من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

وغلبتهم (١) ، وقال الرازي وهو بعيد : إنّه إنكار ـ بعد أن جعلها ذكرى ـ أن تكون لهم ذكرى لأنّهم لا يتذكرون (٢) ، ومثله الزمخشري في الكشّاف. ووجه استبعاد هذا الرأي أنّ نفي الذكرى بعد إثباتها بقوله : «وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» يحتاج إلى تبعيض وتخصيص يفرد الكفّار ومرضى القلوب عن عموم البشر ، ولا دليل عليه. والأفضل أن نقول : إنّ كلمة «كلّا» تأتي لردع الإنسان عن الجهل والغفلة وعن مجمل الأفكار الباطلة التي كان أولئك يؤمنون بها ، لأنّها تأتي في سياق الجدال مع الخصم فيتأوّل ـ عند السامع ـ إلى نفي أفكاره.

وقسم الله بهذا الكوكب كقسمه بأيّ شيء آخر يعطيه أهمية وشأنا في وعي الإنسان المؤمن بالذات ، ونحن على ضوء هذه الإشارة الإلهية القرآنية ينبغي أن نتحرك لفتح آفاق من المعرفة بهذا الكوكب وأهميته ، وعلاقة القسم به بما يريد بيانه القرآن في هذه الآية وسياقها.

إنّ القمر وهكذا الليل بإدباره والصبح عند تنفّسه كلّ هذه الظواهر الكونية تهدينا عند التفكر فيها إلى عظمة الرسالة ، وأنّها فعلا لإحدى الكبر ، وأنّ أباطيل الكفّار ليست صحيحة أبدا. ولعلّ القسم بالقمر جاء للأغراض التالية : أنّ الحقيقة ـ وجزء منها رسالة الله ـ قضية واقعية لا تنتفي بمجرد إنكارها ، كما أنّ القمر والحقائق الأخرى لا تنمحي من واقع الوجود بإنكار البعض لها.

وهكذا تبقى الرسالة كالقمر المنير تفرض نفسها على ظلام الكفر أنّى حاولوا إنكارها. إنّها رسالة عظيمة لو وعوا حقيقتها لتذكّروا بها ، وعرفوا كم هي إنذار شديد وعظيم للبشر.

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩١.

(٢) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٠٨.

١٠١

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ)

قال أكثر المفسرين أنّ «أدبر» بمعنى ولّى وذهب ، أي قسما بالليل إذ سحب ذيوله مؤذنا بطلوع الفجر. وفي التفسير الكبير قال قطرب : إذا أقبل بعد مضيّ النهار (١) ، على أساس أنّه يقع في دبر النهار ويحلّ ظلامه على خطى رحيله الأخيرة ، وهذا رأي بعيد ، وقد عجز البعض عن إدراك وقع «إذ» في هذه الآية ودورها في أداء المعنى ، فافترض ما يشاء ، واعترض على قول الله سبحانه. قال القرطبي بعد بيان الاختلاف في القراءات والمصاحف : واختار أبو عبيد إذا أدبر (وليس إذ) قال : لأنّها أكثر موافقة للحروف التي تليه ، أتراه يقول : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) ، فكيف يكون أحدهما «إذ» والآخر «إذا»؟ وليس في القرآن قسم تعقبه «إذ» وإنما يتعقّبه «إذا» (٢) ويبدو لي أن «إذ» هنا ظرفية لا شرطية كما في «إذا أسفر» ، فيكون المعنى أنّه تعالى يقسم باللحظة المباشرة لجمع الليل فلول ظلامه ، وكأنّه يريدنا أن نعيش ظاهرة إدبار الليل وبزوغ الفجر.

(وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ)

أي أضاء وانبلج نوره ، لأنّ الصبح له مراحل يتدرج عبرها ويتضح شيئا فشيئا ، حتى تطلع الشمس فتطرد كلّ فلول الظلام ، وتكشف للناظر عن وجه الطبيعة من حوله ، وفي اللغة : سفرت المرأة سفورا كشفت عن وجهها فهي سافر ، وأسفر مقدّم رأسه : انحسر عنه الشعر ، وانسفر الغيم تفرّق (٣) فأبدى وجه السماء ، ويقال للصبح أسفر لأنّه حينما يتشعشع نوره يكشف عن نفسه وعن الطبيعة بكلّ وضوح. وربّنا يقسم به في مرحلة الإسفار وليس في أيّ مرحلة أخرى من مراحله ،

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٠٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٩ ص ٨٤.

(٣) المنجد مادة سفر.

١٠٢

لتعلّق شرط «إذا» بها بالذات.

وحينما يلتفت الإنسان ببصره إلى هذه الظواهر الكونية الثلاث ، ويتفكّر فيها بعقله ، فإنّه يجدها آيات هادية إلى حقيقة التوحيد والربوبية العظمى ، وإلى ذات الحقيقة بتفاصيلها تهديه آيات القرآن ، وحديثه عن سقر وملائكتها وتذكّره بها ، ممّا يؤكّد أنّ الذي خلق هذا الكون هو الذي أنزل ذلك التشريع ، وأنّه إذا كانت هذه الظواهر وأمثالها كبيرة في نفس الإنسان وعظيمة فإنّ القرآن والآخرة واحدة من أعظم الحقائق المنذرة.

(إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ)

قال القرطبي : روي عن ابن عباس «إنّها» أي إنّ تكذيبهم بمحمد (ص) «لَإِحْدَى الْكُبَرِ» أي لكبيرة من الكبائر (١) ، وليس في السياق ما يؤيّد هذا الرأي ، بالذات إذا وصلنا الآية بما يليها ، وقيل : إنّ قيام الساعة لإحدى الكبر (٢) ، وهذا صحيح مسلّم به إلّا أنّه لا دليل عليه لا في النص ولا في السياق ، وقيل : يعني سقر ، وفيه وجه لأنّها واحدة من أعظم شعب النار ، وأكبر النذر للناس ، وقد ذكرت وقيل : آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد (٣) ، وهو أقرب الآراء والمصاديق إلى الآية. كما أوّلها أئمة الهدى في الولاية ، عن أبي الحسن الماضي قال : «الولاية» (٤) باعتبارها سنام الإسلام ، وواحدة من أكبر أركانه وأهمها ، وعن الباقر (ع) قال : «يعني فاطمة عليها السلام» (٥) لأنّ ولاءها وحبّها جزء من تولّي

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٩ ص ٨٥.

(٢) المصدر.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٣١.

(٤) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٥٨.

(٥) تفسير القمّي ج ٢ ص ٢٩٦.

١٠٣

الله ورسوله وحبهما بإجماع كل المذاهب الإسلامية التي تواترت أحاديث فضلها في كتبهم. ثم يقول الله :

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ)

عن كلّ ضلال وتقصير وذنب ، وإنّما يتمّ الإنذار ببيان العواقب السيئة لكلّ ذلك ، وبيان طريقة تجنّبها. وقد اختلف في من هو النذير إلى أقوال أقربها ثلاثة : أحدها : أنّه النار التي ما جعل الله أصحابها إلّا ملائكة ، والثاني : أنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، والثالث : وهو أقربها جميعا : أنّه القرآن باعتباره المنذر الأعظم والثقل الأكبر على مرّ الدهور والأجيال.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)

فالرسالة الإلهية إذا لا جبر فيها لأحد على اختيار طريقها ، بل الناس بالخيار بين الإيمان والكفر ، والتقدّم والتأخر ، وعلى هذا الأساس يجب على كلّ مصلح ممارسة التغيير والإنذار في مجتمعة وأمّته. هذا واحد من معاني الآية وهناك تفاسير خرى :

الأول : فمن شاء أن يتقدم في الإيمان بالرسالة فيكون من السابقين أو يتأخّر فيكون من اللّاحقين فإنّ القرآن نذير له.

الثاني : أنّ «سقر» نذير وجزاء لكلّ من تقدّم إلى أئمة الهدى ونهجهم فأمن أو تأخّر فكفر بهم لا فرق.

وعن أبي الفضيل عن أبي الحسن (ع) قال : «كلّ من تقدّم إلى ولايتنا تأخّر

١٠٤

عن سقر ، وكلّ من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر» (١) ، وإلى قريب من هذا المعنى أشار ابن عباس بقوله : من شاء اتبع طاعة الله ، ومن شاء تأخّر عنها (٢) ، وقال العلّامة الطبرسي : وقيل أنّه سبحانه عبّر عن الإيمان والطاعة بالتقدّم لأنّ صاحبه متقدّم في العقول والدرجات ، وعن الكفر والمعصية بالتأخّر لأنّه متأخّر في العقول والدرجات (٣).

الثالث : التقدم والتأخر الحضاريين في الدنيا ، والتقدم والتأخر في الدرجات في الآخرة ، فإنّهما مرهونان بموقف الإنسان (فردا ومجتمعا وأمّة وبشرية) من كتاب الله وذكراه للبشرية ، فإن استمعت للنذر واتبعت الآيات وصلت إلى السعادة في الدّارين وتقدّمت مسيرتها ، وإلّا صارت إلى الشقاء والتخلف وواقع المسلمين في التاريخ والآن خير دليل على هذه الحقيقة ، فهم لمّا اتبعوا القرآن سعدوا وتقدموا وقادوا ركب الحضارة البشرية ، ولكنّهم الآن حيث هجروه تورّطوا في أنواع المشاكل والبلاء ، وصدق رسول الله (ص) حينما قال : «القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الأحزان ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم (قال الإمام الصادق عليه السلام) فهذه صفة رسول الله للقرآن وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النّار» (٤).

[٣٨] ومع أنّنا نقول بأنّ للرسالة الإلهية دورا أساسيا في تقدم البشرية أو تخلّفها ولكن بشرط أن يسعى الإنسان جاهدا في العمل بها.

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩١.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٨٥.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٠.

(٤) موسوعة بحار الأنوار ج ٩٢ ص ٢٦.

