منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

إلى نفس اللفظ ، وأمّا فيما احتمل استناده إلى قرينة ، فلا تجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه (١) لا إليها (٢) كما قيل (٣) ، لعدم الدليل على اعتبارها (٤) إلّا في إحراز المراد ، لا الاستناد (٥). ثم إنّ عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن (٦) إجمالا (٧) كذلك (٨)

______________________________________________________

للحيوان المفترس ، وشككنا في أنّ هذا المعنى الحقيقي هو مراد المتكلم أو معناه المجازي وهو الرّجل الشجاع ، فبأصالة عدم القرينة يثبت أنّ مراده هو المعنى الحقيقي. وأمّا إذا كان المراد معلوماً وشك في أنّه هل هو معناه الحقيقي أم المجازي؟ فلا يثبت بأصالة عدم القرينة كونه موضوعاً له ، وأنّ التبادر مستند إلى حاق اللفظ ، على أن الشك في حجيتها حينئذٍ كافٍ في عدمها كما لا يخفى. فتلخص : أنّه لا مجال لإحراز كون التبادر مستنداً إلى حاق اللفظ بأصالة عدم القرينة.

(١) أي : استناد التبادر إلى اللفظ حتى يكون علامة للوضع.

(٢) أي : لا إلى القرينة.

(٣) القائل هو المحقق القمي (قده).

(٤) أي : اعتبار أصالة عدم القرينة ، وقوله : «لعدم الدليل» تعليل لقوله : «فلا يجدي أصالة عدم القرينة».

(٥) كما هو المطلوب في كون التبادر علامة للوضع.

(٦) هذا إشارة إلى وجه اندفاع الدور المتطرق في عدم صحة السلب بالتقريب المتقدم في التبادر.

(٧) قيد ـ المعلوم ـ.

(٨) يعني : كالإجمال المذكور في التبادر.

٨١

عن معنى (١) يكون علامة كونه (٢) حقيقة فيه ، كما أنّ صحة سلبه (٣) عنه علامة كونه مجازاً في الجملة (٤) ، والتفصيل (٥) : أنّ عدم صحة السلب عنه وصحة

______________________________________________________

(١) يعني : عن المعنى الّذي قد استعمل فيه اللفظ ، وملخص الكلام : أنّ من علائم الوضع ومحرزاته عدم صحة السلب المسمى بصحة الحمل أيضا. وقد أُورد عليه بما تقدم في التبادر من الدور ، حيث إنّ عدم صحة سلب لفظ ـ الأسد ـ عن الحيوان المفترس موقوف على العلم بوضعه لهذا المعنى ، فإذا توقف العلم بوضعه له على عدم صحة سلبه عنه لدار ، كما جعل صحة السلب علامة المجاز بالتقريب الآتي عند تعرضه (قده) له.

(٢) أي : كون اللفظ حقيقة في المعنى الّذي استعمل فيه كالأسد ـ في المثال.

(٣) أي : صحة سلب اللفظ عن معنى علامة كون اللفظ مستعملا فيه مجازاً.

(٤) قيد لقوله : «مجازاً» يعني : أنّ صحة السلب علامة لكونه مجازاً على نحو الإجمال سواء كان مجازاً في الكلمة ، كما هو المشهور وهو المسمى بالمجاز اللغوي ، أم مجازاً في غيرها كما هو مذهب السكاكي على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(٥) يعني وتفصيل كون عدم صحة السلب أمارة على المعنى الحقيقي هو : أنّ صحة الحمل التي هي من علائم الوضع على قسمين :

أحدهما الحمل الأوّلي الذاتي ، وهو كون الموضوع والمحمول فيه متحدين مفهوماً ووجوداً ومتغايرين اعتباراً كقولنا : «الإنسان حيوان ناطق» فإنّ مفهوم الإنسان ومفهوم ـ حيوان ناطق ـ واحد ، كما أنّ وجوده مع وجودهما متحد ، والتغاير بينهما إنّما هو باعتبار إجمال أحدهما ـ وهو الموضوع ـ وتفصيل الآخر ـ وهو المحمول ـ كما هو الشأن في سائر الحدود التامة ، وسمي بالحمل الأولي

٨٢

الحمل عليه بالحمل الأوّلي الذاتي الّذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً علامة كونه نفس

______________________________________________________

لكونه أوّلي الصدق والكذب ، أو أوّل مراتب الحمل ، وبالذاتي لكونه جارياً في الذاتيات ، بل في تمام الذاتي.

