منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

______________________________________________________

الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته وأكمل تحياته على أشرف أنبيائه ورسله محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما الإمام المبين وغياث المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الشريف واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

أما بعد ، فقد ساعدنا التوفيق لإعداد الجزء السادس من كتابنا «منتهى الدراية في توضيح الكفاية» للطبع وتقديمه للملإ العلمي ، فله الشكر على إنعامه وإفضاله وقد سلكنا في نظمه وترتيبه منهج الأجزاء الخمسة المتقدمة ، فالمتن أوّلاً ، ويليه الشرح التوضيحي المعلّم بالأرقام الموضوعة على كل منهما ، كما رمزنا تعاليقنا ب وحواشي الماتن على الكتاب ب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

٣
٤

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من (١) الإيجاب أو التحريم ،

______________________________________________________

(أصالة الاشتغال)

(١) بيان للتكليف ، يعني : أنه يعتبر في جريان قاعدة الاشتغال ـ التي هي من الأصول العملية الأربعة ـ العلم بنوع التكليف كالعلم بوجوب فعل مردد بين المتباينين كالظهر والجمعة ، أو بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، كتردد أجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة ، أو العلم بحرمة فعل مردد بين فعلين كشرب هذا الإناء أو ذاك الإناء ، للعلم بإصابة النجس بأحدهما إجمالا. ولا يكفي العلم بجنس التكليف ـ وهو الإلزام الدائر بين وجوب فعل وحرمة آخر ـ في جريان قاعدة الاحتياط ، وذلك ـ أي اعتبار العلم بنوع التكليف وعدم كفاية العلم بجنسه في جريان أصالة الاشتغال ـ هو الموافق لعنوان البحث في رسائل شيخنا الأعظم (قده) حيث قال : «الموضع الثاني في الشك في المكلف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ويشتبه الحرام أو الواجب» وجعل (قده) العلم بالجنس مجرى البراءة. وقد تقدم الكلام في بعض التعاليق التي ذكرناها أوائل البراءة حول ما يستفاد من أنظار شيخنا الأعظم في مجاري الأصول ومناقشة المصنف فيها ، فراجع.

وكيف كان فالمصنف وان وافق الشيخ (قدهما) هنا ، فاعتبر العلم بنوع التكليف الظاهر في عدّ العلم بالجنس من الشك في التكليف لا المكلف به ، لكنه سيصرح بعد أسطر بأن العلم بالجنس كالإلزام الدائر بين فعل شيء وترك آخر يكون أيضا مجرى لقاعدة الاشتغال ، كما إذا أحرز خطاب إلزاميّ للمولى ودار بين وجوب شيء كالدعاء عند رؤية الهلال وحرمة آخر كشرب التتن ، فانه (قده) حكم باندراجه في الشك في المكلف به ، فهو كالعلم بالوجوب المردد بين فعلين. نعم إذا كان الإلزام المردد بين الوجوب والحرمة متعلقا بفعل واحد كان من الشك في التكليف الّذي يجري فيه البراءة على ما عرفت في الفصل السابق.

والفارق بين تعدد متعلق الإلزام الّذي يكون مجرى قاعدة الاشتغال ووحدته التي تكون مجرى البراءة هو ما أفاده في حاشية الرسائل بقوله : «وأما إذا كان طرفاه ـ أي طرفا العلم بجنس التكليف ـ متعلقين بأمرين فهو كالعلم بنوعه ، والسر : أن التنجز يتقوم بأمرين : البيان الحاصل بالعلم ولو بالإجمال ، والتمكن من الامتثال ولو بالاحتياط. والبيان وان كان حاصلا في الصورة الأولى ـ وهي الدوران بين المحذورين ـ كالصورة الثانية بلا تفاوت ، إلّا أنه لا تمكن من الامتثال فيها مع التمكن منه فيها» (١) وحاصله : أنه لا قصور في بيانية العلم الإجمالي للإلزام ، فلا بد من الامتثال ولو بالاحتياط مع التمكن منه كما في صورة تعدد المتعلق دون وحدته ، إذ معها لا يمكن الامتثال أصلا ، لكونه حينئذ مما يدور أمره بين المحذورين. وعليه

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٣٩

٦

فتارة لتردده بين المتباينين (١) ، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين (٢) ، فيقع الكلام في مقامين

______________________________________________________

فالعلم بالجنس مع تعدد المتعلق مندرج في المقام ، ومع وحدته داخل في البراءة كما عرفت.

