من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

أمام ناظريه ما يشبه النجوم الصغيرة ، ولعلّ هذه الظاهرة لون من بروق البصر. وفي المنجد : برق برقا تحيّر ودهش فلم يبصر ، البرقة : الدهشة والخوف (١). وبصر الإنسان يبرق يوم القيامة .. ومع أنّه يبرق عند الموت إلّا أنّ حمل المعنى على القيامة أقرب إلى السياق فالحديث عنها ، والمشاهد التالية متصلة بها لا بالموت.

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ)

قال الزمخشري : ذهب ضوؤه ، أو ذهب نفسه (٢) ، وجاء الفعل معلوما بينما يقال عادة خسف ببناء الفعل للمجهول ، ولعلّه للدلالة على أنّه في الحالات الطبيعية يحجب نوره بعوامل خارجية كوقوع الأرض بينه وبين الشمس في حركتها السنوية ، ممّا يتسبب في حجب شعاعها عنه ووقوع ظل الأرض عليه. أمّا في الآخرة فإنّ القمر نفسه يخسف ولا يخسف بشيء خارجي ، فهو فاعل الخسف وليس غيره.

ومشهد مريع آخر يلفت القرآن نظرنا إليه ، وهو اختلال النظام الكوني في الحياة ، ومن مظاهره جمع الشمس والقمر ، وهذه النتيجة حتمية وطبيعية في ذلك اليوم ، فالكون والنظام إنّما أوجدهما الله للإنسان ، وحيث ينتهي دوره في الدنيا ينتهي معه كلّ متعلّق به.

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)

وعلماء الفلك يدركون الآثار التي يخلّفها مثل هذا الأمر على الكائنات ، وما هو أعظم وأرهب بالنسبة للإنسان من هذه الأحداث الكونية تلك الحقائق التي يمثّلها يوم القيامة ويكشف عنها ، وأهمّها حقيقة الجزاء والمسؤولية ، التي طالما كذّب بها

__________________

(١) المنجد / مادة برق.

(٢) الكشّاف / ج ٤ ص ٦٦٠.

١٤١

وسعى للفرار منها بشتى الحيل والذرائع ، فهناك يجد نفسه وجها لوجه أمامها ولا سبيل له للهرب منها.

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)

وإنّما يكشف القرآن للإنسان مشاهد الآخرة حتى يزرع التقوى في نفسه فيضع بذلك حدا لفجوره وغروره ، ولأنّ المعرفة بالمستقبل والإيمان بحقائقه يخلّف توازنا في مسيرته الدنيوية الحاضرة ، فهو إنّما يفجر زعما منه بأن سيجد مهربا من المسؤولية.

(كَلَّا لا وَزَرَ)

أي ملجأ ومأوى. قال المبرّد والزجّاج : أصل الوزر الجبل المنيع ، ثم يقال لكل ما التجأت إليه وتحصّنت به وزر (١) ، ومنه الوزير الذي يلجأ إليه في الأمور (٢) ، يقال وزرت الحائط ، إذا قويت بأساس يعتمد عليه ، وقال الحسن : لا جبل ، لأنّ العرب إذا دهمتهم الخيل بغتة قالوا : الوزر ، يعنون الجبل (٣).

وفي الآخرة لا يجد أحد مفرّا ولا ملجأ من جزائه ، وعذاب ربه ، بلى. هناك مفر واحد فقط ينفع الإنسان ، وهو أن يفر إلى ربه الذي منه العذاب ، وإليه المصير ، ولا يكون ذلك فجأة ، إنّما يحتاج الأمر إلى تمهيد في الدنيا قبل الآخرة.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)

قال صاحب المجمع : أي ينتهي الخلق يومئذ إلى حكمه وأمره ، وقيل «المستقر»

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٢١.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٥.

(٣) التبيان ج ١٠ ص ١٩٤.

١٤٢

المكان الذي يستقرّ فيه المؤمن والكافر ، وذلك إلى الله لا إلى العباد (١). والأصح إطلاق الكلمة كي تتسع إلى كلّ المعاني الموحية بها هذه العبارة ، كالقرار ، والمصير ، والمقر ، والحكم ، والأمر .. إلخ ، وفي ذلك تنبيه للإنسان على أنّ الدنيا ليست محلّا للخلود والاستقرار ، ولا محطة أخيرة ، فيجب أن يكيّف نفسه مع هذه الحقيقة الهامة ، وليس معنى الآية أنّ المستقر دون ذلك اليوم ليس لله «فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى» (٢) ، ولكن حكمته اقتضت أن تكون لنا الحرية في الدنيا ، ويومئذ يكشف لنا الغطاء بصورة أوضح وأجلى عن هيمنته وسلطانه المطلقين ، ونكتشف فيما نكتشف علمه وإحاطته التامّين حينما يعرضنا للحساب والجزاء فنجد أنّه أحصى كلّ صغيرة وكبيرة لنا وعلينا.