ثانيهما : الحمل الشائع الصناعي وهو كون الموضوع والمحمول فيه متغايرين مفهوماً ومتحدين وجوداً ، كقولنا : «زيد إنسان» فإنّ زيداً وكذا غيره من الأفراد التي يحمل عليها الطبيعة متحد معها ، فإنّ الطبيعي متحد مع فرده وجوداً ومغاير له مفهوماً ، لأنّ مفهوم الفرد غير مفهوم الكلي ، سواء كان المحمول من ذاتيات الموضوع كقولنا : «الإنسان ناطق أو حيوان» ، أم من عوارضه كقولنا : «الإنسان ضاحك» ، وسواء كان الموضوع نوعاً من المحمول كقولنا : «الإنسان حيوان» أم صنفاً له كقولنا : «العبد إنسان» أم فرداً له كـ «زيد إنسان» ، وسواء كان المحمول ثابتاً لنفس مفهوم الموضوع من دون سرايته إلى الأفراد كـ «الإنسان نوع والحيوان جنس» ونحوهما من القضايا الطبيعية ، أم ثابتاً لأفراده كقولنا : «زيد إنسان وكل إنسان حيوان» ونحو ذلك من القضايا الشخصية والمحصورة ، ويعبر عن جميع هذه الأنحاء بالحمل الشائع الصناعي العرضي ، وتسميته بالشائع الصناعي لشيوعه في العلوم والصناعات ، وبالعرضي لكون مناط هذا الحمل الاتحاد في الوجود فقط ، وقد قرر في محله : أنّ الوجود عارض على الماهيات ، وأنّه عرض يعرضها تصوراً. إذا عرفت قسمي الحمل فاعلم : أنّ المناط في صحة الحمل التي هي علامة الوضع إنّما هو في صحته بالحمل الأوّلي الذاتي ، لأنّه الّذي يعتبر فيه اتحاد الموضوع والمحمول مفهوماً والمجدي لكون أحدهما عين الآخر ، فالمحمول هو نفس الموضوع ، مثلا حمل البشر على الإنسان يكون أمارة على كون معنى البشر حقيقة هو الإنسان. وأمّا الحمل الشائع الصناعي فلا يكون

٨٣

المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعي الّذي ملاكه الاتحاد وجوداً بنحوٍ من أنحاء الاتحاد علامة كونه (١) من مصاديقه وأفراده (*) الحقيقية ، كما أنّ صحة سلبه (٢) كذلك (٣) علامة أنّه ليس منهما (٤) وإن لم نقل بأنّ إطلاقه

______________________________________________________

علامة لشيء من الحقيقة والمجاز ، سواء كان المحمول كلياً والموضوع فرداً له كقولنا : «زيد إنسان» ، أم كان كلاهما كلياً سواء كانا متساويين كقولنا : «الإنسان ناطق» ، أم أعم وأخص مطلقاً كقولنا : «الإنسان حيوان» ، أم من وجه كقولنا : «الإنسان أبيض» ، غاية الأمر : أنّ صحته في هذه الموارد أمارة على اتحاد الموضوع والمحمول في الخارج فقط. نعم فيما إذا كان المحمول كلّياً والموضوع فرداً له تكون صحة الحمل علامة لكون الموضوع من أفراد المحمول ومصاديقه ، كما في مثال : ـ زيد إنسان ـ. فتلخص : أنّ صحة الحمل أمارة على الحقيقة في خصوص الحمل الأوّلي ، وليست صحة الحمل في الحمل الشائع بأنحائه علامة الوضع.

(١) أي : كون المحمول عليه من مصاديق المحمول ك ـ زيد إنسان ـ.

(٢) أي : سلب اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن إجمالا عن المعنى المشكوك فيه الّذي استعمل فيه اللفظ ، كصحة سلب لفظ ـ الأسد ـ بماله من المعنى عن الرّجل الشجاع ، بأن يقال : «الرّجل الشجاع ليس بأسد». والحاصل : أنّ صحة السلب علامة المجاز ، كما أنّ عدم صحته علامة الحقيقة.

(٣) يعني : بأيّ نحو من أنحاء الحمل.

(٤) أي : ليس المسلوب من القسم الأول ـ وهو كونه نفس المعنى ـ ولا

__________________

(*) فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كلّياً وفرداً ، لا فيما إذا كانا كلّيين متساويين أو غيرهما كما لا يخفى.

٨٤

عليه (١) من باب المجاز في الكلمة ، بل من باب الحقيقة ، وأنّ التصرف فيه في أمر عقلي ـ كما صار إليه السكاكي ـ واستعلام حال اللفظ ، وأنّه حقيقة أو مجاز في هذا

______________________________________________________

الثاني وهو كونه من مصاديقه كقولنا : «زيد ليس بحجر» ، فإنّ صحة هذا السلب علامة أنّ الموضوع ليس نفس معنى الحجر ولا من أفراده ، وإلّا لم يصح السلب وكان الحمل صحيحاً.

(١) يعني : وإن لم نقل بأنّ صحة هذا السلب ـ أعني سلب لفظ الأسد مثلا عن معنى كالرجل الشجاع ـ يوجب أن يكون حمله عليه ـ لو حمل عليه أحياناً ـ من باب المجاز في الكلمة كما هو مذهب المشهور ، بل قلنا : بأنّه من باب الحقيقة كما هو مذهب السكاكي. وغرضه من هذه العبارة دفع توهم ، وملخصه : أنّ صحة السلب إنّما تكون علامة للمجاز بناءً على مسلك المشهور من تسليم المجاز في الكلمة ، دون مسلك السكاكي من إنكار المجاز في الكلمة ، وادّعاء أنّ إطلاق اللفظ على المعنى في جميع الموارد إنّما هو على نحو الحقيقة ، وأنّ المجاز إنّما هو في الإسناد والأمر العقلي. ومحصل دفعه : أنّه لا فرق في علامية صحة السلب للمجاز بين مسلكي المشهور والسكاكي ، ضرورة صحة سلب لفظ ـ الأسد ـ بمعناه المرتكز في الذهن عن الرّجل الشجاع ، بأن يقال : «الرّجل الشجاع ليس بأسد» ، فيكون الرّجل الشجاع حينئذٍ معنى مجازياً للأسد عند المشهور وان كان حقيقة ادّعائية عند السكاكي ، فصحة السلب عنده علامة عدم كون المعنى المسلوب معنى حقيقياً وان كان الاستعمال حقيقة بنحو من الادّعاء ، والغرض من كون صحة السلب علامة هو معرفة كون المسلوب عنه غير المعنى الموضوع له حقيقة سواء كان الاستعمال فيه على نحو الحقيقة ادّعاءً كما هو مذهب السكاكي ، أم المجاز كما هو مذهب المشهور.

