من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

سورة التّكوير

٣٤١
٣٤٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : من أحبّ ان ينظر إليّ يوم القيامة ، فليقرأ : «إذا الشمس كورت».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٥١٣

وفي مجمع البيان : روي ان أبا بكر سأل الرسول فقال : يا رسول الله! أسرع إليك الشيب؟ فقال : «شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كوّرت»

المصدر

٣٤٣

الإطار العام

عند ما تغور النفوس في لجّة عميقة من السبات ، وعند ما تتحجّر القلوب فتمسي أشدّ قسوة من الجلاميد ، وحينما ينساب الإنسان بلا وعي ولا إرادة مع التقاليد الباطلة لا يرضى تطويرا ولا تحويلا .. هنالك تشتد حاجة الإنسان إلى صعقات النذر ، كما الرعود الهادرة توقظ القلب من سباته ، وتستثير العقل من تحت ركام الخرافات.

وجاء الوحي يصدع به النبي النذير ـ صلّى الله عليه وآله ـ إضاءات متواصلة في محيط من الظلام الدامس ، وصعقات بالغة الشدة في بيئة السكوت والجمود ، وبراكين حارقة للمقدسات المزيفة ، والخرافات الجاهلية المتوارثة.

وسورة التكوير واحدة من تلك الصعقات ، فإذا انفتح عليها القلب كاد يتصدّع هولا ، لأنّها تفتح نافذة واسعة على جيشان الحقيقة ، وطوفان التطورات فيها ، إنّها مفتاح التطوير والإبداع في القلب والعقل والسلوك.

٣٤٤

وتحدثنا آياتها الفاتحة عن الشمس إذ كورت .. بلى. الشمس التي هي محور منظومتنا هي الأخرى تتكور في يوم رهيب. فلما ذا الاسترسال مع السكون القاتل ، والنجوم كذلك تنكدر ، والعشار تتعطل ، وتمضي آياتها الصاعقة ترسم صورة رهيبة لذلك اليوم لعلّ قلوبنا تتساءل : ما ذا عنا في ذلك اليوم؟ فيأتي الجواب مهولا : «علمت نفس ما أحرضت» عظيم حقا أن نعود إلى أعمالنا التي تتجسد أمامنا ونعلم بها إنّها المسؤولية بكلّ ثقلها ، وتنقلنا الصورة فورا إلى النجوم إذ تخنس ، والكواكب إذ تكنس ، والليل إذ يعسعس ، والصبح إذ يتنفس. أوليست تلك آيات الله الأكثر إثارة لنفوسنا ، والتي تهدينا الى حكمة الربّ وقدرته؟ بلى. فإنّ القرآن قول رسول كريم ، لأنّه وبشهادة العقل والضمير تعبير عن تلك الآيات ؛ إنّه كتاب ينطق عن ربّ الكائنات ، وتنطق الكائنات بحقّانيته.

وفي الختام يصور القرآن لنا تنزّل الوحي عبر أفق مبين ، ويتساءل : فأين تذهبون عن هذا الوحي الحق؟ إنّه ذكر من الله للعالمين ، لمن شاء أن يستقيم.

إنّها ثلاث صور عظيمة : صورة رهيبة عن الساعة ، وصورة جذّابة عن الطبيعة ، وصورة رائعة عن الوحي .. سبحان الله الذي أنزل هذه السورة سبحانه سبحانه!!

٣٤٥
٣٤٦

سورة التّكوير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ

___________________

٢ [انكدرت] زيادة على ما في المتن ، الانكدار : انقلاب الشيء حتى يصير أعلاه أسفله بما لو كان ماء لتكدّر ، وأصله الانصباب ، وفي المفردات : والانكدار : تغيّر من انتشار الشيء ، وانكدر القوم على كذا إذا قصدوا متناثرين عليه ، وفي المنجد : انكدر في السير : أسرع ، وانكدر عليه القوم : انصبوا ، وانكدرت النجوم : تناثرت ، والكدراء : السيل الشديد.

٣٤٧

أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

___________________

١٥ ـ ١٦ [الخنّس ـ الكنّس] جمع كانس ، وأصلها الستر ، والشيطان خنّاس لأنه يخنس إذا ذكر الله تعالى : أي يذهب ويستتر ، وكنّاس الطير والوحش : بيت يتّخذه ويختفي فيه ، والكواكب تكنس في بروجها كالظباء تدخل في كناسها.

وقيل : «الخنس» هي زحل والمشتري والمريخ لأنها تخنس في مجراها : أي ترجع وتستتر.

