من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ

بينات من الآيات :

[١] كما سورة التكوير تنساب فاتحة السورة في بيان أشراط الساعة حيث تنهار أنظمة الخليقة ، فإذا بالسماء تنفطر ، والكواكب تنتثر ، والبحار تتفجر ، والقبور تتبعثر .. ويكفي القلب الواعي ذلك واعظا ويتساءل : لما ذا كل ذلك؟ لكي يحاسب الإنسان ويجازى ، وأوّل من يحاكم الإنسان يومئذ نفسه حيث تعلم ما قدّمت وأخّرت من خير أو شر.

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ)

قالوا : أي تشقّقت بأمر الله وتنزّلت الملائكة ، كما قال ربنا العزيز : «يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً» (١).

__________________

(١) الفرقان / ٢٥.

٣٨١

ويبدو أنّ الأمر أعظم من ذلك ، فالسماء التي جعلها الله سقفا محفوظا لم تعد بناء متقنا. أوليس انتهى يوم الامتحان وجاء يوم الحساب؟ أوليس امتحان البشر هو حكمة الخلق والآن ذهبت الحكمة فليذهب ما يتصل بنا.

وإذا انفطرت السماء تقاطرت الصخور العملاقة التي جاءت من تفتّت النجوم على الأرض ، فويل لمن لا يحتمي اليوم بظلّ التقوى حتى يكون ذلك اليوم محميّا بظلّ العرش!

[٢] حوادث عظيمة في تاريخ العالم ، كالانفجار الهائل الذي ترى بعض النظريات العلمية أنّه وقع قبل حوالي (١٥) مليار سنة ، والذي تلتقط بعض الأجهزة العلمية الحساسة صداه في أطراف الكون .. ولا ريب أنّ هذه الحوادث تتكرر لأنّ عواملها قائمة ، ولكن متى وكيف؟ لم يبلغ علمنا حتى اليوم معرفة ذلك ، بيد أن الوحي ينبّؤنا بأنّ نظام وجود المنظومة التي نعيشها ينهار ، فهل ينهار أيضا نظام سائر المنظومات والمجرّات؟ يستوحي بعض المفسرين ذلك من هذه الآية التي تقول :

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ)

قالوا : الكواكب كل النجوم ، ومعنى انتثارها تبدّدها ، لأنّ انتثرت بمعنى الانتثار والتساقط. ولكن يحتمل أن يكون الأمر خاصّا بهذه المنظومة وكواكبها لأنّ الحديث يتعلّق بما فيها ، والله العالم.

[٣] وما هي علاقة انتثار الكواكب بانفطار السماء؟ هل أنّ ضغطا هائلا تتعرّض له منظومتنا تسبّب في تبدّد السماء وانتثار النجوم ، أم أنّ انعدام الجاذبية يسبّب فقدان التوازن الدقيق الذي تعيش عليه الأرض ، أم شيء آخر؟ لا نعلم ، إنّما الذي يبدو لنا من خلال النصوص أنّ هزّة عنيفة تصيب صميم الخليقة ، حيث

٣٨٢

أنّ البحار تنفجر بعد أن تسجّر نارا.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ)

وقال بعضهم : إنّ معنى فجّرت تداخل بعضها في بعض حتى يكون بحرا واحدا ، كما فسّروا كلمة «سجّرت» في السورة السابقة بالامتلاء ، بيد أنّ المناسب لانفطار السماء وانتثار النجوم فيها تفجّر البحار ، والله العالم.

[٤] وتتماوج البسيطة كما مياه البحر ، وتخرج الأرض أثقالها التي في بطنها ، ومنها أجساد بني آدم التي تقذف منها بعد أن يحييها الله سبحانه.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)

قالوا : بمعنى قلبت وأخرج ما فيها من أهلها.

[٥] في مثل هذا الجو يجد الإنسان أعماله ماثلة أمامه ، حيث لا سماء تظلّه ، ولا جبال تكنّه ، ولا بحر ولا برّ يمكنه الفرار فيه .. الله أكبر ما أصعب موقف الإنسان ذلك اليوم!