٨٥

المعنى بهما (١) ليس على وجه دائر ، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل ، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمل جيداً (٢). ثم إنّه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا (٣)

______________________________________________________

(١) أي : بعدم صحة السلب وصحته.

(٢) لعله إشارة إلى عدم تمامية هذين الجوابين ، لا في التبادر ولا في عدم صحة السلب. أمّا في التبادر ، فلما عرفت هناك (*). وأمّا في عدم صحة السلب ، أمّا في الحمل الشائع فلما مر ، وأمّا في الحمل الأوّلي ، فلأنّ وحدة الموضوع والمحمول ماهية ليست أمارة على الوضع كما هو المطلوب ، وإنّما هي علامة لوحدة حقيقتي الموضوع والمحمول التي هي أجنبية عن المقام ، إذ المقصود معرفة المعنى الموضوع له ليشار إليه في مقام التفهيم ، وهو غير حقيقة الشيء باصطلاح الحكيم. وببيان أوضح : أنّ حمل اللفظ على المعنى الموضوع له لغة أو عرفاً إنّما هو من باب ترجمة لفظ بلفظ آخر ، كتبديل لفظ ـ العنب ـ ب ـ أنگور ـ في اللغة الفارسية ، وأين هذا من باب حقيقة العنب وماهيته ، كما هو شأن الحمل الأوّلي الذاتي كما لا يخفى؟.

وبالجملة : فلم يثبت علامية شيء من التبادر وعدم صحة السلب.

(٣) يعني : كعلامية التبادر وعدم صحة السلب ، وتقريب أماريته على الحقيقة هو : شيوع استعمال اللفظ في المعنى من دون اختصاص بمقام كلفظ ـ الإنسان وزيد ـ فإنّ استعمالهما في معنييهما لا يختص بمورد ، بخلاف استعمال

__________________

(*) وأمّا عدم علامية تبادر العالم للمستعلم ، فلأنّ استناد هذا التبادر إلى الوضع دون القرينة مما لا سبيل إلى إحرازه ، وأصالة عدم القرينة لا تجدي لما مرَّ.

٨٦

ولعله (١) بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطرد صحة

______________________________________________________

ـ رقبة ـ في الذات ، لصحة ـ أعتق رقبة ـ وعدم صحة ـ نامت رقبة ـ أو ـ قالت رقبة ـ وهكذا.

(١) أي : ولعل عدم الاطراد ، وغرضه : التنبيه على إشكال أُورد على علامية الاطراد على الوضع ، وحاصل الإشكال : أنّ الاطراد ليس لازماً مساوياً للوضع حتى يكون أمارة عليه ، بل هو لازم أعم من الوضع ، فليس دليلا عليه ، لعدم دلالة العام على الخاصّ. ووجه أعميته هو : وجود الاطراد في المجاز أيضا ، حيث إنّ علاقة المشابهة في أظهر الأوصاف ـ كشجاعة الأسد مثلا ـ توجب جواز استعمال لفظ ـ الأسد ـ في جميع موارد وجود هذه العلاقة ، فالاطراد حينئذٍ بلحاظ كل واحدة من العلائق الموجودة حاصل ، مع أنّ استعمال اللفظ في المعاني بلحاظ تلك العلائق مجاز ، فاطراد الاستعمال أعم من كونه على نحو الحقيقة ، هذا. وملخص ما أفاده المصنف (قده) في دفعه ، هو : أنّ الاطراد في المجازات إنّما يكون بملاحظة أشخاص العلائق بحيث يكون شخص المستعمل فيه دخيلا في صحة الاستعمال وحُسنه ، لا بملاحظة أنواعها كما هو شأن الاطراد في الحقائق ، فاستعمال لفظ ـ الأسد ـ مثلا في الرّجل الشجاع بعلاقة المشابهة بينهما وان كان مطرداً ، إلّا أنّ اطّراده هذا إنّما هو بملاحظة شخص هذه العلاقة أعني علاقة المشابهة بينه وبين الرّجل الشجاع بخصوصه ، ولذا لا يحسن استعماله في ـ العصفور الشجاع ـ مع وجود الشجاعة. وهذا بخلاف الاطراد في الحقائق ، فإنّه يكون بملاحظة أنواع العلائق من دون خصوصيته لمورد الاستعمال فيه ، ولذا نرى أنّ لفظ ـ العالم ـ مثلا بلحاظ وضعه يصح ويطرد استعماله في كل من اتصف بالإدراك من دون خصوصية لمن استعمل فيه ، فيطرد استعماله في ـ زيد ـ

٨٧

استعمال اللفظ معها (١) ، وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال (٢) فالمجاز مطرد كالحقيقة (٣) وزيادة قيد من غير تأويل ، أو على وجه الحقيقة (٤) وإن كان موجباً لاختصاص الاطراد كذلك (٥) بالحقيقة ، إلا أنّه

______________________________________________________

و ـ عمرو ـ وغيرهما من الذوات المتصفة بالإدراك ، فيكون هذا كاشفاً عن أنّه حقيقة في هذا المعنى ـ أعني : الذات المتصفة بالإدراك ـ فالاطراد علامة للحقيقة ، وعدمه بالنسبة إلى نوع العلاقة علامة المجاز.

(١) أي : مع نوع العلائق.

(٢) وهو شخص العلاقة ، فالمراد ب ـ ما ـ الموصولة ـ العلاقة ، وضمير ـ معه ـ راجع إليه.