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)

في التبيان ومثله المجمع : أي يخبر الإنسان يوم القيامة بأوّل عمله وآخره فيجازى به ، وقيل : بما قدّم من العمل في حياته ، وما سنّه فعمل به بعد موته من خير أو شر ، وقيل : بما قدّم من المعاصي (على الطاعات) وأخّر من الطاعات (٣) (على المعاصي). قال الإمام الباقر (ع) : «بما قدّم من خير وشر ، وما أخّر ممّا سنّ من سنّة ، ليستنّ بها من بعده ، فإن كان شرا كان عليه مثل وزرهم ، ولا ينقص من وزرهم شيء ، وإن كان خيرا كان له مثل أجورهم ، ولا ينقص من أجورهم شيء» (٤).

وحضور مشهد الحساب الأخروي في وعي الإنسان في الدنيا له دور كبير في

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٥.

(٢) النجم / ٢٥.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٥.

(٤) تفسير القمّي ج ٢ ص ٣٩٧.

١٤٣

بعثه على التقوى والطاعة ، وممارسة النقد الذاتي البنّاء. وإنّ الله قادر أن يجازي الناس مباشرة بعد بعثهم ولا أحد يسأله عمّا يفعل ، ولكنّه يأبى إلّا أن يجلي علمه وعدالته لخلقه.

[١٤ ـ ١٥] والسياق مهّد السبيل للحديث عن البصيرة الأساسية التي تعتبر محورا هامّا في السورة ، وهي وعي الإنسان بمسؤوليته عبر استثارة نفسه اللوّامة ، التي تجعله عليها شاهدا ورقيبا ممّا يصلح مسيرته ويوجّهه إلى تحمّل المسؤولية بتمام المعنى ، فلا يمارس الخطيئة لأنّها تحتاج إلى التبريرات والأعذار ، وهي لا تنفع شيئا عند الله ولا عند محكمة نفسه.

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)

وهنا نهتدي إلى عدّة بصائر :

١ / يهدف الإسلام عبر منهجه التربوي تنمية وازع الضمير عند الإنسان كضمانة أساسية لالتزامه بالشرائع. من هنا فإنّ القرآن يذكّره بالحقائق الوجدانية المرة بعد الأخرى.

٢ / كما أنّ الإنسان لا يجد مفرّا من حكومة الله يوم القيامة ولا تنفعه الأعذار ، فإنّه حين يراجع ذاته (ضميره وعقله) يواجه نفس الموقف ، حيث يعلم بأنّ الأعذار التي يقدّمها لا واقع لها ، فهي قد تخدع غيره ولكن لن تخدع وجدانه.

٣ / إنّ الأعذار التي يلقيها الإنسان أكثرها كاذبة ، يلجأ إليها لتبرير أخطائه وسلوكيّاته المنحرفة ، وهي لا تغيّر من الواقع شيئا لا عند الله ولا عنده. وورود الكلمة بالجمع «معاذيره» فيه دلالة على أنّه يتقن فنّ صناعة التبرير ، وأنّه حينما يريد تبرير موقف أو عمل ما متصل به لا يكتفي بعذر واحد بل يختلق أعذارا كثيرة.

١٤٤

وهذه البصائر تنسف الثقافة التبريرية التي هي أهم أسباب التخلف والاجرام ، ذلك لأنّ الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم ، وأنشات نفسه على فطرة الاستقامة ، ثم زوّد بالنفس اللوّامة التي تراقب انحرافه بمقياس دقيق ، إنّه لا يقفز ـ مرة واحدة ـ من قمّة الحق إلى حضيض الباطل ، إنّما يهبط إليه عبر سلّم التبرير وتقديم الأعذار ، فإذا بنفسه الأمّارة بالسوء تسوّل له الخطيئة ، تقول له مثلا : أنّى لك النقاء الكامل ، أنت طيّب أكثر من اللازم ، ولا يمكنك أن تعيش من دون ظلم أحد ، كل الناس يظلمون بعضهم .. وهكذا يقدّم الأعذار لانحرافه حتى يبتعد كلّيّا عن طريق الحق ويتسافل إلى الحضيض.

وإذا عرف الإنسان الدور السلبي للأعذار وأنّها غطاء رقيق لارتكاب الجرائم الخطيرة وأنّها لا تعني شيئا ، فإنّ ذلك يساهم في استقامته على الحق.

قال الإمام الصادق (ع) : ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيئا ، أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ والله سبحانه يقول : «الآية» إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية (١) ، وقال (ع) : «ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس خلاف ما يعلم الله منه ، إنّ رسول الله (ص) كان يقول من أسرّ سريرة ردّاه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإنّ شرا فشر» (٢). واختلف في تاء «بصيرة» فقيل أنّها للتأنيث وتعود على الجوارح ، فكأنّ الآية تقول : إنّ جوارح الإنسان على نفسه بصيرة ، وقيل : هي للمبالغة فإنّ العرب تقول : فلانة علّامة ، وفلان علّامة. والذي يبدو لي إضافة إلى ذلك أنّها راجعة إلى النفس ، فنفس الإنسان عليه بصيرة ، ولم أجد من المفسرين من قال ذلك.