٣٤٨

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ

بينات من الآيات :

[١] عند الساعة تحدث تغييرات رهيبة وهائلة في الطبيعة. أليست الطبيعة قد سخّرت للإنسان؟ فها هو الإنسان يجرّ للحساب الدقيق ، فلا كرامة إذا للشمس ، ولا مبرّر لوجودها ، فما ذا يصنع بها؟ إنّها تفقد ضياءها ، وتلفّ على بعضها (كما العمامة إذ تكوّر) ويرمى بها في نار جهنم مع من كان يعبدها من البشر.

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)

قالوا : أصل التكوير من الجمع ، يقال كار العمامة على رأسه يكوّرها : أي لاثها وجمعها. ما ذا يصنع بهذه الكرة العملاقة التي هي أكبر من أرضنا زهاء مليون مرة؟ هل إنها تفقد عمرها الطبيعي الذي هي في منتصفه حسب ما يقول العلماء الذين يقولون : انها اليوم في عمر الكهولة ، فنحن البشر إذا في منتصف المسافة بين أصل تكوّنها ويوم تكورها ، أم أنّها تصاب بآفة كونية فيمحى ضوؤها ، كما الشمعة

٣٤٩

إذا غمست في ماء المحيط أو تعرضت لإعصار شديد؟ فلا يبقى لها إلّا أن تنطوي على نفسها ، وتلملم امتدادات ضوئها ، وزفرات شعلتها ، وانسيابات أشعتها ، من هنا جاء في لسان العرب : كوّرت الشمس جمع ضوؤها ، ولفّت كما تلف العمامة. أيّا كان الأمر فإنّها ساعة رهيبة.

[٢] هل القيامة ساعة المنظومة الشمسية أم المجرّة أم العالم كله؟ لا أدري ، ولكنّ الآية تؤكّد أنّ النجوم تنكدر وتؤكد آية أخرى انها تنتثر فهل هي تنصبّ وتتساقط في اتجاهات متباعدة ، أم أنّها تعود كما كانت أول الخلق كتلة واحدة متراصّة ، أم ما ذا؟ أم لا يكون كل ذلك ، وإنّما بسبب اختلال نظام منظومتنا فإنّنا نرى النجوم بهذه الصورة؟ الله العالم.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)

قالوا : يعني تهافتت وتناثرت ، وقال بعضهم انصبّت كما ينصب العقاب ، وحكي عن الخليل قوله : انكدر عليهم القوم : إذا جاؤوا إرسالا فانصبّوا عليهم.

[٣] وأما الجبال الراسيات التي اعتمد عليها الإنسان فإنّها تسير ثم تتبدد ثم تتلاشى فتكون سرابا.

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ)

[٤] أمّا الإنسان فيلهو عمّا حوله ، وحتى عن أنفس ما يملك.

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ)

قالوا : العشار جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء ، وهي الإبل التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ، وهي أنفس ما يكون عند

٣٥٠

أهلها وأعزّها عليهم.

أمّا تعطيلها فبمعنى الالتهاء عنها وتركها ؛ لأنّ للإنسان يومئذ شأنا آخر يغنيه عمّا حوله. إنّه يريد التخلص من أهوال الساعة المتلاحقة عليه.

وقال بعضهم : العشار هي السحب تعطّل ، وقيل : إنّها الأراضي المزروعة تترك.

[٥] في ذلك اليوم تتجمع الوحوش من كلّ ناحية ، كأنّها تحس بالوحشة من شدة الهول فتلوذ ببعضها ، وتقترب من بني آدم دون أن تنفر منهم أو ينفر بعضها من بعض. ما أعظم ذلك اليوم على قلب الكائنات!

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)

والحشر ـ حسب هذا التفسير ـ بمعنى الجمع ، وقيل : إنّ الحشر بمعنى إعادتها إلى الحياة حتى يتم إجراء العدالة عليها حسب مستواها الشعوري ، فإذا كانت القرناء طعنت الجمّاء أعيدتا حتى يقتص للجمّاء من القرناء ثم تموتا معا. والله العالم.

عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال : «وأما الذنب الذي لا يغفر فمظالم العباد بعضهم لبعض. إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسما على نفسه فقال : وعزّتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفّ بكفّ ، ومسحة بكفّ ، أو نطحة ما بين القرناء إلى الجمّاء ، فيقتص للعباد بعضهم من بعض ، حتى لا يبقى لأحد على أحد مظلمة ، ثم يبعثهم للحساب» (١).