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)

قالوا : ما قدّمت في حياته ، وما بقيت منه بعد وفاته كالسنّة الحسنة الباقية أو البدعة المستمرة من بعده ، وقال بعضهم : ما تقدّم أوّل عمره ، وما تأخّر في سنّي حياته الأخيرة .. ويبدو هذا التفسير أقرب. وأنّى كان فإنّ هذه هي المسؤولية التي تتجسد ذلك اليوم ، فقد يقدّم الإنسان بين يدي أفعاله السيئة بعض الأعذار ، وقد يلقيها على غيره أو ينساها أو يتناساها ويخفيها في الدنيا ولكنّه في الآخرة يجدها أمامه بلا نقصان ، ولا يستطيع منها فرارا «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ

٣٨٣

مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» أفليس من العقل أن يراقب الإنسان نفسه لكي لا يصدر منه عمل سيء ، وأن يلغي الأعذار والتبريرات فلا يتشبث بها في الدنيا ما دامت لا تنفعه شيئا في تلك الدار ، وأن يتخذ من التقوى حجابا بينه وبين أهوال ذلك اليوم الرهيب؟

[٦] وتنتفض النفس من أعماقها حينما يناديها الربّ بكلّ حنان وعطف وكبرياء :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)

لما ذا تتمرّد عليه؟ هل لأنّك استغنيت عنه فطغيت؟ أولم يخلقك من ماء مهين؟ أولم يسوّي خلقك حتى أصبحت متكاملا متعادل الوجود؟ أم أنّك تنكر هيمنته عليك؟ أوليس هو الذي اختار صورتك التي أنت عليها من قصر وطول وقوّة وضعف وبياض أو سواد أو سمرة و. و؟ أم أنّك اغتررت بكرمه الذي واتر عليك به نعمه ظاهرة وباطنة؟ أفلم يهدك قلبك أن تتقي غضبة الحليم؟ أولم تبعثك مروءتك أن تجازي إحسانه بالإحسان أم ما ذا؟ يبدو أنّ الإجابة عن هذا السؤال متفاوتة من شخص لآخر ، ولكن ليس هنالك أيّ تبرير مقبول ، ذلك لأنّ الغرور حالة مرفوضة أساسا بأيّ سبب كان.

وقد جاء في حديث مأثور عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : «غرّه جهله» بلى. غرّهم بربّهم تواتر نعمه ، وتتابع آلائه ، قال الإمام السجاد ـ عليه السلام ـ : «أذهلني عن شكرك تواتر نعمك»

بيد أنّ ذلك ليس من مصلحة الإنسان ، إنّما عليه أن يحارب الغرور بيقظة الضمير ، وسلاح التقوى. كذلك أوصانا إمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب

٣٨٤

ـ عليه السلام ـ حيث قال بعد تلاوته للآية : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» :

«أدحض مسئول حجّة ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح جهالة بنفسه

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما أنّسك بهلكة نفسك؟ أما من دائك بلول ، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضّاحي من حرّ الشّمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده فتبكي رحمة له! فما صبّرك على دائك ، وجلّدك على مصابك ، وعزّاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك! وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة ، وقد تورّطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى الغفلة في نظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا ، وبذكره آنسا. وتمثّل في حال تولّيك عنه إقباله عليك ، يدعوك إلى عفوه ، ويتغمّدك بفضله ، وأنت متولّ عنه إلى غيره. فتعالى من قويّ ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! وأنت في كنف ستره مقيم ، وفي سعة فضله متقلّب. فلم يمنعك فضله ، ولم يهتك عنك ستره ، بل لم تخل من لطفه مطرف عين في نعمة يحدثها لك ، أو سيّئة يسترها عليك ، أو بليّة يصرفها عنك. فما ظنّك به لو أطعته! وأيم الله لو هذه الصّفة كانت في متّفقين في القوّة ، متوازيين في القدرة ، لكنت أوّل حاكم على نفسك بذميم الأخلاق ، ومساوئ الأعمال ، وحقّا أقول! ما الدّنيا غرّتك ، ولكن بها اغتررت. ولقد كاشفتك العظات ، وآذنتك على سواء. ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك ، والنّقص في قوّتك ، أصدق وأوفى من أن تكذبك ، أو تغرّك. ولربّ ناصح لها عندك متّهم ، وصادق من خبرها مكذّب. ولئن تعرّفتها في الدّيار الخاوية ، والرّبوع الخالية ، لتجدنّها من حسن تذكيرك ، وبلاغ موعظتك ، بمحلّة الشّفيق عليك ، والشّحيح بك! ولنعم دار من لم يرض بها

٣٨٥

دارا ، ومحلّ من يوطّنها محلّا! وإنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم.