وقد اعتمد الفقه الإسلامي هذه البصيرة القرآنية في تحديد بعض التشريعات

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٦.

(٢) المصدر.

١٤٥

والتكاليف ، بإيكال تشخيص موضوعها وحكمها إلى الإنسان نفسه من دون حاجة إلى مراجعة الفقيه أو المختص ، قال زرارة : سألت أبا عبد الله (الإمام الصادق (ع)) : ما حدّ المرض الذي يفطر صاحبه؟ قال : «بل الإنسان على نفسه بصيرة ، هو أعلم بما يطيق (١) ، وفي رواية أخرى : «هو أعلم بنفسه ، ذاك إليه» (٢) ، وقد ذهب بعض الفقهاء في فهمه لهذه الآية إلى حدّ القول : بأنّ كلام المختص ليس حجّة ملزمة دائما ، فلو أمره بالصيام على أساس أنّ المرض لا يضره ولكنّه ارتأى الضرر فله الحق في مخالفته ، والعكس كذلك صحيح.

[١٦ ـ ١٩] لكي تتبلور نظرة الإنسان إلى نفسه ، وتتميّز في وعيه حوافز الخير والصلاح عن شهوات الشر والفساد ، لا بد أن يعي الآخرة وأهوالها ، وينتبه إلى نفسه اللوّامة ، ويستضيء بالقرآن الذي هو حجة ظاهرة فيما العقل حجة باطنة ، وهما يلتقيان في الحق وفي إعطاء الإنسان مقياسا سليما فيه. من هنا ينعطف السياق إلى الحديث عن تبليغ الرسالة داعيا النبي (ص) إلى عدم الاستعجال بالقرآن.

وقد تحيّر المفسرون في العلاقة بين الآيات (١٦ ـ ١٩) وبين السياق العام للسورة ، حتى قاد الجهل بعضهم إلى آراء بعيدة كلّ البعد عن حقيقة الرسالة ، فزعم بأنّ القرآن تعرّض إلى التغيير عن مواضعه ، إذ لا ينبغي أن ترد الآيات المذكورة في مثل سورة القيامة ، وقال آخرون بأنّ الحديث هنا ليس عن القرآن وإنّما هو عن كتاب الإنسان الذي يلقاه يوم القيامة منشورا ، فقال القفال : وأنّ قوله : «الآية ١٦» ليس خطاب مع الرسول (ص) بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله : «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» فكان ذلك للإنسان حالما ينبّأ بقبائح أفعاله ، وذلك بأن يعرض عليه كتابه ، فيقال له : «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ

__________________

(١) المصدر.

(٢) المصدر.

١٤٦

عَلَيْكَ حَسِيباً» فإذا أخذ في القرآن تلجلج لسانه من شدة الخوف ، وسرعة القراءة فيقال له : «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ» فإنّه يجب علينا بحكم الوعد وبحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك ، ونقرأها عليك ، فإذا قرأناه عليك «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» بالإقرار بأنّك فعلت تلك الأفعال (١). ومثل ذلك قال العلّامة البلخي ونصّ كلامه : وإنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة ، يدلّ على ذلك ما قبله وما بعده ، وليس منه شيء يدل على أنّه القرآن ، ولا شيء من أحكام الدنيا (٢).

والذي يبدو لي في الصلة بين الآيات ما سبق من أنّ القرآن ـ إلى جانب يوم القيامة والنفس اللوّامة ـ حجة على الإنسان ومحكمة لعمله ، يكشف للإنسان الحق عند ما يرجع إلى آياته ، ويعرض نفسه عليها ، وينبغي للرسول أن لا يستعجل به بهدف إكمال الحجة على الناس ، بل يجب أن يتبع ما يقضى إليه بشأنه ، فإنّ ذلك يكفي لهداية من يريد الهداية ويبحث عنها ، أمّا الذين لا يريدون تحمل المسؤولية ، ويسعون دائما لإلقاء الاعذار والتبريرات (فلا يخافون يوم القيامة ، ولا يسمعون ملامة أنفسهم) فإنّ الاستعجال بالقرآن وعرضه كله عليهم مرة واحدة لا يغيّر في حياتهم شيئا أبدا ، والسبب أنّ مشكلتهم ليست قلّة الآيات ، بل كونهم لا يريدون الإيمان وتحمل المسؤولية ، فلما ذا العجلة إذا؟

كما أنّ علاج الإنسان المشتمل على كثير من الصفات السلبية ، كالجدل ، وحب الراحة ، والتبرير ، وإرادة الفجور ، ومن ثمّ التكذيب بالقيامة وبما تعنيه من مسئولية في الدنيا ، وبعث وحساب وجزاء في الآخرة ، إنّ علاجه من كلّ هذه الأدواء لا يتم مرة واحدة ، بل لا بد من منهجية تربوية مخططة ومتدرجة ، تنتشله من حضيض الباطل إلى قمّة الحق لتسمو به في آفاق الكمال والهدى. وهذا يقتضي

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٢٢.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٧.

