من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

مجبورون؟ : «الله أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذّبهم» قال : فمطلقون؟ قال : «الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه» (١) ، وهذا البيان العميق للأئمة ـ عليهم السلام ـ في شأن إرادة الإنسان وقراره هو الحق الذي تهدينا إليه الأدلّة والحجج البالغة ، وأهداها وجدان الإنسان نفسه وتجاربه الشخصية ، فإنّ الجبريّة وإن جادلوا عن رأيهم إلّا أنّ كلّ واحد واحد منهم يعلم علم يقين أنّه الذي يقرّر ما يريد لا يكرهه أحد على ذلك ، وإنّ المفوّضة ليعلمون بأنّ الأمور ليست كلّها بأيديهم.

(وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)

أي أنّه ـ عزّ وجلّ ـ أهل أن يتقيه خلقه ويخافوه ، وأهل أن ترجى رحمته ومغفرته ، وهذه اللمسة القرآنية الأخيرة تضع الإنسان على الصراط السويّ بين الخوف والرجاء ، كما وضعته الآيات بين الجبر والتفويض ، على أنّ مغفرة الله تسبق غضبه.

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار ج ٥ ص ٥٩.

١٢١
١٢٢

سورة القيامة

١٢٣
١٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام قال : «من أدمن قراءة «لا أقسم» وكان يعمل بها بعثه الله عزّ وجلّ مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ من قبره في أحسن صورة ، ويبشّره ويضحك في وجهه حتى يجوز على الصراط والميزان»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٦١

١٢٥

الإطار العام

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً)؟ أيّ شيء في كيانه يدل على العبثية واللهو؟ خلقه أطوارا ، أم فطرته القويمة ، أم نفسه اللوّامة التي تبصّره بنفسه رغم المعاذير التي يلقيها ، أم الحجج البالغة وأعظم بها كالقرآن الذي تكفّل الربّ بجمعه وبيانه؟

هكذا تترى آيات السورة تعمّق في وعينا المسؤولية التي تتجلّى في يوم القيامة حيث يسوّي الله حتى البنان ، وحيث تترى فيه الفواقر والدواهي .. ولا يجد الإنسان مفرّا ولا وزرا يلجأ إليه.

هكذا نهتدي إلى محور السورة المسؤولية ، وهدفها تعميق الشعور بها ، والآية التي تتجلّى بها قوله سبحانه : «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ».

وتفصيل هذه الحقيقة أنّ القرآن يذكّرنا في مطلع السورة بحقيقتين : القيامة والنفس اللوّامة ، ويربط بينهما على أساس أنّهما مظهر للمسؤولية ، فكما يستحثّ الإيمان بالقيامة الإنسان لتحمّلها فإنّ النفس اللوامة هي الأخرى تقوم بذات الدور

١٢٦

من بعد آخر ، إذ تقف أمام تراجعاته ، وتنهره عن التقصير في أداء الواجب ، وعن اقتحام الخطيئات (الآيات ١ ـ ٢).

ويستنكر السياق زعم الإنسان أنّه لن يبعث تارة اخرى بعد أن يصير أشلاء موزّعة ورميما. هل يحسب أنّ قدرة الله محدودة مثله؟ كلّا .. قدرته تفوق تصوّر البشر .. فهو ليس قادرا على جمع عظامه وحسب ، وإنّما يقدر أن يسوّي بنانه أيضا ، والإنسان حينما يراجع نفسه ويتفكّر في آيات قدرة الله في الطبيعة فإنّه يعرف تلك الحقيقة ، ولكنّه إنّما يخترع تلك الأفكار تبريرا للهروب من عرصة المسؤولية ، والإيمان بالرسالة التي تحدّد تصرفاته ولا تجعله مطلقا يتّبع الهوى كما يريد .. ويؤكّد القرآن مرة أخرى أنّ هذه هي الخلفية الحقيقة لسؤاله عن القيامة (الآيات ٣ ـ ٦).

