من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

سورة الإنسان

١٦١
١٦٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

روي عن أبي جعفر (الإمام الباقر) ـ عليه السلام ـ قال : من قرأ سورة «هل أتى» في كلّ غداة خميس زوّجه الله من الحور العين مأة عذراء وأربعة آلاف ثيّب ، وكان مع محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٦٧

١٦٣

الإطار العام

تفكّر حين لم تكن شيئا مذكورا ثم خلقك الله الحكيم المقتدر من نطفة أمشاج. تفكّر في هدف ذلك هل هو سوى الابتلاء؟

هكذا تفتتح سورة الإنسان التي تزرع في النفس خشية الآخرة ، وتجعلها معراجا للشخصية إلى التكامل والسمو حتى تبلغ درجة الأبرار ، الذين تصبغ شخصيتهم الفذّة صفة الوفاء بالنذر ، والخوف من يوم القيامة ، والإيثار ، والترفّع عن شهوة المدح وحب التسلّط على الآخرين.

وتمضي آيات السورة المباركة التي نزلت في شأن أهل الرسول ـ عليهم الصلاة والسلام ـ تمضي في بيان نعيم الجنة التي تختمها بوصفها بالملك الكبير ، وبأنّ ربّهم الرحمن يسقيهم شرابا طهورا.

ولكي لا يعيش الإنسان في أحلام التمنّي والتظنّي يذكّره السياق بأنّ ثمن الجنة الصبر لحكم الله ، والاستقامة ضد ضغوط الآثمين والكفّار ، وذكر الله بالليل

١٦٤

والنهار.

ويبيّن أنّ الضالين والظالمين انتهوا إلى هذه العاقبة السوأى بسبب تركهم ذكر يوم القيامة ذلك اليوم الثقيل. وفي خاتمة السورة يذكّرنا الربّ بأنّ الإنسان حرّ في اتخاذ سبيل الله بتلك المشيئة التي منحه الله إيّاها ، وأنّ مشيئته بالله العظيم الحكيم في عطائه وجزائه.

١٦٥
١٦٦

سورة الإنسان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً

___________________

٢ [أمشاج] : مختلطة ، ومشجت هذا بهذا أي خلطته ، وواحد الأمشاج مشيج.

٧ [مستطيرا] : أي فاشيا منتشرا ذاهبا في الجهات بلغ أقصى المبالغ.

١٦٧

وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ

___________________

١٠ [قمطريرا] : الشديد في الشر ، وقد اقمطر اليوم اقمطرارا ويوم قمطرير وقماطر كأنّه قد التفّ شرّه بعضه على بعض. قال الحسن البصري في هذا اليوم : ما أشدّ اسمه وهو من اسمه أشدّ.

١٣ [زمهريرا] : هو أشدّ ما يكون من البرد.

١٥ [قواريرا] : زجاجيّة.

١٦٨

خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

___________________

٢٨ [وشددنا أسرهم] : أي أحكمنا خلقهم بتنظيم الأجهزة ، فإنّ الأسر أصله الشد ، ومنه سمّي الأسير أسيرا لأنّه يشدّ بالحبال.

١٦٩

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ

بينات من الآيات :

[١ ـ ٤] إذا عرف الإنسان ربه عرّفه الله بنفسه. كذلك إذا عرف نفسه عرف ربه ، حيث أنّه حين يتفكّر فيها لا يجد فيها إلّا آيات الصنع وشواهد التدبير.

وأهم أثارة علمية يلقيها القرآن على الإنسان : حقيقة حدوثه بعد العدم ، وأنّه أصبح شيئا مذكورا بعد أن كان خاملا مجهولا.

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)

وهذه الأثارة التي تنفذ في أغوار الإنسان ، والتي تعبر عنها صيغة الاستفهام ، إنّها تجعلنا عند ما نتفكّر في أبعادها نعيش وعي الصيرورة الزمنية في نشأتنا ، هذا الوعي الذي يزيد العقل ، ويقضي على الغرور ، ويرفع الإنسان إلى مستوى الحكمة.