١٠٥

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)

وتأكيد القرآن على هذه الحقيقة في كثير من المواضيع وبصيغ مختلفة ينطلق من كونها بصيرة أساسية يجب على الإنسان وعيها في حياته ، إذ هي روح المسؤولية ، والدافع الحقيقي لتحمّلها .. فمتى ما آمن أحد بالعلاقة بين واقعه وبين سعيه ومستقبله وبين سعيه في الحياة تحمّل مسئوليته بتمامها. ومن الآية الكريمة نهتدي إلى البصائر التالية :

ألف : أنّ فكرة الجبر فكرة خاطئة ، فإنّ الله قد جعل مصير البشر بأيديهم ولم يشأ أن يحتّم عليهم مصائرهم ، بل إنّهم هم الذين يرتهنون أنفسهم في النار بسعيهم السيء كالمجرمين أو يفكّون أسرهم ويصيرون إلى الجنة بأعمالهم كأصحاب اليمين ، وهذا من أبرز مظاهر العدالة والحكمة الإلهية. قال الامام الصادق (ع) يعظ واحدا من أصحابه : «اقصر نفسك عما يضرها قبل أن تفارقك ، واسع في فكاكها كما تسعى في معيشتك ، فإنّ نفسك رهينة بعملك» (١)

باء : أنّ هذه القاعدة جارية على كلّ نفس بدون استثناء أو تمييز بين أبيض وأسود ، أو ذكر وأنثى ، أو عربي وأعجمي ، فلا قيمة أسمى من العمل الصالح. هكذا يشرّع الله لعباده ، وذلك يعني أنّ كلّ الفلسفات الضيقة العنصرية والعرقية والقومية و.. و.. مرفوضة.

جيم : أنّ أغلب المآسي التي تصيب النفس وتصبح رهينة لها هي من كسبها وسعيها ، كما قال ربنا سبحانه : «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» (٢) ، فالحوادث إنّما نذوق طعمها لقلّة انتباهنا وضعف وعينا بأمور الحياة

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٥٨.

(٢) الشورى ٣٠.

١٠٦

وقوانينها ، والأمراض إنّما تتسلّل إلى أجسادنا لعدم اهتمامنا والقواعد الصحّيّة ، والتخلّف والتمزّق وسيطرة الطغاة والظالمين ، وحتى الزلازل والانهيارات وسائر الكوارث الطبيعية .. إنّها جميعا من عند الإنسان نفسه ، وهكذا الجزاء الأخروي ، فإنّ أصحاب النار هم المسؤولون عن تورّطهم فيها لما أقدموا عليه من الجرائم والسيئات ، كما أنّهم كانوا قادرين قبل انقضاء فرصة العمر على افتداء أنفسهم وفك أسرها بعمل الصالحات ، كأصحاب اليمين الذين يمتازون عن سائر الناس بذلك.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ)

قال الإمام الباقر (ع) : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وكلّ من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون» (١) ، وفي الكشّاف : وعن علي (ع) أنّه فسّر أصحاب اليمين بالأطفال ، لأنّهم لا أعمال لهم يرتهنون بها (٢) ، ورجّحه الرازي في تفسيره ، وليست هذه إلّا مصاديق لحقيقة واحدة ، فالأصل من اليمن نقيض الشؤم ، كما مرّ علينا في سورة الواقعة عند قول تعالى : «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» (٣) ، وإرجاع التعبير إلى أصله يجعله يتسع لمصاديق أخرى كثيرة. وقد استثنى ربّنا أصحاب اليمين باعتبارهم من دون كلّ الناس ليسوا رهائن لأنّ كسبهم وسعيهم محمود ، بل هم في نعيم واسع مقيم.

(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ)

والسؤال ما هي أهمية التساؤل عن المجرمين بالنسبة لأصحاب الجنة؟

أولا : لإنّ ذلك يزيد المؤمنين لذّة بالنعم مادية ومعنوية ، فكما أنّ تحسس الغني

__________________

(١) تفسير البصائر ج ٥٠ ص ٤٣٢.

(٢) الكشّاف ج ٤ ص ٦٥٥.

(٣) الواقعة ٨ / ٩.

١٠٧

لأوضاع الفقراء يزيده شعورا بفضل الله عليه فإنّ أصحاب اليمين تزداد لذّتهم بنعم الجنة ونعمة الهداية حينما يطّلعون على نقيضهم.

ثانيا : هذا الحوار المستقبلي نافع للمؤمنين في الدنيا ، لأنّه يكشف لهم عن مكامن الخطر ، ومعالم طريق النار ، مّما يمكّنهم من تجنّب الأخطاء والمزالق ، فإنّ المعرفة بها لا تقلّ أهمية عن المعرفة بالصواب والحق. والذي يسعى لبناء شخصية إيمانية في نفسه ينبغي له أن يعرف صفات أهل النار ليتجنّبها.

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)

أيّ شيء (عمل ومنهج) قادكم إلى النار؟

وإجابتهم تبيّن معالم الشخصية المجرمة من جهة ، وتؤكّد عمليا ارتهان كلّ نفس بكسبها من جهة أخرى ، فما هي الأسباب التي أدّت بهم إلى الجريمة ومن ثمّ إلى عذاب سقر؟

أولا : تركهم الصلاة.

(قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)

والآية تشمل التاركين للصلاة من الأساس كالكفّار والممسوخين من المسلمين ، كما تشمل أولئك الذين يمارسون طقوس العبادة ولكنّهم لا يلتزمون بقيمها وأهدافها ، وهم الذين قال عنهم ربّنا : «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» (١) ، فإنّهم عند الله ليسوا من عداد المصلين ، لأنّ تارك الصلاة إنّما يصبح مجرما لأنّه ترك أعظم دافع نحو الخير وأفضل رادع عن الشر وهو الصلاة ،

__________________

(١) الماعون ٤ / ٥.

١٠٨

قال تعالى : «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (١) وذلك أنّها عمود الدين ، وروح الإيمان ، وصلة التقرب بالله.

قال الإمام علي (ع) يعظ محمد بن أبي بكر : «واعلم يا محمد أنّ كلّ شيء تبع لصلاتك ، وأعلم أنّ من ضيّع الصلاة فهو لغيرها أضيع» (٢) ، وقال رسول الله (ص) : «لا يزال الشيطان يرعب من بني آدم ما حافظ على الصلوات الخمس ، فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه وأوقعه في العظائم» (٣).

وقد أعطى أئمة الهدى بعدا سياسيا واجتماعيا لهذه الآية ، من خلال تفسير ترك الصلاة في ترك الانتماء إلى حزب الله ورفض القيادة الرسالية ، قال إدريس بن عبد الله سألته ـ يعني الإمام الصادق (ع) ـ عن تفسير هذه الآية ، قال : «أي لم نك من أتباع الأئمة عليهم السلام» (٤) ، وقال : «أما ترى الناس يسمّون الذي يلي السابق في الحلبة المصلي؟! أعني حيث قال : الآية» لم نك من أتباع السابقين (٥) ، وهذا واضح في نصّ الآية الكريمة عند قوله : «من المصلين» .. فالمصلون إذا خط وحزب وقيادة ، وعدم الانتماء إليهم يستوجب عذاب سقر .. ومن هذه الفكرة نهتدي إلى أنّ التفرّج على الصراع بين الحق والباطل في المجتمع دون الانتماء إلى فريق الحق مسألة مرفوضة في الإسلام.

ومع أنّ الكفار والمشركين كافرون بأصول الدين إلّا أنّ الله يشير إلى كفرهم بالصلاة وهي فرع من فروع الدين كواحدة من الكبائر. لما ذا؟! لأنّها عمود

__________________

(١) العنكبوت / ٤٥.

(٢) موسوعة بحار الأنوار ج ٨٣ ص ٢٤.

(٣) المصدر ج ٨٣ ص ٢٠٢.

(٤) البرهان ج ٤ ص ٤٠٤.

(٥) المصدر.

١٠٩

الدين ، ولأنّ الكفّار يحاسبون على الفروع أيضا ، فالقانون واحد لا فرق فيه بين المؤمنين والكفار.

ثانيا : عدم إطعام المسكين.

(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)

والمسكين أشدّ حاجة من الفقير ، لأنّه الذي يسكنه الفقر ولا يملك قوت يومه ، ومساعدة هذه الطبقة من الناس واجب شرعي إنساني اجتماعي يفرضه الإسلام كما يفرضه العقل والعرف ، فحينما يصل العوز بفرد من الأفراد إلى حدّ الضروريات الأوليّة كالطعام اللازم للحياة فإنّ المجتمع مسئول أمام الله عن رفع حاجته بأيّة طريقة ممكنة.

وقد عكس الإسلام هذا المبدأ في نظامه الاقتصادي وتشريعاته الجنائية والقضائية ، بحيث رفع حدّ السرقة عمّن تدفعه إليها الحاجة الضرورية وقد تخلّف مجتمعة عن أداء مسئوليته تجاهه. واعتبر دراسة الأحوال الشخصية والظروف الاجتماعية والاقتصادية جزء من نظامه القضائي في المجتمع. وتأخذنا الآية الكريمة حينما نتدبّرها ضمن سياقها (صفات المجرمين) إلى أبعد من ذلك حينما تعتبر الإنسان الذي لا يتحمل مسئولية الفقراء والمساكين (فردا ومجتمعا) هو مجرما أيضا ، لأنّ اندفاع المسكين إلى ممارسة السرقة والفساد تحت مسّ الجوع والحاجة ليس بأعظم جريمة من جريمة عدم إسعافه من قبل ذوي الاستطاعة.

إنّ موقف الإسلام الحازم والواضح من مساعدة المساكين والمحرومين جزء من نهجه الأقوم لعلاج مشكلة الظلم والطبقية ، وقد ربط القرآن بين العاقبة (سلوك سقر) وبين الأسباب (الآيات ٤٣) لبيان أنّ عذاب سقر ليس إلّا سلوكيات

١١٠

وأخلاق تتجسّد في الآخرة. ولتقريب الفكرة نقول : لو افترضنا (سقرا) سجنا ذا أربعة جدران من نار فإنّ كلّ واحدة من صفات المجرمين الأربع تمثّل واحدا منها.

ثالثا : الاسترسال مع التيّار.