(٣) فالاطراد الحقيقي ينفي الاطراد المجازي بالنسبة إلى نوع كل علاقة لا شخصها.

(٤) لا يخفى أنّه قد أجاب بعض عن الإشكال المزبور حتى لا ينتقض الاطراد الحقيقي بالاطراد المجازي بما حاصله : أنّ تقييد الاطراد بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة يوجب اختصاص الاطراد الّذي هو أمارة على الوضع بالحقيقة ، وعدم انتقاضه بالاطراد في المجاز بملاحظة شخص العلاقة ، لأنّ هذا الاطراد محتاج إلى التأويل وهو لحاظ العلاقة ، بخلاف الاطراد في الوضع ، فإنّه لا يحتاج إلّا إلى لحاظ المستعمل فيه. لكن المصنف (قده) لم يلتزم بهذا الجواب ، وقال : إنّ هذا القيد وان كان موجباً لاختصاص الاطراد بالمعنى الحقيقي لكنه مستلزم للدور ، لأنّ الاطراد على هذا الوجه موقوف على معرفة الموضوع له ، والمفروض توقف هذه المعرفة على الاطراد ، حيث إنّه علامة الوضع.

(٥) يعني : من غير تأويل ، أو على وجه الحقيقة.

٨٨

حينئذٍ (١) لا يكون علامة لها (٢) إلا على وجه دائر (٣) ، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا (٤) ، ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو

______________________________________________________

(١) يعني : إلّا أنّ الاطراد حين كونه على وجه الحقيقة لا يكون علامة لها.

(٢) أي : للحقيقة.

(٣) بالتقريب الّذي عرفته آنفاً.

(٤) يعني : في الاطراد ، والظرف متعلق ب ـ لا يتأتى ـ يعني : ولا يتأتى هنا التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر من الإجمال والتفصيل ، ومن كون التبادر علامة عند العالمين بالأوضاع علامة للوضع عند الجاهلين بها. وجه عدم إمكان التفصي بالإجمال والتفصيل هو : عدم كفاية العلم الإجمالي بكون معنى اللفظ أحد المعاني المحصورة المرتكزة في النّفس في كون الاستعمال على نحو الحقيقة ، بداهة توقفه على العلم التفصيليّ بكون المستعمل فيه موضوعاً له. ووجه عدم إمكان التفصي عن الدور بجعل الاطراد عند العالم بالوضع علامة للوضع عند الجاهل به هو : أنّه لا سبيل للجاهل إلى إحراز كون الاطراد عند العالم لأجل الوضع وعلى وجه الحقيقة ، ولا يمكن إحرازه بأصالة عدم القرينة ، لما مر في التبادر ، والمفروض أنّ علاميته للحقيقة منوطة بكون الاستعمال على سبيل الحقيقة ، ومع العلم بكونه على هذا الوجه لا يكون الاطراد علامة ، لأنّه من تحصيل الحاصل المحال ، بل من أردإ وجوهه ، لكونه من إحراز ما هو محرز وجداناً بالتعبد. والحاصل : أنّ الاطراد كالتبادر وعدم صحة السلب لا يصلح علامة للحقيقة (*)

__________________

(*) لا يخفى أنّه على هذا ينحصر طريق معرفة الأوضاع بتنصيص الواضع وهو أيضا مفقود ، لأنّ اللغويين لا يتعرّضون إلّا لموارد الاستعمالات ، وليس شأنهم إلّا ذلك ، إذ لا طريق لهم إلى العلم بالأوضاع كما لا يخفى. ثم إنّ الظاهر

٨٩

الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد أو بغيره.

(الثامن) أنّه للفظ أحوال خمسة ، وهي : التجوز والاشتراك والتخصيص والنقل والإضمار ، لا يكاد يصار إلى أحدها ، فيما إذا دار الأمر بينه (١) وبين المعنى الحقيقي إلّا بقرينة صارفة عنه إليه (٢) ، وأمّا إذا دار الأمر بينها (٣) فالأُصوليون وان ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوهاً (٤) ، إلا

______________________________________________________

(١) أي : بين أحد الأحوال الخمسة وبين المعنى الحقيقي.

(٢) أي : عن المعنى الحقيقي إلى أحد الأحوال الخمسة ، فضمير ـ عنه ـ راجع إلى المعنى الحقيقي ، والوجه في تعين الحمل على المعنى الحقيقي في صورة عدم القرينة الصارفة هو : أصالة الحقيقة التي لا يعدل عنها إلّا بها.

(٣) أي : بين الأحوال الخمسة في أنفسها ، لا بينها وبين المعنى الحقيقي.

(٤) كترجيح المجاز على الاشتراك ، لكثرته وتوسع بابه في الكلام دونه ، لتيسر مراعاة الجهات الفصاحية والبلاغية والبديعية مع المجاز دون الحقيقة ،

__________________

عدم ترتب ثمرة عملية على العلم بالحقائق حتى يتشبث في إثباته بإحدى العلائم المتقدمة. (وتوهم) أنّ الثمرة المترتبة عليه هي ظهور الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنة ، كلفظ الظاهر والباطن والصعيد وغيرها مما أُخذ موضوعاً للأحكام الشرعية في معانيها مع العلم بالأوضاع ، فتحمل الألفاظ عليها ، وإجمالها مع الجهل بها ، فينسد باب الاستنباط حينئذٍ (فاسد) ، لعدم حاجة إلى معرفة المعنى الحقيقي حتى في هذه الألفاظ أيضا ، ضرورة أنّها بين ما لَها قدر متيقن ، وبين ما يظهر المراد منها بمعونة الروايات ، وعلى التقديرين لا حاجة إلى العلم بالوضع ، لوضوح الأمر في الثاني ، ولزوم الأخذ بالمتيقن في الأوّل ، وإجراء الأصل في المشكوك فيه ، فتدبر.

