من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ

بينات من الآيات :

[١] هل تستطيع ان تتصور السماء كيف تنشق ، والنجوم كيف تنتثر ، وهذه السلاسل الجبلية التي تزن ملايين الأطنان من الصخور العملاقة كيف تندك اندكاكا؟

أرأيت البحر حين يهيج فإذا بأمواجه كالجبال تتطلام فوق سطحه. هل لك أنّ تتصور لو أن بحار الأرض كلها سجرت. إنها أعظم من ألوف الملايين من القنابل الهيدروجينية حين تنفجر معا .. انني اعترف بعجز قدرة الخيال عندي من أن تتصور كل هذه الأحوال .. فكيف بنا ونحن لا بد ان نشاهدها عن كثب؟ عظيم إذا شأن هذا الإنسان الذي يستضاف لمثل هذا البرنامج بل المهرجان الكوني ، لا ان الإنسان ليس يومئذ ضيف شرف ، بل متهم يساق الى المحاكمة ، ويوقف للسؤال. حقّا إنه ذا شأن عظيم ، وان مسئوليته التي يتحملها اليوم جدّ عظيمة. تعالى ـ يا اخي ـ

٤٤١

نرتفع لحظات الى مستوى تصور الساعة كما يصفها ربنا. واني لعلى يقين ان مجرد تصورها يجعلنا ننظر إلى الأمور بطريقة مختلفة ، ونعرف آنئذ أننا لا زلنا في ضلال بعيد لا زلنا لا نعرف قيمة أنفسنا. من نحن ، ما هي حكمة وجودنا ، والى أيّ مصير نساق؟

لمحكمة الرب جوّ رهيب. انها ليست في قاعة مفروشة بالسجاد. انها في الفضاء الرحب .. وأجرامها تصدع قلوب الجلاميد. السماء يومئذ تنشق. ولعل النيازك السماوية تتساقط من خلال شقوقها فوق الأرض ، ولا نعرف ما ذا تحدث من دمار وصعقات ، أمّا الأرض فان جبالها تندك ، وبحارها تتسجر ، وتمتد الى ما شاء الله حتى تصبح كاديم مبسوط.

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)

وإذا كانت قاعة المحكمة في الدنيا محاطة بجنود محافظين ، فان جنود السموات والأرض تقف يومئذ مستعدة لتنفيذ أوامر الرب فورا.

[٢] (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ)

وهل تستطيع أن تتمرد السموات عن أمر ربها؟ كلا .. بل حق لها أن تأذن لربها ، أي تقف انتظارا لأوامره الصارمة.

[٣] (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ)

فلا جبال ولا آكام ولا روابي ولا بناء ولا أشجار .. انها في ذلك اليوم قاع صفصف.

[٤] (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ)

٤٤٢

فلا معادن ولا مقابر كلها اليوم فوق الأرض .. فلا يستطيع أحد ان يبحث داخل الأرض عن مخبأ أو خندق.

[٥] (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ)

وكيف لا تنتظر أوامر الرب وهي مخلوقة مدبّرة. أفلا يحق لها الخضوع؟! بلى.

[٦] يومئذ وفي هذه الأجواء المرعبة يلقى الإنسان ربه ليسأله عما فعله ، وليعطيه جزاءه الأوفى ، ولكن بينه وبين ذلك اليوم الرهيب عقبات وصعوبات تكون بمثابة إرهاصات وأشراط لما قد يلقاه الإنسان يومئذ.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً)

الولادة ساعة كدح لك ولأمك. تحديك للأمراض منذ نعومة أظفارك والأخطار. وتعرضك لأعراض الجوع والعطش ، والحر والبرد ، والألم والشدائد ، وتواصل الإحباط والحرمان عليك منذ أن ميّزت يمينك عن شمالك ، ثم حينما نموت وترعرعت واجهت ألوان الضغوط الجسدية والنفسية ، ودخلت معترك الحياة التي كلها صراع وصعوبات. ان كل هذه ألوان من الكدح في حياة الإنسان. ولكن يا ليت كانت هي النهاية؟ كلا .. بعد كل ذلك يأتي يوم اللقاء مع من؟ مع رب العزة ، ولم؟ للسؤال ، وفي أي يوم؟ في يوم الطامّة.