١٤٧

التدرج في طرح الإسلام عليه.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)

قال ابن عباس : كان النبي (ص) إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبّه إيّاه ، وحرصه على أخذه وضبطه مخافة أن ينساه ، فنهاه الله عن ذلك (١) ، وفي الدر المنثور عن مجاهد قال : كان الرسول (ص) يستذكر القرآن مخافة النسيان ، فقيل له : كفيناك يا محمد (٢) ، وعلى هذا الرأي مؤاخذات عدّة :

أوّلها : أنّ نهي الرسول (ص) عن فعل شيء ما لا يعني إتيانه له منذ قبل ، فليس صحيحا أنّه كان يخشى النسيان وهو على يقين بأنّ الله يلهمه القرآن ويثبّته في قلبه ، وقد نهى الله نبينا الأكرم (ص) عن أمور كثيرة من قبيل إطاعة الكفّار والمنافقين فهل نفهم من ذلك أنّه خضع لهم؟ حاشا لحبيب الله. ومن ذلك قوله تعالى : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» (٣).

ثانيها : أنّه تعالى بيّن لنبيه (ص) بأنّه لا ينسى فقال : «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» (٤) ، والزعم بأنّ رسول الله (ص) كان قد خشي النسيان يعني (والعياذ بالله) أنّه شك في وعد الله وكلامه هذا له.

ثالثها : أنّ القرآن يشير بوضوح إلى باعث النبي على التفكير في الاستعجال بالقرآن ، وهو خشيته من أن تحول الظروف دون أن يجمع القرآن ويقرأ على الناس وتبيّن معانيه لهم. أو كان شديد الاهتمام بهداية الناس بالقرآن حتى كاد

__________________

(١) المصدر

(٢) الدر المنثور / ج ٦ ص ٢٨٩.

(٣) الأحزاب / ١.

(٤) الأعلى / ٦.

١٤٨

يهلك نفسه ، حتى قال ربنا سبحانه : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (١).

ويبدو أنّ الذين اخطؤوا في فهم الآية قادهم إلى ذلك التصوير الفنّيّ في تعبير القرآن : «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ» ، والذي هو أسلوب شائع في آياته الكريمة.

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)

أي جمع آياته فلا يضيع شيء منها ، والكلمة تتسع إلى معنى التأليف والنظم ممّا يهدينا إلى أنّه تعالى حفظ القرآن عن التحريف بزيادة أو نقيصة ، وتكفّل هو بتأليف آياته سورا سورا ، فليس ترتيبه على هذه الطريقة التي بين أيدينا من فعل المسلمين ، بل من فعل رسول الله (ص) بأمر الله عزّ وجلّ ، الذي تكفّل إضافة إلى ذلك بقراءته للناس بالكيفية الصحيحة التي يريدها هو أن يقرأ بها كتابه. ولعل في ذلك إشارة إلى بطلان فكرة القراءات السبع ، وأنّها من عند القرّاء أنفسهم ما أنزل الله بها من سلطان. بلى هناك قراءة صحيحة علّمها الله لنبيه فعلّمها بدوره المسلمين.

وقول الله تعالى : «إنّ علينا» لا يعني أنّه بذاته يجمعه ويقرأه ، كلّا .. بل أنّه سبحانه قد هيّأ الأشخاص الذين يقومون بهذا الدور والظروف التي تساعد على تحقّق هذه الغاية ، فلم يتوفّ نبيّه حتى بلغ كامل رسالته وقرأها للناس ، بل وكتبت بأمره مبيّنا ترتيب السور والآيات.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الإمام علي (ع) كان أوّل من كتب كامل القرآن وجمعه في حياة الرسول (ص) وبعده ، وهذا من أهمّ الأدوار الحضارية التي قام بها

__________________

(١) الكهف / ٦.

