من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

نظام الخلقة. كيف مسك السماء وسوّاها كيف أغطش ليلها وأخرج ضحاها ، وكيف دحى الأرض وأخرج منها ماءها ومرعاها ، وكيف أرسى جنباتها. كل ذلك لحياة الإنسان والبهائم التي تساعد الإنسان.

خامسا : بعد ذلك يذكّرنا بالطامة الكبرى حيث يتذكّر الإنسان ما سعى ، ويبيّن أنّ حكمة الخلق تتجلّى في الجزاء النهائي ، عند ما يلقى في الجحيم من طغى ، بينما تكون الجنة مأوى الخائفين مقام ربهم.

وفي خاتمة السورة يذكّرنا السياق بتبرير يتشبث به الجاحدون عبثا حيث يتساءلون عن الساعة : أيّان مرساها؟ ولكن أين أنت والساعة؟ إنّ علمها عند الله وإليه منتهاها. إنّما أنت منذر. دعنا نخشاها ، ففي ذلك اليوم تعمّ الحسرة كلّ أبعاد وجودنا لأنّنا نحتسب عمرنا في الدنيا عشية أو ضحاها.

وهكذا تحقّق آيات السورة هدفها لمن يشاء ، وهو معالجة طغيان النفس وغرورها

٢٨١
٢٨٢

سورة النّازعات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ

___________________

١ [والنازعات غرقا] : قيل : هم الملائكة ينزعون أرواح الكفّار عن أبدانهم بالشدة كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدى ، وقيل : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق أي تطلع وتغيب ، قال البعض : تنزع من مطالعها وتغرق في مغاربها .. وهناك معان أخرى للآية.

٦ [الراجفة] : قيل هي النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردّد واضطراب كالرعد إذا تمخض.

٢٨٣

(٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ

___________________

٧ [الرادفة] : قيل هي النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى وهي التي يبعث معها الخلق.

٨ [واجفة] : شديدة الاضطراب ، والوجيف : سرعة السير ، وأوجف في السير : أسرع وأزعج الركاب فيه.

١٠ [الحافرة] : الطريق التي مرّ فيها الإنسان ، تسمّى بذلك لأنّه حفرها بتأثير أقدامه فيها ، فالكافرون يتساءلون : هل نحن نعود إلى الحياة بعد الموت كالسابق؟

١١ [نخرة] : بالية ، وفي مفردات الراغب : نخرت الشجرة أي بليت فهبّت بها نخرة الريح أي هبوبها ، والنخير : صوت من الأنف. وهذا يوافق ما قيل من أنّ الناخرة من العظم ما فرغت وخرج منها صوت بسبب هبوب الرياح.

١٣ [زجرة] : هي صيحة الصور ، وسمّيت بذلك لأنّها تزجر وتردع المخاطب عن سيره الأوّل إلى نحو السير الثاني.

٢٨٤

واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)

___________________

١٤ [بالساهرة] : هي وجه الأرض ، والعرب تسمّي وجه الأرض من الفلاة ساهرة أي ذات سهر لأنّ من يريد النوم عليها يسهر خوفا ممّا فيها من العدو والحيوانات الوحشية. وهنا إشارة : أنّ المحشر يكون في أرض مستوية كالفلات لا اعوجاج فيها ولا بناء ولا شجر ولا كهوفا ولا مغارات يفلتون إليها من يد العدالة ، يقول ربّنا : «يوم هم بارزون».

١٦ [طوى] : اسم للوادي الذي كلّم الله فيه موسى.

وقيل : طوي بالتقديس مرّتين.

٢٨٥

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ

هدى من الآيات :

لكي لا تغمر النفس الغفلة عن ذكر الله يذكّرنا السياق بما ينتظرنا من حالات النزع والنشط والسبح والسبق ، ثم بيوم القيامة حيث الصيحة التي تفنى بها الخلائق ، والصيحة التي تحيى بها. في ذلك اليوم تتسارع نبضات القلوب ، وتخشع الأبصار ، لما ذا؟ لأنّهم كانوا لا يرجونه ، وكانوا يقولون : هل نعود كما نحن اليوم ، أو بعد أن نصبح عظاما نخرة؟! ثم قالوا : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ). بلى. إنّهم يعودون وبصيحة واحدة تنقلهم من رحم قبورهم إلى ظاهر الأرض المستوية.

