من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

[٣١] ثم أعدّ الله الأرض بما أودع فيها من مواد تساعد على زراعتها ، وبما جعل في باطنها وظاهرها من مخازن ومجاري للمياه لسقيها طوال العام.

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها)

ولذلك فإنّ المناطق القاحلة لا تصلح للزراعة ، إمّا بسبب فقر التربة أو قلّة الماء.

[٣٢] ولأنّ الزلازل والبراكين وجاذبية القمر والعواصف الهوج التي قد تعترض الأرض كانت تهدد حياة الإنسان فوق البسيطة خلق الله الجبال وأرسى بها دعائم الأرض.

(وَالْجِبالَ أَرْساها)

أي أثبتها بقدرته ، وجعلها درعا حصينة للأرض ، يقول الأمام علي ـ عليه السلام ـ «بعد أن تحدّث عن السماوات والأرض وكيف أنّهما دليل على اقتدار جبروت ربّنا وبديع لطف صنعته» : «وجبل جلاميدها «أي الأرض» ونشوز متونها وأطوادها فأرساها في مراسيها ، وألزمها قراراتها ، فمضت رؤوسها في الهواء ، ورست أصولها في الماء ، فأنهد جبالها عن سهولها ، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها ، فأشهق قلالها ، وأطال أنشازها ، وجعلها للأرض عمادا ، وأرزها فيها أوتادا ، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها» (١).

[٣٣] كل ذلك لكي تتوفر فرص الحياة للإنسان والبهائم التي تخدم الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

__________________

(١) نهج البلاغة / خطبة ٢١١.

٣٠١

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)

أوليس كل ذلك دليلا عي أنّ لوجودنا حكمة بالغة ، فلما ذا ننكر المسؤولية؟

[٣٤] إنّ للكفر بيوم المعاد سببا نفسيا هو التمادي في الغفلة ، والقرآن يخرق بآياته الصاعقة حجب الغفلة لمن تدبر فيها.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى)

فأيّ شيء ينقذنا من تلك الطامة؟ هل الغفلة تبرّر عدم الإعداد لها؟ والطامة من الطم بمعنى ردم الفجوة ، وتسمّى المآسي المروّعة بها لأنّها تملأ النفس رعبا أو لأنّها قد بلغت منتهى المأساة. والقرآن يضيف كلمة «الكبرى» لعلنا نتصور تلك الساعة التي ثقلت في السموات والأرض ونحن عنها غافلون.

[٣٥] في ذلك اليوم يمرّ شريط أعمال المرء أمام عينيه. أوليس يرى جزاء كلّ صغيرة وكبيرة من أعماله؟ أولا يقرؤها في طائره الذي علّق في رقبته ، فلا أحد يستطيع التكذيب أو الفرار من مغبّة أعماله؟

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى)

وفي يوم القيامة تتساقط الحجب من عين الإنسان وعقله فإذا هو يتذكر وباستمرار كل مساعيه.

[٣٦] كما أنّ الجحيم التي هي معتقل الطغاة والمجرمين تبرز أمام الجميع بما فيها من نيران تكاد تتميّز من الغيظ ، ومن عقارب وحيّات تتربص بالقادمين ، ومن شياطين وعفاريت ينتظرون الفتك بقرنائهم.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى)

٣٠٢

فكل ذي عين بصيرة يرى الجحيم بلا حجاب ، فيكون المذنبون في حسرة عظمي وخوف لا يوصف.

[٣٧] هنالك الجزاء الأوفى للطغاة ، الذين كفروا بالنشور ، وأغرقوا في شهوات الدنيا ، ولم يخافوا ربهم.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى)

وأعظم الطغيان مخالفة القيادة الشرعية ، فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام علي ـ عليه السلام ـ :

«ومن طغى ضل على عمل بلا حجة» (١).

وإنما تطغى النفس باتباع الهوى لأنّه يصد الإنسان عن الحق ، قال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :

«إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فأمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة» (٢).

[٣٨] (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا)

فقدّمها على الآخرة.

[٣٩] (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى)

إنّها النهاية التي اختارها بنفسه ، ويبدو أنّ هذه الجملة هي جواب إذا الشرطية

__________________

(١) تفسير نمونه / ج ٢٦ ـ ص ١٠٧ عن نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٥٠٦.

(٢) نهج البلاغة / الخطبة ٤٢.