١٤٩

ـ عليه السلام ـ ، لأنّ اندثار القيم الحضارية لأيّ أمّة يعني نهاية الأمّة ، فقد تنحرف مسيرتها ومسيرة قيادتها لفترة من الزمن فتبقى القيم ضمانة العودة ، أمّا لو خرقت القيم نفسها فلا ضمانة لعودتها .. وهذا ما يجعل تعهّد الله بجمع القرآن وبقرآنه وبيانه ضرورة حكيمة تقتضيها حكمته البالغة باعتبار الإسلام دين الإنسان إلى يوم القيامة ، لا يجوز له أن يبتغي غيره ، فكيف يسمح ربنا اللطيف أن تضيع على البشرية فرصة الهداية بتحريف القرآن؟

(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)

قال في المجمع : أي قرأه جبرئيل عليك بأمرنا «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» أي قراءته ، والمعنى : اقرأه إذا فرغ جبرئيل عن قراءته ، وقيل : أي فاعمل بما فيه من الأحكام والحلال والحرام (١) ، وفي النصوص أنّ القرآن أنزل جملة واحدة على الرسول في ليلة القدر في شهر رمضان ، فكان يأمره الله حسب حكمته بقراءته على الناس في المناسبات المختلفة. وكانت الحكمة الإلهية تفرض على الرسول التحرك في المجتمع على ضوء ما يقضى إليه من الآيات وبقدره ، ليبني المجتمع الإسلامي النقي ، ومن ثمّ الأمة الإسلامية الحنيفة على ضوء آيات الوحي ، ويتمّ ـ بالتالي ـ تثبيت فؤاد النبي وسائر المؤمنين عبر القرآن ، وهكذا لم ينزل القرآن لمجرد قراءته وحفظه ، بل حتى يطبّقه الناس ويتبعوا هداه في الحياة.

وهذا يهدينا إلى أنّ الله يوفّق الإنسان لفهم آيات الذكر بما يتم عليه حجته البالغة ، فإن آمن واتبع هداه نوّر قلبه بالمزيد من المعرفة ، وإن كفر جعل قلبه قاسيا ، وطبع عليه بكفره.

ولعل في ذلك بصيرة يحتاجها كل داعية رسالي ألا وهي ضرورة تحدي انفعالاته

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٩٧.

١٥٠

وردود فعله ، بل يجب أن يتبع خططه الحكيمة ، وينتظر بكلّ خطوة وموقف الإذن والأوان المناسب.

قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : يا مفضّل! إنّ القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة ، والله يقول : «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» ، وقال : «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» ، وقال : «لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» ، قال المفضل : يا مولاي! فهذا تنزيله الذي ذكره الله ، وكيف ظهر الوحي في ثلاث وعشرين سنة؟ قال : نعم يا مفضل! أعطاه القرآن في شهر رمضان ، وكان لا يبلّغه إلّا في وقت استحقاق الخطاب ، ولا يؤدّيه إلّا في وقت أمر أو نهي (١).

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)

إيضاح معانيه ، وبيان حقائقه وتأويلاته ، حتى لا تبقى للإنسان حجة على الله ، ولكي تكون لله الحجة البالغة عليه في الدنيا والاخرة. أمّا كيف يبيّن ربّنا قرآنه الكريم لكافّة الناس فلعل من أسبابه : أنّه يقيّض الدعاة إليه ، والأدلاء عليه ، وأهل البصائر النافذة لتفسيره وبيانه ، ثم أنّ لله حجتين على الإنسان واحدة باطنة هي عقله ، وأخرى ظاهرة هي رسالة الله ورسله ، وهما يلتقيان في وجدان كلّ إنسان سوي ، فما يأمر به القرآن من قيم الصدق والعدل والإحسان يأمر به العقل أيضا ، وهذا من سبل بيان القرآن لأنّه يتطابق ووجدان الإنسان وفطرته وعقله والعرف العام عند العقلاء.

وهناك سبب آخر لبيان القرآن : أنّه يفسّر بعضه بعضا ، فلا تكاد كلمة تذكر

__________________

(١) تفسير البصائر / ج ٥٠ ص ٥٦٩.

١٥١

في سياق إلّا ويفسّرها ذات السياق قبله وبعده ، ببيان مصاديقها وأمثلتها التاريخية وشواهدها الواقعية ، فلا يدع الناس في حيرة من أمرها ، وأبرز مثل لذلك سورة الإخلاص حيث تأتي كلّ كلمة فيها تفسيرا لما سبقتها ، فتفسير «قل» يأتي بما بعده من قوله : «هو الله» ، وتأويل «هو» : «الله» ، وتفسير الصمد هو أنّه لم يلد ولم يولد ، كما أنّ مجملات القرآن في سورة تفسّرها مفصّلاتها في سور أخرى ، وهكذا جعل الله القرآن ميّسرا للذكر بسبل شتى.

[٢٠ ـ ٢٥] ولكن هل يقتنع الإنسان بذلك البيان ويلزم نفسه بالحجج؟

(كَلَّا)

لأنّه يريد أن يفجر أمامه ، ومن ثمّ لا يتبع عقله باعتباره يحدّد سلوكه وأفعاله ، وإنّما يتبع هواه ، وتابع الهوى لا يعرف حدّا ولا قيمة. وعنوان اتباع الهوى هو حبّ الدنيا الذي يترتّب عليه ترك الآخرة.

(بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)

وهذا هو جذر كلّ خطيئة عند الإنسان ، كما بيّن رسول الله (ص) في حديثه المشهور : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة». وقد قال الله : «العاجلة» ولم يقل : (الدنيا) لأنّه يريد الحديث عن صفة عند البشر هي التي تدعوه للهث وراء حطام الدنيا وترك الآخرة ، وهي كونه يحب كلّ مقدّم معجّل ، ويقدّمه على كلّ مؤخّر مؤجّل ، دون النظر إلى المصلحة العامة والأساسية في أيّهما تكون ، فقد يختار دينارا معجّلا على ألف مؤجّلة ، مع أنّه قد لا يجد دليلا ينفي ما في المستقبل.

وعلاج هذه المعضلة البشرية يتم بإيجاد التوازن في وعيه بين الحاضر والمستقبل ، وينتهج القرآن من أجل ذلك نهج التذكرة والتصوير لمشاهد الآخرة ممّا يزيدها

١٥٢

حضورا في وعيه ، وهذا ما نقرأه في الآيات التالية.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ)

والكلمة تتسع لجميع معاني الحسن والجمال والبشر التي تعبّر عن نفس مطمئنة راضية تفيض سرورا وأملا برحمة الله. قال في المنجد : نضر الوجه نعم وحسن وكان جميلا ، فهو ناضر ونضر ونضير ، والنضر جمع نضار ، وأنضر : الذهب والفضة ، يقال : «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» أي بريقه ورونقه (١). ووجوه المؤمنين يوم القيامة ناضرة فرحا وسرورا بلقاء ربهم ، ورضوانه ، وجزائه الحسن ، وغاية ذلك نظرهم إلى ربهم حيث يعرفون من أسماء ربهم الحسنى ، ويرون من آيات بهائه وجلاله ، وينتظرون من آلائه ونعمائه ما يجعلهم في بحبوحة الرجاء ، وعنفوان الرضا ، ومهرجان الحبّ والقرب ، وشلّال لا ينقطع من نور الله البهي.

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)

قال العلّامة الطبرسي : اختلف فيه على وجهين :

الأول : أنّ معناه نظر العين ، واختلف من حمله على نظر العين على قولين :

أحدهما : أنّ المراد إلى ثواب ربها «ناظرة» أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالا بعد حال فيزداد بذلك سرورها.

الآخر : أنّ النظر بمعنى الرؤية ، والمعنى تنظر إلى الله معاينة ، رووا ذلك عن الكلبي ومقاتل وعطاء وغيرهم ، وعموم رأي أهل السنة ، (وردّ على هذا الرأي فقال :) وهذا لا يجوز ، لأنّ كلّ منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة واللحاظ ،

__________________

(١) المنجد / مادة نضر.

١٥٣

والله يتعالى عن أن يشار إليه بالعين ، كما يجلّ سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع.

الثاني : أنّه الانتظار ، واختلف من حمله على هذا المحمل على أقوال :

ألف : أنّ المعنى منتظرة إلى ثواب ربها ، وروي ذلك عن مجاهد والحسن وسعيد بين جبير والضحّاك وهو المروي عن علي (ع) ، وساق ما قاله شيخ الطائفة من الردّ على من اعترض على إمكان تعدّي النظر بإلى.

باء : أنّ معناه مؤمّلة لتجديد الكرامة ، كما يقال : عيني ممدودة إلى الله تعالى ، وإلى فلان ، وأنا شاخص الطرف إلى فلان.

جيم : المعنى أنّهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن كلّ شيء سوى الله تعالى (١). وما يبدو لي أنّ النظر هنا بكلا المعنيين المجازي والحقيقي ، فأمّا المجازي فإنّ المؤمنين يوم القيامة يتأمّلون من ربهم الثواب والكرامة ، ويقطعون أملهم إلّا منه ، و.. و.. وأمّا الحقيقي فإنّهم ينظرون إلى ربهم ببصائرهم لا أبصارهم من خلال آياته ونوره الذي يتجلّى لهم إكراما منه تعالى لعباده المتقين.

أمّا النظر إلى ذات الله فهو مستحيل ، والقول بذلك يستدعي التجسيد ، وهو من الثقافة الشركية التي تسربّت إلى بعض المسلمين من الثقافات الدخيلة.

وكيف يجوز النظر إلى الله والعين لا تستوعب بعض آياته؟ هل نظرت إلى عين الشمس لحظات؟ هل تفكّر في أن تحدق في الشمس من قرب أو لا تحترق عينك؟ والشمس آية صغيرة متناهية في الصغر إذا قيست بأنوار قدس الرب! لقد تجلّى الله للجبل فجعله دكّا ، فكيف يتحمّل هذا البشر الضعيف تجلّيات الرب إلّا بقدر ما

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٨ مع تصرف ترتيبا وتنقيطا واختصارا.