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ)

قال قتادة : معناه كلّما غوى غاو للدخول في الباطل غوينا معه ، أي كنّا نلوّث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض ، فلمّا كان هؤلاء يخرجون مع من يكذّب بالحق مشيّعين لهم في القول كانوا خائضين معهم (١) ومثّل لذلك ابن زيد فقال : نخوض مع الخائضين في أمر محمد (ص) وهو قولهم : كاذب ، مجنون ، ساحر .. (٢).

الاستقلال من أهمّ أهداف الإنسان في الحياة ، باعتباره محتوى التوحيد ، وجوهر العبودية لله ، ولباب حرية الإنسان .. من هنا كان الخوض مع الخائضين والاسترسال مع التيّار الغالب أنّى اتجه كان ذلك جرما عظيما يرتكبه الإنسان في حقّ نفسه ، وهو يعتبر كذلك من مصاديق الشرك بالله ، الذي يستوجب عند الله أشدّ العذاب ، لأنّه عامل رئيسي من عوامل خطأ الإنسان وانحرافه وضلاله (٣).

وقد جاءت رسالات الله تهدي الإنسان إلى ذاته ، ومعرفة كرامته عند الله ، وآفاق عالمه الكبير ، بينما الشيطان ، وأولياؤه يريدون تضليل الإنسان عن نفسه ، وتجهيله بقيمتها وكرامتها ودورها المرسوم في انتخاب الخير ومحاربة الشر ، ومن هنا

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٨٦.

(٢) فتح القدير ج ٥ ص ٣٣٣.

(٣) لقد بيّنا دور حسّ التوافق الاجتماعي السلبي في كتابنا المنطق الإسلامي أصوله ومناهجه ص ٢١٩ / ٢٤٠.

١١١

نجد الطغاة والمترفين اليوم قد تسلّحوا بأجهزة إعلامية فائقة الكفاءة من أجل سلب الإختيار من الإنسان الفرد ، وقولبة شخصيته ضمن القنوات التي يختارونها له ، وتلقّي المواقف والأفكار الجاهزة من خلال وسائل السلطة. ولقد استطاعت الأنظمة الاستكبارية في الغرب ربط شعوبها بوسائلها الإعلامية بالخصوص في القضايا السياسية ، فهي تخوض حينما خاضت حكوماتها وأحزابها. والشاشة الصغيرة وشبكات الصحف الكبيرة أصبحت اليوم آلهة تعبد من دون الله ، وتفرض آراءها على الناس في شتّى الأمور. وحتى اختيار لون فستان زوجته ، وتسريحة شعرها ، وطبيعة العلاقة معها ، يستمده الإنسان الغربي من وسائل الدعاية والاعلام لا من اختيار حرّ مستقل.

أمّا كيف يؤدّي حس التوافق إلى الجريمة؟ فالأمر واضح جدا ، إذ أنّ الفرد الذي فقد الاستقلال سوف يشارك مجتمعة في أخطائه حينما يتجه مركبه صوب الجريمة والضلال ، فإذا فسد أخلاقيّا فسد معه ، وإذا شنّ حربا ظالمة على الآخرين خاض في دمائهم كما يخوضون ، وإذا جلس مجالس الغيبة والبهتان والنميمة أدلى بدلوه في لهو الحديث ولغوه دون أن يملك شجاعة المعارضة.

رابعا : التكذيب بالآخرة.

(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ)

واليقين هنا بمعنى العلم ، وقد فسّرت الكلمة بالموت لأنّ الإنسان حينما يموت يرتفع عن بصره كلّ حجاب ، فيرى الآخرة والجزاء وكلّ الحقائق التي ذكّرت بها رسالات الله عين اليقين. وفي الآيتين إشارة إلى أنّ فرصة النجاة قائمة ما دام حيّا ، فلو وقع في خط الباطل والاجرام ثمّ تاب وأصلح قبل الموت نفعه ذلك وإلّا فلا. وحيث لا يعلم الإنسان موعده مع الموت ولقاء ربه وجزائه فإنّه ينبغي له ملازمة

١١٢

الطاعة والعمل الصالح بلا انقطاع ، فلعلّه وقد فكّر في المعصية وواقعها وافاه الأجل فصار إلى سوء العاقبة. هكذا أوصى أمير المؤمنين ابنه الحسن ـ عليهما السلام ـ محذرا إيّاه من الموت : «فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة ، قد كنت تحدّث نفسك منها بالتوبة ، فيحول بينك وبين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك» (١).

ويعتبر الإسلام التكذيب بالآخرة وجزائها من أهم العوامل التي تدعو البشر إلى التحلّل من المسؤولية ، والإفراط في الانحراف والذنوب ، والتعبير القرآني الوارد في الآية دقيق جدا إذ يقول الله «نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ» وكأنّ التكذيب بالآخرة وسيلة إلى كلّ تكذيب. بلى. إنّ خشية العقاب تردع الإنسان من مخالفة القوانين ، ومن لا يخشى عقاب ربه كيف يلتزم بشرائعه؟ من هنا يؤكّد العلماء على ضرورة القوانين الجزائية ، لأنّها ضرورة ملحّة في تنظيم علاقات المجتمع.