٣٠٣

في قوله : «فإذا جاءت» كما هي جواب لقوله : «فَأَمَّا مَنْ طَغى» فيكون الأمر مركّبا على شرطين ، كما لو قال أحدهم : إذا كان رمضان وكنت حاضرا صمت.

[٤٠] كيف نتقي طغيان النفس وغرورها؟ بمخافة الله ، ويبدو أنّ السورة تعالج هذه الحالة المتجذرة في نفس البشر. ولكن من ذا الذي يخشى ربه؟ الذي يعرف مقامه. أولم يقل ربنا : «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»

إنّ معرفة أسماء الله ، وأنّه أحاط بنا علما وقدرة ، وأنّه مليك السموات والأرض ، وأنّه الجبّار المقتدر .. إنّها تجعل أقسى القلوب خاشعة ، ومن هنا تزيغ وساوس الشيطان بنا عن معرفة ربنا سبحانه.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ)

ليتقي طغيان نفسه.

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى)

لكي لا يؤثر على الآخرة شهوات الدنيا الزائلة ، ولا يذهب طيباته في الحياة الأولى ، ولكي ينظر لما قدّمت يداه لغده ولدار إقامته التي هي الحيوان حقّا.

[٤١] (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)

يعود إليها ، لأنّه أصبح في الدنيا من أهلها ، وكل امرء يعود إلى مأواه الأصيل ووطنه الدائم. فالميزان إذا ثمّة ليس الانتماءات الظاهرة في الدنيا ، وليس التسجيل في حفيظة التقوى إنّما مخالفة الهوى ، واتباع الحق ، أرأيت كيف أصبح مصعب بن عمير ـ الذي قيل أنّ الآية نزلت فيه ـ من صفوة أهل الجنة ، بينما كان أخوه عامر بن عمير في الدرك الأسفل من النار؟ بما ذا؟ أليس لأنّ

٣٠٤

عامر طغى وخالف الحق واتبع هواه ، بينما اتبع مصعب رسول الله ، وجاهد بين يديه ، وقيل أنّه قتل أخاه في أحد ، ووقى الرسول بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه؟

[٤٢] وحين يقرّر الإنسان الكفر بشيء يبرّر ذلك لنفسه بالتشكيك فيه وبأنّه لا يعرف كيف يقع وبأيّة صورة ومتى .. وهكذا طفق الكفّار يرتابون في الآخرة ، ويتساءلون : كيف يبعث الله العظام البالية ، ومتى ، ولما ذا تأجلت هذه المدة الطويلة؟ لما ذا لم يبعث حتى الآن الذين ماتوا في أوّل الزمان؟ وهكذا ..

ولكنّ كل هذه التساؤلات لا تنفي حقيقة الساعة ، وأنّها واقعة لا ريب فيها.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها)

متى تستقر كما تستقر السفينة في النهاية على شاطئها؟

[٤٣] ولكنّ الله أخفى علمها عن العالمين ، بل لم يحدّد لها وقتا إنّما يقرّرها متى ما شاء ، وحسب حديث مروي عن رسول الله (ص) أنّه قال : «لا تقوم الساعة إلّا بغضبة يغضبها ربّك» (١).

ولكنّ معرفة ميعاد الساعة أو الجهل بها لا يغيّر من واقعها شيئا. إنّها عظيمة إلى درجة تشفق السموات من وقعها! أفلا نتذكّرها ونعدّ لها عدّة؟

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها)

يبدو لي أنّ معنى هذه الآية : أين أنت من قصتها وحديثها ، ولما ذا لا تتذكرها ، وليس معناها كما قالوا : ليس لك السؤال عنها ، أو فيم أنت من ذلك حتى يسألونك

__________________

(١) القرطبي / ج ١٩ ـ ص ٢٠٩.

٣٠٥

بيانه ، ولست ممّن يعلم.

وقال بعضهم : يحتمل أن يكون الوقف عند «فيم» وكأنّه قيل فيم تسأل وأنت من ذكراها أي أنّ رسول الله ، من أشراط الساعة (١).

بيد أنّ تفسيرنا أقرب إلى السياق الذي يهدف التذكرة بالساعة وأهوالها.

[٤٤] الله سبحانه الذي يأمر بها متى شاء وكيف شاء. إنّها ممّا لم يطلع عليه الرب أحدا من خلقه.

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها)

فإليه المرجع في أمرها ، كما قال سبحانه : «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» ، وقال : «إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ».