ان كل ذلك يجعلنا ننظر الى أنفسنا باحترام بالغ. انها ليست كالشجرة التي تنبت في مزرعتنا ثم تمضي لشأنها بعد عمر محدود دون عناء التحديات ، وليست كالأنعام أو أي حي آخر يمضي دورته الحياتية برتابة ودون تحديات أو كدح. انها النفس التي أكرمها الله وسخر لها الشمس والقمر وما في الأرض جميعا ، ولهدف عظيم. إن ذلك الهدف هو لقاء الرب للمحاكمة فالجزاء ، وهذه الحياة بما فيها من

٤٤٣

كدح شاهد على ذلك المصير بما فيه من جزاء.

(فَمُلاقِيهِ)

وإذا كانت الحياة سلسلة متواصلة من الكدح والنصب فلما ذا السرور واللهو إذا؟ ولما ذا يبيع الإنسان الآخرة بالدنيا ما دمنا جميعا كادحون. أهل الصلاح والمفسدون كل في طريقه؟ ولعل المفسد يتعرض لكدح أكبر ، لأنه يفقد أمل المستقبل وتوكل المؤمن على ربه ، ويبدو أنّ الإمام زين العابدين يشير الى ذلك حين يقول فيما روي عنه :

«الراحة لم تخلق في الدنيا ولا لأهل الدنيا ، إنما خلقت الراحة في الجنة ولأهل الجنة ، والتعب والنصب خلقا في الدنيا ، ولأهل الدنيا. وما أعطي أحد منها جفنة الا اعطي من الحرص مثليها ، ومن أصاب من الدنيا أكثر كان فيها أشد فقرا ، لأنه يفتقر إلى الناس في حفظ أمواله ، ويفتقر إلى كلّ آلة من آلات الدنيا ، فليس في غنى الدنيا راحة. كلا ما تعب أولياء الله في الدنيا للدنيا ، بل تعبوا في الدنيا للآخرة» (١).

[٧] وشتان بين لقاء المؤمن ربه وغيره. إن المؤمن يلقى ربه ليستلم جائزته بيمينه.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ)

[٨] يأخذه بفرح بالغ. لقد انتهى الكدح والى الأبد. انها ولادة جديدة ، ومستقبل زاهر.

(فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)

__________________

(١) تفسير نمونه ج ٢٦ ص ٣٠٤ نقلا عن خصال الصدوق.

٤٤٤

فالحساب لا بد منه لكل إنسان إلّا عدد محدود من الصديقين والصابرين ، بيد أن حساب أصحاب اليمين يسير ، فاذا مروا بحسناتهم قبلت. وإذا وجدوا بينها هفوات غفرت ، ولكن الحساب العسير يعني عدم قبول حسناتهم ، وعدم التجاوز عن سيئاتهم.

وفي الخبر المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله : «ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا ، وأدخله الجنّة برحمته» قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : «تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمن ظلمك» (١).

ولعل السبب في ذلك سلامة خطهم العام مما يشفع لهم في الانحرافات الجانبية.

[٩] ويجتمع المؤمنون تحت ظلّ عرش الله ، ينظرون إلى ساحة المحكمة ، وينتظرون رفاقهم الذين ينتهون من الحساب ويلتحقون بجمعهم المبارك ، فاذا أخذ المؤمن كتابه أسرع إليهم مسرورا.

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً)

ان هذا السرور يلازم المؤمن منذ خروجه من قبره بسبب صفاته الحميدة ، ولعل أبرزها رضاه عن ربه ، فقد جاء في الحديث عن الصادق عليه السلام : «ومن رضى باليسير من المعاش ، رضى الله منه باليسير من العمل» (٢).

وجاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام : «إذا بعث الله عز وجل المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه ، كلما رأى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفرغ ولا تحزن ، وأبشر بالسرور والكرامة من الله جل وعز ، حتى يقف بين يدي الله جل وعز فيحاسبه حسابا يسيرا ، ويأمر به الى

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار ج ٦٩ ص ٤٠٦.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٦١.