ثم ينقلنا السياق إلى حديث موسى الذي ناداه ربه وأمره بإنذار فرعون الطاغية لعلّه يتذكر أو يخشى ، ولكنّه أبى وتحدّى حين حشر الناس ونادى فيهم : أنا ربكم الأعلى ، فأهلكه الله في الدنيا بعذاب وألحقه بعذاب الآخرة. كل ذلك ليبقى عبرة لمن يخشى.

٢٨٦

وهكذا تواصلت رسالات الله لإنذار البشر بذلك اليوم الرهيب الذي ينتظر الجميع.

بينات من الآيات :

[١] في حياة المرء لحظات حاسمة لو وعاها ونظّم مسيرته وفقها تجاوز خطرها ، ومن أبرزها عند نزع الروح ، عند ما يودّع حياة طالما عمل لها ، ويدخل في حياة مجهولة تماما لديه ، وعند ما يقسم القرآن بمثل هذه اللحظات فلكي نعيد النظر في تصوّراتنا عن أنفسنا ، ونكبح منها جماح الغرور والطيش.

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً)

قسما بتلك القوى التي تنزع الأرواح من أبداننا بقوّة كما ينزع القوس فيغرق فيه حتى يبلغ غاية مداه.

ويبدو أنّ المراد منها الملائكة الذين يقومون بهذا الدور.

[٢] ثمّ قسما بالقوى التي تنشط في هذا الأمر نشطا.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً)

قالوا : النشط هو الجذب بسهولة ويسر ، فالمعنى هنا أنّ الملائكة تنشط أرواح المؤمنين ، كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنها. من هنا يعتقد أنّ القسمين هما بملك الموت وأعوانه في حالتين : عند نزع أرواح الكفّار غرقا أي بقوة وشدة ، وعند نزع أرواح المؤمنين بنشط ورفق.

وقد روي عن الإمام علي ـ عليه السلام ـ معنى معا كسا في هذه الآية حيث

٢٨٧

قال أنّها : «الملائكة تنشط أرواح الكفّار بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافهم بالكرب والغم» (١).

[٣] ثم تحمل الملائكة أرواح المؤمنين إلى السماء فتسبح فيها سبحا .. كما تسبح النجوم في أفلاكها.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً)

[٤] ثم تتسابق بسرعة لتبلغ غاية الروح النار أو الجنة .. فقسما بأولئك الكرام.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً)

[٥] وقسما بأولئك الملائكة الذين يدبّرون أمر الأرواح وغيرها من أمور عالمنا بإذن ربّهم.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)

قسما بهم جميعا : إنّ يوم الفصل آت ، وإنّ الجزاء واقع لا ريب فيه.

كان هذا أحد التفاسير في معنى هذه الآيات ، وهناك تفسيرات أخرى :

١ / أنّ المراد بالنازعات فإنّها تنزع من أفق لآخر ، وتنشط في سيرها ، وتسبح في الفضاء ، وتساءلوا عن معنى تدبيرها الأمر فقالوا معناه أنّ الله يدبّر الأمر بها.

٢ / أنّ النازعات هي الأرواح التي تنزع كما يقال لابن وتامر لمن يملك اللبن والتمر ، وهي أيضا التي تنشط أي تخرج ثم تسبح في الفضاء ، وتساءلوا مرّة أخرى عن تفسير المدبّرات أمرا فقالوا : إنّ أرواح بني آدم تدبّر عبر الأحلام لبعض الأمور بعد

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٢٩.

٢٨٨

فراقها من الدنيا ، وهذا تفسير غريب.

٣ / وقال بعضهم : أنّها صفة خيل الغزاة أو الغزاة أنفسهم ، لأنّها تنزع في أعنّتها نزعا تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها لأنّها عراب ، وهي ناشطات لأنّها تخرج من دار الأمان إلى جبهات الحرب ، وهي سابحات لأنّ العرب تشبّه الخيل الأصيل بالسفينة التي تجري بيسر وسرعة ، وقالوا : إنّها تدبّر أمر الغلبة والنصر.