[٤٥] بلى. حري بنا أن نترك السؤال عن الساعة إلى العمل من أجلها ، وإلى تذكّرها لحظة بلحظة لأنّها آتية لا ريب فيها ، وقد توفّرت أشراطها ، ومن أشراطها النذير المبين رسول الله.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)

فبدل أن نعاود السؤال عن وقت الساعة تعالوا نخشاها بعد أن جاءنا النذير.

[٤٦] وما ذا ينفع المجرمين لو تأخّرت الساعة عنهم ، هل يخفّف عنهم شيئا من عذاب ربهم؟ كلّا ..

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)

__________________

(١) أنظر القرطبي / ج ١٩ ـ ص ٢٠٩ والرازي / ج ٣١ ـ ص ٥٢.

٣٠٦

ما قيمة سبعين عاما من العمر جلّها سبات النوم وغفلة الجهل والانشغال بالدنيا وضروراتها ، ما قيمتها إذا قيست بخمسين ألف عام مدة اليوم الأول من أيّام الآخرة؟! هناك يتذكّر الإنسان أنّ عمره في الدنيا كان يوما أو بعض يوم ، وأنّه قصّر فيه تقصيرا كبيرا حيث لم يستعد ليوم الأهوال.

ولعلّ معنى «عشية أو ضحاها» : النهار الذي يتصل بالعشية أو ينصرم بالضحى ، وذلك على عادة العرب في قولهم : آتيك العشية أو غداتها .. فأهل القيامة قالوا في البدء : كأنّنا عشنا في الدنيا نهارا كاملا ، ثم أكثروا النهار فقالوا : بل نصف نهار ، كما قال ربنا سبحانه : «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً» وقوله : «يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» وقال : «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ».

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا مّمن وعى رسالة النذير ، واستعد للرحيل ولم ينس الساعة وأهوالها.

٣٠٧
٣٠٨

سورة عبس

٣٠٩
٣١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ «عبس وتولّى» و «إذا الشمس كوّرت» كان تحت جناح الله من الجنان ، وفي ظلّ الله وكرامته ، وفي جنانه ، ولا يعظم ذلك على الله».

نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٠٨.

٣١١

الإطار العام

لكي تصلح نظرة الإنسان إلى نفسه جاءت رسالات الله ، قبل أن يكون الإنسان غنيّا أو فقيرا ، شريفا في النسب أو وضيعا ، عربيّا في اللغة والعنصر أو أعجميّا ، أبيضا أو أحمرا أو أسودا .. قبل كل ذلك فهو إنسان ، ومن نظر إليه من خلال ملابساته المادية فقد كفر بلبّه وجوهرته السامية.

وهنا تتميّز الجاهلية عن الإسلام دين الفطرة السليمة والعقل المستنير ، فالجاهلية تقيّم الناس على أساس الملابسات المادية ، بينما الدين الحق يقيّمهم على أساس درجات إيمانهم ممّا يتصل بكلّ واحد منهم كإنسان ، أوليس أصل الإنسان عقله؟

وحامل رسالات الله لا يجوز أن يتنازل عن هذه الميزة الهامة فإذا به يميّز الناس على أسس مادية ، فما قيمة الرسالة إذا ، وكيف يمكنه إصلاحهم يومئذ وتغيير مفاهيمهم الخاطئة وهو الذي يخضع لها؟!

٣١٢

ويبدو أنّ هذه السورة الكريمة تبصّرنا بهذه الحقيقة فإذا بفاتحتها عتاب شديد ، لمن عبس وبسر في وجه الأعمى وتولّى بينما تصدى لمن استغنى. ثم يبيّن السياق سموّ قيمة الإيمان ، وقيمة القرآن ، ويهدينا إلى صفات حملته بحق ، وهم الكرام البررة الذين ينبغي أن يصبحوا محور التجمع الإيماني (لا أصحاب الغنى والجاه والشرف الزائف).

ثم ينعطف السياق نحو التذكرة بالإيمان عبر تعداد نعم الله على الإنسان وتقلباته منذ أن كان نطفة إلى أن أصبح بشرا سويّا وتيسّر لسبل الخير والسلام وحتى يموت فيدفن ، ويذكّرنا بواحدة من أعظم نعم الله علينا وهي نعمة الطعام ، ويدعونا إلى النظر فيها ، وكيف يوفّرها الله لنا بالغيث؟ كل ذلك لأنّ الإيمان بالله ونبذ الكفر بكلّ ألوانه هو السبيل لبناء مجتمع القيم الذي يسمو عن الخضوع لأصحاب المال والجاه.