١٧٠

وقد اختلفوا في حرف «هل» ، فقال بعضهم : أنّه هنا بمعنى (قد) ، وقال آخرون : بل هو استفهام تقريري ، يعرف السائل الجواب سلفا ، وإنّما يطرح الكلام لأخذ الإقرار من الطرف الآخر.

ويبدو لي أنّ الكلمات تبقى بمعناها اللغوي عند الاستعمالات الأدبية المختلفة ، إلّا أنّ هدف الاستخدام يختلف حسب السياق ، فهل هنا ـ مثلا ـ جاء بمعنى الاستفهام ، أمّا لما ذا جاء الاستفهام؟ فهو ليس شأن الكلمات إنّما هو شأن الذي استخدمها. ويكون مثل ذلك في عالم الماديات : السيارة التي تقوم بحمل الإنسان. أمّا إلى أين ولما ذا يتحرك الإنسان؟ فهذا ليس شأنها إنّما هو شأنه.

ولقد فسّر أئمة الهدى هذه الآية عدة تفاسير ممّا كشف عن أبعادها المتنوّعة ، فعن مالك الجهني قال : سألت أبا عبد الله الإمام الصادق (ع) عن قوله : «الآية» فقال : «كان مقدّرا غير مذكور» (١) ، وعن زرارة قال سألت أبا جعفر (الإمام الباقر) ـ عليه السلام ـ عن قوله : «الآية» فقال : «كان شيئا ولم يكن مذكورا» (٢) ، وعن الباقر (ع) قال : «كان مذكورا في العلم ، ولم يكن مذكورا في الخلق» (٣). وهكذا روايات أخرى كثيرة تهدينا إلى أنّ الإنسان يمرّ قبل وجوده المادي في الحياة بمرحلتين هما :

الأولى : عالم التقدير في علم الله.

الثانية : عوالم النشأة ، مثل عالم الأشباح (الأرواح) ، عالم الذرّ ، عالم

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٦٨.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

١٧١

الأصلاب ، ثم عالم الأرحام ، فعالم الدنيا ، وفي تلك العوالم وقبل عالم الدنيا كان الإنسان شيئا ـ في علم الله ـ ولم يكن مذكورا عند الخلق لضآلته المتناهية.

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ)

أي مختلطة ، قال الإمام الباقر (ع) : «ماء الرجل والمرأة اختلطا جميعا» (١) ، كما أنّها مختلطة من الناحية المعنوية إذ تحمل الصفات الوراثية والنفسية والشكلية من الطرفين بما يمثّلانه من امتداد في التاريخ والمجتمع كالأجداد والآباء والأخوال ، وقد أشار الإمام علي (ع) إلى هذا المعنى إذ وصف الإنسان بقوله : «ومحطّ الأمشاج من مشارب الأصلاب» (٢) ، ومن ناحية ثالثة يعيش الإنسان ثنائية هامة ، فهو في البداية خليط من تطلّعات الفطرة والعقل والإيمان ، وشهوات الهوى والجهل والجحود ، بين جنود الرحمن ، وأعوان الشيطان.

وهكذا كلّ شيء في الإنسان يحتمل نزعتين ، وصبغتين ، ومنهجين ، ووجهتين : الحق والباطل ، الله أو الشيطان ، العقل أو الجهل ، الإيمان أو الجحود ، الجنة أو النار ، ويبدو أنّ هذه الثنائية أقرب إلى كلمة الأمشاج لأنّ شأن الثنائيات (الاختلاط بين ماء الرجل وماء المرأة ، أو بين مختلف العوامل الوراثية من الآباء والأمّهات) مقدمة لهذه الثنائية ، ويدلّ على ذلك بيان حكمة الابتلاء بعد بيان الثنائية.

(نَبْتَلِيهِ)

ولا يصدق الابتلاء في حياة الإنسان حتى يكون مختارا ، وذلك بأن تكون

__________________

(١) المصدر / ص ٤٦٩.