إذا رجفت الرّاجفة ، وحقّت بجلائلها القيامة ، ولحق بكلّ منسك أهله ، وبكلّ معبود عبدته ، وبكلّ مطاع أهل طاعته ، فلم يجز في عدله وقسطه يومئذ خرق بصر في الهواء ، ولا همس قدم في الأرض إلّا بحقّه ، فكم حجّة يوم ذاك داحضة ، وعلائق عذر منقطعة!

فتحرّ من أمرك ما يقوم به عذرك ، وتثبت به حجّتك ، وخذ ما يبقى لك ممّا لا تبقى له ؛ وتيسّر لسفرك ؛ وشم برق النّجاة ؛ وارحل مطايا التّشمير» (١).

وقد نظم بعضهم بعض هذه البصائر شعرا فقال :

يا كاتم الذنب أما تستحي

والله في الخلوة ثانيكا

غرّك من ربّك إمهاله

وستره طول مساويكا

وقال آخر :

يا من علا في العجب والتيه

وغرّه طول تماديه

أملى لك الله فبارزته

ولم تخف غبّ معاصيه

وللمحقّق الحلّي ـ رحمته الله ـ شعرا بديعا يقول فيه :

يا راقدا والمنايا غير راقدة

وغافلا وسهام الليل ترميه

__________________

(١) نهج البلاغة / خطبة ٢٢٣.

٣٨٦

بم اغترارك والأيام مرصدة

والدهر قد ملأ الأسماع داعيه

أما أرتك الليالي قبح دخلتها

وغدرها بالذي كانت تصافيه

رفقا بنفسك يا مغرور إنّ لها

يوما تشيب النواصي من دواهيه

[٧] حينما يعي الإنسان نفسه ، ويعرف بدايته ، وكيف تقلّب في يد القدرة طورا فطورا ، وتذكّر أنّه كان نطفة مهينة ، يقذفها مبال في مبال ، ويستقذرها صاحبها أيّما استقذار ، ثم جعل الله تلك النطفة التي خلقها بعظمته رجلا سويّا ذا أعضاء يكمل بعضها بعضا ، وفي نظام عظيم لم يسع العلم الإحاطة به ، بالرغم من الموسوعات الكبيرة التي كتبت حوله .. هذا التكامل الذي يبدأ من تكامل اليد والرجل والأذن وسائر الجوارح ومدى تناسق أدوارها ، وينتهي بتكامل كلّ خليّة في الجسم مع سائر الخلايا ، ضمن قيادة حازمة من أعصاب المخ وخلاياه ومن الغدد المنتشرة في أطرافه.

ثم مضافا إلى الخلق يجد الإنسان ذلك التناسق بينه وبين الخليقة من حوله ، كيف يتكيّف جسمه مع الحرّ والبرد ، والخشونة والليونة ، ومع مختلف الطعام والشراب ، وكيف يتعامل مع سائر الأحياء ابتداء من الوحوش الضارية وانتهاء بالجراثيم الفتّاكة .. وقد جعل الله للإنسان القدرة على التكيّف والتفوّق ثم تسخير الطبيعة.

أقول : حينما نعي كلّ ذلك أوليس نرى كرم ربّنا وحكمته؟ فلما ذا الغرور والتمادي في معصيته؟!

(الَّذِي خَلَقَكَ)

أفلم نكن عدما فأنشأنا لا من شيء كان ، بلا تعب ولا لغوب ، ولا مثل سابق يحتذي ، وخريطة تنفّذ؟

٣٨٧

(فَسَوَّاكَ)

فلم يجعل تقدير خلقك ناقصا ، بل زوّدك بما تحتاجه بأفضل ما تحتاجه. ألم يجعل لك عينين ولسانا وشفتين؟ وإذا أنعمنا النظر رأينا هذه التسوية في الخلق نافذة في كلّ أعضاء الجسد ، حتى قال ربّنا عن البنان : «بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» ، ويأتي العلم الحديث ويقول : إنّ لكلّ إنسان بصمات مختلفة عن أيّ بشر آخر في العالم ، ويعتقد أنّ صورة بصمات بنانه منسجمة مع مجمل كيانه ، حتى أنّهم بدأوا يكتشفون بعض الأمراض من صفحة كفّ الإنسان أوليس ذلك دليل الحكمة في الخلق؟

وقال بعضهم في معنى التسوية : إنّه سوّى بين طرفي جسد الإنسان في كلّ شيء (بما يتناسب ووجوده).