[٦] وما ذا عن البحار وهذه المحيطات العظيمة؟ هل يمكن أن يلوذ بها الناس

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٥١٥.

٣٥١

خشية النيران؟ كلّا .. إنّها بدورها تسجّر كما يسجر التنور ، وتشتعل نارا لا هبة.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ)

وكان المفسرون سابقا يبحثون عن تفسير لهذه الآية حتى قال بعضهم : تكون جهنم في قعر البحار فيأذن الله لها أن تحرق البحار بنيرانها ، وقال آخرون : إنّ الله يلقي بالشمس والقمر وسائر الأجرام في البحار فتسجّر ، أو أنّه يخلق فيها نيرانا عظيمة فيحرقها ، وقال الرازي بعد نقل هذه الأقوال وغيرها : هذه الوجوه متكلّفة ، لا حاجة إلى شيء منها ، لأنّ القادر على تخريب الدنيا وإقامة القيامة لا بد أن يكون قادرا على أن يفعل بالبحار ما شاء ، من تسخين ومن قلب مياهها نيرانا ، من غير حاجة منه إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر أو أن يكون تحتها نار جهنّم. (١)

بلى. وقد أثبت العلم أنّ في الماء مادتين (أو كسجين+ هيدروجين) وهما شديدان الاشتعال لو انفصلا ، وقد اخترعوا سيّارات تعمل على الماء بعد تجزئته ، فهل تعجز قدرة الربّ عن فصلهما يوم القيامة بفعل ضغط جويّ هائل أو ما أشبه حتى تتسجّر؟!

إنّ عدم معرفة البشر بكيفيّة وقوع الشيء قد يدعوه إلى الكفر بوقوعه رأسا ، وهذا من أعظم تبريرات الكفّار بيوم القيامة ، ولكن هل أحاط البشر بكلّ شيء علما ، حتى ينكر أيّ شيء لا يعلم تفصيل وقوعه؟! أليس في هذا جهل مركّب؟!

ولعلّ الكفّار بيوم البعث كانوا يسخرون من كيفية تحوّل البحار نيرانا ، ويقولون : إنّ الماء يطفئ النار فكيف يشعلها؟! ولكن ثبت علميّا أنّ الماء أساسا مركّب من نارين. أولا يهدينا ذلك إلى أنّ جهلنا بكثير من الحقائق لا يبرّر كفرنا

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٣١ ص ٦٨.

٣٥٢

بها رأسا؟!

[٧] في ذلك اليوم لا تترك النفوس وشأنها ، بل وتقارن بأعمالها ، ثم تحلق ـ حسب مقياس العمل ـ بأقرانها ، فأصحاب الميمنة مع أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة مع أصحاب المشأمة ، والسابقون مع السابقين.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)

وقيل : تقرن نفوس المؤمنين بأزواجها من الحور العين ، بينما تقرن نفوس الكفّار بالشياطين والجن ، والله العالم.

[٨] وحيث ينصب الميزان العدل يرفع المظلوم ظلامته أمام الملأ ، ويسمح الحاكم العدل بأن تتحدث الموؤدة عن نفسها حين يسألها : بأيّ ذنب قتلت؟!

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ)

أليس قد جعل الله للمظلوم سلطانا على الظالم في محكمة العدل ، وهو أول من يستنطق فينطق ، فلذلك هي التي تسأل حتى تشرح ظلامتها ، وقرأ بعضهم (سألت) ويحتمل أن يكون ذلك نوعا من التفسير ، وقد روى ابن عباس عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثديها ملطّخا بدمائه ، فيقول : يا ربّ! هذه أمّي وهذه قتلتني» (١).

ويبدو من هذا الحديث ومن نصوص وآيات عديدة ووثائق تاريخية أنّ عادة الوأد كانت منتشرة في العرب ، وقد حاربتها الرسالة الإلهية بقوة حتى أقلعوا عنها ، ولعلّ الحديث الثاني يكشف جانبا من تلك العادة الخبيثة ، فقد روي : أنّه جاء

__________________

(١) القرطبي ج ١٩ ص ٢٣٤.

٣٥٣

قيس بن عاصم إلى النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال : يا رسول الله! إنّي وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية ، قال : «فأعتق عن كلّ واحدة منهنّ رقبة» قال : يا رسول الله! إنّي صاحب إبل ، قال : «فاهد عن كلّ واحدة منهنّ بدنة إن شئت» (١).

(بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)

وهذا التساؤل العريض يجعل الجاهلية كلّها في أزمة حادّة ، فهب أنّها برّرت كفرها بالرسالة ، أو سكوتها عن ظلم الأغنياء للفقراء ، أو حروبها الداخلية ، فهل لقتل البنات وبهذه الصورة البشعة أي تبرير؟! إنّ هذا العمل القبيح يكشف زيف الفلسفة التي وراءه ، وبالتالي زيف كلّ القيم الجاهلية ، وذلك لأنّ فطرة الإنسان قد تحجب عن معرفة بعض الحقائق الخفية ، ولكنها لا يمكنها أن تتغافل عن مثل هذه الحقيقة الواضحة أنّه لا يجوز المخاطرة بحياة الطفلة التي وهبها الله لوالديها ، وجعلهما حماة لها ، وأودع في أنفسهما الحنان والعطف نحوها ، بل جعلها حاجة نفسية ملحّة لهما ، فكيف يجوز لهما دسّها في التراب ، بل كيف مسخت شخصية هذا الأب أو تلك الأم اللذين يقومان بوأدها ، وكيف يسمح المجتمع لهما بارتكاب هذه الجريمة ، وأين ضمير المجتمع عنهما ، أين دعاة الخير والصلاح ، أين أهل الدين والتقوى ، أين الرحمة والحب والحنان ، أين أهل الثقافة والفكر؟!

ان وقوع هذه الجريمة النكراء في المجتمع الجاهلي كان شاهدا على أنه قد هبط الى أسفل درك ، وهكذا نطقت الموؤدة حين سئلت بإدانة كل المجتمع الجاهلي ، وكل قيمه الزائفة.

وقصة وأد البنات من أشد قصص الجاهلية بشاعة وآلما معا ، وهي كما قلنا :

__________________

(١) تفسير الدر المنثور ج ٦ / ص ٣٢٠.

٣٥٤

تكشف عن جوانب عديدة من الضعف في الفكر الجاهلي ، فقد حكي عن ابن عباس .. كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخضت على رأسها ، فان ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، ووارتها التراب ، وان ولدت غلاما حبسته ، وكان بعضهم يفتخر بذلك فيقول قائلهم :

سميتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن ازميت (١)

وقد كان في الجاهلية من يمنع الوأد ، ويسعى لنجاة الموؤدات ، مثل صعصعة جد الفرزدق حيث يقال أنّه كان يشتري البنات من آبائهن ، وجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة ، حتى افتخر حفيده الشاعر المعروف بذلك فقال :

ومنّا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم يوأد

وجاء في الدر المنثور : عن صعصعة بن ناجية المجاشي وهو جدّ الفرزدق ، قال : قلت : يا رسول الله! إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل لي من أجر قال : «وما عملت؟» قال : أحييت ثلثمائة وستين موءودة ، أشتري كل واحدة منهنّ بناقتين عشراوين وجمل ، فهل لي في ذلك من أجر ، فقال النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ : «لك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام» (٢).

حقا ان تردي البشر الى هاوية الفساد والجريمة رهيب ولو لا ان تداركه رحمة الله فانه يبلغ مستوى من الرذالة أن يدفن أبناءه أحياء ، ولعل الاشارة الى البنات في هذه الآية ليست للحصر بل لأنهن الحلقة الأضعف والأكثر إثارة للشفقة ، إذ تدل آيات أخرى على أن الأولاد أيضا كانوا يقتلون حيث يقول ربنا : «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» (٣).

__________________

(١) اي سماها تموت بإزاء ما يسمى الأولاد ب (يحيى) والزميت بمعنى : الوقور والمتزمت.

(٢) تفسير الدر المنثور / ج ٦ ص ٣٢٠.

(٣) الإسراء / ٣١.

٣٥٥

وإذا كنا نرى اليوم القوانين الرادعة لقتل الأولاد ، بل العواطف الرقيقة التي تحوط الأولاد بسياج من الرعاية الفائقة فإنما هو بفضل تعاليم الرسالات الإلهية ، ولولاها لعادت البشرية الى سابق جاهليتها ، إذ ليست عاقبة الفلسفات المادية التي تقيّم كلّ شيء بمنطق الفائدة والخسارة إلّا مثل هذه الجرائم.

ولا زال بعض الناس متورطين في مثل هذه الجرائم وأضرب لكم ثلاثة أمثلة.