(٢) المصدر نقلا عن نهج البلاغة.

١٧٢

خلقته خليطا من نزعتين وتطلّعين : أحدهما الخير والآخر الشر. ومن الضروري للإنسان وهو يمارس الحياة ونعمة الوجود أن يعرف بأنّ الابتلاء جزء من وجوده ، من دونه تصبح حياته بلا معنى بلا روح وبلا هدف .. تماما كتفّاحة فاسدة لا طعم لها ولا رائحة ، أو كماء آسن لا ينفع سقيا ولا طهورا.

وإطلاق كلمة الابتلاء يدلّنا على أنّ الإنسان ممتحن بكلّ شيء يتصل به خيرا كان أو شرا ، وأوّل ما يبتلى به نعمة الخلق ، فهل يشكر ربه عليها حيث خلقه وأوجده ولم يكن شيئا مذكورا أم يقابله بالجحود والكفران؟ قال الإمام الباقر (ع) : «إنّ النبيّ قال لعليّ (ع) : قل : ما أوّل نعمة أبلاك الله عزّ وجلّ وأنعم عليك بها؟ قال : أن خلقني جلّ ثناؤه ولم أك شيئا مذكورا ، قال : صدقت» (١)

وحيث أراد ربنا امتحان الإنسان وفرّ من جهته الشروط والمستلزمات التي تجعل البشر مسئولا عن الامتحان فتكون حجة عليه عند ما يكفر ، ووسيلة لصالحه عند ما يريد الإيمان والشكر.

(فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً)

والسمع والبصر نافذتان لعقل الإنسان على الخليقة ، وهما أهمّ أدوات المعرفة عنده ، وبالتالي أبرز وسائل الإختيار ، فبسمعه يتلقّى نصائح الآخرين وتجاربهم ، وببصره وبصيرته يرى ويقلّب وجوه الأمور ثم يختار لنفسه الموقف والطريق ، وذلك يكفي دافعا يحمّله المسؤولية ويقيم عليه الحجة ، ولكنّ الله أبى إلّا أن تكون له الحجة البالغة عليه فهداه السبيل مبيّنا له الحق والباطل والصواب والخطأ.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ)

__________________

(١) المصدر.

١٧٣

فمعالم الطريق الصحيح بيّنة وواضحة للبشر ، هداه الله إليها بالفطرة والعقل والرسالات والرسل ، ولكنّه لم يجبره لكي لا يتنافى وحكمة الابتلاء ، وإنّما جعل القرار موكولا إليه يختار أحد الطريقين.

(إِمَّا شاكِراً)

يتبع فطرته وعقله وهدى ربه ، الذي هو السبيل الذي يسّره له ، فيشكره على كلّ نعمة ومن شكره طاعته.

(وَإِمَّا كَفُوراً)

لا يسمع نداء الحق ، ولا يبصر الطريق ولا يسلكه ، فلا يشكر ربه على نعمه ، وإنّما عبّر الله بالشكر والكفر عن الهدى والضلال لأنّهما الأساس والمعول ، فكلّ ضلال وكفر وانحراف في حياة البشر هو كفران لنعم الله عليه ، وكلّ هدى وإيمان وعمل صالح هو شكر.

قال حمران بن أعين : سألت أبا عبد الله (ع) عن قوله عزّ وجلّ : «الآية» قال : «إمّا آخذ (بالسبيل) فهو شاكر ، وإمّا تارك فهو كافر» (١). وحينما يكفر الإنسان بربه ونعمه فإنّه يصير إلى عذاب شديد أعدّه لكلّ كفور.

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً)

قال القرطبي : السلاسل : القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا (٢) ، وقال الرازي : السلاسل تشدّ بها أرجلهم ، وأمّا الأغلال فتشدّ بها أيديهم إلى

__________________

(١) المصدر.

(٢) الجامع لأحكام القرآن / ج ١٩ ص ١٢٣.