وإنّ هذا التفسير يبدو مقبولا إذا لاحظنا أنّ ربنا أقسم بخيل الغزاة أو عموما بالخيل في قوله سبحانه : «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً» (١) ، وكانت للعرب علاقة حميمة مع الخيل ، كما أنّه كان رمزا للشجاعة والفروسية.

إلّا أنّ تفسير «المدبّرات أمرا» بها يبقى غريبا ، لذلك قال بعضهم : إنّه لا خلاف في تفسير هذه الآية بالملائكة أنّى فسّروا سائر الآيات ، بينما يبدو أنّ المراد بكلّ هذه الكلمات نوعا واحدا من الخلائق ، والله العالم.

[٦] وأنّى كان تفسير هذه الكلمات الصاعقة فإنّها تهزّ الضمير ، بل ويزداد المرء هلعا حين لا يعلم المراد منها بالضبط ، وهنا يقول الرب :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)

حين تزلزل الأرض زلزالها ، حين تعم الصيحة أرجاء الكون ، حين تهتز كلّ الثوابت فلا يبقى ما يعتمد عليه الإنسان سوى الحق. وسواء كانت الرجفة بمعنى الحركة كقوله سبحانه : «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» ، أم بمعنى الصيحة كما قال سبحانه : «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» ، فإنّها تخلع القلوب هلعا ، وتبعثنا نحو التفكير الجدي فيما يفعل بنا غدا.

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٢ ص ٦٣.

٢٨٩

[٧] وبعد الرجفة هناك صاعقة أخرى يدعها السياق مجهولة.

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)

الرادفة الشيء يقع بعد شيء آخر ، فهل هي الصيحة الثانية التي يحيى بها الله الناس بعد أن يميتهم بالأولى ، أم أن عند الأولى يموت أهل الأرض بينما يموت عند الثانية أهل السموات؟! أنّى كانت فإنّها صاعقة فظيعة تبعث الهيبة في أنفسنا.

[٨ ـ ٩] تتسارع نبضات قلوب الفجّار فأنّى لهم الفرار من أهوال الساعة وقد ضيّعوا فرصهم في الدنيا فلم يدّخروا لأنفسهم ما ينجيهم منها؟

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ)

أمّا المؤمنون فإنّهم آمنون من فزع يومئذ ، لأنّهم قد وفّروا لأنفسهم من صالح الأعمال ما يبعث في أنفسهم السكينة.

[١٠] طالما كفروا بالنشور ، وبنوا كل مواقفهم على أساس هذا الكفر ، فإذا بهم يكتشفون خطأهم.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ)

قالوا : رجع فلان في حافرته أي في طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه. وهكذا يبعّدون البعث لأنفسهم حتى لا يتحملوا مسئولياته.

[١١] ويحاولون تبرير استبعادهم للبعث بأنّه كيف يمكن إعادة هذه الأعظم البالية التي تنخر فيها الرياح لما فيها من ثقوب كثيرة.

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً)

٢٩٠

حكي عن كتاب الخليل : نخرت الخشبة إذا بليت فاسترخت حتى تفتت إذا مسّت ، وكذلك العظم الناخر (١) وقيل : الناخرة من العظم ما فرغت وخرج منها صوت بسبب هبوب الرياح.

[١٢] ثم عادوا إلى الواقع وقيّموا موقفهم الجاحد فقالوا إذا كانت القيامة حقّا فإنّهم الخاسرون لكفرهم بها.

(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ)

ولعل هذا القول كان اعترافا منهم يدانون به يوم القيامة ، أو جحودا بعد اليقين وعنادا بعد الإذعان. وقيل : إنّما هو استهزاء وسخرية.

[١٣] دعهم يقولوا ما يشاءون فإنّ القيامة واقعة ، وبزجرة واحدة تراهم قياما في الساهرة.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ)

زجر البعير إذا صاح عليه ، ويبدو أنّ المراد منها النفخة الثانية التي يحيي بها الله من في القبور.

[١٤] (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)

الساهرة الأرض المستوية سميّت بذلك لأنّ سالكها لا ينام فيها خوفا منها. ويبدو أنّ الساهرة هي وجه الأرض في مقابل باطنها حيث أنّهم كانوا في باطن الأرض فتحوّلوا إلى ظاهرها.