وفي الختام ينذرنا الربّ بيوم الصّاخّة ، ويذكّرنا بأنّه في ذلك اليوم لا تنفع هذه العلاقات المادية فحتى الأرحام تنقطع ، إنّما القيمة الحق يومئذ هي العمل الصالح. ألا نجعله أيضا قيمة تجمعنا اليوم؟

٣١٣
٣١٤

سورة عبس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)

___________________

١ [سفرة] : الكتبة لأسفار الحكمة ، والواحد منها سافر ، والاسفار الصحف المقدسة ، وأصلها الكشف من قولهم : سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها.

٣١٥

عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى

بينات من الآيات :

[١] أثارت الآيات الأولى في هذه السورة المباركة التساؤل فيمن نزلت؟ علما بأن مثل القرآن مثل الشمس ، وأنه لا ينبغي البحث عن أسباب نزول آية آية منه ، فلم يكن القرآن كتاب حقبة خاصّة من الزمن حتى نفتش فيها عن تطبيقاته ، بل لعل تأويل آية كريمة لا يتأتى إلّا بعد قرون وقرون ، بلى. كانت آيات كثيرة تجد تطبيقها في حياة الرسول (ص) وقد اعتقد أهل التفسير أنها نزلت في تلك الموارد بينما الحقيقة أنها تأولت فيها فقط ولم تكن سوى مصداق من مصاديق القرآن ، ولعل التعبير التالي عند المفسرين الأوائل «نزلت في فلان مثلا» كان يعني أنها طبقت عليه واولت فيه وليس نزولها لهذه الحادثة ، والدليل على ذلك أننا نجد آيات كثيرة ذكر لها المفسرون موارد متأخرة عن نزولها أو متقدمة ، مثلا : نجد آيات مكّيّة يذكر المفسرون من الجيل الأول انها نزلت في اشخاص لم يكونوا في مكة (ولعل الآيات الاولى من سورة عبس منها) أو بالعكس أو حتى أنهم يؤولونها فيمن لم يكن في

٣١٦

عهد الرسول (ص). (١).

بلى. عند الأجيال التالية من المفسرين أصبح التعبير «نزلت في كذا» يوحي بان الاية نزلت بتلك المناسبة.

وفيما يتصل بالآيات في هذه السورة فقد قال القرطبي : روى أهل التفسير أجمع : أنّ قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وقد طمع في إسلامهم فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم ، فكره رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ أن يقطع عبد الله عليه كلامه ، فأعرض عنه ، ففيه نزلت الاية (٢).

وقال الشيخ المكارم في تفسيره «نمونه» ما يلي : المشهور بين المفسرين (السنة والشيعة) ذلك ، ولكنه روى حديثا عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ يقول : «أنها نزلت في شخص من بني أميّة» وأضاف : انه ليس من شأن الرسول ان يعبس في وجه أحد من الناس ، كيف وهو الذي قال عنه ربنا سبحانه : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (٣)

ويبدو لي أن الآية لم تنزل في شأن النبي ، وأن المفسرين ذهبوا إلى ذلك بسبب ما توهموه من دلالة الآية ، ومن بعض الروايات المتشابهة المختلفة ، فمثلا : نجد في بعضها : أن النبي كان مع الوليد بن المغيرة ، وفي بعضها أنه كان مع أمية بن خلف ، وقال مجاهد : كانوا ثلاثة : عتبة وشيبة ـ ابنا ربيعة ـ وأبيّ بن خلف ، وقال سفيان الثوري : كان النبي مع عمه العباس.

__________________

(١) والى مثل هذا الرأي ذهب الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير ص ١٠٧ / ١٠٨ الطبعة الثانية دار البشائر الإسلامية.

(٢) القرطبي ج ١٩ / ص ٢١١.

(٣) تفسير نمونه.

٣١٧

وعلى افتراض ان القصة كانت صحيحة ، فمن يقول أن المراد ان النبي قد عبس ، فلعل واحدا من المسلمين كان حاضرا وهو الذي فعل ذلك ، والشاهد انه لم يقل ربنا : عبست وتوليت ، ومن ثم يكون السياق بلغة الخطاب ، ولكن أليس من الممكن ان يكون ذلك من باب تحويل الكلام الى الخطاب بعد ذكر الغائب ، وكأنه قد أصبح بذكره حاضرا كما نجد في سورة الحمد ، حيث يقول تحول الخطاب الى الحضور بعد ذكر الله سبحانه وقال : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

ثم ان السورة مكية بالاتفاق وكان ابن أم مكتوم في المدينة حسبما يقول ابن العربي على حسب ما نقل القرطبي. دعنا نستمع الى نصه : اما قول علماؤنا انه الوليد بن المغيرة ، فقد قال آخرون أنه أميّة بن خلف ، والعباس وهذا كله باطل ، وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا من الدين ، ذلك أن أميّة بن خلف والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والاخر ببدر ، ولم يقصد قطّ أميّة المدينة ، ولا حضر عنده منفردا ولا مع أحد. (١)

وينبغي ان نتساءل : إذا كان ابن أم مكتوم في المدينة فكيف نزلت السورة بمكة تروي قصته؟!