١٧٤

رقابهم (١). ولعل السلاسل ما يشد بها المجرمون إلى بعضهم ويسحبون بها ، بينما الأغلال ما يقيّد بها الواحد من يديه ورجليه ورقبته. وهذا جزاء مناسب للكافرين ، لأنّهم يسيئون الاستفادة من الحرية المعطاة إليهم في الدنيا فيقيّدون في الآخرة. وسلاسل الآخرة وأغلالها تجسيدات لمثلها في الدنيا ، لأنّ من يخالف قيم الحق وسبيل الهدى ويتبع المناهج البشرية يتورّط في أغلال العبودية والعقد والمشاكل المختلفة.

[٥] أمّا الشاكرون الذين يهبهم ربّهم وسام الأبرار فإنّهم يتحررون من سلاسل الضلال وأغلاله وسعيره في الدنيا فقط ، بل ويكسبون الحرية الكاملة في الآخرة والثواب الجزيل جزاء شكرهم واتباعهم رسالة الله عزّ وجلّ.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً)

قيل : هو جمع بر ، وفي الصحاح : وجمع البر الأبرار ، وفلان يبرّ خالقه ويتبرّره أي يطيعه (٢). والقرآن يفسّر معنى «الأبرار» من خلال بيانه لصفاتهم ، وهذا يقرّب المعنى ويرسّخه في الأذهان بصورة أوضح وأفضل.

وما يشربه الأبرار في الجنة مختلط طعمه ومزاجه بصفات الكافور الحسنة ، وهو اسم عين ماء في الجنة عن ابن عبّاس (٣) ، وقال سعيد عن قتادة : تمزج لهم بالكافور ، وتختم بالمسك ، وقيل : أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ، لأنّ الكافور لا يشرب (٤) ، وقال مقاتل : ليس بكافور الدنيا ، ولكن سمّى الله

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ٢٤٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن / ج ١٩ ص ١٢٥.

(٣) المصدر.

(٤) المصدر.

١٧٥

ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب (١). ومن فوائد الكافور طبعه البارد ، وتسكينه للعطش ، وحين يمتزج بشراب يكون أنفع للجسم. وقوله «من كأس» كناية عمّا في الكأس من الشراب.

[٦] (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ)

لما ذا استخدمت هنا كلمة «بها» أوليس الإنسان يشرب من العين وليس بالعين؟ قالوا : إنّ الكلمة قد أشربت معنى الارتواء أي يشربون منها ويرتوون بها .. أمّا عن هذه العين فقد جاء عن الإمام الصادق (ع) : قال : «هي عين في دار النبيّ (ص) تفجّر إلى دور الأنبياء والمؤمنين» (٢).

(يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً)

فمتى ما أرادوا توجهوا تلقاء العين التي لا تزال مختومة ففجّروها ـ بإذن الله ـ وشربوا من باكورة رفدها الطاهر ما شاؤوا.

وفي تفسير القرطبي : إنّ الرجل منهم ليمشي في بويتاته ويصعد إلى قصوره ، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود (٣). وإلى مثل هذا الجزاء تتطلّع النفوس بصورة فطرية ، من هنا يوجّهنا القرآن إلى حقيقة هامة وهي أنّ ذلك النعيم لم يصل إليه الأبرار عبثا ومن دون سعي ، وإنّما لما جسّدوا في حياتهم من صفات الخير ، فإنّ ما عند الله لا ينال بالتمنّي والتظنّي بل بالسعي والاجتهاد.

__________________

(١) المصدر / ص ١٢٦.

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٧٧.

(٣) الجامع لأحكام القرآن / ص ١٢٦.