أ/ ما يجري في العالم وبشكل واسع من المتاجرة بالأولاد ، لاستعبادهم أو استخدامهم في تصدير أفلام جنسية بالغة الفحش والخلاعة ، أو حتى قتلهم واستخدام أجسادهم لصناعة مواد معينة.

وبالرغم من التستر الواسع على مثل هذه الجرائم فان العالم يطلع بين الفينة والاخرى على بعض الأرقام المذهلة.

وإليك طائفة مما تناقلته بعض الصحف ووكالات الأنباء :

نشرت كيهان العربي (الجريدة الإيرانية الصادرة في طهران) في عددها ١٦٩١ :

كشف مندوبون في مؤتمر عن استعباد الأطفال أمس الاول النقاب عن ان أكثر من سبعة ملايين طفل يعملون كعبيد في دول جنوب آسيا وان بعضهم اختطفوا وتم وسمهم ليبقوا عبيدا ويعيشوا حياة أسوأ من «حياة البهائم».

وقال سوامي اجنيفيش رئيس جبهة تحرير العمال الأرقاء امام المؤتمر : «يختطف الأطفال بين سن السادسة والثانية عشرة وينقلون الى مصانع السجاد. انهم يحملون علامات على أجسادهم بعد وسمهم بقضبان الحديد الملتهب».

٣٥٦

وقد رأست جبهة تحرير العمال الأرقاء المؤتمر الذي انعقد في نيودلهي وحضره مندوبون من الهند وبنغلادش وباكستان ونيبال وسريلانكا.

ووصف ب. ن. باغواتي كبير القضاة السابق في الهند هؤلاء الأطفال بأنهم لا يعيشون كآدميين بل يحيون حياة أسوأ من حياة البهائم ، فالبهائم حرة على الأقل في ان تسوم كيف شاءت أو تسرق طعامها متى شعرت بالجوع.

وحضر المؤتمر أيضا الأطفال الذين تم تحريرهم من العبودية.

وقال اجنيفيش ان منظمات دولية للاغاثة تعتقد انه يوجد حوالي ٧٥ مليون طفل على الأقل تحت سن الرابعة عشر يعملون في جنوب آسيا وان عشرة في المائة عبيد.

وقد ألغت الهند نظام العمل العبودي في عام ١٩٧٦.

ويعمل أكثر من ٠٠٠ ، ١٠٠ طفل من العبيد في صناعة السجاد وحدها وهي مصدر رئيسي للهند في الحصول على العملات الصعبة.

يوجد في سيريلانكا ١٤٦ منظمة تتاجر في بيع وشراء الأطفال الأجانب وقد باعت عام ١٩٨٥ وحده ٥٣٤٣ طفلا. نقلا عن وكالة الأنباء الفرنسية ٢٥.

ونشرت جريدة الوطن الكويتية عدد ٤١٣٨ : أنه يتم المتاجرة بما لا يقل عن مليون طفلا بعضهم في الثالثة والرابعة من أعمارهم ، يباعون في سوق الفن الإباحي الدولية ، ويقتل بعضهم بالمرض أو الانتحار أو تمثيل الأفلام.

ونشرت جريدة السفير في عددها ٤٧٨٢ : نائب وزير الداخلية الباكستاني اتهم

٣٥٧

بعض الآباء الباكستانيين ببيع أبنائهم إلى دول الخليج من أجل استخدامهم في سباقات الهجن (الجمال) ، ويقول مربوا الهجن : ان السبب في استخدام الأطفال المربوطين على ظهور الجمال يعود الى كون صرخات الأطفال مهيّجة للجمال مما يجعلها تعدو بسرعة.

ونشرت الوطن في عددها ٣١٣٧ ما مضمونه : ان امرأة سيريلانكية تعمل عند أحد أمراء دولة الإمارات عرضت طفلها للبيع بمبلغ ١١٢٢ دولارا.

ب / سوء التغذية الذي يؤدي الى وفاة الأطفال بأعداد غفيرة ، دون أن يسعى أحد لإنقاذهم بالرغم من سهولة ذلك لعالمنا المتقدم تقنيا وماديا.

كشف رئيس وزراء السودان (السابق) النقاب عن ان ٢٠ الف طفل قضوا جوعا في إقليم «كردفان» وسط البلاد. حيث يعاني ٢٥٠ الف شخص من سوء التغذية.

وذكرت الأمم المتحدة ان نصف سكان السودان البالغ عددهم مليون نسمة ربما يتعرضون لخطر المجاعة بسبب الجفاف.