٩٠

أنّها استحسانية لا اعتبار بها ، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم (١) مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك (٢) ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

أي أحد معاني المشترك أو معنييه ، ولكونه أكثر فائدة من الاشتراك ، لعدم توقف مع المجاز ، إذ مع القرينة عليه يصار إليه ، وبدونها يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، فلا توقف معه. بخلاف المشترك ، فإنّه يتوقف معه في استظهار المراد ، ولا يُحمل اللفظ على أحد معنييه أو معانيه إلّا بالقرينة ، إلى غير ذلك من الوجوه المرجحة المذكورة في الكتب المبسوطة ، فلاحظ. والظاهر أنّ الدوران بين الاشتراك والمجاز ليس المراد به الدوران بينهما في لفظ واحد ، بأن يكون مجازاً في أحد معنيين أو مشتركاً بينهما ، لأنّ هذا داخل في العنوان المعروف وهو : أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ـ كما نُسب إلى السيد (قده) ـ أو أعم منه كما عن المشهور ، بل المراد به هو الدوران بين المجاز في لفظ وبين الاشتراك في لفظ آخر ، كالنكاح الّذي هو حقيقة في العقد ، فلو أُريد هذا المعنى منه في قوله تعالى : «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم» دلّ على حرمة معقودة الأب ـ ولو بالعقد الفاسد ـ على الابن ، وهو خلاف الإجماع ، فلا محيص حينئذٍ عن الالتزام إمّا باشتراك لفظ النكاح بين العقد والوطء ، وحمله في الآية على الوطء ، وإمّا بالتجوز في النهي بإرادة القدر المشترك بين الحرمة والكراهة ، فيتعارض حينئذٍ المجاز والاشتراك ، ويمكن أن تكون كلتا الصورتين داخلتين في محل النزاع.

(١) تعليل لقوله : «لا اعتبار بها».

(٢) أي : بدون إيجابها لظهور اللفظ في المعنى ، ضرورة أنّ العبرة في باب الألفاظ إنّما هي بالظهور الّذي هو حجة ببناء العقلاء ، دون غيره من الوجوه الاستحسانية التي غايتها إفادة الظن الّذي لا دليل على اعتباره. ولعلّ استنادهم

٩١

(التاسع) أنّه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية (١) وعدمه على أقوال (٢)

______________________________________________________

في الترجيح إلى الوجوه الاعتبارية لأجل إفادتها الظهور الّذي ثبت اعتباره ببناء العقلاء ، وإلّا فلا أثر لتلك الوجوه أصلا كما عرفت.

(١) المراد بالحقيقة الشرعية ـ التي هي محل النزاع دون الحقيقة المتشرعية ـ ما هو أعم من الوضع التعييني والوضع التعييني الحاصل في زمان الشارع بكثرة الاستعمال.

(٢) وهي ستة : الأوّل : الثبوت مطلقاً.

الثاني : العدم كذلك.

الثالث : التفصيل بين العبادات والمعاملات بالثبوت في الأولى والعدم في الثانية.

الرابع : التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران كالصلاة والصوم ونحوهما ، وبين غيرها ، بالثبوت في الأولى وان كانت معاملة ، والنفي في الثانية وان كانت عبادة.

الخامس : التفصيل بين عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عصر الصادقين عليهما الصلاة والسلام بالنفي في الأوّل والثبوت في الثاني ، لكن تسميته على هذا بالحقيقة المتشرعية أولى من تسميته بالحقيقة الشرعية.

السادس : التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران في زمان الشارع وما بعده من عصر الصادقين عليهما‌السلام وما بعده من سائر الأعصار ، وبين غيرها بالعدم في تلك الألفاظ. لكن عدّ هذا من أقوال ثبوت الحقيقة الشرعية لا يخلو من غموض ، لعدم أثر لكثرة الدوران في غير عصر الشارع في ثبوت الحقيقة الشرعية كما لا يخفى.

٩٢

وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال ، وهو : أنّ الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له ، بأن يُقصد الحكاية عنه والدلالة عليه بنفسه (١) لا بالقرينة وإن كان لا بد حينئذٍ (٢) من نصب قرينة ، إلّا أنّه (٣) للدلالة على ذلك ، لا على إرادة المعنى كما في المجاز (٤) ،

______________________________________________________

(١) أي بنفس اللفظ ليمتاز عن الدلالة على المعنى المجازي الّذي يكون بمعونة القرينة ، ومحصل ما أفاده في المقام هو : أنّ الوضع التعييني خفيف المئونة ، لأنّه كما يتحقق بتصريح الواضع بإنشائه كأن يقول : إني وضعت اللفظ الكذائي للمعنى الفلاني ، كذلك يتحقق بنفس استعمال لفظ في معنى يقصد الوضع له والحكاية عنه ، فبنفس هذا الاستعمال يحصل الوضع ، كما إذا قال لولده الّذي لم يُعيّن له اسماً بعد : ـ ناولوني ولدي هذا زيداً ـ قاصداً به تسمية ولده بزيد ، فقبل الاستعمال لا يكون المستعمل فيه موضوعاً له ، وبنفس الاستعمال يصير معنى حقيقياً للفظ.