١٧٦

[٧] (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)

أي نذر وعهد يقطعونه على أنفسهم ، وأظهر مصاديق النذر في حياة الإنسان عهده الذي أخذه الله منه ، وتعهّد هو بالوفاء به في الميثاق الأول في عالم الذر ، حيث قطع على نفسه بتوحيد ربه وطاعته وتولّي أوليائه ، وقد بيّن أئمة الهدى هذا المعنى ، قال الإمام الرضا (ع) : «يوفون بالنذر» الذي أخذ عليهم من ولايتنا (١) ، وعنه قال : «يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا» (٢) ، وحينما تنبني شخصية المجتمع على أساس الوفاء بالتعهّدات فذلك ممّا يزيد الثقة والاطمئنان بينهم ، ويجعل المجتمع مهيّأ للتقدم والتحضّر ، لأنّ الحضارة في حقيقتها مجموعة من القيم التي يؤمن بها المجتمع ويتعهّد الوفاء بها ، وأصل الحضارة تكاثف الجهود ، وتراكم الإنجازات ، وتركّز الخبرات ، وكلّ أولئك رهين الثقة المتبادلة والتي يزرعها الوفاء بالعهود.

أمّا لما ذا يلتزم الأبرار بالعهد ويوفون بالنذر فلأنّهم يعيشون أهوال القيامة فيخشونها ، ويرتفعون إلى الحالة الجدّيّة التي يتطلّبها مثل ذلك اليوم!

(وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)

قال الإمام الصادق (ع) : «عابسا كلوحا» (٣) ، وعن علي بن إبراهيم قال : «المستطير العظيم» (٤). فالخوف الحقيقي من الآخرة إذا هو الذي يتحوّل إلى إيمان يردع الإنسان عن الخيانة ونقض العهد والكذب وكلّ خطيئة ، ويدفعه إلى كلّ

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٧٧.

(٢) المصدر / ص ٤٧٨.

(٣) المصدر / ص ٤٧٧.

(٤) المصدر / ص ٤٧٨.

١٧٧

فضيلة وصفة حسنة في الدنيا ، وبتعبير آخر : إنّ الخوف من الآخرة وقود الإنسان في مسيرته الصاعدة نحو الكمال. وهكذا تجد القرآن يذكّرنا بها المرة بعد الأخرى لتصبح جزء من كياننا الثقافي ، ومزيجة مع شخصيّاتنا ، وصبغة أساسية لحياتنا.

[٨] وصفة أخرى تقرّب الأبرار إلى ربهم وإلى ذلك النعيم الكبير هي تحمّل المسؤولية الاجتماعية تجاه الضعفاء وأهل الحاجة بالرغم من حاجتهم الماسّة إلى الطعام.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)

قيل : «على حبه» أي على حبّ الله ، وهذا صحيح من ناحية المعنى ، أمّا سياق الكلام فيدلّ على حبّ الطعام (لأنّه أقرب إلى الضمير ، ولأنّ حبّ الله (ووجهه) ذكر في الآية التالية بصورة مستقلّة لأهميته فلا داعي للتكرار ..).

وهذا يعني أنّ المراد من حبّ الطعام هنا : أنّ الأبرار لا يطعمون الآخرين من فاضل طعامهم ، بل ممّا يطعمونه أنفسهم وإلى حدّ الإيثار ، بحيث يتصدّقون بما عندهم وينفقونه مع حاجة وحبّ إليه ، وهذه من أرفع مراحل التضحية والعطاء ، ويؤكّد ذلك أنّ الإنفاق ممّا تحبه النفس من شروط القرآن لبلوغ درجة البر ، كما قال سبحانه : «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ».

[٩] قد يكون الإنفاق بهدف الاستكبار والتعالي على الآخرين وبسط السلطة عليهم. إنّه إنفاق المنّ والرياء ، ولكنّ الأبرار يخلصون في إنفاقهم.

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)

إنّ الأبرار لا يتطلّعون إلى شيء وراء إنفاقهم وخدماتهم للآخرين إلّا رضى الله

١٧٨

وثوابه ، ممّا يعكس تمحّض التوحيد في أنفسهم ، فلا يطالبون حتى بكلمة الشكر (شكرا وأحسنتم) وما إلى ذلك ، قال الإمام الصادق (ع) : «والله ما قالوا هذا ، ولكنّهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم ، يقولون : لا نريد جزاء تكافوننا به ، ولا شكورا تثنون علينا به ، ولكنّا إنّما نطعمكم لوجه الله وطلب ثوابه» (١) ، وهذا ما يجعلهم في عطاء دائم ، لأنّه لا ينقطع بسبب عدم مجازات الآخرين لهم أو حتى وقوفهم من إحسانهم موقفا سلبيّا.

