من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : من قرأ «والسماء ذات البروج» في فرائضه فإنّها سورة النبيين كان محشره وموقفه مع النبيين والمرسلين والصالحين.

نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٤٠

٤٦١

الإطار العام :

جبّار سفيه تطغيه سلطة محدودة في بلد متواضع فيتخذ قرارا خاطئا بإعدام جماعي لطائفة وعت الحقيقة فآمنت بالله ، فيلقيهم في نار في الأخاديد ، وتشهد الجماهير سطوته لكي يكونوا لهم عبرة .. وينتهي في زعمه كلّ شيء. كلّا .. إنّ السموات والأرض وجنودهما وسكانهما ينتظرون محاكمة هذا السفيه في اليوم الموعود ، وإنّ سنن الله في الخليقة التي تمتد من السماء ذات البروج في عمق المكان إلى اليوم الموعود في أفق الزمان وإلى الشاهد والمشهود تحيط بهذا الإنسان العاجز المسكين ، فأين المفر؟!

وهكذا تتواصل آيات سورة البروج التي تفتح باليمين ، وتختم بأنّ الله من ورائهم محيط ، وأنّ القرآن المجيد مصون في اللوح المحفوظ ، وفيما بينهما الحديث عن أصحاب الأخدود الذين بالغوا في الجريمة فأوقدوا النار في حفر ثم ألقوا المؤمنين فيها وجلسوا يتفرّجون على مشهد احتراقهم.

وهكذا ابتلي المؤمنون (وربما بصورة مكرّرة وفي بلاد مختلفة) بهذا البلاء

٤٦٢

العظيم ، دون أن ينال من إيمانهم مثقال ذرة ، بل ازداد إيمانهم صلابة وصفاء.

أمّا أعداؤهم فما ذا كانت عاقبة جرائمهم؟ هل بلغوا هدفهم؟ وما ذا استهدفوا من هذا العمل الوحشي الموغل في الجاهلية؟ أوليس كسر مقاومة المؤمنين؟ فهل أفلحوا؟ كلّا .. فقد انتشر الدين بسبب مقاومة المؤمنين ، ونزل على الجبّارين العذاب الأليم ، كما أنزل الله على فرعون وثمود العذاب الأليم.

وكلمة أخيرة : إنّ هذه السورة الكريمة تتميّز بإعداد المؤمنين لاجتياز أصعب الامتحانات ومقاومة أكبر التحديات.

٤٦٣
٤٦٤

سورة البروج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها

___________________

١ [البروج] : القصور ، وسمّيت بذلك لأنّها ظاهرة لعلوّها ، وجاء في مفردات الراغب : ثوب مبرّج صوّرت عليه بروج فاعتبر حسنه وقيل تبرّجت المرأة أي تشبّهت به في إظهار المحاسن ، وعلى ذلك تكون بروج السماء هي الأجرام والمجرّات الضخمة الظاهرة في الآفاق.

وقال البعض : هي منازل الشمس والقمر والكواكب وهي اثنا عشر برجا ، يسير القمر في كلّ برج منها يومين وثلاث وتسير الشمس في كلّ برج شهرا.

٤ [الأخدود] : الشقّ العظيم في الأرض ، ومنه الخدّ لمجاري الدموع ، وتخدّد لحمه إذا صار فيه طرائق كالشقوق.

٤٦٥

قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ

___________________

١٠ [فتنوا] : أي أحرقوا ، والفتين حجارة سود كأنّها محرقة ، وأصل الفتنة الامتحان ثمّ يستعمل في العذاب ، وقال الراغب في مفرداته : أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته.

١٥ [المجيد] : المجد السعة في الكرم والجلال ، وأصل المجد من قولهم : مجدت الإبل إذا حصلت في مرعى كثير واسع وقد أمجدها الراعي ، ووصف الله نفسه بذلك لسعة فيضه وكثرة جوده ، ولجلالته وعظم قدره.