(١) توضيحه : أن الشك في المكلف به قد يكون لتردده بين المتباينين ذاتا كدوران الواجب بين الصوم والصدقة ، أو عرضا كدورانه بين القصر والتمام فيما إذا علم بوجوب أحدهما إجمالا ، فان التباين بينهما انما هو لكون الركعتين الأوليين ملحوظتين في الأول بشرط لا وفي الثاني بشرط شيء ، ولذا لا ينطبق أحدهما على الآخر ، كما لا ينطبق أحد المتباينين ذاتا كالصوم والصدقة على الآخر.

والضابط في العلم الإجمالي المتعلق بالمتباينين هو رجوعه إلى قضية منفصلة مانعة الخلو ، فيقال في المثال : «الواجب اما الصوم واما الصدقة» وهذا يرجع إلى قضيتين شرطيتين يكون مقدم كل واحدة منهما أحد طرفي العلم الإجمالي وتاليها نقيض الطرف الآخر ، فيقال حينئذ : «ان كان الصوم واجبا فليست الصدقة واجبة» وبالعكس. وهذا بخلاف الأقل والأكثر ، فانه لا يصح ذلك فيهما ، فلا يقال : «ان كانت العشرة واجبة فليست الثمانية واجبة» بداهة أن الثمانية بعض العشرة ، فوجوب العشرة وجوب الثمانية وزيادة ، فوجوب الثمانية قطعي سواء أكان الأكثر واجبا أم لا.

وقد يكون الشك في المكلف به لتردده بين الأقل والأكثر ، فيقع الكلام ـ كما في المتن ـ في مقامين أحدهما في المتباينين والآخر في الأقل والأكثر.

(٢) أما المردد بين الأقل والأكثر الاستقلاليين فهو خارج موضوعا عن الشك في المكلف به ، إذ لا إجمال في المكلف به حقيقة ، ضرورة أنه يعلم من أول الأمر بتعلق التكليف بالأقل ويشك في تعلقه بالزائد عليه.

٧

المقام الأول في دوران الأمر بين المتباينين (١)

لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا ولو (٢) كانا (٣) فعل

______________________________________________________

(دوران الأمر بين المتباينين)

(١) المراد بهما أن لا يكون بينهما قدر متيقن سواء كان تباينهما ذاتيا أم عرضيا كما مر آنفا ، بخلاف الأقل والأكثر ، فان بينهما قدرا متيقنا ، والمراد بهما فعلا هو الارتباطيان اللذان تكون أوامر أجزائهما متلازمة الثبوت والسقوط ، دون الأقل والأكثر الاستقلاليين اللذين لا تكون أوامر أجزائهما كذلك كالدين المردد بين الأقل والأكثر ، لأن امتثال الأمر بالأقل ليس منوطا بامتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته واقعا.

(٢) بيان لقوله : «مطلقا» وتوضيحه : أن العلم بالتكليف يتصور على وجهين أحدهما : العلم بنوعه كالوجوب مع تردد متعلقه بين المتباينين كالظهر والجمعة.

ثانيهما : العلم بجنس التكليف مع تردد نوعه بين نوعين وهما الوجوب والحرمة كالإلزام المردد بين وجوب فعل كالدعاء وحرمة آخر كشرب التتن.

ومقتضى العبارة اندراج العلم بجنس التكليف في الشك في المكلف به كما تقدمت الإشارة إليه ، فيصح أن يقال : «يجب فعل الدعاء عند رؤية الهلال أو يحرم شرب التتن» وهذا تعريض بشيخنا الأعظم ، حيث خص النزاع بالعلم بنوع التكليف ، وجعل العلم بالجنس مجرى البراءة ، وقد عرفت تفصيله في أول البراءة.

(٣) وصلية ، أي : ولو كان المتباينان فعل شيء وترك شيء آخر كفعل الدعاء عند رؤية الهلال وترك شرب التتن.

٨

أمر وترك آخر (*) ان كان فعليا من جميع الجهات بأن (١) يكون

______________________________________________________

(١) هذا شروع في بيان منجزية العلم الإجمالي بالتكليف ، ولا يخفى أنه اختار في مباحث القطع من الكتاب وفي حاشية الرسائل أن العلم الإجمالي مقتض للتنجيز ، ولكنه عدل هنا إلى كونه علة تامة له كالعلم التفصيليّ به ، ويستفاد ذلك أيضا من حاشيته على مباحث القطع من الكتاب ، وله في الفوائد كلام مبسوط لا نتعرض له خوفا من الإطالة ، واستنتج منه العلّية إذا أحرز فعلية المعلوم وعدمها إذا شك فيها ، فراجعه للوقوف عليه.