وقد أطلق الله على يوم القيامة أسماء كثيرة قد تتّفق في حيثيّاتها الأوليّة ، ولكنّها بلا شك تختلف في إيحاءاتها النفسية والمعنوية ، بحيث يمكن لنا القطع بأنّ التعبير ب «يوم الدين» في هذا السياق أصلح من أيّ تعبير آخر ، ونكتشف ذلك في المفردات ضمن السياق الذي ترد فيه.

ولأنّ سياق سورة المدثر عن تبليغ الرسالة وتكذيب الكفّار ومرضى القلوب بحقائق الدين كان من الحكمة التأكيد على «يوم الدين» بالذات ، لبيان أنّ الدين هو المحور والميزان في الآخرة ، وأنّ حقائقه التي يكذّب بها أعداء الرسالة سوف يأتي اليوم الذي يجليها ، وبالتالي التأكيد على أنّ التديّن ضرورة مصيرية لكلّ إنسان.

[٤٨] ويبيّن لنا القرآن صفة خامسة لأصحاب سقر هي في الحقيقة

__________________

(١) نهج البلاغة ك ٣١ ص ٤٠٠.

١١٣

عامل رئيسيّ من عوامل الجريمة والمعصية ، وهو الفهم الخاطئ لمفهوم الشفاعة الذي تنادي به كلّ رسالات الله ، حيث التمنّيات التي تحوّلها إلى مبرّر لممارسة الخطايا.

وإذا كان هذا الفهم تبلور لدى اليهود في نظرية البنوّة وشعب الله المختار ، ولدى النصارى في نظرية الفداء ، فإنّ بعض المسلمين أيضا انزلق إلى مثل هذه المفاهيم والتمنيات ، ولكن بقوالب وتعابير مختلفة ، فقال البعض أنّ المسلمين خير أمّة أخرجت للناس ، وأنّ الله لا يعذّب أمّة فيها حبيبه النبي محمد (ص) ، وقال فريق : انّ الأولياء يشفعون له الخطايا من دون قيد وشرط ، والقرآن ينسف كلّ هذه التمنّيات الباطلة حتى لا يدع مجالا للإنسان يفرّ عبره عن تحمّل المسؤولية ، وقد حذّر أئمة الهدى من هذا الفهم الخاطئ للشفاعة ، قال أبو بصير : دخلت على حميدة أعزّيها بأبي عبد الله فبكت ، ثم قالت : يا أبا محمد لو شهدته حين حضره الموت وقد قبض إحدى عينيه ثم قال : «ادعوا لي قرابتي ومن لطف لي» فلما اجتمعوا حوله قال : «إنّ شفاعتنا لن تنال مستخفا بالصلاة» (١).

والآية القرآنية قوية في وقعها.

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)

لأنّ أحدا لا يشفع لهم ، وعلى افتراض ذلك لا تنفعهم ، فكيف وأنّ أولياء الله لا يشفعون إلّا لمن ارتضى ربّ العزة؟ وإنما عبّر القرآن بهذه الصيغة لينسف تصوراتهم الخاطئة والمغرقة في الأماني ، وليس لبيان أنّ أحدا قد يتقدّم للشفاعة في المجرمين ، بلى. إنّ الشفاعة حقيقة واقعية ولكنّها تنفع من تكون مسيرته الكلّيّة مسيرة صحيحة فتسقط عنه سيئاته الجانبية ، ولا تكون مسيرة الإنسان العامة سليمة إلّا بالإقبال على رسالة الله ، واتباع رسله وأوليائه ، من هنا يستنكر الله على الكفار

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار ج ٨٢ ص ٢٣٦.

١١٤

والمشركين إعراضهم عن تذكرته في الوقت الذي يتطلّعون إلى ذلك.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)

قال مقاتل : الإعراض عن القرآن من وجهين : أحدهما الجحود والإنكار ، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه (١) ، مع أنّ التذكرة إنّما جاءت من أجل نجاتهم (البشر) بتعبير القرآن ، وليس ضدهم ، فحقّ أن يستنكر القرآن موقفهم اللئيم من إحسان الله إليهم بالرسالة ، وأن يشبّههم بالحمير وصفا لواقعهم وحطّا من قدرهم.

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)

والاستنفار من النفور المختلط بشعور الخوف والخطر ، والكلمة دخلت مصطلحا في علم العسكرية ، يقال : استنفر الجيش إذا توقّع وتأهّب لدفعه ، وفي المنجد : المستنفر الشارد المذعور (٢) ، والكلمة على وزن مستفعل ممّا يهدينا إلى أنّ المعرضين عن التذكرة يزيد أحدهم الآخر إعراضا ونفورا عن الحق ، كما يزيد أفراد القطيع من حمار الوحش بعضهم بعضا ذعرا وشرودا من سطوة الأسد الهصور حينما يهجم عليهم. والقسورة على الأقرب اسم الأسد حينما ينقضّ على طريدته ، من القسر بمعنى القهر ، أي أنّه يقهر السباع ، والحمر الوحشية تهرب من السباع (٣) كأشدّ ما يكون ، وسمّي الرامي والصيّاد قسورة لأنّه بسهمه يصطاد الصيد ويقهره ، وتقول العرب لكلّ رجل قويّ شديد قسورة لأنّه يصرع الأقران ، ويخافه الآخرون ، وما أبلغه من تشبيه تصويريّ رائع.