٤٦٦

(١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)

٤٦٧

قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ

بينات من الآيات :

[١] الكائنات والزمان والإنسان ثلاثة شهود عظام على مسئولية البشر ، فأنّى له الهروب ، وأنّى له التبرير! وأعظم الكائنات حسب علمنا السموات بما فيها من وحدات من بناء عظيم يسمّيها القرآن البروج.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ)

ما هي البروح؟ يبدو أنّها طبقات السماء المتمثلة في مجاميع المجرات ، كل مجرة فيها أعداد هائلة من الشموس.

قالوا : أصل معنى البروج الظهور ، ولأنّ البناء العالي ظاهر سمّي القصر برجا ، كما سمّي موقع الدفاع عن المدينة بالبرج. ولعلّ انتخاب هذه الكلمة هنا كان لأنّ في السماء حرسا اتخذوا مواقع لرصد حركات الإنس والجن والشياطين ، ممّا

٤٦٨

ينسجم مع السياق الذي يجري فيه الحديث عن جزاء الطغاة على جرائمهم بحقّ المؤمنين ، فإذا تحصّن الطغاة ببروجهم الأرضية فإنّ للسماء بروجا لا يستطيعون مقاومة جنودها.

وقال بعضهم : البروج هي منازل الشمس والقمر والكواكب وأفلاكها التي لا تستطيع أجرام السماء على عظمتها تجاوزها قيد أنملة ، ممّا يشهد على أنّها كائنات مخلوقة مدبّرة.

[٢] يوم القيامة رهيب ترتعد السموات والجبال والبحار وسائر الكائنات خشية منه وإشفاقا ، وأعظم ما فيه مواجهة الإنسان لأفعاله ، بلا حجاب من تبرير ، ولا قوة ولا ناصر .. وهكذا يحلف السياق به على ما يجري الحديث عنه من مسئولية الطغاة أمام ربّهم عن جرائمهم بحقّ المؤمنين.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ)

إنّه يوم لا مناص منه ، لأنّه وعد الله ، ووعد الله غير مكذوب ، وليس الإنسان وحده بل الكائنات جميعا موعودة بذلك اليوم ، فأيّ يوم عظيم ذلك اليوم؟

[٣] ثم يقدم الإنسان للمحاكمة ، فقد حضر الشهود. كلّ مكان عاش فيه يشهد عليه ، وكلّ زمان مرّ به يشهد عليه ، وكلّ جارحة استخدمها تشهد عليه ، وكلّ إنسان عايشه يشهد عليه ، وفي طليعة الشهود الأنبياء والأوصياء والدعاة إلى الله ، يشهدون عليه أن قد بلّغوه رسالات ربه فلم يقبلها. أيّ مسكين هذا الطاغية الذي تجتمع عليه الشهود من كلّ موقع وكلّ حدب؟! ثم تراه في الدنيا غافلا لاهيا سادرا في جرائمه وكأنّه لا حساب ولا عقاب.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)

٤٦٩

قال بعضهم : الشاهد يوم الجمعة بينما المشهود يوم عرفة ، وروي ذلك عن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، وقال البعض : بل كلّ يوم يشهد على الإنسان بما يفعل ، وروي عن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ قوله : «ليس من يوم يأتي على العبد إلّا ينادي فيه : يا بن آدم أنا خلق جديد ، وأنا فيما تعمل عليك شهيد ، فاعمل فيّ خيرا أشهد لك به غدا ، فإنّي لو قد مضيت لم ترن أبدا ، ويقول الليل مثل ذلك» (١).

[٤] أرأيت الذي خلق السماء ذات البروج فلم يدع فيها ثغرة ولا فطورا ، وجعل للناس اليوم الموعود ليجمعهم ويشهدهم على أنفسهم ، أرأيته سبحانه يترك الإنسان يعبث في الدنيا ويقتل عباده المؤمنين بطريقة شنيعة ثم لا يجازيه؟ كلّا ..