٤٤٥

الجنة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : رحمك الله. نعم الخارج خرجت معي من قبري وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من ربي حتى رأيت ذلك ، من أنت؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني الله جل وعز منه لأبشرك» (١).

[١٠] أما الكافر والمنافق والفاسق فانه يستلم كتابه من وراء ظهره اما بعد أن تخلع يسراه وتوضع الى ظهره ، وإما لأن يديه مغلولتان وراء عنقه. فيوضع الكتاب في يسراه من خلف ، وعموما فانه يصبح معروفا عند الناس بسوء العاقبة.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ)

وتتلاحق لعنات الملائكة والناس عليه ، ويشدد عليه في الحساب ، ولا تقبل حسناته ، ولا تغفر سيئاته ، وأهم من كل ذلك تسقط عنه الأستار التي تزمل بها في الدنيا حتى لا يعرف على حقيقته ، ويعلن للناس أسراره وخبايا نفسه الخبيثة

[١١] أليس من الأفضل أن نسعى جميعا لإصلاح أنفسنا اليوم ولا نستمر في خداع الذات حتى لا نبتلى بتلك الفضيحة الكبرى؟!

ما ذا يكون موقف هذا البئيس؟!

انه يصيح : وا نفساه وا ثبوراه!! ولكن هيهات حيث لا ينفعه الندم ، ولات حين مندم.

(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً)

والثبور هو الهلاك ، ودعاؤه به اعترافه بالجريمة واستسلامه للهلاك ، ولو عرف

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٥ ض ٥٣٨.

٤٤٦

الإنسان هذه العاقبة وهو في الدنيا واتقاها بصالح الأعمال لما ابتلي بهذا المصير الأسود.

[١٢] ولا تنفعه دعوته للهلاك واعترافه بالثبور لأنه سوف يدخل النار ويصلى حرارتها.

(وَيَصْلى سَعِيراً)

نارا مستعرة متقدة ذات أوار ولهب.

[١٣] لما ذا هذا المصير؟ لأنه كان في الدنيا مسرورا ، لاهيا عما يراد به ، مستهزء بالدعاة إلى الله.

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً)

والسرور هو إحساس الإنسان بأنه قد بلغ أهدافه. والدنيا غاية علم الكفار ، ولذلك تراهم يفرحون بما أوتوا فيها ، وتغلق آفاق طموحهم دون الحياة الآخرة ، فلا يقدمون لها شيئا.

[١٤] كيف يتجاوز المؤمنون ظاهر الدنيا الى غيب الآخرة؟ انما بايمانهم بالنشور ، بينما غيرهم يظن انه لا يعود.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)

اي يعود الى الآخرة للحساب. قالوا : الحور : الرجوع ، وقيل : كلمة فلم يحر جوابا : أي ما أرجع قولا ، ولا رد كلاما ، جاء في الدعاء : «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» أي من العودة إلى النقصان بعد الزيادة ، وسميت البكرة ب «بالمحور» لأنها

٤٤٧

تدور حتى ترجع الى محلها.

[١٥] وكان ظنه باطلا. فانه ليس يحور فقط ، وانما أيضا يحاسب بهذه من لدن ربّ بصير بشأنه ، محيط علما بظاهر فعله وغيب نيته.

(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً)

ولأن الإنسان يبرر جرائمه وضلاله عادة ؛ فإن السبيل الوحيد لإصلاحه هو تحسسه برقابة الله عليه ، وأنّه بصير بخبايا قلبه أنى برّر أو نافق.