١٥٤

يشاء الله سبحانه وتعالى عن وصف الواصفين.

جاء في الحديث عن صفوان عن ابن حميد قال : ذاكرت أبا عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) فيما يروون من الرؤية (لذات الله عزّ وجلّ) فقال : «الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور السر ، فإن كانوا صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب!!» (١).

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ)

وهي وجوه المجرمين حيث القيامة موعدهم مع الفضيحة والعذاب والذل ، وبسور وجوههم يحكي باطن نفوسهم المنطوية على اليأس والتشاؤم والخوف ممّا ستلاقيه.

(تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)

قال في المنجد : الفاقرة جمعها فواقر : الداهية الشديدة ، فكأنّها تكسر فقر الظهر ، والفقرة : الأمر العظيم (٢) ، وإنّ المجرمين يوم القيامة ليساورهم هاجس ورعب ينتظرهم من الدواهي ، وهذا الهاجس يعدّ عذابا عظيما بذاته.

[٢٦ ـ ٣٠] تلك هي حقائق يوم القيامة التي يجب على الإنسان أن يتذكرها دائما ، باعتبار الإيمان بها يجعله متوازنا في التفكير ، ويسوقه نحو التسليم للحق والعمل به ، ولكنّ الحجب تحول بينه وبين الإيمان بذلك المستقبل فيكذّب به ، ولكن هل

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٤ ص ٤٤.

(٢) المنجد / مادة فقر.

١٥٥

يغيّر تكذيبه من الحقائق شيئا؟ كلّا .. فليكذّب بالموت فهل يمكنه أن يلغيه ، أو يجد مفرّا من ملاقه؟ بالطبع كلا .. فحركته نحونا وحركتنا نحوه سنّة حتمية ، وكذلك بالنسبة لمواقف القيامة. وعند ما يواجه الإنسان المحنة الفاقرة في الدنيا تتساقط الحجب من عينيه فيرى الحقائق بوضوح ويعترف بها بصراحة ، ويندم حتى الأعماق على ما كذّب به ، ولا محنة أعظم من الموت ، ولا ساعة أشدّ على الإنسان في الدنيا من ساعة السكرات.

(كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)

وهي عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين (١) ، وقال صاحب المجمع : التراقي جمع الترقوة ، وهو مقدّم الحلق من أعلى الصدر ، تترقّى إليه النفس عند الموت ، وهناك تقع الحشرجة (٢) ، ويقال : بلغت الروح التراقي كناية عن صعودها وقرب خروجها من البدن ومفارقتها له ، ولعلّها حقيقة يعانيها الميت عند سكرات الموت.

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ)

أي وقال أهله : من راق؟ أي طبيب شاف يرقيه ويداويه ، وقيل : تختصم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يرقى بروحه (٣) ، وبه قال الرازي والزمخشري وصاحب تفسير فتح القدير. ولعل المعنى من الرقية (الأدعية والتعويذات التي تكتب في قرطاس للتشافي بها) وكأنّ المعنى أنّ أهله أو هو نفسه يسألون عمّن يكتب له ذلك طمعا في الشفاء.

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٣٠.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٠٠.

(٣) المصدر / ص ٤٠١.

١٥٦

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ)

ظن يقين يصل إلى حدّ التصور وشبه الرؤية ، فإنّه حينئذ يعاين حقيقة الموت والآخرة فإذا به يقبض يدا ويبسط أخرى ، وهكذا يعالج سكرات الموت بروحه وحركاته اليائسة.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ)

عن قتادة : هما ساقاه عند النزع ، أما رأيته كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى؟ وقال الحسن : هما ساقاه إذا التفّتا في الكفن ، وقيل : إذا مات يبست ساقاه والتصقت إحداهما بالأخرى (١) ، وعن الشعبي وأبي مالك : لأنّه يذهب بالقوة فيصير كجلدة يلتفّ بعضها ببعض ، وقيل : يضطرب فلا يزل يمدّ إحدى رجليه ويرسل الأخرى. ولعلّ الآية كناية عن الشدائد والصعاب التي يواجهها الإنسان عند الموت ، وقد وجدت إشارة إلى هذا المعنى في تفسير القرطبي قال : أي فاتصلت الشدة بالشدة ، شدة آخر الدنيا بشدة أوّل الآخرة ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما .. وقال الضحاك : اجتمع عليه أمران شديدان .. والعرب لا تذكر الساق إلّا في المحن والشدائد العظام ، ومنه قولهم : قامت الدنيا على ساق ، وقامت الحرب على ساق (٢).

وحينما يفارق الإنسان هذه الدنيا بما فيها ومن فيها فإنّه لا يصير إلى العدم ، وإنّما ينتقل من فراقها إلى لقاء عظيم بربه.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٣٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن / ج ١٩ ص ١١٢.