وقال البعض : إنّه سبحانه جعل كلّ عضو يتعامل مع سائر الأعضاء.

وقال آخر : إنّه سبحانه سخّر له المكوّنات ، وما جعله مسخّرا لشيء ، ثم أنطق لسانه بالذكر ، وقلبه بالعقل ، وروحه بالمعرفة ، وسرّه بالإيمان ، وشرّفه بالأمر والنهي ، وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا.

وإنّ كلّ ذلك لمن بعض تجلّيات الإستواء في الخلق.

وقد بلغت درجة الإستواء منتهاها في خلقة البشر فكانت عدلا لا نجد فيه ثغرة أو زيغا.

(فَعَدَلَكَ)

ويبدو لي أنّ الصفات الثلاث (الخلق والتسوية والتعديل) درجات في حالة واحدة ، فالخلق بمعناه اللغوي هو الترتيب ، والإستواء تكامل الترتيب ، والعدل تناسق

٣٨٨

التكامل مع حاجات الشيء ، والحكمة منه فقد سوّي الإنسان بحيث يستطيع أن يقوم بالدور المحدّد له تماما.

وقد قال بعضهم : المراد من التعديل : أنّ الله جعله معتدلا سويّ الخلق ، وقال آخر : إنّ معناه أنّ الله أماله وحرفه في أيّ صورة شاء ، ويبدو أنّ المعنى الأول أنسب والسياق. فيكون معنى الخلق الترتيب ، ومعنى الإستواء التناسب بين أعضائه ، ومعنى العدل التناسب مع المحيط.

[٨] وبعد أن تكاملت خلقته واستوت على أساس الحكمة والعدل اختار الربّ لها الصورة حسب مشيئته ، وحسب حكمة بالغة يصعب معرفة كنهها.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)

لكلّ واحد منّا صورة ظاهرة جميلة أو ذميمة أو مقبولة اختارها الله لنا حسب تقسيم الأرزاق الذي يتبع حكمته عليها ، قد لا يرضى ببعض مفرداتها هذا أو ذاك لما في البشر من الحرص والطمع والاستئثار ، ولكنّها من حيث المجموع مقبولة حسب شهادة فطرة كلّ إنسان وعقله.

وكما الصور الظاهرة هناك صورة داخلية ركّبت على الإنسان. أولا ترى كيف فضّل الله كلّ إنسان بميزة ، وأودع في ضميره رغبة تختلف عن الآخرين ، ممّا يجعل كلّ شخص يختار طريقا مختلفا في الحياة ، يلتقي بالتالي في إيجاد حالة من التكامل في المجتمع ، فترى البعض يختار الطب ويصلح له ، والثاني يرغب في الهندسة وتتناسب شخصيته معها ، والثالث يطمح للقيادة أو الإدارة وهو لها أهل ، بينما لا يرغب البعض إلّا في الأعمال اليدويّة .. وهكذا قال ربّنا سبحانه : «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا».

٣٨٩

وهذا لا يعني أنّ هذه الرغبات حتميّة ، فإنّ الإنسان يستطيع تحويلها ، ولكنّ أغلب الناس يرضون بها ممّا يحقّق الحكمة الإلهية من توزيعها على البشر.

[٩] ما ذا ينبغي أن تكون علاقتك بربّك؟ هل التمرّد والطغيان أم التسليم؟ حقّا : إنّ أغلب الناس ينحرفون نحو الطغيان الذي يبدأ من التكذيب بالجزاء ، وهو أعظم أسباب الغرور ، فمن آمن بالجزاء اتقى غضب الرب.

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)

وإنّ هذا التكذيب لا يتناسب أبدا وتلك النعم الإلهية التي تهدينا إلى قدرة الرب وحكمته.

[١٠] وهل يتخلّص الإنسان بالتكذيب من أهوال الساعة أو مسئولية أفعاله؟ بتعبير آخر : هل أنّي لو كذّبت بالموت لا أموت ، أو كذّبت بوجود المرض أعافى منه؟ بالعكس التكذيب بذاته جريمة كبري قدّر لها عقاب عظيم ، وهو مفتاح لأبواب الشر ، لأنّه يخدع الإنسان فيسترسل في سلسلة من المعاصي دون رادع من ضمير أو ناصح من عقل .. وكلّها تسجّل عليه فيحاسب عليها حسابا عسيرا.