ويداوي ربّنا هذا المرض المستعصي في النفس البشرية بالتأكيد للإنسان أنّه وإن استطاع موقّتا (في الدنيا) تبرير ضلاله والفرار من المسؤولية تحت غطائه فإنّه لن يجد في المستقبل مفرّا من ربه حينما تقوم القيامة «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ* وَخَسَفَ الْقَمَرُ* وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» وعبر قنطرة الدنيا الفانية إلى دار الاستقرار عند الله ، فهنالك يجد نفسه وجها إلى وجه مع حقيقة أمره حيث يجد ما عمل محضرا أمامه (الآيات ١٧ ـ ١٣).

ويثير الوحي فينا حسّ النقد الذاتي ، عن طريق تذكيرنا بحقيقة وجدانية مسلّمة ، ألا وهي بصيرة الإنسان على نفسه ، فإنّه قبل الآخرين شاهد عليها وعالم بواقعها ، مهما توسّل بالأعذار والتبريرات الواهية ، وإنّما يؤكّد القرآن هذه الحقيقة لأنّ المراقبة الذاتية أعظم أثرا ، وأرسخ للتقوى في شخصية الفرد (الآيات ١٤ ـ ١٥).

١٢٧

ثم ينعطف السياق إلى الحديث عن القرآن نفسه ، داعيا الرسول إلى عدم التعجّل به من قبل أن يقضى إليه وحيه ، مؤكّدا تكفّله تعالى بجمعه وقرآنه ثم بيانه للناس .. وهذا ممّا جعل المفسرين يتحيّرون في فهم العلاقة بين سياق السورة وبين هذا المقطع ، إلّا أنّ هناك علاقة متينة سنتعرّض لإيضاحها في البيّنات (الآيات ١٦ ـ ١٩).

وتهدينا الآيات إلى واحد من عوامل الانحراف وعدم تحمّل المسؤولية عند الإنسان ، والذي لو استطاع التغلب عليه لاهتدى إلى الحق ، وسقط الحجاب بينه وبين الآخرة ، ألا وهو حبّ العاجلة (الدنيا) على حساب الآخرة ، والبحث عن النتائج الآنية وإنكار الجزاء الآجل ولو كان الأفضل ، بل ولو كان مصيريّا بالنسبة إليه ، فهو يعيش لحظته الراهنة دون التفكير في المستقبل ، وهي نظرة ضيّقة خطيرة. وحين يفشل الإنسان في الموازنة بين الحاضر والمستقبل ، وبين الدنيا والآخرة فإنّه يخسرهما معا (الآيات ٢٠ ـ ٢١).

والحلّ الناجع لهذه المعضلة عند البشر يتمّ بإعادة التوازن بينهما إلى نفسه ، ولأنّ العاجلة شهود يعايشه بوعيه وحواسه فإنّ حاجته الملحّة إلى رفع الغيب إلى مستوى الشهود عنده ، ولذلك يضعنا القرآن أمام مشاهد حيّة من غيب الآخرة حيث الناس فريقان : فريق السعداء الذين تجلّل وجوههم النضارة ، ويصلون إلى غاية السعادة بالنظر إلى ربّهم عزّ وجلّ ، وفريق البؤساء الخاسرين أصحاب الوجوه الباسرة ، الذين ينتظرون بأنفسهم العذاب والذلّة (الآيات ٢٢ ـ ٢٥).

ويمضي بنا السياق شوطا آخر يحدّثنا فيه عن لحظات الموت الرهيبة حيث تبلغ النفس التراقي فيعالج الإنسان سكرات الموت حيث يلفّ ساقا بساق ، ويقبض كفّا ويبسط أخرى ، بلى. إنّه أوّل مشهد من الآخرة ، والنافذة على عالمها الواسع.

١٢٨

وكما أنّ تكذيب أحد بهذه الحقيقة لا يدفعها عنه ولا يغيّر من شأنها فإنّ التكذيب بالآخرة هو الآخرة لا يغيّر قدر ذرّة من أمرها ، لأنّها حقيقة واقعة وقائمة (الآيات ٢٦ ـ ٢٩).