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ)

الذين شقّوا في الأرض أخاديد كالأنهر العريضة ، وملأوها نيرانا تستعر.

قال بعضهم : تلك لعنة أبدية تلاحق الظالمين ، فالقتل هنا كناية عنها.

وقال البعض : بل أنّ أولئك الظالمين قد قتلوا فعلا إذ خرجت شعلة من نيران أخدودهم وأحرقتهم. وربما قتلوا بعدئذ بطريقة أخرى.

المهم أنّهم لم يفلتوا من عذاب الآخرة ، وإن أمهلوا في الدنيا لعدّة أيّام ، ذلك أنّ نظام الخليقة قائم على أساس العدالة ، ولن يقدر الظالم الانفلات من مسئولية جرائمه.

[٥] كانت نيران تلك الشقوق التي صنعوا في الأرض مشتعلة تلتهم الضحايا بسرعة.

__________________

(١) القرطبي ج ١٩ ص ٢٨٤.

٤٧٠

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ)

وكم هي فظيعة جرائم الطغاة ، وكيف يتوسلون بأبشع الأساليب في سبيل بقائهم عدة أيّام آخر في سدّة الحكم .. أفلا يستحق مثل هؤلاء نيران جهنم المتّقدة؟

[٦] رهيب ومثير منظر الإنسان البريء الوادع وهو يحترق بالنار ويجأر للمساعدة دون أن يستجيب له أحد ، وقد يكون شيخا كبيرا أو شابّا يافعا أو امرأة ضعيفة أو حتى طفلة بعمر الورد.

ما أقسى قلوب الطغاة وأتباعهم وهم يتحلّقون حول النار ينظرون إلى المؤمنين يلقون في النار فيحترقون! حقّا : إنّ الكفر يمسخ صاحبه ، والطغيان يحوّله إلى ما هو أسوء من وحش كاسر.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ)

[٧] لقد دعوا الجماهير إلى حفلة إعدام جماعية ، ليشهدوا عذاب المؤمنين ، وليكون عذابهم عبرة لمن بعدهم لكي لا يفكرّ أحد بمخالفة دين السلطان.

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)

جريمة بشعة تقع في وضع النهار وبعمد وقصد وبتحدّي سفيه لملكوت الرب حيث يستشهد على وقوعها المجرم الناس .. لا أظنّ أنّ جريمة تستكمل شروط الاجرام كهذه .. فما ذا ينتظر المجرم غير القتل وملاحقة اللعنة؟

من هم أصحاب الأخدود؟ وفي أيّ بقعة كانوا؟ قال مقاتل : إنّ أصحاب الأخدود ثلاثة : واحد بنجران ، والآخر بالشام ، والثالث بفارس ، أمّا بالشام

٤٧١

أنطياخوس الرومي ، وأمّا الذي بفارس فبختنصّر ، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس (١).

وحسب هذا القول يحتمل أن تكون جريمة الحرق بالنار عبر الأخدود شائعة في الجاهلية في أكثر من بلد ، وإذا لا يهمنا من كان يفعلها ، إنّما العبرة منها.

وجاء في بعض الأحاديث أن القصة وقعت في الحبشة حيث بعث الله إليهم نبيّا فآمنت به طائفة فأخذوه وإيّاهم وألقوهم في النار .. (٢).

إلّا أنّ النصوص استفاضت بقصة طريفة للاعتبار ، ولا يهمّنا ذكر الاختلاف في تفاصيلها :