__________________

(*) ان كان غرضه (قده) تعميم متعلق العلم بنوع التكليف للفعل والترك وعدم اختصاصه بفعلين كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة ، ففيه : أن الترك ليس بواجب حتى يقال : انه يعلم إجمالا بوجوب مردد بين فعل الدعاء وترك شرب التتن ، ضرورة أن الأحكام لا تتعلق إلّا بما تقوم به الملاكات الداعية إلى التشريع ، ومن المعلوم قيام الملاكات بالأفعال دون التروك. وعليه ففعل شرب التتن حرام ، لا أن تركه واجب ، نعم بناء على انحلال كل حكم إلى حكمين يصح اتصاف ترك شرب التتن بالوجوب ، لكنه فاسد كما ثبت في محله.

وبالجملة : فمتعلق العلم بنوع التكليف من الإيجاب أو التحريم كالعلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة أو العلم الإجمالي بحرمة شرب التتن أو نكاح الكتابية ليس إلّا الفعل ، فالمتباينان اللذان علم إجمالا بتعلق إيجاب أو تحريم بأحدهما هما الفعلان ، فلا وجه لأن يقال : سواء كان المتباينان فعل أمر وترك آخر.

وان كان غرضه (قده) تعميم البحث للعلم بجنس التكليف وهو الإلزام الجامع بين الإيجاب والتحريم ، ففيه أولا : أن اللازم حينئذ افراد «كان» لا تثنيته ، لرجوع اسمه حينئذ إلى التكليف ، واللازم على هذا أن يقال : ولو كان وجوب فعل وحرمة آخر.

٩

واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من

______________________________________________________

وكيف كان ، فلا بد قبل تقريب كلامه من تمهيد مقدمة لتوضيح مرامه زيد في علو مقامه ، فنقول : انه لا ريب في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات بناء على مذهب مشهور العدلية ، فهي تنبعث عن الملاكات الكامنة في أفعال المكلفين ، كما لا شك في اختلاف الملاكات قوة وضعفا ، ولذا يحكم بلزوم تقديم الأهم والأقوى ملاكا على غيره عند التزاحم ، وعلى هذا فالأحكام الشرعية الفعلية أي الواجدة لمرتبة البعث والزجر ليست على حد سواء بل هي على قسمين :

الأول : أن يكون الغرض الداعي إلى الحكم مهما بمثابة لا يرضى المولى بفواته أصلا ، بل تتعلق إرادته باستيفائه على كل تقدير ، يعني سواء علم به المكلف لوصول الخطاب إليه ولو تصادفا أم لم يعلم به. وفي مثله يكون على الحاكم إيصال التكليف إلى العبد ورفع موانع تنجزه اما برفع جهل العبد بجعله عالما بالحكم تكوينا ، واما بنصب طريق مصيب ، واما بتشريع إيجاب الاحتياط عليه ، لمنجزية نفس الاحتمال ، وحيث تنجز التكليف بأي سبب من أسبابه استحق العقوبة على المخالفة ، لقيام الحجة القاطعة للعذر عليه.

الثاني : أن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم مهما بنحو يريد من العبد

__________________

وثانيا : أن عنوان صدر البحث وهو قوله : «مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم» الظاهر في العلم بالنوع لا ينطبق عليه ، لوضوح عدم انطباقه على العلم بالجنس.

وثالثا : أن ما تقدم آنفا من تعلق الأحكام بالأفعال دون التروك جار هنا أيضا ، إذ العلم الإجمالي بإلزام مردد بين الوجوب والحرمة في مثل الدعاء عند رؤية الهلال وشرب التتن انما تعلق بفعلهما. نعم امتثال حرمة الفعل يتوقف على الترك ، وهذا غير تعلق الحرمة بالترك كما هو ظاهر المتن بل صريحه ، فتأمل جيدا.