ولأنّ مشكلة الإنسان ليس إنكار الموت ، ولا زعم القدرة على دفعه ، بل الشك فيما بعده أو الكفر به ، انعطف القرآن نحو إنقاذه من حيرة الشك في المستقبل والجهل به ، وكأنّه يحلّ لغزا رجع صداه في أكثر النفوس البشرية ، ببيان أنّ مسيرته في الحياة لا تنتهي بالموت ، وإنّما الموت جسر إلى عالم أبديّ أوسع ، هو عالم لقاء الله والحساب والجزاء بين يديه ، وذلك ممّا يعمّق الشعور بالمسؤولية في النفس (الآية ٣٠).

وغياب هذه الحقيقة من وعي الإنسان هو المسؤول عن عدم تصديقه به وصلاته له ، وهو يدفعه إلى التكذيب ، وركوب مطيّة الغرور. وانّ من يكون على هذه الصفات أولى له الموت من الحياة ، والعذاب من الرحمة (الآيات ٣١ ـ ٣٥).

ويرجعنا القرآن إلى الجذر الأصيل لكفر الإنسان بالبعث والجزاء : إنّه جهله بقدرة ربه سبحانه ، فليتفكّر في أصل خلقته حين كان «نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً» فخلقه الله وسوّاه ، متكاملا في ذاته ، ومتكاملا مع الجنس الآخر بأن خلق «مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» فهذه آية واضحة للعقل على قدرة الله «عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» ، لأنّ أصل الخلق أعجب وأدلّ على قدرته تعالى من الإعادة (الآيات ٣٦ ـ ٤٠).

١٢٩
١٣٠

سورة القيمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ

___________________

٤ [بنانه] : البنان الأصابع ، واحدها بنانة.

١١ [لا وزر] : لا ملجأ يلجأون إليه ، والوزر ما يتحصّن به من جبل أو غيره.

١٣١

وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)

___________________

٢٤ [باسرة] : كالحة متغيّرة ، وقال الراغب في معنى البسور : أنّه إظهار العبوس قبل أوانه وفي غير وقته ، ويدلّ على ذلك قوله عزّ وجلّ : «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ».

٢٥ [فاقرة] : هي الكاسرة لفقار الظهر ، وقيل : الفاقرة الداهية والآبدة.

٢٦ [التراقي] : العظام المكتنفة بالحلق.

٢٧ [راق] : طبيب.

٣٣ [يتمطّى] : جاء في مفردات الراغب : أي يمدّ مطاه أي ظهره ، والمطيّة ما يركب مطاه من البعير ، وقد امتطيته ركبت مطاه ، والمطو الصاحب المعتمد عليه ، وتسميته بذلك كتسميته بالظهر.

١٣٢

أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

١٣٣

بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ

بينات من الآيات :

[١ ـ ٢] حتى يتعمّق الإيمان عند الإنسان ويتحمل مسئولياته في الحياة لا بد أن يستثار فيه حافزان : وعي الآخرة مما تعنيه من بعث وجزاء ، ثم نفسه اللوّامة التي تثير في داخله النقد الذاتي بما يعني ردعه عن اقتحام الخطيئة ، فالمسئولية إذا هي الجذر الأصيل الذي تلتقي فيه فكرة القيامة وحقيقة النفس اللوّامة ، من هنا يذكّرنا القرآن بهما جنبا إلى جنب في سياق علاجه لموضوعها.

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ* وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)

وإنّ لكلمة «القيامة» تعبيرا عن الآخرة هنا إيحاء نفسيّا خاصّا ، يذكّر الإنسان بالبعث في واحد من أعظم مشاهد تلك الحياة حيث القيام من وهدة القبر للحساب والجزاء. والقيام أظهر تجلّيات الحياة إذ لا يقوم الشيء حتى يستوي تماما ويكتمل.

١٣٤

ولقد مضى الكلام عن كلمة «لا» في القسم ، وخلاصة القول : أنّها تفيد معنى القسم ، وأنّ ما يليها من كلام في منزلة من الوضوح لا داعي معها إلى القسم (١) أو أنّ ما وراءها من حقيقة نقسم بها عظيمة نجلّها عن القسم ، وهما معا يفيدان معنى التفخيم. ولا حاجة للحديث هنا عن اختلاف المفسرين في تفسير هذه الصيغة القرآنية لكونه نقل في مواضع أخرى سبقت.