وبالجملة : (لمّا كانت) دعوى الوضع التعييني هنا في غاية الإشكال ، إذ لو كان لبان ، لعدم كونه من الأُمور التي أُخفيت لدواعٍ ، وعدم كونه من قبيل عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود (ادعى) المصنف (قده) إمكانه بالنحو الثاني أي بنفس الاستعمال.

(٢) يعني : حين قصد إنشاء الوضع بنفس الاستعمال.

(٣) أي : نصب القرينة إنّما هو للدلالة على قصد الوضع بهذا الاستعمال.

(٤) فإنّ القرينة فيه تكون على إرادة المعنى المجازي ، لأنّ اللفظ لا يدل عليه إلّا مع القرينة الصارفة له عن المعنى الحقيقي.

٩٣

فافهم (١). وكون (٢) استعمال اللفظ فيه

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى امتناع الوضع التعييني بنفس الاستعمال ، لاستلزامه اجتماع الضدين ، وذلك لأنّ الوضع يقتضي تصور اللفظ استقلالا ، والاستعمال الّذي حقيقته إفناء اللفظ في المعنى يقتضي تصور اللفظ مرآتاً ، فقصد إنشاء الوضع بنفس الاستعمال يستلزم الجمع بين لحاظي الاستقلالية والآلية ، وهو ممتنع لتضاد اللحاظين (*).

(٢) هذا إشكال على إنشاء الوضع بهذا النحو ، وحاصله : أنّه يلزم أن لا يكون هذا الاستعمال حقيقياً ولا مجازياً ، إذ (الأول) عبارة عن استعمال اللفظ فيما وضع له ، وهو يقتضي سبق الوضع على الاستعمال ، والمفروض إنشاء الوضع بنفس هذا الاستعمال ، فلا يكون هذا الاستعمال بحقيقي. و (الثاني) عبارة عن الاستعمال في غير ما وضع له مع العلاقة المعتبرة بين المعنى الحقيقي والمجازي ، وهذه العلاقة مفقودة هنا ، فليس هذا الاستعمال مجازياً أيضا ، فلا يصح مثله.

__________________

(*) هذا واضح بناءً على أنّ المراد بالاستعمال المحقق للوضع إفناء اللفظ في معناه ، وأمّا بناءً على كون المراد به إلقاء اللفظ بقصد إيجاد العلقة بينه وبين المعنى مع نصب قرينة على كونه بصدد إيجاد تلك العلقة ـ وهي الوضع ـ وهذا إنشاء للوضع بالفعل ـ كإنشاء التمليك بالمعاطاة ـ فلا بأس به ولا محذور فيه وبالجملة : فليس هذا من باب الاستعمال المنقسم إلى الحقيقي والمجازي ، ولذا اعترف المصنف (قده) بأنّ عدم كونه حقيقياً ولا مجازياً غير ضائر. فالإشكال عليه بأنّ إنشاء الوضع بنفس الاستعمال يستلزم اجتماع اللحاظين المتضادين غير ظاهر ، هذا. مضافاً إلى أنّه ـ على فرض غلطية هذا الاستعمال ـ لا وجه لمنع إنشاء الوضع به ، لتحقق العلقة الوضعيّة به قهراً من دون إناطة بشيء ، كاللحن غير المغير للمعنى في إنشاء العقود ، فإنّه غير مانع عن إنشائها.

٩٤

كذلك (١) في غير ما وضع له بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز ، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز غير (٢) ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره ، وقد عرفت سابقاً (٣) أنّه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز (٤). إذا عرفت هذا (٥) فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا (٦) قريبة جداً (*) ، ومدعي القطع به غير مجازف قطعاً (**) ،

______________________________________________________

(١) يعني : كون استعمال اللفظ في غير الموضوع له كاستعماله في الموضوع له في قصد الحكاية عنه بنفس اللفظ مجرداً عن القرينة.

(٢) خبر قوله «وكون» ، وهذا دفع الإشكال ، وحاصله : أنّ عدم كون الاستعمال حقيقياً ولا مجازياً ليس من اللوازم الباطلة ، لما تقدم في الأمر الرابع من أنّ العبرة في صحة الاستعمال باستحسان الطبع له ، ومع استحسانه له لا مانع منه ولو لم يكن شيء من العلائق المعتبرة في المجاز موجوداً ، فلا وجه لحصر الاستعمال في الحقيقي والمجازي ، وإلّا لم يصح استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو المثل ، لعدم كونه حقيقياً كما هو واضح ، ولا مجازياً لعدم العلاقة.

(٣) أي : في الأمر الرابع.

(٤) كاستعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله كما تقدم.

(٥) أي : التمهيد الّذي تعرض له في صدر المبحث بقوله : «لا بأس بتمهيد مقال».

(٦) أي : وضعه بنفس الاستعمال مع القرينة على كونه في مقام إنشاء الوضع.

__________________

(*) لم يظهر وجه وجيه لقربها ، فإنّ ما أفاده من كون إنشاء الوضع بنفس الاستعمال لا يترتب عليه إلا إمكانه ، وهو أعم من الوقوع ، فلا يرتفع الشك في ثبوت الحقيقة الشرعية بهذه الدعوى.

(**) لم يظهر منشأ لهذا القطع ، ومجرد عدم برهان على خلافه لا يصلح لأن يكون موجباً للقطع بوقوعه.