ويقول مسئولوا اغاثة غربيون ان (١٠٠) شخص معظمهم من الأطفال يموتون كل أسبوع في معسكر يضم ٥٠ ألفا من ضحايا الجفاف في إقليم (دارفور).

ويقول خبراء الأمم المتحدة ان ١٥ مليون سوداني ـ ثلثا العدد من الأطفال ـ يطالهم الجوع ، وان الأطفال أصبحوا هياكل عظمية في الجزء الغربي من السودان ، إذ فقدوا ٨٠ خ من أوزان أجسامهم الطبيعية.

يموت ٥٠ خ من الأطفال في (هاييتي) قبل ان يصلوا الى سن الرابعة ، والذين

٣٥٨

عبروا مرحلة الخطر يصابون بالهزال ، حيث تصبح اوزانهم أقل من الحد الطبيعي بنسبة ١٠ الى ٢٠ خ.

أوضح تقرير صادر من افريقيا بان ١٠ آلاف طفلا يموتون يوميا عام ١٩٨٥ م.

ذكرت منظمة اليونيسف ان اربعة ملايين طفل يموتون كل عام في الدول النامية.

بلغت جبال الأطعمة الفائضة لدى السوق المشتركة حوالي ٥ ، ٨ مليار دولار امريكي ، منها ١٧ مليون طن من القمح ، و ٢ ، ١ مليون طن من الزبد ، ٠٠٠ طن من لحم البقر ، و ٤٨٧ طن من مسحوق الحليب.

وفي الوقت الذي يتعاظم الفائض الغذائي في أوروبا ، وامريكا الشمالية ، في الوقت ذاته يخشى ان يلقى ٣٤ مليون شخصا حتفهم ، أكثرهم من الأطفال من جرّاء سوء التغذية في افريقيا. هذا وقد تنبأ مدير مسئول في هيأة الأمم المتحدة ويدعى (مورث) بأن ٢٠ مليون شخص معظمهم من الأطفال مهدّدون بالموت في إفريقيا بسبب المجاعة.

بلغ معدل موت الأطفال في الصومال بسبب سوء التغذية ٢٠٠ في الألف ، أي خمس المواليد ، وفي الغابون ١٤٠ طفل في الألف.

ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية هذه الاحصائيات الغربية :

* ٠٠٠ طفل في العالم يذعنون لحتمية الموت لسوء التغذية بصورة منتظمة.

* ٢٠ مليون طفل ما بين ٦ ـ ١٢ سنة يحرمون من حق التعليم لسبب أو لآخر

٣٥٩

وأهمها الفقر المدقع.

* ٧٥ مليون طفل ما بين ٨ ـ ١٥ سنة في العالم الثالث يعملون لتوطئة الظروف المعيشية القاسية.

* نسبة وفيّات الأطفال في العالم النامي تزداد عشرة أضعاف عما هو عليه العالم الصناعي.

أعلى المعدلات لوفيات الأطفال في العالم في افريقيا ، فقد هلك نحو خمسة ملايين من الأطفال عام ١٩٨٤ م ، وأصيب مثلهم بعاهات مختلفة نتيجة المرض وسوء التغذية ، وهذا يتوافق مع رقم نشرته وكالة الأنباء الفرنسية بأن عدد الموتى من الأطفال ما بين عام ٨٣ ـ ٨٥ يبلغ ١٠ ملايين طفل.

قال تقرير منظمة الصحة العالمية : ان ١٥ مليون طفلا يموتون سنويّا بسبب سوء التغذية وهم دون الخامسة ، وهناك الكثير من الأطفال يصابون بأمراض مرتبطة بسوء التغذية كالحصبة والسل والإسهال والعمى ، وأضافت مجلة (اطلاعات الاسبوعية في عددها ٢٢٢٥) يوجد في الهند ٩ مليون مكفوف ، وفي بنغلادش يفقد ٢٠٠ الف طفل بصرهم كل عام بسبب سوء التغذية وفيتامين (أ).

وعن بنغلادش أضافت كيهان في عددها ١٢٤٣٥ : يموت ٤٠٠ الف طفل بسبب الإسهال والسعال والدفتريا والكزاز وهي مرتبطة بسوء التغذية ، وان ٥٠ خ من أطفال بنغلادش يعانون من سوء التغذية.

وفي جريدة كيهان عدد ١٢٣٢٢ قالت :

* في كل دقيقة و ٤٢ ثانية يموت طفل في البرازيل بسبب الجوع.

٣٦٠