أمّا عن النفس اللوّامة فهناك أقوال كثيرة ، فعن قتادة : (أنّها النفس) الفاجرة يقسم بها (٢) ، وعن ابن عباس قال : المذمومة (٣) ، وهما رأيان بعيدان جدّا تخالفهما النصوص التي جرى استخدام الكلمة فيها على وجه الإيجاب ، كما يخالفهما المعنى اللغوي للوّامة ، وعن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه (٤) ، وعن الحسن قال : إنّ المؤمن لا تراه إلّا يلوم نفسه ، وإنّ الفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه (٥).

والذي أختاره وتدلّل عليه النصوص أنّ في الإنسان نفسين : أحدهما تختار الباطل والفساد وهي الأمّارة ، والثانية تدعو إلى الحق والصلاح وهي اللوّامة ، ونعبّر عنها في الأدب الحديث بالضمير والوجدان ، وهذه النفس تستيقظ داخل الإنسان لتعاتبه على عدم العمل بالحق ، وتنهره عن اقتحام الباطل. وإنّما عبّر القرآن عنها بصيغة المبالغة (فعّالة) لأنّها كثيرة الملامة لصاحبها والنصيحة إليه ، فإذا ما استجاب لها نمت وأخذت موقعها ودورها الإيجابي في حياته ، وإذا أدمن الصدّ عن نداءاتها ومخالفتها تباطأت عن العمل فلا تعود تلومه على خطاياه كثيرا.

__________________

(١) راجع سورة الواقعة عند الآيتين (٧٥ ـ ٧٦) وما يليها.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٧.

(٣) المصدر.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر.

١٣٥

وبرامج الإسلام تهدف تنمية هذه النفس ، وتعتمد عليها في كثير من تشريعاته جنبا إلى جنب اعتماده على العقل ، وهكذا يكون للإنسان محكمتان : محكمة نفسه اللوّامة ، ومحكمة الآخرة ، قال الإمام الصادق (ع) : «ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، فإنّ في القيامة خمسين موقفا كلّ موقف مقام ألف سنة» (١) ، وقال الإمام السجّاد (ع) : «ابن آدم! لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك ، وما كانت المحاسبة من همّك» (٢)

ولأنّ النفس اللوّامة تقوم بدورها في حياة الإنسان تجعل الرسالات الإلهية والمواعظ الخارجية تلقى تجاوبا منه ، وإلّا فهي لا تؤثّر شيئا إذا عطّل العقل ومات الضمير ، قال الإمام الصادق (ع) : «من لم يجعل له واعظا من نفسه فإنّ مواعظ الناس لن تغني عنه شيئا» (٣).

[٣ ـ ٤] وكما أنّ القيامة يوم البعث وجمع العظام فإنّ النفس اللوّامة آية وجدانية على القيامة باعتبارها صورة مصغرة عن تلك المحكمة العظمى ، بل إنّها تصبح بلا مبرّر لو لا أنّ الإنسان سيلاقي حسابه الأوفى في يوم من الأيام. من هنا يكون كفر البشر بالآخرة مع وجود النفس اللوّامة فيه موضع استنكار ، ودليل ضلال فيه مبين ، ما توحي به الآية :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ)

والمتتبع لموارد استخدام كلمة (حسب) على صيغها المختلفة في القرآن يجد أنّها تعني الظن والزعم الذي لا أساس له ، وذلك يعني أنّ تشكيك الإنسان بالآخرة لا

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧٠ ص ٦٤.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر / ص ٧٠.

١٣٦

مبرّر له أبدا ، وإنّما يعتمد على التمنيات الواهية ، والخيال البعيد ، كما توحي الآية بأنّ مشكلة الإنسان ليست في عدم إيمانه بخطئه ، إذ أنّه إن لم يعترف به للناس فإنّه لا يستطيع الفرار منه أمام محكمة الضمير ، ولكنّ مشكلته كفره بالحقيقة الثانية ألا وهي القيامة ، التي تعني البعث والحساب والجزاء ، وذلك أنّه لا يستطيع استيعاب حقيقة العودة إلى الحياة بعد أن يموت ويصير أشلاء موزّعة وعظاما بالية تستحيل ذرّات تراب مع الأيام.