[١٦] هل راقبت يوما الغروب : كيف تسقط الشمس في الأفق ، وينبسط عليه الشفق ، ويلملم الظلام شمل الطيور في أوكارها ، والوحوش والهوام في بيوتها وجحورها ، والناس في مساكنهم ، وإذا بالقمر يطلع علينا بنور هادئ. انه مثل للأطوار التي يتحول عبرها الإنسان منذ أن كان نطفة في صلب أبيه ، وإلى أن يضمّه التراب في رحمه. انه في رحلة متواصلة ، يركب فيها طبقا بعد طبق ، أفلا نؤمن باننا لسنا مالكي أنفسنا ، وأن من يملك أمرنا أنشأنا لحكمة ، فأين تلك الحكمة لو لم تكن في القرآن؟! أفلا نسجد لربنا حين نتلوا آياته؟! حقا .. إنها حكمة الخلق التي أشارت إليها الآية الكريمة «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (١).

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)

لغروب الشمس هيبة في النفوس ، وجلال عظيم ، وان منظر الشمس حين تغرب يثير فينا أكثر من احساس ؛ انه يرسم على الأفق لوحة متحركة ، بارعة الجمال ، ذات ألوان تبهر الألباب ، ولكنه لا يلبث أن يثير فينا الحزن على ينبوع النور الذي بلعه المغيب ولو بصورة موقتّة ، مما يجعلنا نتساءل : ألسنا نحن أيضا ننتظر الغروب عند ما

__________________

(١) الذاريات / ٥٦.

٤٤٨

يحين أجلنا. ومتى يأتي الأجل؟ لا ندري.

وأخيرا يصل الإنسان الى قناعة : لا بد من الرضا بالواقع. تعالوا نرجع الى بيوتنا.

وقال المفسرون عن الشفق : انه امتزاج ضوء النهار بظلام الليل ، وقيل : إن أصل الشفق الرقة ، وانما سمي المغيب بالشفق لأنه ينتشر في الأفق ضياء رقيقا.

وقالوا عن اللام في «فلا اقسم» : انها زائدة للتأكيد ، وقيل : بل معناها تعظيم الشفق ان يقسم به ، أو تعظيم الحقيقة حتى لا تحتاج الى قسم ، وقد سبق منا : ان اللام هنا تفيد تأكيد القسم.

[١٧] وبعد أن يلملم الشفق بقايا خيوط الضياء ، يسوق ظلام الليل الناس ليهجعوا ، والأشياء لتنكمش ، ذلك أن الضوء يبسط الطبيعة ، بينما الظلام يجمعها .. أرأيت أسراب الطيور عند الشفق كيف تعود الى أو كارها ، وقطعان الأنعام تروح الى مرابضها ، والناس أيضا يعودون الى دورهم ومساكنهم ؛ إنّه منظر رائع حقا.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ)

قالوا : الوسق : الجمع ، وطعام موسوق أي مجموع.

[١٨] ويطلع القمر ، ويندفع الى كبد السماء ، ويتجلّى بنوره الفضّي كسفينة من فضّة تسير في بحر من الظلام ، ويبعث من أفق السماء بنوره الهادئ فوق الآجام والروابي بما لا يزاحم نوم النائمين ، وفي ذات الوقت يكون سراجا للسارين ليلا وأنيسا للشعراء والوالهين ، وآية مبصرة لمن يحيي الليل من المتهجدين.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ)

٤٤٩

قالوا : اتسق : مشتقة من الوسق ، بمعنى تجميع أطراف الشيء مما يوحي بكماله ، وقالوا : انه كناية عن القمر عند ما يكتمل بدرا ، ويبدو لي أنه أعّم منه والمراد من أتساقه ارتفاعه في كبد السماء ، بعيدا عن كدر الأفق والله العالم.

[١٩] ان الإنسان ينتقل من حال الى حال .. تلك هي الحقيقة التي لا بد أن يعيها الإنسان بعمق ، وإلّا فانه يخشى عليه أن يضل سبيله.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)

ما هو المراد من الطبق؟ قالوا : الطبق في اللغة بمعنى الحال ، ثم ساقوا أمثلة لذلك ، فذكروا ان الدواهي تسمى أم طبق ، وبنات طبق ، واستشهدوا بقول الشاعر :

الصبر أحمد والدنيا مفجّعة

من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقا

إذا صفا لك من مسرورها طبق

أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا

ويقول شاعر آخر :