روى مسلم في الصحيح عن هدية بن خالد عن حمّاد بن سلمة عن ثابت بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : «كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر ، فلمّا مرض الساحر قال : إنّي قد حضر أجلي فادفع إليّ غلاما أعلّمه السحر ، فدفع إليه غلاما وكان يختلف إليه ، وبين الساحر والملك راهب ، فمرّ الغلام بالراهب فأعجبه كلامه وأمره ، فكان يطيل عنده القعود ، فإذا أبطأ عن الساحر ضربه ، وإذا أبطأ عن أهله ضربوه ، فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : يا بني إذا استبطأك الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا استبطأك أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو ذات يوم إذا بالناس قد غشيهم دابّة عظيمة ، فقال : اليوم أعلم أمر الساحر أفضل أم أمر الراهب ، فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك فاقتل هذه الدابة ، فرمى فقلتها ومضى الناس ، فأخبر بذلك الراهب فقال : يا بني إنّك ستبتلى فإذا ابتليت

__________________

(١) القرطبي ج ١٩ ص ٢٩١.

(٢) تفسير الميزان ج ٢٠ ص ٢٥٦ نقلا عن الإمام علي عليه السلام.

٤٧٢

فلا تدل عليّ ، قال : وجعل يداوي الناس فيبرئ الأكمه والأبرص ، فبينما هو كذلك إذ عمي جليس للملك فأتاه وحمل إليه مالا كثيرا ، فقال : اشفني ولك ما هاهنا ، فقال : أنا لا أشفي أحدا ولكنّ الله يشفي ، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، قال : فآمن فدعا الله فشفاه ، فذهب فجلس إلى الملك فقال : يا فلان من شفاك؟ فقال : ربي ، قال : أنا؟ قال : لا ، ربي وربك الله ، قال : أو إنّ لك ربّا غيري؟ قال : نعم. ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل به حتى دلّه على الغلام ، فبعث إلى الغلام فقال : لقد بلغ من أمرك أن تشفي الأكمه والأبرص ، قال : ما أشفي أحدا ولكنّ الله يشفي ، قال : أوإنّ لك ربّا غيري؟ قال : نعم. ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل به حتى دلّه على الراهب ، فوضع المنشار عليه فنشر حتى وقع شقّتين ، فقال للغلام : إرجع عن دينك فأبى ، فأرسل معه نفرا قال : اصعدوا به جبل كذا وكذا فإن رجع عن دينه وإلّا فدهدهوه منه

قال : فعلوا به الجبل فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فتدهدهوا أجمعون ، وجاء إلى الملك فقال : ما صنع أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله ، فأرسل به مرة أخرى قال : انطلقوا به فلجّجوه في البحر ، فإن رجع وإلّا فأغرقوه ، فانطلقوا به في قرقور (١) فلمّا توسّطوا به البحر قال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، وجاء حتى قام بين يدي الملك فقال : ما صنع أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله ، ثم قال : إنّك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به اجمع الناس ثم اصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضعه على كبد القوس ، ثم قل : باسم ربّ الغلام فإنّك ستقتلني ، قال : فجمع الناس وصلبه ثم أخذ سهما من كنانته فوضعه على كبد القوس وقال : باسم ربّ الغلام ورمى فوقع السهم في صدغه (٢) ومات ، فقال الناس : آمنّا بربّ الغلام ، فقيل له : أرأيت ما كنت تخاف قد نزل والله بك من الناس ، فأمر بأخدود فخدّدت على

__________________

(١) القرقور ـ بالضم ـ السفينة الطويلة.

(٢) الصدغ ـ بضم الصاد ـ ما بين العين والاذن.

٤٧٣

أفواه السكك ثم أضرمها نارا فقال : من رجع عن دينه فدعوه ، ومن أبى فاقحموه فيها ، فجعلوا يقتحمونها ، وجاءت امرأت بابن لها فقال لها : يا أمة اصبري فإنّك على الحق» (١).

وروى سعيد بن جبير قال : لمّا انهزم أهل إسفندهان قال عمر بن الخطاب : ما هم يهود ولا نصارى ، ولا لهم كتاب ، وكانوا مجوسا ، فقال عليّ بن أبي طالب : «بلى. قد كان لهم كتاب رفع ، وذلك أنّ ملكا لهم سكر فوقع على ابنته ـ أو قال : على أخته ـ فلمّا أفاق قال لها : كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنّك ترى نكاح البنات وتأمرهم أن يحلّوه ، فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه فخدّ لهم أخدودا في الأرض وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار ومن أجاب خلّى سبيله» (٢).