__________________

(١) تفسير الجامع لأحكام القرآن ج ١٩ ص ١٩٨.

٢٩١

[١٥] حقيقة كيوم القيامة ، عند ما تدق ساعة الحساب الرهيب ، جديرة بأن نتذكرها ، بل نجعلها نصب أعيننا أبدا حتى نكيّف على أساسها كلّ أبعاد سلوكنا وكلّ جوانب تفكيرنا ، ومن أجل هذا بعث الله الرسل لكي ينذروا الطغاة لعلهم يخشون من تلك العاقبة ، ولكنّهم تمادوا في غيّهم حتى أهلكهم الله وعجّل بهم إلى النار ، فهل لنا أن نعتبر بتاريخهم المأساوي؟

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى)

بلى. ولكن هل اعتبرت بهذا الحديث؟ فإن لم تكن اعتبرت به فكأنّك لم تسمعه أبدا.

[١٦] لقد بدأت قصته بدعاء ربه ، عند ما صار في الواد المقدس طوى.

(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)

لقد تقدست تلك الأرض بالوحي. ولعل اسمها كان طوى أو أنّ هذه صفة الأرض من الطي كأنّها طويت بالقداسة أو طويت بموسى حيث قرّبته إلى الرسالة. ولعل طوى صفة لكل أرض مباركة حيث أنّ سالكها يتمتع بالسير فيها حتى وكأنّها تطوى له.

[١٧] ثم أمره الرب بأن يذهب إلى رأس الطغيان والفساد فرعون.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)

وبالرغم من طغيانه لم يدعه الله بلا نذر ، ولم يهلكه قبل أن يبعث إليه رسولا ، ليتم الحجة عليه.

٢٩٢

[١٨] وتلخّصت رسالة الوحي إليه في دعوته إلى التزكية وإصلاح نفسه ، وعدم هلاكها بالاستمرار في الطغيان. سبحانك يا رب ما أرحمك بعبادك ، وكيف تريد لهم الفلاح ويأبون إلّا التمادي في الفساد.

(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى)

[١٩] فإذا تزكّى المرء ، وتطهّر من العناد والغرور والكبر ، كانت نفسه مهيّأة لاستقبال نور الإيمان عبر رسول الله ، فإذا هداه الله إليه بالرسول خشعت نفسه وتخلّص جذريّا من حالة الطغيان.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)

[٢٠] وطالب فرعون موسى بالآية ، لعله يتهرّب عن الهداية عند ما لا يأتيه بها لحكمة بالغة ، ولكنّ الله أظهر له الآية على يد نبيه إتماما لحجته.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى)

متمثلة في العصا واليد البيضاء.

[٢١] وإذا نزلت الآية الواضحة ثم كفر المرء فإنّ العقوبة تعجّل له ، لأنّ الكفر آنئذ يكون تحدّيا صارخا لسلطان الرب ، ولعله يكون أيضا سببا لضلالة سائر الناس ، وهكذا تتابعت حلقات النهاية.

(فَكَذَّبَ وَعَصى)

كذّب بالآية ، وعصى الرب تعالى حين عصى موسى نبيه عليه السلام.

[٢٢] وتمادى في التكذيب والعصيان حين راح يسعى في الأرض فسادا.

٢٩٣

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى)

[٢٣] وأخذ يضلل الناس ، ويجنّد الضالين ضد رسالة الله.

(فَحَشَرَ فَنادى)

أي جمع الناس ونادى فيهم بضلالاته.

[٢٤] وأعظم تلك الضلالات دعوته بأنّه الرب الأعلى ، واستكباره في الأرض ، وفرض قانونه الوضعي على الناس في مقابل شريعة الله سبحانه.

روي عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام أنّه قال : «قال جبرئيل ـ عليه السلام ـ : نازلت ربّي في فرعون منازلة شديدة فقلت : يا ربّ تدعه وقد قال : أنا ربكم الأعلى؟! فقال : إنّما يقول هذا عبد مثلك» (١) ، وفي رواية أخرى قال ربّنا : «إنّما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت» (٢).

(فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)

جاء عن ابن عبّاس أنّ جبرئيل قال لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يا محمد لو رأيتني وفرعون يدعو بكلمة الإخلاص : «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» وأنا أرسه في الماء والطين لشدّة غضبي عليه مخافة أن يتوب فيتوب الله عزّ وجل عليه! قال رسول الله : ما كان شدّة غضبك عليه يا جبرئيل؟ قال : لقوله «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ، وهي كلمته الأخرى منهما قالها حين انتهى إلى البحر وكلمته الأولى : «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي»

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٥٠٠.

(٢) المصدر.

٢٩٤

فكان بين الأولى والآخرة أربعون سنة ، وإنّما قال ذلك لقومه «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» حين انتهى إلى البحر فرآه قد يبست فيه الطريق فقال لقومه : ترون البحر قد يبس من فرقي ، فصدّقوه لما رأوا ، وذلك قوله عزّ وجل : «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» (١).

[٢٥] وجاءت النهاية المريعة حيث أخذه الله أخذا وبيلا ، وألزمه عذاب الدنيا فالآخرة.

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى)

قالوا : النكال من النكل وأصله الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل : القيد ، ومعناه هنا : العاقبة السيئة للعمل والتي تبقى عبرة لمن بعده ، لأنّ النكال اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. ثم قالوا : إنّه بمعنى أخذه الله أخذا وبيلا فجعل النكال محل «أخذ وبيلا» ، وهذا كثير في العربية حيث يوضع مصدر آخر قريب من مصدر الكلمة محل مصدرها ، وقال بعضهم : إنّه بمعنى : أخذه بنكال الآخرة والأولى. ويبقى السؤال : ما هو معنى نكال الآخرة؟ يبدو لي أنّ معناه نكالا (أي عقوبة على عمل سيء) يوجد في الحياة الآخرة ، وعقوبة وجدت في الحياة الدنيا.

[٢٦] وهذا النكال ـ عاقبة العمل السيء وجزاؤه ـ بقي عبرة لكلّ معتبر ، فمن هو المعتبر؟ الذي يخشى ، ولا يخشى إلّا من اهتدى ، ولا يهتدي إلّا من تزكّى.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)

__________________

(١) المصدر.

٢٩٥

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ

___________________

٢٨ [سمكها] : سقفها ، والسمك هو الارتفاع ، وهو مقابل العمق لأنّه ذهاب الجسم بالتأليف إلى جهة العلو وبالعكس العمق ، والمسموكات السماوات لارتفاعها.

٢٩ [أغطش] : أظلم ، والغطش الظلمة ، والأغطش الذي في عينيه شبه العمش ، وفلاة غطشاء لا يهتدى فيها.

٣٠ [دحاها] : بسطها ، من الدحو وهو البسط.

٣٤ [الطّامة] : العالية الغالبة ، يقال هذا أطمّ من هذا أي أعلى منه ، وطمّ الطائر الشجرة : علاها ، وتسمّى الداهية التي لا يستطاع دفعها طامّة.

٢٩٦

هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

___________________

٤٢ [أيّان مرساها] : أي متى يكون قيامها ، من الإرساء وهو الثبوت والاستقرار.

٤٣ [فيم أنت من ذكراها] : أي فيما ذا أنت يا رسول الله من تذكّر الساعة فإنّك لا تعلم وقت قيامها ، كأنّ الإنسان إذا كان داخلا في شيء علم مزاياه ، أمّا إذا كان خارجا لا يعلم خصوصياته. و «فيم أنت» للإنكار أي لست من ذكراها في شيء حتى تعلمها. وقيل : معناه ليس هذا ممّا يتصل بما بعثت لأجله ، وقيل : أنّها من حكاية قولهم والمعنى أنّك قد أكثرت من ذكراها متى تكون.