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

استيفاءه على كل حال ، بل يريده على تقدير وصول الخطاب به إليه تفصيلا ولو من باب الاتفاق ، وحينئذ فالحكم الّذي يدعو إليه هذا النحو من الغرض يكون واجدا لمرتبة ما من التحريك ، وفعليته منوطة بالعلم به تفصيلا ، بحيث يكون العلم التفصيليّ به موجبا لتمامية فعليته أولا ، ولتنجزه ثانيا ، ومن المعلوم أن إيصال الحكم الناشئ عن هذا النحو من الغرض الملزم والخطاب المتكفل له إلى العبد ليس من وظيفة المولى ، لما تقدم من أن إرادته لاستيفاء الغرض ليست على كل تقدير ، بل انما هي على تقدير وصول الخطاب إلى المكلف ولو من باب الاتفاق ، فكما لا يجب حينئذ على الحاكم رفع موانع تنجزه ، فكذلك يجوز له إيجاد المانع من وصوله إلى المكلف بنصب طريق غير مصيب أو أصل مرخص ، لعدم الفرق بين إبقاء المانع وإيجاده ، إذ المفروض عدم تعلق إرادة المولى باستيفاء هذا الغرض على كل تقدير.

فالمتحصل : أن التكليف في كل من القسمين وأصل إلى مرتبة البعث والزجر وواجد لما هو قوام الحكم. لكن مراتب التحريك والردع مختلفة كما عرفت ، فيكون فعليا حتميا تارة كما في القسم الأول وتعليقيا أخرى كما في القسم الثاني.

إذا عرفت هذه المقدمة وأن التكاليف الفعلية على قسمين ، فاعلم أن قوله : «ان كان فعليا من جميع الجهات .... إلخ» إشارة إلى القسم الأول منهما. توضيحه : أن العلم بما هو طريق للواقع لا يفرق فيه بين الإجمالي والتفصيليّ في وجوب اتباعه والجري على وفقه ، لكن التكليف المعلوم بالإجمال ان كان من سنخ القسم الأول فهو يتنجز بالعلم الإجمالي ، لوصول البعث أو الزجر إلى العبد الرافع لعذره الجهلي ، فيستحق العقوبة على المخالفة ، والإجمال في المتعلق غير مانع عن التنجيز بعد فرض ارتفاع عذره الجهلي ، غاية الأمر حكم العقل بلزوم الاحتياط بالإتيان بجميع

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

المحتملات كما سيأتي. وحينئذ فالأدلة النافية للتكليف ـ بعد فرض شمولها لأطراف العلم الإجمالي ـ لا بد من تخصيصها ، لقيام القرينة العقلية عليه ، وهي استلزام شمولها للأطراف للترخيص في المعصية ، ضرورة أن المعلوم بالإجمال واجد للمرتبة الأكيدة من البعث والزجر ، ولا يرضى الحاكم بالمخالفة أصلا ، ولازم الاذن في الاقتحام عدم لزوم موافقته على بعض التقادير وهو كون الطرف المأذون فيه متعلقا للحكم ، وهذا هو التناقض المستحيل.

وان كان التكليف من سنخ القسم الثاني فهو لا يتنجز بالعلم الإجمالي ـ لا لقصور في العلم ـ بل لخلل في المعلوم ، وهو عدم تحقق شرط تمامية فعليته أعني العلم التفصيليّ به ، ولما كان التكليف في كل واحد من الأطراف مشكوكا فيه أمكن جعل الحكم الظاهري فيه ، لتحقق موضوعه ـ أعني الشك في الحكم الواقعي ـ مع العلم الإجمالي بمرتبة من الفعلية. وعليه فالمدار في التنجيز وعدمه على فعلية المعلوم لا على العلم من حيث التفصيلية والإجمالية.

ثم ان إحراز كون الحكم المعلوم بالإجمال من القسم الأول أو الثاني منوط باستظهار الفقهية من أدلة الأحكام ، فان كان المورد من قبيل الدماء والأعراض كان الحكم فعليا من جميع الجهات ، فالعلم الإجمالي بوجود دم محقون مردد بين شخصين أحدهما مؤمن متّق والآخر كافر حربي جائز القتل منجز للتكليف. ومن هذا القبيل حكمهم بوجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعية الوجوبية كالاستطاعة المالية وبلوغ المال الزكوي حد النصاب ، فانهم مع التزامهم بالبراءة في الشبهات الموضوعية حكموا بالاحتياط ووجوب الفحص في هذين الموردين.

وان كان كالخمر الدائر بين الإناءين أمكن إثبات حلية كل واحد من الأطراف بالأدلة المرخصة.