وروي عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال : «أرسل علي ـ عليه السلام ـ إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبره بشيء ، فقال ـ عليه السلام ـ : ليس كما ذكرت ولكن سأخبرك عنهم : إنّ الله بعث رجلا حبشيّا نبيّا وهم حبشية ، فكذّبوه فقاتلهم أصحابه ، وأسروه وأسروا أصحابه ، ثم بنوا له جسرا ، ثم ملؤوه نارا ، ثم جمعوا الناس فقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه بالنار ، فجعل أصحابه يتهافتون في النار ، فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر فلمّا هجمت هابت ورقّت على ابنها ، فنادى الصبي : لا تهابي وارميني ونفسك في النار ، فإنّ هذا والله في الله قليل ، فرمت بنفسها في النار وصبيّها ، وكان ممّن تكلّم في المهد» (٣).

وجاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «قد كان

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٥٤٦.

(٢) المصدر / ص ٥٤٧.

(٣) المصدر.

٤٧٤

قبلكم قوم يقتلون ، ويحرقون ، وينشرون بالمناشير ، وتضيق عليهم الأرض برحبها ، فما يردّهم عمّا هم عليه شيء مما هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلّا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فاسألوا ربكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم» (١).

وهكذا يفعل الإيمان بالقلب الإنساني فيجعله أقوى من زبر الحديد ، أثبت من الراسيات ، أسمى من القمم السامقة ، أشدّ صلابة من كلّ ما يبتدعه الطغاة من وسائل الأذى والتعذيب والقتل!!

وقد نتساءل : ما الذي جعل هذا الإنسان الذي لا يكاد يتحمّل أذى بقّة يقتحم النيران المتقدة بجسده النضّ ليحترق أمام أعين الناقمين والشامتين ، دون أن يتنازل عن إيمانه؟

أقول : أولا : إنّ وضوح الرؤية عندهم كان قد بلغ حدّا كانوا يعيشون (ببصائر قلوبهم) الجنة ونعيمها فيتسلون بها عن شهوات الدنيا ، ويعيشون (بتقوى قلوبهم) النار وعذابها فتهون عليهم مصائب الدنيا ومشاكلها.

وإنّنا نقرأ قصة الأم التي تردّدت قليلا باقتحام النار مع رضيعها فقال لها ابنها : يا أمّاه إنّي أرى أمامك نارا لا تطفأ (يعني نار جهنم) فقذفا جميعا أنفسهما في النار.

ثانيا : عند ما يقرّر الإنسان شيئا يسهل عليه القيام به ، وبالذات حينما يكون الأمر في سبيل الله يهوّنه الربّ له ، ويثبّت عليه قدمه ، ويرزقه الصبر على آلامه وتبعاته ، ويقوّى إيمانه ، ويشحذ بصيرته ليرى بها أجره في الآخرة .. وهكذا ترى عباد الله الصالحين يقاومون عبر التاريخ مختلف الضغوط ، ويتحمّلون ألوانا من

__________________

(١) المصدر.

٤٧٥

الأذى بقلب راض ونفس مطمئنة ، لعلمهم أنّ سنن الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل ، وأنّ المؤمنين الذين احترقوا في الأخدود هم سواء مع أيّ مؤمن يعتقل اليوم في سجون الطغاة أو يعذّب أو يقتل أو يتحمّل مشاكل الهجرة والجهاد ومصائبهما ، وكما خلّد الله أمجاد أولئك الصّدّيقين فإنّه لا يضيع أجر هؤلاء التابعين لهم ، وكما أنّ الله قتل أصحاب الأخدود ونصر رسالاته فإنّه يهلك الجبّارين اليوم ويستخلفهم بقوم آخرين.