٩٥

ويدل عليه (١) تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته. ويؤيد ذلك (٢)

______________________________________________________

(١) أي : على الوضع التعييني الحاصل بنفس الاستعمال على النحو المتقدم في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع ، وحاصله : أنّ انسباق المعاني الشرعية من تلك الألفاظ علامة الحقيقة (*).

(٢) أي : الوضع التعييني المتحقق بنفس الاستعمال ، ومحصل وجه التأييد هو : أنّ استعمال الشارع لتلك الألفاظ في المعاني الشرعية لو كان على نحو المجاز لزم أن يكون ذلك مع العلاقة بينها وبين معانيها اللغوية ، وهي مفقودة ، إذ العلاقة التي يمكن فرضها في المقام هي : علاقة الكل والجزء ، حيث إنّ الصلاة بمعناها الشرعي تشتمل على الدعاء الّذي هو معناها اللغوي ، وهي مشروطة بشرطين :

(الأول) كون المركب حقيقياً.

و (الثاني) كون الجزء ركناً ، بأن يكون مما ينتفي بانتفائه الكل كالرقبة ، وكلاهما مفقود في المقام. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلعدم كون الدعاء جزءاً رئيسياً للصلاة ، فعلاقة الكل والجزء المصحِّحة للاستعمال مجازاً مفقودة.

ثم إنّه (قده) جعل هذا مؤيِّداً لا دليلاً ، لاحتمال كفاية استحسان الطبع في صحة الاستعمال ، وعدم الحاجة إلى العلائق المذكورة في كتب القوم.

__________________

(*) إنْ أُريد به التبادر في زماننا فلا إشكال فيه ، لكن الثابت به هو الحقيقة في الجملة ، وذلك لا يجدي ، لأنّ المقصود هو صيرورة الألفاظ حقيقة في المعاني الشرعية في زمان الشارع ، وهذا لا يثبت بالتبادر عندنا ، وإنّما يثبت بالتبادر في زمان الشارع ، وذلك أوّل الكلام ، واستصحاب القهقرى معارَض بأصالة عدم النقل عن المعاني اللغوية ، فالتبادر يُثبت الحقيقة المتشرعية دون الشرعية ، وهو خلاف المقصود.

٩٦

أنّه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية ، فأيّ علاقة بين الصلاة شرعاً والصلاة بمعنى الدعاء (١) ، ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما (٢) كما لا يخفى (٣) ، هذا (٤) كله بناءً على كون معانيها مستحدثة في شرعنا. وأمّا بناءً على كونها ثابتة في الشرائع السابقة كما هو قضية غير واحدة من الآيات ، مثل قوله تعالى : «كتب عليكم الصيام كما كتب ... إلخ» وقوله تعالى : «وأذّن في الناس بالحج» ، وقوله تعالى : «وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً» إلى غير ذلك ، فألفاظها (٥) حقائق لغوية لا شرعية (٦) ، واختلاف الشرائع (٧) فيها

______________________________________________________

(١) الّذي هو معنى الصلاة لغة.

(٢) يعني : بين المعنيين اللغوي والشرعي للصلاة.

(٣) لفقدان الشرطين المعتبرين في علاقة الكل والجزء في الصلاة ، كما مر.

(٤) أي : للنزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه ـ بناءً على كون المعاني الشرعية مستحدثة في شرعنا ـ مجال واسع ، وأمّا بناءً على وجودها في الشرائع السابقة ـ كما هو مقتضى غير واحدة من الآيات الشريفة ـ فلا مجال للنزاع في ثبوتها فيها ، لأنّ تلك الألفاظ على هذا لم تستعمل في شرعنا إلّا في المعاني التي كانت ألفاظ العبادات مستعملة فيها في الشرائع السالفة ، فليست هذه المعاني مما اخترعها الشارع حتى يقال : إنّ استعماله لها هل كان على نحو الحقيقة ، بأنّ وضع تلك الألفاظ لهذه المعاني أم على نحو المجاز؟.

(٥) أي : ألفاظ العبادات.

(٦) لعدم اختراع الشارع لتلك المعاني ، بل استعملها في المعاني التي كانت في الشرائع الماضية.

(٧) إشارة إلى توهم ودفع ، أمّا التوهم ، فحاصله : أنّه كيف يمكن أن

٩٧

جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية ، إذ لعله كان من قبيل

______________________________________________________

تكون معاني ألفاظ العبادات من الصلاة والزكاة وغيرهما في الشرائع السابقة وفي شريعتنا واحدة ، مع الاختلاف الفاحش بينهما في الأجزاء والشرائط؟ فهذا الاختلاف يكشف عن اختلاف المعاني ، فتكون معاني ألفاظ العبادات في تلك الشرائع متغايرة لمعانيها في شريعتنا ، فيبقى للنزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية مجال. وأمّا الدفع ـ وهو الّذي أشار إليه بقوله : «إذ لعله كان ... إلخ» فملخصه : أنّ هذا الاختلاف لا يكشف عن التغاير المذكور ، إذ يمكن أن يكون هذا الاختلاف بحسب المصداق لا الماهية ، كما إذا فرض أنّ الصلاة لغة هي ما يوجب القرب إليه سبحانه وتعالى ، فإنّ اختلاف مصاديقه بحسب الشرائع لا يوجب اختلافاً في ذلك المعنى الواحد ، ولا يضر بوحدته (*) ، فإنّ الاختلاف في المصاديق بحسب