انى امرؤ قد جلبت الدهر أشطره

وساقني طبق منه الى طبق

ولعل أصل معنى الطبق التطابق ، وانما سميت التحولات الأساسية والمنعطفات الحساسة من الزمن بالطبق ، لأنهم تصور وا الزمن طبقات كما الأرض طبقات أو العمارة طوابق ، فسموا كل مرحلة طبقا ، كما سموا كل طبقة من الأرض أو طابق من البيت ، ولذلك قالوا : أتاني طبق من الناس أو طبق من الجراد ، أي جماعة كأنهم قسم من الناس ، وطبقة منهم ، ومشهور في أدبنا اليوم مصطلح الطبقات الاجتماعية ، ويسمى القرن من الزمان أيضا طبقا ، كما قال العباس في مدح النبي صلّى الله عليه وآله.

٤٥٠

تنقّل من صلب الى رحم

إذا مضى عالم بدا طبق

ويقال لضريع الليل وطرف النهار طبق ، فيقولون مضى طبق من الليل أو طبق من النهار.

وإذا فان ظاهر الآية يدل على ان الإنسان يتدرج في طبقات الزمان ، ومراحله ، وتحولاته طبقا بعد طبق.

بلى. انه لا يملك التحولات الكبيرة التي تجري عليه. بالرغم من وجود هامش بسيط من الاختيار عنده ، فهو يولد في عصر لا يختاره ، وفي مصر لم ينتخبه ، ومن والدين قدّرا له دون دخل له فيهما ، وعشرات التقديرات الحتمية تصوغ حياته دون ان يكون له فيها صنع ، ثم يتحول من نطفة الى علقة الى مضغة الى خلق سوي ، يولد ليجتاز سبعة وثلاثين مرحلة منذ الرضاعة حتى يكون هرما فيموت ، حسب الأسماء التي وضعتها العرب لمراحل حياة البشر.

وخلال هذه الفترة يتقلب عبر المرض والعافية ، والفقر والغنى ، والخوف والأمنة ، والجوع والشبع ، وترمي به حوادث الزمان من حزن الى سرور ، ومن قلق الى سلام ، ومن شدة الى رخاء وهكذا .. وقد تحمله الدواهي من أرض لأرض ، ومن قوم إلى قوم ، ومن دين إلى دين.

ان كل هذه التحولات جزء من الكدح الذي كتب على الإنسان في هذه الدنيا ، ولكنها لا تنتهي بالموت فما بعد الموت أعظم وأدهى.

وهكذا نقرأ في رواية مأثورة عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ طائفة من هذه المراحل التي يمر بها الإنسان. فقد روي عن جابر انه قال : سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول :

٤٥١

إنّ ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله ـ عز وجل ـ إن الله لا إله غيره إذا أراد خلقه قال للملك : اكتب رزقه وأثره ، وأجله ، واكتب شقيّا أو سعيدا ، ثم يرتفع ذلك الملك ، ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته ، فاذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان ، ثم جاءه ملك الموت ـ عليه السلام ـ فيقبض روحه ، فاذا أدخل حضرته ردّ الروح في جسده ، ثم يرتفع ملك الموت ، ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ، ثم حضرا معه : وأحد سائق والآخر شهيد ، ثم قال الله ـ عز وجل ـ : «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» قال : «حالا بعد حال» ثم قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم : «إنّ قدّامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم» (١).

وإذا تأملنا سياق سورة الانشقاق وتدبرنا آية الكدح فيها ، ولا حظنا هذه الرواية أيضا تبيّن لنا أن الجملة الأخيرة في هذه الرواية هي العبرة التي ينبغي أن نعيها من السورة ، ذلك أن عدوّ الإنسان هو حالة اللهو واللعب التي تنزع إليها نفسه ، فتسول له العبثية والغفلة أو الهروب من مواجهة الحقائق ؛ وانما ينساق البشر الى هذه الحالات بسبب غفلته عن نفسه وعما يراد بها ، وعن الأخطاء التي تنتظره. أفلا يفكر هذا المسكين أن الظلام يلف الضياء ، ويتسق القمر في السماء بدل قرص الشمس ، وأن التحول سنة يخضع لها كل شيء ، فهل يبقى بعيدا عنها؟!