وجذر هذا التصور نجده حينما نبحث عنه في جهل الإنسان بقدرة ربه التي لا تحدّ ، وتقييم شؤون الخلائق بما فيها البعث والنشور من خلال قياساته الذاتية وقدراته المحدودة ، دون أن يعرف أنّ للكائنات العظيمة التي خلقها الله من جبال ووهاد وأراضي وبحار وسموات ومجرّات .. أنّ لها مقاييس أخرى لا تقاس بذاته.

ولهذا فإنّه حيث يجد نفسه عاجزة عن جمع عظام الموتى يحسب الأمر مستحيلا ، أمّا لو عرف ربّه لتغيّر تصوّره وموقفه ، وآمن بالآخرة مصدّقا قول ربه :

(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)

عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عبّاس عن الآية فقال : لو شاء لجعله خفّا أو حافرا .. ولكن جعله الله خلقا سويّا حسنا جميلا (١) ، وعنه قال : نجعلها كفّا ليس فيه أصابع (٢) ، والأقرب منه أن تكون التسوية هنا بمعنى الخلق الكامل ، بإعادة البنان على خلقها وكمالها الأوّل بعد الموت والتحلّل في التراب ، وهذا ردّ على شك الإنسان في قدرة الله على جمع الأعظم المتفرّقة الرميمة ، أي أنّه تعالى ليس قادرا على جمعها وحسب ، بل هو قادر على كسوها لحما وإعادة الحياة إليها. وإذا

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٧.

(٢) المصدر.

١٣٧

كانت اليدان من خصائص الحضارة البشرية فإنّ الأصابع هي ميزة اليد عند الإنسان بما فيها من دقة وقوة وأناقة ، وخصوصا البنان الذي يقوم بدور عظيم في حياة الإنسان.

وقد اعتبر البعض هذه الآية سبقا في بيان حقيقة علمية يستفاد منها كثيرا في القانون الجنائي ، وهي : اختلاف خطوط أطراف الأصابع من إنسان إلى آخر ، والتي أصبحت بذاتها علما مستقلا يسمّى بعلم البصمات ، ترتكز عليه الدوائر الأمنية في مكافحة الجريمة ومعرفة المجرمين.

وتعبير الله في الآية الثالثة «نجمع عظامه» يهدينا إلى أنّ الإنسان مهما تحلّل في التراب إلّا أنّه لا يتحوّل إلى العدم ، بل يبقى أجزاء وذرأت صغيرة متفرقة هنا وهناك ، والخلق الثاني بالبعث يبدأ بجمعها إلى بعضها عبر قوانين وإرادة إلهية تجعل ذرأت كلّ فرد وعضو وجزئياته تجتمع وتلتحم مع بعضها ، والله العالم.

[٥ ـ ٦] أمّا سبب كفر الإنسان بالآخرة فهو أنّه لا يريد الالتزام بالشرائع والحدود ، بل يريد أن يطلق العنان لأهوائه وشهواته ومن ثمّ لا يتحمّل مسئولية في الحياة.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ)

قال الإمام الصادق (ع) : «أي يكذّبه» (١) ، وعلى هذا أجمع جلّ المفسرين ، قال العلامة الطبرسي : فالفجور هو التكذيب (٢). وقال الفخر الرازي : أي يكذّب بما أمامه من البعث والحساب ، لأنّ من كذّب حقّا كان فاجرا (٣). والذي يبدو لي

__________________

(١) البرهان ج ٤ ص ٤٠٦.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٥.

(٣) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٣١٨.