٢٩٧

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها

هدى من الآيات :

لكي نتقي طغيان النفس ننظر مرة إلى تاريخ الغابرين ، ونتساءل : ما الذي أرداهم؟ أليس طغيان فرعون على موسى أوجب له تلك العاقبة السوئى؟ وننظر مرة أخرى إلى الخليقة فنرى السماء كيف بناها ربنا المقتدر الحكيم ، وكيف رفع سمكها فسوّاها ، وكيف ألزمها قوانينها من اختلاف الليل والنهار ، والغطش والضحى ، ثم ننظر إلى الأرض كيف سوّاها ، وأجرى فيها روافد الماء العذب ، وأودعها مواد الزراعة ، ووتّد ميدانها بالجبال الراسيات ، لتتهيّأ لحياة البشر والأنعام ، أفليس الله بقادر على أن يعيدنا؟ بلى. وهو حكيم لم يخلق كل هذا سدى ، فلا بد إذا من يوم الحساب ، في ذلك اليوم الرهيب يتذكر الإنسان سعيه ، ويرى كلّ ذي عين الجحيم تلتهب ، وتدعو الطغاة الذين آثروا الحياة الدنيا ، بينما الخائفون مقام ربهم يؤويهم ربهم في الجنة لأنّهم خالفوا أهواءهم.

وفي نهاية السورة يعالج القرآن الكريم التشكيك في وقت الساعة ، بأنّ وقتها عند

٢٩٨

الله ، وأنّ المهم تذكّرها ، وليس معرفة وقتها.

بينات من الآيات :

[٢٧] لما ذا يطغى الإنسان؟ أوليس لأنّه لم يستوعب أو يعترف بالنشور والحساب؟ ولكن كيف يؤمن بذلك ووساوس الشيطان تبعده عنه وتطرح في روحه التساؤلات المتلاحقة : كيف ومتى وأنّى؟

من أجل أن يتجاوز الإنسان هذه الوساوس ولا يقع في شرك الشيطان يذكّره الرب سبحانه بما يحيط به من خلق السموات والأرض ، وذلك لأمرين :

أولا : لكي نؤمن بعظيم قدرة الله التي تتجلى في هذا الخلق مما يهدينا إلى أنّه لا يعجزه شيء.

ثانيا : لكي نزداد وعيا بحكمة الخلق ، وأنّ له هدفا محددا ، وأنّ الإنسان لن يشذ عن هذه السنّة العامة.

وإذا وعى الإنسان هاتين البصيرتين فإنّه يستطيع مقاومة وساوس الشيطان.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها)

فقدرة الرب التي بنت هذه الأجرام التي لا يبلغ حتى خيال أعظم العلماء مداها لا تعجزه إعادة الإنسان إلى الحياة مرة أخرى ، وقال الله سبحانه : «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (١).

[٢٨] وإذا كان خلق السموات شاهدا على قدرة الرب فإنّ نظامها الدقيق شاهد

__________________

(١) غافر / ٥٧.

٢٩٩

على حكمته. أنظر إلى السماء كيف ارتفعت بلا عمد نراها ، وكيف استوت ضمن سلسلة لا تحصى من السنن والأنظمة الحكيمة.

(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها)

قالوا : إذا نظرت من فوق الجبل إلى الوادي قلت عمق الوادي ، وإذا نظرت من الوادي إلى قمّة الجبل قلت سمك السماء ، هكذا رفع الله السماء وجعلها عالية ، وألزم أجرامها وغازاتها وأشعتها قوانين لا تحيد عنها قيد شعرة ، ولعل هذا معنى التسوية.

[٢٩] وتهيئة نظام الطبيعة للحياة بدوره شاهد على مدى القدرة والحكمة في الخلق ، فاختلاف الليل والنهار ، وبالتالي الظلام والنور والسبات والحركة يهدينا إلى مدى عمق الحكمة التي وراء الخلق.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها)

قالوا : الغطش : الظلام. والضحى : وقت انتشار نور الشمس ، هكذا دبّر القدير الحكيم أمر الأرض والسماء لتتوفر فرصة الحياة على الأرض بما لا نجد مثيلا لها في الكرات القريبة منا. أو كان كل ذلك بلا هدف؟

[٣٠] وبعد خلق السماء والأرض تمّ دحو الأرض وتمهيدها وتسويتها ..

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)

قالوا : إنّ ذلك إشارة إلى العوامل الطبيعية التي تتابعت على الأرض حتى تهيّأت للعيش ، ثم تعرضها للأمطار الغزيرة والسيول العظيمة ، ثم انحسار المياه عن بعض المناطق دون غيرها.

٣٠٠