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ)

يحفظون كلّ عمل يرتكبه الإنسان أو قول يتفوّه به أو هاجسة بقلبه ، قال ربّنا سبحانه : «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».

هكذا قال أكثر المفسرين ، ويحتمل أن يكون المراد من الحافظين الذين يحفظون البشر من المهالك حتى يأتي أمر الله ، كما قال الله : «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» ، وقال تعالى : «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» ، وقال : «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ

٣٩٠

يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ».

[١١] وهؤلاء الحفظة كرام عند ربّهم ، تساموا عن الكذب أو الغفلة أو السهو ، وهم بالإضافة إلى ذلك يكتبون ما يصدر من الإنسان.

(كِراماً كاتِبِينَ)

[١٢] ولا يمكن للإنسان أن يخفي عنهم شيئا من أعماله لأنّهم حضور شهود.

(يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)

قال أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ : «اعلموا عباد الله أنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ، ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج» (١)

وروي عنه ـ عليه السلام ـ أنّه مر برجل وهو يتكلّم بفضول الكلام ، ويخوض في أحاديث لا نفع فيها ولا طائل وراءها ، فقال : «يا هذا! إنّك تملي على كاتبيك كتابا إلى ربّك فتكلّم بما يعنيك ، ودع ما لا يعنيك» (٢).

وجاء في كتاب سعد السعود لابن طاووس :

دخل عثمان على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فقال : أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال : ملك على يمينك على حسناتك ، وواحد على الشمال ، فاذا عملت حسنة كتب عشرا ، وإذا عملت سيّئة قال الذي على الشمال للّذي على اليمين أكتب؟ قال : لعلّه يستغفر ويتوب فإذا قال ثلاثا قال :

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٥ ص ٣٢٢.

(٢) المصدر / ص ٣٢٧.

٣٩١

نعم أكتب ، أراحنا الله منه فبئس القرين ، ما أقل مراقبته لله عز وجل! وما أقل استحياؤه منه! يقول الله : «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» وملكان بين يديك ومن خلفك ، يقول الله سبحانه : «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبّرت على الله وضعك وفضحك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان إلّا الصلاة على محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك ، وملكان على عينيك ، فهذه عشرة أملاك على كلّ آدمي ، وملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكا على كلّ آدمي (١).

وإنّ وعي الإنسان حضور هذا الحشد من ملائكة الله عنده أفضل وسيلة لتعميق روح المسؤولية.

وتساءل البعض عن الحكمة في توكيل هؤلاء الحفظة بالإنسان ، فقال : ما علّة الملائكة الموكّلين بعباده يكتبون عليهم ولهم والله عالم السرّ وما أخفى؟ ، فأجاب الإمام الصادق ـ عليهم السلام ـ «استعبدهم بذلك وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعته مواظبة ، ومن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهمّ بمعصية فذكر مكانها فارعوى وكفّ ، فيقول : ربي يراني وحفظتي عليّ بذلك تشهد ، وإنّ الله برأفته ولطفه وكلّهم بعباده يدبّون عنهم مردة الشياطين ، وهوامّ الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجيء أمر الله عزّ وجلّ» (٢).

[١٣] وتتجلّى المسؤولية عند ما يستقبل ربّ الرحمة عباده الصالحين في النعيم الخالد.

__________________

(١) المصدر / ص ٣٢٤.

(٢) المصدر ص ٣٢٣.

٣٩٢

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ)

[١٤ ـ ١٥] أمّا الذين خرقوا ستر الفضيلة ، وأوغلوا في الفضائح فإنّهم يدخلون النار.

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)

هل هم اليوم في الجحيم أم غدا؟ عند ما يموتون أم عند ما تقوم الساعة؟ بلى. إنّهم اليوم في الجحيم. أولم يقل ربّنا سبحانه : «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ»؟ ولكنّهم اليوم محجوبون عنها ، وغدا عند ما يموتون وبعد الحشر يجدون أنفسهم في وسطها يصلونها مباشرة ، لأنّ الذي سترهم عنها اليوم طبيعة الدنيا التي هي دار امتحان ، فإذا نقلوا إلى دار الجزاء فما الذي يستر أجسامهم الناعمة عن النار اللّاهبة؟

(يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ)

لأنّ ذلك اليوم فعلا يوم الجزاء الأكبر ، فالجحيم تحرقهم وتلهب جلودهم نارا.