وأيّا كان سبب نزول الآية ، فإن علينا التدبر في كلماتها المشعة ، والتعرض لأمواج نورها المتدفق.

(عَبَسَ وَتَوَلَّى)

لقد بسر بوجهه ، فانعكست حالته النفسية تجاه الرجل على ملامح وجهه التي

__________________

(١) القرطبي / ج ١٩ ـ ص ٢١٢.

٣١٨

تفضح تقلبات فؤاده انّى حاول إخفاءها ، ثم تولى بركنه عنه عمليّا ، وهكذا تكاملت ملامح الموقف السلبي.

[٢] (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى)

اي بسبب زيارة الأعمى له ، وهذا يتنافى مع ما ذكر في بعض النصوص : أن الرسول (ص) انه انما انزعج عند ما سأله ابن أم مكتوم وليس من زيارته.

[٣] لقد جاءه الأعمى زائرا وربما ساعيا نحو الهداية ، وإذا عوّض الأعمى أو اي معوق آخر نقص جوارحه بتزكية نفسه فانه يسمو فوق كل بصير وسليم.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)

وهكذا تكون تزكية النفس أهم غاية يسعى نحوها الإنسان.

[٤] وقد لا يسمو الفرد الى التزكية ولكنه يبلغ مستوى التذكرة التي تنفعه في إصلاح بعض جوانب سلوكه وهكذا الأعمى الفقير الذي تقدم الى ذلك المجلس.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى)

[٥] الغنى مطلوب ولكن الاستغناء مرفوض ، فالغني المتواضع الذي يمتلك الثروة دون ان تمتلكه قريب من الله ، قريب من الناس ، ولكن الذي تقوده ثروته ، بل يذوب في ثروته الى درجة العبادة فانه بعيد عن الله ، بعيد عن الناس ، قريب من النار. ولا بد ان تتخذ القيادة الإلهية موقفا حازما منه.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى)

ومعروف ان الاستغناء يؤدي الى الطغيان ، أولم يقل ربنا الحكيم : «كَلَّا إِنَ

٣١٩

الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (١).

[٦] مثل هذا الإنسان ينبغي طرده لكي لا يتسلل الى قيادة المجتمع عبر ثروته.

ان مثله مثل قارون الذي خرج على الناس بزينته ، فانبهر الناس بها ؛ فاذا خضع رجال الدعوة لهم أو مالؤوهم فمن ينقذ الناس من شرورهم واستطالتهم على الفقراء والمحرومين ، ومن يأخذ حق المستضعفين والبؤساء منهم؟ لذلك يعيب السياق على صاحب الدعوة ترك الفقير الأعمى والتوجه تلقاء المستغنين.

(فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى)

قالوا : التصدي : الإصغاء ، ويبدو ان معناه : الإقبال عليه ، والاهتمام به.

[٧] وقد يزعم حملة الدعوة وأمناء الرسالة أنهم مسئولون عن الأغنياء ، وان عليهم ان يجتذبوهم بأية وسيلة ممكنة ، فيقدمون لهم التنازلات ، بينما يحرمون الفقراء من عطفهم وحنانهم ، بينما مسئولية الداعية تنتهي عند إبلاغ الرسالة.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى)

فهو ولست أنت المسؤول عن تزكيته.

[٨ ـ ١٠] من الذي يتصدى له صاحب الدعوة؟ هل الذي يتولى بركنه ، وكلا .. حتى ولو كان شريفا في قومه ، غنيّا قويا. لما ذا؟ لأن الرسالة الإلهية جاءت لإصلاح نظرة الإنسان الى نفسه من خلال مركزه أو ماله أو لغته أو ما أشبه ، فاذا تأثرت الرسالة بهذه القيم المادية فانها لا تستطيع إصلاحه ، لذلك جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) قال : «إذا رأيتم العالم محبّا للدنيا فاتهموه

__________________

(١) العلق / ٦ ـ ٧.

٣٢٠