وإذا لم نعتبر بالطبيعة حولنا أفلا نعتبر بتاريخنا الحافل بالتطورات ، فهذه الأمم كيف دار بها الزمن دورته ولعبت بها رياح التغيير طبقا عن طبق ، وحالا من بعد

__________________

(١) القرطبي ج ١٦ ص ٢٧٨ / ٢٧٩.

٤٥٢

حال .. اننا أيضا سائرون في ذات الدرب ، وعلى هذا جاء في تأويل هذه الآية حديث مأثور عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ انه قال : «لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه» قالوا : يا رسول الله! اليهود والنصارى؟! قال : فمن؟ (١).

وفي حديث عن أبي جعفر ـ عليهما السلام ـ رواه أبي الجارود ، في قوله : «ولا يزال الذين كفروا تصيبهم قارعة» قال : هي النقمة «أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ» فتحلّ بقوم غيرهم ، فيرون ذلك ، ويسمعون به ، والذين حلّت بهم عصاة كفار مثلهم ، ولا يتّعظ بعضهم ببعض ، ولن يزالوا كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر ، ويخزي الكافرين (٢).

وهكذا ينبغي للإنسان ان يعي آيات الطبيعة وعبر التاريخ ، ثم ينظر الى نفسه عبرهما حتى يعرف قدرها ، ولا يضيع فرصتها بالغفلة واللهو والانشغال بالتوافه.

[٢٠] دخل ابن أبي العوجاء على الصادق (ع) فلم يتكلم مهابة منه ، فقال له الصادق ـ عليه السلام ـ : «يا ابن أبي العوجاء! أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟» قال : لست بمصنوع ، فقال له الصادق ـ عليه السلام ـ : «فلو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟» فلم يحر جوابا ، وقام وخرج.

فعاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق ، فقال ـ عليه السلام ـ : «كأنك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه؟» فقال : أردت ذلك يا ابن رسول الله ، فقال ابو عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ : «ما أعجب هذا! تنكر الله ، وتشهد أني ابن

__________________

(١) المصدر ص ٢٧٩ وذكر في مجمع البيان حديث قريب منه ثم قال : وروي ذلك الصادق ـ عليه السلام ـ راجع مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٦٢.

(٢) موسوعة بحار الأنوار ج ٦ ص ٥٥.

٤٥٣

رسول الله» فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له العالم ـ عليه السلام ـ (والعالم هو الامام الكاظم ـ عليه السلام ـ والى آخر الرواية يسميه بالعالم. الظاهر أنه الامام الصادق (ع) نفسه) : «فما يمنعك من الكلام؟» قال : إجلالا لك ، ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء ، وناظرت المتكلمين ، فما تداخلني هيبة قطّ مثل ما تداخلني من هيبتك ، قال (ع) «يكون ذلك ، ولكن افتح عليك بسؤال» وأقبل عليه ، فقال له : «أمصنوع أنت أو غير مصنوع» فقال عبد الكريم أبي العوجاء : بل أنا غير مصنوع ، فقال له العالم ـ عليه السلام ـ : «فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون» فبقي عبد الكريم مليّا لا يحير جوابا ، وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل ، عريض ، عميق ، قصير ، متحرك ، ساكن ، كل ذلك صفة خلقه ، فقال له العالم ـ عليه السلام ـ : «فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك مما يحدث من هذه الأمور» فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها ، ... الى أن اعترف أخيرا بأن له صانعا ... والحديث طويل أخذنا الشاهد منه.