١٥٧

قيل : يعني إليه المنتهى أو غاية سوق الملائكة لكلّ نفس ، وهو صحيح ، ولكن يبدو لي أنّ «المساق» هنا يعني المصير ، حيث أنّ الأنفس بعد الحساب تسوقها الملائكة إلى مأواها ومصيرها ، فامّا تسوق الإنسان ملائكة الرحمة إلى الجنة ، وامّا تسوقه ملائكة العذاب إلى النار ، وإلى الله وحده وبيده الأمر بكلا المساقين ، فما أحوجه إلى معرفة هذه الحقيقة والإيمان بها ، فإنّ ذلك يبعث فيه روح التسليم إليه والسعي إلى القرب منه.

[٣١ ـ ٣٥] وحين لا يؤمن الإنسان بلقاء ربه ينحرف عن الصراط المستقيم ويترك الواجبات التي عليه.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى* وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)

قيل : لا صدّق بما له ذخرا عند الله ، ولا صلّى الصلوات التي أمره الله بها (١) ، والأصح حمل التصديق هنا على معناه الأصلي ، وهو تصديق الإيمان بالعمل والباطن بالظاهر والعكس ، وهذا الفهم يجعل الكلمة تتسع لكثير من المفردات والمصاديق ومن بينها الإنفاق. كما أنّ الصلاة رمز الصلة والقرب مع الخالق ورمز التواصل مع الخلق ، وهكذا الآيتان تفسّران بعضهما ، فالتكذيب نقيض التصديق ، والتولي نقيض التواصل ، والمكذّب بالحق يرتكب ذنبين : أحدهما عدم التصديق والصلاة ، والآخر التكذيب والتولي ، وابتعاد الإنسان عن الحق ليس يقطع علاقته بالله وبرسوله فقط ، وإنّما يفسد علاقته بالناس أيضا ، فهو يركب مطية الغرور والتكبر بينهم.

(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى)

__________________

(١) المصدر / ص ١١٣.

١٥٨

أصل التمطّي تمدّد البدن من الكسل ، وهو من لوى مطاه أي ظهره. قالوا : إنّه إشارة إلى التبختر على نهج القرآن في ذكر الصفات بالتصوير الظاهر. ولعلّه أعمّ من ذلك حيث يدل على حالة اللامسؤولية والإشتغال باللهو واللعب عن الجد والاجتهاد.

ثم يتوعد الله من تكون صفاته التي مرّ ذكرها بالعذاب بعد العذاب فيقول :

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)

قال عبد العظيم بن عبد الله الحسني : سألت محمد بن علي الرضا (ع) عن قول الله عزّ وجلّ : «الآيتين» قال : «يقول الله عزّ وجلّ : بعدا لك من خير الدنيا ، وبعدا لك من خير الآخرة» (١).

وأصل الكلمة وعيد وتهديد ، ومعناه : أنّ المكروه يقترب منك وأنت صاحبه وجاءت الرواية : أنّ رسول الله (ص) أخذ بيد أبي جهل ثم قال له : «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» فقال أبو جهل : بأيّ شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا ، وإنّي لأعزّ أهل الوادي ، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله ، وقال القرطبي : وقيل : معناه الويل لك.

[٣٦ ـ ٤٠] ويستنكر القرآن على الإنسان شذوذه عن الحق وكفره به؟

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً)

كلّ شيء في حياة الإنسان يهديه إلى إحاطة تدبير الله به ، وشمول رعايته

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٦٦.

١٥٩

لحياته ، وإلّا لأعدمت أو تحوّلت جحيما لا يطاق ، وأبرز ذلك خلقته : كيف حملته يد اللطف من صلب أبيه حيث كان حيوانا منويّا لا يرى إلى رحم أمه ، وأجرى له من الطعام والشراب ، وضمن له من السلامة والأمن حتى أصبح علقة ، ثم رعاه وحماه وربّاه حتى جعله خلقا سويّا .. فهل يعقل أن يترك في المستقبل سدى وهو لم يترك كذلك سلفا ، بل لا شيء في كيانه ترك بلا هدف أو غاية؟

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)

وكما أنّ هذه المراحل حتمية بالنسبة للإنسان فإنّ الآخرة هي الأخرى حتمية ، والفكرة هذه تفسّر ربط القرآن الدائم بين الحديث عن الآخرة والحديث عن مراحل خلقة الإنسان وأطواره ، التي يهتدي المتدبر فيها إلى معرفة ربه حيث هي آيات لطفه وحكمته وقدرته. وبعد تفكّر البشر في نفسه وخلقه يجب أن يطرح على نفسه هذا السؤال الحاسم

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)

ولن يجد أحدنا جوابا لهذا السؤال إلّا أن يقول : بلى. وحينئذ سيؤمن بيوم القيامة وحقائق الآخرة ، لأنّ الشك في فكرة الآخرة منبعث من الجهل بقدرة الله النافذة التي لا تحدّ.

١٦٠