١٣٨

أنّ الكلمة بمعناها الأصلي وهو الشق والتحطيم ، وإنّما سمّي الفجر فجرا لأنّه يشقّ الظلام ويحطّمه ، والفجور في الأخلاق والسلوك مثل ذلك ، حيث أنّ الفاجر لا يلتزم بقيمة ولا قانون ، بل يشق عصا المجتمع والشرع باقتحام اللذات والخطايا ، ولا يريد أمامه شيئا يعيقه أبدا ، وهذا التفسير لا يعارض حديث الامام ولا أقوال المفسرين لأنّ التكذيب مقدمة ومصداق للفجور. ولم أجد من المفسرين من قال ذلك ، إلّا إشارة عند الرازي إذ قال : من أنكر المعاد بناء على الشهوة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله «الآية» ، ومعناه : أنّ الإنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات ، والاستكثار من اللذات ، لا يكاد يقرّ بالحشر والنشر ، وبعث الأموات ، لئلّا تنغّص عليه اللذات الجسمانية ، فيكون أبدا منكرا لذلك (١).

والضمير في «أمامه» إمّا أن يعود إلى يوم القيامة ، أو إلى الله عزّ وجلّ ، حيث أنّ الفاجر يمارس فجوره في حضور وشهادة الله ، أو يكون عائدا على الإنسان نفسه باعتباره يفجر أمام ضميره وبشهادة من جوارحه التي تدلي بشهادتها عليه عند الحساب. والأصح أنّ الضمير يرجع إلى الإنسان ، لأنّ الحديث حوله وسائر الضمائر ترجع إليه ، ولعل هذا جعل ذلك مستساغا بينما يقال عادة : أمام نفسه.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)

لأنّ الكفر بالقيامة هو الذي يبرّر له التحلّل من المسؤولية ، فهو في سعي حثيث وجدل دائم من أجل إنكارها ، وصناعة قناعة ولو داهية لنفسه وللآخرين بذلك ، فسؤاله ليس سؤال استهزاء وسخرية فقط ، بل هو سؤال تبرير وجدل أيضا. وإنّها لصفة كلّ من يترك العمل بالحق ويخالف القيم ، إذ لا بد من تبرير لموقفه ، فكيف إذا كان فجورا؟

__________________

(١) المصدر ص ٣١٩.

١٣٩

ولصيغة السؤال هذه استبعاد وتسويف بالتوبة ، قال الزجّاج : ويجوز أنّه يريد أن يسوّف التوبة ، ويقدّم الأعمال السيئة (١) ، وقيل معناه : أنّه يتعجّل المعصية ثم يسوّف التوبة ، ويقول : أعمل ثم أتوب (٢).

[٧ ـ ١٣] ويبقى المكذّب بالآخرة مسترسلا مع أهوائه وشهواته ، في فجور بعد فجور ، لأنّه لا يحسب حسابا للقاء ربه ، ووقائع القيامة التي تطبع آثارها المذهلة والرهيبة عليه وعلى الطبيعة من حوله ، فهنالك لا يجد مفرّا من حكومة الله وجزائه ، لأنّ الوضع يختلف في الآخرة عن الدنيا ، حيث تنتهي فرصة الامتحان والحرية.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ)

قال في التبيان : يقال برق البرق إذا لمع ، وأمّا برق بالكسر فمعناه تحيّر ، وقال الزجّاج : برق إذا فزع ، وبرق إذا حار (٣) ، وفي المجمع قال أبو عبيدة : برق البصر : إذا شقّ وانشد (٤) ، وقال العلّامة الطبرسي : أي شخص البصر عند معاينة ملك الموت ، فلا يطرف من شدة الفزع ، وقيل : إذا فزع وتحيّر من شدة أهوال القيامة (٥) ، وقال الرازي بعد أن نقل رأي الزجّاج : والأصل فيه أن يكثر الإنسان من النظر إلى لمعان البرق ، فيؤثّر ذلك في ناظره ، ثم يستعمل ذلك في كلّ حيرة ، وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق (٦). وما أختاره أنّ بروق البصر يحمل معنى الحيرة والدهشة لحالة الذهول والخوف التي تصيب الإنسان لسبب من الأسباب. وإنّه يحدث بعض الأحيان نتيجة الإرهاق أو الصدمات الروحية والمادية أن يرى الواحد

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٥.

(٢) المصدر.

(٣) التبيان ج ١٠ ص ١٩٢.

(٤) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٤.

(٥) المصدر / ص ٣٩٥.

(٦) المنجد / مادة برق.

١٤٠