وقال بعضهم : إنّ معنى الآية أنّ الفجّار يدخلون الجحيم يوم الدّين ، وإنّما ذكر ذلك بصورة قاطعة وكأنّه واقع اليوم لأنّ الوعيد يأتي من السلطان المقتدر والذي لا يعجزه شيء ولا يحجزه عمّا يريده أحد.

[١٦] ولا يقدر أحد منهم أن ينتقل من الجحيم أو حتى يغيب عنها ساعة.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ)

قال بعضهم : الآية تدلّ على خلودهم في جهنم فإذا معنى الفجّار المعاندون.

٣٩٣

بينما الآية ليست صريحة في هذا المعنى بل في أنّهم عند دخولهم الجحيم ومدة مكثهم فيه لا يغيبون عنها ، والله العالم.

ونقل الرازي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عليه السلام ـ ما يلي : «النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم ظلمات الشهوات» (١) وهذا ينطبق على التفسير الأول.

[١٧] ليست قدراتنا العلمية في مستوى الإحاطة علما بأحداث ذلك اليوم الرهيب ، لأنّه يوم يختلف كلّ شيء فيه تقريبا عن هذا اليوم.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ)

إنّه يوم رهيب ، لا بدّ أن نسعى جاهدين لنتصوّره عسانا نتقي اليوم أهواله ، وحينئذ نعرف أنّ الفائزين هم الذين انخلعت قلوبهم عن شهوات الدنيا وأحداثها ، وعاشوا ذلك اليوم ، وعملوا له ليل نهار.

[١٨] قد يغيب علم شيء عنّا بسبب قلّة ظهوره أو عدم الالتفات إليه ، بينما غياب الإنسان عن علم الآخرة بسبب آخر ، هو : تسامي مستواه عن مستوى إدراكنا ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله سبحانه :

(ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ)

ما بالك بيوم تهابه السموات ، وتشفق منه الجبال ، وتضجّ من هوله الأرض ، ويخشاه حتى الملائكة المقرّبين ، ويحذره الأنبياء والصّدّيقون! أولا ينبغي أن نتقيه؟

[١٩] في ذلك اليوم يقف الإنسان منفردا أمام ربّ السموات والأرض ، ولا

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣١ ـ ص ٨٥.

٣٩٤

أحد بقادر على الدفاع عنه ، أو الشفاعة له إلّا بأنه.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً)

بل الإنسان مسئول عن عمله.

(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)

فهناك لا يخوّل الله أحدا شيئا كما خوّلهم اليوم ، ولا يملّك أحدا من عباده أمرا ، بل الأمر كلّه له ظاهرا وباطنا.

وفي ذلك اليوم يظهر التوحيد الإلهي لكلّ إنسان ، فلا أحد يستطيع أن يفكّر في أنّ غير الله يملك من أمره شيئا كما هو يزعم ذلك في الدنيا.

روي عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام أنّه قال لجابر بن يزيد الجعفي : «إنّ الأمر يومئذ لله ، والأمر كلّه لله. يا جابر! إذا كان يوم القيامة بادت الحكّام فلم يبق حاكم إلّا الله» (١).

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٢٧.

٣٩٥
٣٩٦

سورة المطففين

٣٩٧
٣٩٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ أنه قال : «من قرأ في فرائضه «ويل للمطففين» أعطاه الله الأمن يوم القيامة من النّار ، ولم تره ، ولم يرها ، ولم يمرّ على جسر جهنم ، ولا يحاسب يوم القيامة».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٢٧

٣٩٩

الإطار العام

حينما تتماثل صور القيامة وأهوالها ، وميزانها الحق ، وحسابها الدقيق ، وجزاؤها العادل والعظيم ، تتماثل كل تلك الصور والمشاهد في القلب ، يتحسس الإنسان حينئذ بالمسؤولية التي تحيط بحياته إحاطة السوار بالمعصم ، ويتجلّى ذلك الإحساس عنده في إنصاف الناس من نفسه ، ويكون الحقّ الميزان المستقيم بينهم وبينه ، لا الأثرة والشح ، والتطفيف.

ويبدو أن ذلك هو اطار هذه السورة التي جبهت المطففين بنذير الويل في يوم البعث ـ الذي لا يتصورونه ـ ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، ولو انهم ظنوا ذلك وعرفوا أن حسابات أعمالهم مسجلة في كتاب مرقوم لارتدعوا ولكن لا يرتدعون.

٤٠٠