ولعلّ سائلا يسأل : لما ذا يفرّ البشر من التذكرة؟ والجواب : إنّ وجدان

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٩ ص ٨٨.

(٢) المنجد مادة نفر.

(٣) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٩ ص ٨٩.

١١٥

الإنسان وعقله يرفضان كفره وعصيانه ، ويعيش المجرم صراعا دائما معهما ولكنّه قد عقد عزمه عي المضيّ قدما مع شهواته ، فيتهرب من الوعظ والإرشاد حتى لا يدعم جانب عقله ووجدانه ، لأنّ الرسالة تكبح جماح الهوى ، وتحدّد تصرفّات النفس بالأحكام والنظم ، وتحمّله كامل المسؤولية في كلّ بعد من أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً)

قال ابن عبّاس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقا فليصبح عند كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار ، قال مطر الورّاق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل ، وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفّارته ، فاتنا بمثل ذلك ، وقيل : أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد! ائتنا بكتب من ربّ العالمين مكتوب فيها : إنّي قد أرسلت إليكم محمدا (ص). نظيره : «وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» (١). وما يريدونه محمول على ثلاثة أوجه :

الأول : أنّهم يريدون مشاهدة الرسالة الإلهية تتنزّل في قرطاس يلمسونه ، ويكون متميّزا معجزا من كلّ جهاته ، وما ذلك إلّا شرط تبريريّ للفرار من مسئولية الإيمان والطاعة للرسول ، وقد فضح الله هذه النوايا الخفيّة ، وكشف عمّا في قلوبهم من مرض فقال : «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (٢).

الثاني : أنّ الخضوع لقيادة الآخرين ، وبالذات الخضوع الشامل لجوانب

__________________

(١) المصدر ص ٩٠ بتقديم وتأخير.

(٢) الأنعام / ٧.

١١٦

الحياة ، كما في الأطروحة الإسلامية للقيادة ، من أصعب الأمور على الإنسان ، باعتباره يفرض عليه الخروج من شحّ النفس وحبّ الذات ، ويحدّد مواقفه وتصرفّاته ، هذا في سائر الناس ، أمّا إذا كان من المترفين وأصحاب الوجاهة فالأمر أثقل عليه وأصعب ، حيث تتوق نفسه للرئاسة على الآخرين ، بينما النظام الإسلامي يفرض عليه الانصياع لأوامر القيادة الرسالية ، وربما التنازل عن المراكز الاجتماعية التي لا يستحقّها والأموال التي جمعها من غير حلّها .. وهذا ما لا يطيقه أبو جهل وأمثاله ، لذلك ترى كلّ واحد منهم يتمنّى لو يكون هو الرسول الذي يختاره الله فينزل عليه وحيه ، ومن ثمّ يفرض قيادته على الناس ، ويوجب عليهم الخضوع له. قال مجاهد : أرادوا أن ينزل على كلّ واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل : إلى فلان بن فلان (١). وفي الآية اعتراف ضمني من المشركين والكفّار بأنّ الرسالة فضل عظيم ، تمنّاها كلّ واحد منهم لنفسه لما فيها من الشرف.

الثالث : أنّ هذه الآية كشفت عن عقدة مستعصية عند الإنسان لا بدّ من الجهاد حتى يتغلّب عليها ، وهي تلك العقدة التي أشارت إليها آيات عديدة في الذكر تبيّن طلبات الكفّار الإعجازية ، مثل قوله سبحانه : «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً» (٢) ، وقالوا : «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (٣) ، فهذه الآيات ونظائرها تكشف عن عقدة أساسية عند الإنسان وهي أنّه ينتظر ما يجبره على اتباع الحق جبرا ، فتراه دائم الطلب بما يراه علّة لإيمانه أو يسوّف الإيمان والعمل الصالح إلى أيّام يزعم أنّه يجد فيها ما

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٩ ص ٩٠.

(٢) الإسراء ٩٠ / ٩٢.

(٣) الفرقان / ٧.

١١٧

يكون سببا تامّا لهما. وكما تتجلّى هذه الطبيعة في الإنسان الفرد فإنّها قد تتجلّى في شعب كامل وأمة كاملة ، وثابت عمليّا في تاريخ البشر ولدى علماء النفس أنّ بعض الشعوب تنتظر حالة الكره على القانون حتى تلتزم به ، وهو انتظار سخيف ، إذ شرف الإنسان وكرامته (فرد أو أمّة) يتمثّل في انتخابه الحر للخير والفضيلة ، وليس في تحويله إلى أداة طيّعة لإرادة قاهرة حتى ولو استخدمت في الطريق الصحيح.

