرتع ، ومنهم من هو على غرفاتها أو في بساتينها وتنزّهاتها يتبحبح ، والحور العين والوصفاء والولدان والجواري والغلمان قائمون بحضرتهم وطائفون بالخدمة حواليهم ، وملائكة الله عزّ وجلّ يأتونهم من عند ربّهم بالحباء والكرامات وعجائب التّحف والهدايا والمبرّات يقولون : سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار ، فيقول هؤلاء المؤمنون المشروفون على هؤلاء الكافرين المنافقين : يا أبا فلان ويا فلان ـ حتّى ينادونهم بأسمائهم ـ ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟ هلمّوا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتتخلّصوا من عذاب وتلحقوا بنا في نعيمها ، فيقولون : ويلنا أنّى لنا هذا؟ يقول المؤمنون : أنظروا إلى هذه الأبواب ، فينظرون إلى أبواب الجنان مفتّحة يخيّل إليهم أنّها إلى جهنّم الّتي فيها يعذّبون ، ويقدّرون أنّهم ممكّنون أن يتخلّصوا إليها ، فيأخذون في

٤٣١

السّباحة في بحار حميمها وعدوا بين أيدي زبانيتها ، وهم يلحقونهم ويضربونهم بأعمدتهم ومرزباتهم وسياطهم ، فلا يزالون هكذا يسيرون هناك وهذه الأصناف من العذاب تمسّهم حتّى إذا قّدروا أنّهم قد بلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة عنهم وتدهدههم الزبانية بأعمدتها فتنكسهم إلى سواء الجحيم ، ويستلقي أولئك المؤمنون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم مستهزئين بهم ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : «اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» وقوله عزّ وجلّ : «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» (١).

[٣٦] ما ذا ينظرون؟ إنهم ينظرون إلى مجريات جزاء الكفار اليومية ، وعقابهم المتتابع الذي يتصل بجرائمهم المتتالية في الدنيا.

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)

أي ينظرون لكي يروا هل أنهم ثوّبوا وجوزوا؟ وبالطبع : إنهم يجدون هذا الجزاء لحظة بلحظة ، ولا ينتهي جزاؤهم لأنه مستمر ، ذلك أن كل فعلة خاطئة قاموا بها تجازى بمئات السنين ، فيستمر النظر ويستمر الجزاء. أعاذنا الله من مثل هذه العاقبة السوأى ، وجعلنا من أهل جنته ورضوانه. آمين.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٩٨.

٤٣٢

سورة الانشقاق

٤٣٣
٤٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال : من قرأ هاتين السورتين ، وجعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة والنّافلة : «إذا السماء انفطرت» و «إذا السماء انشقت» لم يحجبه من الله حاجب ، ولم يحجزه من الله حاجز ، ولم يزل ينظر الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس.

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٣٦

٤٣٥

الإطار العام

قبسان من نور تشع بهما سورة الانشقاق :

١ / قبس يرشه على واقع الإنسان عسى ان يعرف نفسه ويضعها في المقام الأسمى الذي خلق له. فالإنسان كادح الى ربه كدحا فملاقيه .. وهو يركب بالتأكيد طبقا عن طبق.

فهو إذا ذلك الإنسان المسؤول الذي سخرت له الأرض وأجرام السموات العلى ، وأمامه عقبات كأداء لا بد أن يتحداها حتى يصل الى دار المقامة عند عند رب العزة ، وإلّا فيكون من أصحاب الشمال ، يؤتى كتابه وراء ظهره ، ويساق إلى جهنم ليصلى سعيرا.

٢ / قبس يضيء به الطبيعة أنّها خليقة الله ، وتستجيب لمشيئته النافذة ، فالسماء حين تنشق ، والأرض حين تمتد تأذنان لربهما العظيم ، وحق لهما ذلك أوليستا مخلوقتين! ويلتقي شعاع هذا القبس بذلك عند ما يستنكر السياق كفر هذا

٤٣٦

الإنسان : فما لهم لا يؤمنون ، وإذا قرء عليهم القرآن لا يسجدون؟! أولم يخلقوا كما خلقت السموات والأرض. أهم أعظم خلقا أم ذاتك؟!

وكما في السور القصار تفتح آيات السورة منافذ القلب على الحقيقة .. ولكن قلب من؟ انما قلب الذين استجابوا لربهم ، فآمنوا به وعملوا الصالحات ، فتبشرهم بأجر متصل غير منقطع.

٤٣٧
٤٣٨

سورة الانشقاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣)

٤٣٩

إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

___________________

١٤ [يحور] كلمته فلم يحر جوابا : أي ما رد جوابا ، وحار الماء في الغدير تردد فيه ، وحار في أمره تحيّر.

ومعنى آخر ذكره أرباب اللغة : وهو التردد ، ومنه المحور للعود الذي تجري عليه البكرة لتردده ، ومحارة الأذن لظاهره المنقعر تشبيها بمحارة الماء لتردد الهواء بالصوت فيه كتردد الماء في المحارة ، والقوم في حوار : في تردد الى نقصانه ، والمحاورة والحوار : المرادّة في الكلام وأصل الكلمة الرجوع.

٤٤٠