[١٠] كيف يتجرّد الأبرار من حبّ الذات إلى هذه الدرجة السامية؟ كيف ينتزعون من أنفسهم حبّ الأموال التي يحتاجونها لطعامهم وقد فطرت الأنفس على حبّ المال ، وبالذات حينما يكون ثمن أهمّ حاجة عند الإنسان حاجة الطعام؟ وأعظم من هذا كيف يسيطرون على غريزة حبّ السلطة والعلوّ في الأرض التي هي أعظم غريزة عند الإنسان ، وكانت وراء خروج آدم (عليه السلام) من الجنة ، حتى تراهم لا يبحثون عن كلمة شكر تقال لهم ، أو أيّ جزاء من أيّ نوع يكافؤون به؟

الجواب : إنّهم يعيشون أهوال القيامة ، وكلّ همّهم النجاة منها. إنّهم يعيشون ـ إذا ـ عالما آخر له همومه وتطلّعاته المختلفة عن هذا العالم الماديّ المحدود ، وهم يعرفون أنّ ثمن النجاة في ذلك اليوم الرعيب الرهيب الفظيع إنّما هو باتقاء شح الذات وإيثار الضعفاء والمحتاجين ، إذ أنّ المسؤولية الاجتماعية تجاه المحرومين والبؤساء ليست اختيارية يتحمّلها الإنسان أو لا يتحمّلها ، وإنّما هي واجب ديني يتصل بمصيره في الآخرة ، وعاقبته عند الله ، وإذا ما دخلت هذ الحقيقة إلى وعي الإنسان فسوف لن يتوانى في أدائها.

__________________

(١) المصدر نقلا عن أمالي الصدوق.

١٧٩

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)

أي شديدا وعسيرا ، قال الأخفش القمطرير : أشد ما يكون من الأيّام وأطوله في البلاء (١) ، وقال الكسائي : يوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا (٢).

ويجدر بنا أن ننقل هنا شأن نزول السورة حسب الرواة والمفسرين من كلّ الفرق الإسلامية ، لكي نعرف أنّ هذه الصفات المذكورة في القرآن قد جسّدها فعلا بشر أمثالنا ، قد خلقوا من لحم ودم وكانت فيهم الحاجات والغرائز فتغلّبوا عليها بحول الله وقوته وبفضل وعي الآخرة. إنّهم ذريّة رسول الله فاطمة وبعلها وبنوها وخادمتهم فضّة عليهم السلام.

قال العلامة الطبرسي : نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ وجارية لهم تسمّى فضّة ، وهو المروي عن ابن عبّاس ومجاهد وأبي صالح ، والقصة طويلة جملتها أنّهم قالوا : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما ووجوه العرب ، وقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا؟ فنذر صوم ثلاثة أيّام إن شفاهما الله سبحانه ، ونذرت فاطمة (عليها السلام) وكذلك فضة ، فبرءا وليس عندهم شيء ، فاستقرض علي ـ عليه السلام ـ ثلاثة أصوع من شعير من يهودي ، وروي : أنّه أخذها ليغزل له صوفا ، وجاء به إلى فاطمة فطحنت صاعا منها فاختبزته وصلّى علي (ع) المغرب وقرّبته إليهم فأتاهم مسكين يدعوهم وسألهم فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء ، فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا وطحنته واختبزته وقدّمته إلى علي (ع) فإذا يتيم بالباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء ، فلما كان اليوم الثالث عمدت الباقي فطحنته واختبزته وقدّمته إلى علي (ع) فإذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء ، فلمّا كان اليوم الرابع وقد قضوا

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن / ج ١٩ ص ١٣٥.

(٢) المصدر.

١٨٠