هكذا كانت الهداية من مسئولية الإنسان ذاته ، أن يختارها ، ويسعى جاهدا إليها ، ويجأر إلى ربه لتوفيقه إليها .. ويكون دليله في كلّ ذلك عقله الذي يميّز له وبوضوح كاف سبيل الهدى عن طريق الضلال ، ممّا لا يدع له مجالا للتبرير ، وهو أكبر حجة لله عليه ، ولعلّ الكلمة التالية توحي بذلك :

(كَلَّا)

ليس تبريرهم مقبولا ، وليس سبب استمرارهم على الكفر عدم وجود هذا الشرط أو ذاك.

وقوله في الآية السابقة «كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ» إشارة إلى كون هذه الصفة مرتكزة في كلّ فرد فرد من البشر إلّا ما شاء الله ، وإلّا من ينتصرون عليها ويصلحون أنفسهم. ثم يبيّن ربّنا بقول فصل العامل الرئيسي في موقف الكفّار من قيم الدين وقيادة الرسول ، ألا وهو عدم حضور الآخرة في وعيهم.

(بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ)

إذن فطلبهم صحفا منشّرة والمعجزات الأخرى ليس إلّا تبريرا لموقفهم ، وغطاء لشيء آخر هو عدم الخوف من الآخرة ، فالآخرة إذن ليست فكرة مجرّدة يكفي

١١٨

الإنسان أن يلقلق بها لسانه ، ويحفظها في ذاكرته ، بل هيه حقيقة كبيرة يجب أن يتفاعل معها عمليّا ، فتعكس آثارها في سلوكه وشخصيته ، وأظهر آيات ذلك الخوف من الآخرة ، بالخوف من عذاب الله وغضبه ، فإنّها أحقّ بأن يخافها البشر.

وعدم الخوف من الآخرة قد يكون نتيجة للكفر المحض بها ، وقد يكون نتيجة للأفكار التبريريّة التي ينسجها الإنسان بخياله ، كالشرك بالله ، وأفكار الفداء الخاطئة.

[٥٤] ثم يقول الله :

(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ)

أي أنّ الإعراض والنفور عن القرآن لا يصيّره باطلا ، فهو بآياته وحقائقه يذكّر البشر بأعظم الحقائق ، بل بها كلّها ، إذ فيه تبيان لكلّ شيء.

والرسول هو الآخر مصداق للتذكرة ، حيث يقوم بذات الأهداف التي جاء من أجلها القرآن ، وأعظمها تذكير الإنسان بربّه عزّ وجلّ ، عبر الأدلّة والآيات التي تثير فيه العقل وتوقظ الضمير ولكن من دون جبر ، فالرسول ما عليه إلّا البلاغ المبين ، والقرآن ليس دوره إلّا بيان الحق والباطل معا ، ووضع الإنسان بكلّ وجوده المادي والمعنوي أمام الإختيار.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ)

بإرادته ووعيه ، فإنّ أيّ اختيار آخر مرفوص عند الله ، ولا ينفع صاحبه بشيء لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولعمري إنّها لمن أظهر الآيات على أنّ الرسالة حق ، أن تعترف للإنسان بحرّيّته واختياره ومسئوليته ، وأن لا يمارس معه أيّ لون من ألوان الإكراه إذ «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» انطلاقا من حاجته هو إلى الحق ، وليس العكس. وهذه في نفس الوقت خصيصة تميّز الرسالة الإلهية عن الدعوات البشرية

١١٩

المرتكزة على الجبر والإكراه ، ومن ثمّ تجاهل دور الإنسان وحقّه في تعيين مصيره.

وتوازن الآيات بين الجبر والتفويض ، لأنّ بصيرة القرآن تهدي إلى أمر بين أمرين ، وذلك من خلال تذكيرنا بحقيقة مهمّة بقرار الإنسان واختياره في الحياة ، ألا وهي أنّ مشيئته لا تكون إلّا بالله. أوليس الله خلق الإنسان وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ، فلو لا خلقه هل كان شيئا حتى يشاء؟ ثم إنّه منحه العقل والإرادة ، ووفّر له فرصة المشيئة ، ولو كان الإنسان كالحجر لا يملك عقلا أو إرادة فهل كان يشاء شيئا؟ وعند ما وفّرت له فرصة المشيئة وفي لحظة المشيئة لو لا نور التأييد الذي ينمّي إرادته لم يكن يمضي في مشيئته قدما في مقاومة جواذب الشهوة وركائز النقص والعجز والجهل التي هو فيها. أليس كذلك؟ وحينما تكون الهداية محور المشيئة أفيمكن للإنسان أن يبلغها من دون تذكرة ربه وتوفيقه؟

بلى. وهكذا قرار الإنسان مركّب من أمرين : أحدهما متصل به ، والآخر متصل بربه ، فحيث يختار الهداية ويسعى إليها سعيها يهديه الله ويبارك سعيه ، وهذا معنى قول الإمام الصادق (ع) : «لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين» (قال المفضّل) قلت : ما أمر بين أمرين؟ قال : «مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته ، فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية» (١) ، وقال ـ عليه السلام ـ : «الله تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقونه (يجبرهم) ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» (٢) (فيفوّض لهم الأمر).

وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) لمّا سأله المأمون : يا أبا الحسن! الخلق

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار ج ٥ ص ١٧.

(٢) توحيد المفضل ص ٣٦٠.

١٢٠