١٢

الإجمال والتردد والاحتمال ، فلا محيص (١) عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته ، وحينئذ (٢) لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع (٣) أو السعة (٤) أو الإباحة (٥) مما يعم (٦) أطراف العلم مخصّصا (٧) عقلا ، لأجل مناقضتها (٨) معه.

______________________________________________________

(١) جواب «ان كان» وضميرا «تنجزه ، مخالفته» راجعان إلى التكليف.

وغرضه : أن فعلية التكليف من جميع الجهات توجب تنجزه وامتناع جعل الترخيص شرعا ، لكون الترخيص مضادا للتكليف الفعلي ونقضا للغرض منه وهو جعل الداعي حقيقة من غير فرق فيهما بين العلم بالتكليف والظن به واحتماله ، لأن شمول أدلة الترخيص للأطراف يوجب العلم باجتماع الضدين في صورة العلم بالتكليف ، والظن باجتماعهما في صورة الظن به ، واحتمال اجتماعهما في صورة احتماله ، ومن المعلوم امتناع الجميع.

(٢) أي : وحين كون التكليف فعليا من جميع الجهات لا محالة ... ، والأولى اقتران «لا محالة» بالفاء.

(٣) الأول كحديث الرفع ، والثاني كحديث الحجب ، وكذا حديث الرفع بناء على نسخة «وضع عن أمتي» بدل «رفع».

(٤) كقوله عليه‌السلام في حديث السفرة : «هم في سعة ما لم يعلموا».

(٥) كقوله عليه‌السلام في مرسلة الصدوق : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي».

(٦) بيان للموصول في «ما دل» والمراد بالعلم هو الإجمالي.

(٧) بصيغة اسم المفعول خبر «يكون» يعني : أن أدلة البراءة الشرعية وان كانت شاملة ـ بمقتضى إطلاقها ـ لأطراف العلم الإجمالي ، لكن لا بد من تخصيصها بالشبهات البدوية ، لمحذور المناقضة المذكورة.

(٨) أي : مناقضة الرفع والوضع والسعة والإباحة مع الحكم الفعلي من

١٣

وان لم يكن (١) فعليا كذلك ـ ولو كان (٢) بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته ـ لم يكن (٣) هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلة البراءة الشرعية للأطراف.

______________________________________________________

جميع الجهات ، فقوله : «لأجل تعليل لتخصيص ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة عقلا ، وقد عرفت تقريب التناقض المخصص لها عقلا بقولنا : «وحينئذ فالأدلة النافية للتكليف بعد فرض ... إلخ».

(١) معطوف على «ان كان فعليا» والضمير المستتر فيه وفي «ولو كان» راجع إلى المعلوم بالإجمال ، وقوله : «كذلك» أي : فعليا من جميع الجهات ، وهذا إشارة إلى القسم الثاني من التكليف الفعلي ، وهو الفعلي التعليقي ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «الثاني أن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم مهما بنحو ... إلخ» يعني : أن فعليته التامة تتوقف على العلم به تفصيلا ، فالعلم الإجمالي لا يوجب تنجزه قهرا ، لكنه لا لقصور في العلم ، بل لعدم بلوغ ملاكه بدون العلم التفصيليّ حدا يقتضي لزوم إيصاله إلى المكلف بأي نحو كان ، فالخلل في المعلوم لا في العلم. ولما كان كل واحد من الأطراف مجرى للأصل النافي للتكليف ، للشك في كون كل واحد منها متعلقا للحكم الفعلي كان المقتضي لجريان أصل البراءة فيه موجودا ، والمانع عنه مفقودا كما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى ، ومعه يرتفع موضوع حكم العقل باستحقاق العقوبة على ارتكاب كل واحد من الأطراف.

(٢) للمعلوم بالإجمال الّذي لا يكون فعليا من جميع الجهات فردان : أحدهما أن لا يكون فعليا أصلا يعني لا من جهة العلم ولا من سائر الجهات. ثانيهما أن لا يكون فعليا من جهة العلم فقط ، فقوله : «ولو كان بحيث لو علم ... إلخ» إشارة إلى الخفي منهما وهو الثاني ، وقد عرفت آنفا توضيح عدم الفعلية من جميع الجهات.

(٣) جواب «وان لم يكن» وضميرا «امتثاله ، مخالفته» راجعان إلى المعلوم

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإجمال. أما عدم المانع العقلي ، فلان المانع هو قبح الترخيص في المعصية القطعية ، وهو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما فعليا من جميع الجهات ، وأما إذا لم يبلغ هذه المرتبة ولو لعدم العلم التفصيلي به فلا مانع حينئذ من الاذن في ارتكاب تمام الأطراف.