وقد صاغ المتكلمون الحجة التالية من هذه الحقيقة فقالوا : العالم متغيّر ، وكل متغير حادث ، فالعالم حادث. حقّا ان تطورات الخليقة من حولنا ، وتطورات حياتنا ، وتقلبنا حالا بعد حال (طبقا عن طبق) أفضل سبيل لمعرفة الرب وحكمة خلقه لنا ، ولكن ليس كل الناس يسلكون هذا السبيل لأن بعضهم تراه يكذّب ، ويبني حياته على أساس التكذيب ، فلا تنفعه الحجج ولا المواعظ والعبر.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

٤٥٤

وتأتي هذه الآية في سياق بيان تلك الحقائق المفزعة لعلها تنفض من فؤاد الإنسان رواسب الغفلة والتهاون.

[٢١] حين يتّصل قلب الإنسان بشلّال النور لا تملك جوارحه إلّا الاستجابة لمؤثرات الوحي ، فأيّ قلب واع لا يخضع لهذا الوحي الذي كاد يصدع الجبال الراسيات ، أم أيّة جبهة لا تخر ساجدة على التراب أمام هذه الصعقات المتتالية التي تنبعث من ضمير القرآن.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ)

قالوا : السجود هنا بمعنى التسليم والخضوع للقرآن ، وقال بعضهم : انه السجود المعهود الذي ينبأ عن التسليم النفسي ، وقد اعتبر أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ السجود عند قراءة هذه مندوبا.

[٢٢] انى كانت الحجج الإلهية بالغة فإن الجاحد يظل يعاند ويكذب ، لأنه قد قرّر سلفا عدم التصديق بها ، لذلك فإنّ موقفه لا يعكس ضعفا في الحجة بل انحرافا في نفسه.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ)

[٢٣] وتكذيبهم الظاهر لا يعكس واقعهم ومدى تأثرهم بالحجة ، إذ أنهم بالتالي بشر ، وتنفذ البراهين الواضحة في أعماقهم ، ولكنّهم يخدعون أنفسهم ويكذّبون بها طلبا لحطام الدنيا ، وبحثا عن لذاتها ، والله سبحانه عليم بأنفسهم ، ويحاسبهم على ما فيها ، وليس على مجرد ما يدعون من أنهم لم يقتنعوا بالحجة.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ)

٤٥٥

والوعي بمعنى الحفظ ، ويسمى الإناء : وعاء ، لأنه يحفظ الطعام ، وقال المفسرون في معنى الآية : الله أعلم بما يضمرون.

[٢٤] وعلى أساس ما يظهرون يحاسبهم الله ، لأن الكافر يشهد قلبه على كذبه قبل أيّ شخص آخر.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)

صدقوا بالحساب أم كذبوا.

[٢٥] وانما يستثني من هذا التعميم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فإنهم وحدهم الذين يعطيهم الله أجرا ، دائما غير منقطع.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

قالوا في معنى الاستثناء أنه منقطع إذ أن الكفار غير المؤمنين ، فلا معنى لاستثنائهم منهم ، وقال بعضهم : أن معنى «الا» هنا العطف ، ولعل الأفضل أن يقال : بل الاستثناء متصل ، ولكن المستثنى منه محذوف بدليل ذات الاستثناء ، أي أن الإنسان أنى كان مبشر بعذاب أليم إلّا المؤمنون.

(لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)

صحيح أن الأجر بقدر المشقة ، ولكن أجر الآخرة دائم ، فلو أتيت على آية ذكر فيها بيت الجنة فإن هذا البيت ليس كبيوت الدنيا ، يتهدّم بعد حين ، بل هو بيت دائم لا يزول ، وكذلك سائر أجر الآخرة. رزقنا الله ذلك بفضله.

قالوا : معنى كلمة «ممنون» أنه بمعنى القطع ، وقد سأل نافع بن الأزرق ابن

٤٥٦

عباس عن قوله : «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» فقال : غير مقطوع. فقال : هل تعرف ذلك العرب؟ قال : نعم. قد عرفه أخو يشكر حين يقول :

فترى خلفهن من سرعة الرجز مع منينا كأنه أهبا.

وقال المبرد : المنين : الغبار ، لأنها تقطعه وراءها (١).

__________________

(١) القرطبي ج ١٩ ص ٢٨٢.

٤٥٧
٤٥٨

سورة البروج

٤٥٩
٤٦٠