[٨] عند هيجان الصراع وثورة الدعاية ضد المؤمنين. لا يعرف الناس ما ذا يفعلون ، وأيّ جريمة يرتكبون ، ولكن عند ما يرجعون إلى أنفسهم بعدئذ ويتساءلون : لما ذا قتلوا المؤمنين ، ولما ذا نقموا منهم ، يعرفون أنّهم كانوا في ضلال بعيد.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)

فلا أفسدوا في الأرض ، ولا اعتدوا على أحد ، ولا طالبوا بغير حق ، وإنّما استعادوا حريتهم ، وآمنوا بربهم الله العزيز المنيع الذي لا يقهر والحميد الذي لا يجور ولا يبخل ، ويعطي جزاء العباد ، ويزيدهم من فضله.

[٩] وأيّهما الحق التمرد على سلطان السموات والأرض ، والدخول في عبودية بشر لا يملكون دفع الضر عنهم ، أم التحرر من كلّ عبودية وقيد ، والدخول في حصن الملك المقتدر القاهر؟

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

وبالرغم من أن الله منح الطغاة فرصة الإختيار ضمن مهلة محدودة إلّا أنّه شاهد على ما يعملون ، ولا يغيب عنه شيء في السموات والأرض.

٤٧٦

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

[١٠] وشهادة الله ليست للتاريخ فقط ، وإنّما للجزاء العادل ، فإنّه يسوق الطغاة إلى جهنم ذات النار اللّاهبة والعذاب المحرق.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)

وهذه حكمة الله في إعطاء الطغاة فرصة الامتحان ، لأنّهم بعملهم هذا فتنوا المؤمنين واختبروا إرادتهم ، حتى ظهر للناس قيمة الإيمان ومعناه ، وكيف أنّه فوق المادّيات ، وأنّ دعوة الرسول وأتباعه ليست من أجل مال أو سلطان. ثم إنّهم فتنوا المؤمنين فخلص إيمانهم من رواسب الشرك ، وخلصت نفوسهم من بقايا الجهل والغفلة ، وخلصت صفوفهم من العناصر الضعيفة ، كما يخلص الذهب حينما يفتن في النار من كلّ الرواسب.

تلك كانت حكمة الرب في إعطاء الجبّارين فرصة ارتكاب تلك المجازر البشعة بحقّ الدعاة إلى الله. ولعل بعضهم عادوا إلى الله وتابوا من فعلتهم ، ولذلك أشار ربّنا بقوله :

(ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ)

وفرق كبير بين عذاب جهنم الأشد الأبقى ، وبين عذاب الأخدود الذي يمرّ كلمح البصر ، ثم ينتهي المعذّبون إلى روح وريحان.

[١١] أمّا أولئك المعذّبون فإنّ الجنّات تنتظرهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)

٤٧٧

سواء دخلوا التحدّيات الكبيرة كأصحاب الأخدود أم كانوا من التابعين لهم. وأيّ فوز أعظم لهم من انتهاء محنتهم وفتنتهم ، وبلوغ كامل أهدافهم وتطلّعاتهم؟!

[١٢] قسما بالسماء ذات البروج وباليوم الموعود وبالشاهد والمشهود : إنّ أخذ الله شديد حيث يأخذ الطغاة والظالمين.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)

قالوا : إنّ هذه الجملة جواب للقسم في فاتحة السورة. ولعلّ قوله : «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» أيضا جواب آخر للقسم ، فيكون القسم إطارا لكلّ الحقائق التي تذكر في هذه السورة.

ومن هذه الآية يظهر أنّ الله قد أخذ أصحاب الأخدود أخذا أليما كما أخذ سائر الطغاة.

[١٣] وكيف لا يكون شديدا بطش جبّار السموات والأرض الذي يبدئ خلق الإنسان ويعيده بعد الفناء؟!