__________________

(*) إذا كانت الألفاظ المستعملة في تلك المعاني في الشرائع السابقة هي نفس ألفاظ الصلاة والصوم وغيرهما من الألفاظ المستعملة فيها في شريعتنا ، فدعوى اتحاد الماهية وكون الاختلاف في المصاديق حينئذٍ قريبة جداً. (وأمّا إذا كانت) الألفاظ المستعملة في الشرائع السابقة غير الألفاظ المستعملة في شريعتنا ، ولم تكن هذه الألفاظ في القرآن المجيد إلّا حاكية عن وجود هذه المعاني في تلك الشرائع من دون دلالتها على كون الألفاظ المستعملة فيها هي هذه الألفاظ المتداولة في شريعتنا ، بل المقطوع به مغايرة لغاتهم للغة العربية ، (فللنزاع) في ثبوت الحقيقة الشرعية حينئذٍ مجال ، لأنّ التسمية بهذه الأسامي العربية تكون من الشارع ، لكن في بعض الروايات أنّ سليمان بن داود عليه‌السلام كان يتكلم مع زوجاته وندمائه وفي الحروب باللغات المختلفة ، وكان يسمي العبادات بالألفاظ العربية المتداولة عندنا ، بل وكذلك غيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، فلاحظ.

٩٨

الاختلاف في المصاديق والمحقِّقات ، كاختلافها (١) بحسب الحالات في شرعنا كما لا يخفى. ثم لا يذهب عليك أنّه مع هذا الاحتمال (٢) لا مجال لدعوى الوثوق فضلا عن القطع بكونها (٣) حقائق شرعية ، ولا (٤) لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها (٥) لو سلم دلالتها (٦) على الثبوت لولاه (٧) ، ومنه (٨)

______________________________________________________

حالات المكلف موجود في شرعنا أيضا ، فكما لا يقدح اختلافها في شرعنا في وحدة الماهية ، فكذلك لا يضرّ اختلافها بوحدتها بحسب الشرائع السابقة أيضا ، فلا يبقى حينئذٍ مجال للقول بثبوت الحقيقة الشرعية.

(١) أي : اختلاف المعاني.

(٢) أي : احتمال كون المعاني لغوية ، وأنّ الاختلاف يكون في المصاديق ، وقد ذهب ـ الباقلاني ـ إلى هذا الاحتمال الّذي لا يبقى معه مجال لدعوى الوثوق فضلاً عن القطع بكون ألفاظ العبادات حقائق شرعية.

(٣) أي : يكون ألفاظ العبادات.

(٤) يعني : ولا مجال أيضا لتوهم دلالة الوجوه التي أقاموها على ثبوت الحقيقة الشرعية ، فإنّها ـ بعد تسليم دلالتها في أنفسها على ثبوتها ـ لا يمكن الاستناد إليها في إثباتها أيضا ، وذلك لفرض وجود الاحتمال المزبور ، وهو كون المعاني حقائق لغوية ، وقد اشتهر : إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

(٥) أي : ثبوت الحقيقة الشرعية.

(٦) أي : دلالة تلك الوجوه على ثبوت الحقيقة الشرعية ، يشير بهذه العبارة إلى كون دلالتها في أنفسها مخدوشة.

(٧) أي : لو لا هذا الاحتمال ، يعني : أنّ تلك الوجوه لو فرض دلالتها على ثبوت الحقيقة الشرعية ، فلا يمكن الاستدلال بها لأجل هذا الاحتمال.

(٨) يعني : ومن هذا الاحتمال ، وضمير ـ معه ـ راجع إليه أيضا.

٩٩

انقدح حال دعوى الوضع التعيّني معه (١) ، ومع الغض عنه (٢) فالإنصاف أنّ منع حصوله (٣) في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة ، نعم (٤) حصوله في خصوص لسانه ممنوع ، فتأمل (٥) ، وأمّا الثمرة بين القولين (٦)

______________________________________________________

(١) أي : مع هذا الاحتمال ، فإنّه لا يبقى حينئذٍ وثوق بالوضع التعييني.

(٢) أي : عن هذا الاحتمال.

(٣) أي : الوضع التعيّني ، فإنّ كثرة استعمال ألفاظ العبادات في المعاني الشرعية توجب الوضع التعيني في زمان الشارع ، وإنكاره مكابرة ، فنفي الوضع بنحو السلب الكلي غير سديد ، بل الوضع التعيني بنحو الإيجاب الجزئي ثابت.

(٤) هذا استدراك على ثبوت الوضع التعيني في زمانه مطلقاً حتى في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخصوص ، يعني : أنّ الوضع التعيني في خصوص لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يثبت وإن ثبت في لسان غيره من تابعيه سواء أكان صحابياً أم غيره ، وإذا شك في ثبوته في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأصالة عدم النقل تنفيه.

(٥) لعله إشارة إلى : أنّ منع الوضع التعيني في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع طول زمان استعماله صلى‌الله‌عليه‌وآله لألفاظ العبادات في هذه المعاني الشرعية خصوصاً لفظ ـ الصلاة ـ في غاية البعد. أو إلى : أنّ منع الوضع في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ينافي ما أفاده من قُرب دعوى الوضع التعييني في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ المدعي للقطع بها غير مجازف.

(٦) أي : القول بثبوت الحقيقة الشرعية والقول بعدمه ، وتقريب الثمرة : أنّه على القول بعدم ثبوتها يلزم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع المجردة عن القرائن على معانيها اللغوية ، وعلى القول بثبوتها فإنْ عُلم تأخر الاستعمال عن زمان الوضع سواء كان تعيينياً أم تعينياً يلزم حملها على المعاني الشرعية ، وان شك في تاريخه وأنّه هل كان قبل وضع هذه الألفاظ للمعاني الشرعية أم

١٠٠