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ)

[١٤] وإنّما لا يأخذ أهل الأرض بما كسبوا عاجلا ، ويعفو عن كثير من سيئاتهم لأنّه يستر ذنوبهم ويحبّهم.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)

[١٥] وودّه للمؤمنين وغفرانه لذنوب عباده إنّما هو لعزّته وقوّته.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)

٤٧٨

وسواء قرأناه بالضم ليكون صفة للرب أو بالكسر ليكون صفة للعرش فإنّه واحد إذ عرشه هيمنته وسلطانه ، وهو اسم من أسمائه الحسنى ، وصفة من صفاته الكريمة.

[١٦] وكيف لا يكون سلطانا عظيما من يفعل ما يريد دون ممارسة لغوب ولا علاج؟

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)

وإرادة الله صفة قدرته المطلقة. وهذه الآية تدل على أنّه لا شيء يحدّ إرادته ، فليست إرادته قديمة كما زعمت فلاسفة اليونان ، وتسربّت تلك الفكرة إلى اليهود فقالوا : «يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ»! سبحان الله كيف يكون القادر أوّلا عاجزا آخرا؟! وهل يوصف الرب تعالى بالأول والآخر فيكون متغيّرا؟!

وانعكاس هذه الصفة علينا ـ نحن البشر ـ ألا يدعونا استمرار نعم الله وعادته الكريمة علينا إلى الغرور به ، والتمادي في الذنوب دون خشية عقابه.

[١٧ ـ ١٨] فهؤلاء جنود إبليس اجتمعوا ليبطشوا بالمؤمنين فأين انتهى بهم المقام؟

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ)

يسوقهما القرآن سوقا واحدا بالرغم من اختلاف أكثر الظروف ، ذلك لأنّ سنة الله واحدة فيهما كما في غيرهما.

[١٩] قد يبني البشر بنيانا متكاملا من الكذب ويحشر نفسه فيه ، فتراه يبحث لإنكاره لوجود ربه أو لقدرته أو لسنّته في الجزاء عن فلسفة ذات أبعاد لعلّه يقنع نفسه والآخرين بها ، ويسمّيها ـ جدلا ـ فلسفة الإلحاد أو الفلسفة المادية ، وقد

٤٧٩

يتجاوز كلّ الحقائق ويسمّيها زورا بالفلسفة العلمية ، ثم يجعل أمام كلّ حق باطلا ، ولكلّ صواب بديلا من الخطأ ، ثم يحكم ـ في زعمه ـ نسج هذه الأباطيل ببعضها ويسمّيها نظرية أو مبدأ ، وإن هي إلّا سلسلة من الأكاذيب.

ومثل هذا الإنسان لا يسهل عليه الخروج من شرنقة الكذب التي نسجها حول نفسه ، ولذلك يتحصّن ضد كلّ العبر والمواعظ حتى ولو كانت في مستوى عبرة العذاب الذي استأصل شأفة فرعون وثمود.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ)

لأنّهم كفروا بأعظم وأوضح الحقائق (بالله العظيم ورسالاته) ودخلوا في نفق التكذيب فلم يخرجوا منه للاعتبار بمصير فرعون الذي اشتهرت قصته بين أهل الكتاب أو بمصير ثمود الذين عرفت العرب أمرهم.

[٢٠] وهل ينفعهم التكذيب شيئا؟ هل يمنعهم جزاء أعمالهم أو يخدع من يجازيهم فينصرف عنهم؟ كلّا .. لما ذا؟ لأنّ الإنسان يواجه ربّه والله محيط بهم علما وقدرة.

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ)

قالوا : وراء الشيء الجهات المحيطة به الخارجة عنه ، فيكون مفهوم الآية أنّ الله محيط بكلّ بعد من أبعاد حياتهم.

وهذا يتقابل مع كونهم في تكذيب.

[٢١] ولكن أينتظرون ما يذكّرهم ويخرجهم من نفق التكذيب أعظم من هذا الكتاب العظيم؟

٤٨٠