وأما عدم المانع الشرعي ، فلان المتوهم من المانع شرعا في المقام هو لزوم محذور التناقض بين صدر أدلة الأصول وذيلها إذا بنينا على شمولها لأطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. توضيح لزوم التناقض : أن مقتضى عموم قوله عليه‌السلام «كل شيء لك حلال» حلية المشتبه بالشبهة البدوية ، وكذا كل واحد من الأطراف في المقرونة ، ومقتضى إطلاق ذيله ـ أعني «حتى تعلم أنه حرام» ـ هو تنجز الحرمة بالعلم الإجمالي ، لأن «تعلم» مطلق يشمل كلا من العلم التفصيليّ والإجمالي ، فيلزم الحكم بالحلية لكل طرف بمقتضى الصدر ، والحكم بالحرمة بمقتضى الذيل.

وهذا الإشكال وهو التناقض المذكور تعرض له شيخنا الأعظم في بحث تعارض الاستصحابين بالنسبة إلى بعض أخبار الاستصحاب المشتمل على الذيل ، قال (قده) : «فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله». لكن هذا المحذور مفقود هنا ، لاختصاصه بالأدلة المرخصة المشتملة على هذا الذيل. وأما الفاقد له مثل حديث الرفع فلا تناقض فيه أصلا ، فلا مانع من شموله للأطراف وإثبات الترخيص فيها ، بل لا تناقض حتى في الأخبار المذيلة كما ذكرناه في التعليقة ، فراجع (*).

__________________

(*) وقد أجاب المصنف عن إشكال التناقض في مداليل الاخبار المشتملة على الذيل بوجوه ثلاثة ، تعرض لاثنين منها في حاشية الرسائل ولثالثها في الفوائد.

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : أنه مع عدم وجود المحذور العقلي والشرعي من شمول أدلة الأصول النافية للأطراف لا مناص من الحكم بحليتها.

__________________

الأول : أن لفظ «الشيء» انما يكنى به عرفا عن المعيّن لا عن أحد الشيئين أو الأشياء ، فيكون كل واحد من الأطراف مشمولا لقوله : «كل شيء» بما هو معيّن بنحو من التعيين كالإشارة إليه ، والعلم الإجمالي بحرمة أحدهما ليس غاية للحل ، لعدم كونه موجبا للعلم بحرمة واحد كان معينا بذلك التعيين الموجب لإدراجه تحت عموم الصدر. والعلم بحرمة أحدهما بلا عنوان أو بعنوان لا يتعين كل واحد منهما به لا يوجب ارتفاع الحلية السابقة ، إذ الغاية معرفة حرمة الشيء المعين بذلك التعيين الملحوظ في المغيا ، لتبعية الضمير في «أنه حرام» للمرجع وليس معرفة حرمة أحدهما بلا عنوان أو بعنوان كونه إناء زيد المردد بين الإناءين معرفة بحرمة الشيء وما ذكر هو مقتضى ظهور «الشيء» في التعيين ، لا للانصراف حتى يمنع منه بدعوى كونه بدويا.

هذا في قاعدة الحل. وكذا الحال في قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» حيث ان الظاهر منه نقض اليقين بالشيء بيقين آخر ، وليس اليقين بأحد الشيئين اليقين بالشيء عرفا. وهذا الظهور العرفي هو السر في شمول هذه الأخبار لأطراف الشبهة غير المحصورة مع وضوح عدم الفرق في المناقضة اللازمة ـ لو تمت ـ في مداليلها بين المحصورة وغيرها.

والحاصل : أن مرجع هذا الوجه إلى دعوى شمول الصدر لأطراف العلم الإجمالي بدون لزوم التناقض ، إذ المستفاد من الذيل أن الغاية هي العلم بحرمة الشيء المعين الّذي أريد من الصدر ، فالعلم الإجمالي بحرمة أحد الشيئين أو الأشياء ليس غاية لحلية الشيء المعين حتى يلزم التناقض.

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثاني : أن الذيل في أخبار الاستصحاب ليس مسوقا لبيان حكم شرعي مولوي حتى يستدل بإطلاق اليقين على شموله للعلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة كي يتجه محذور المعارضة ، وانما الغرض تقريب عدم صلاحية الشك لنقض اليقين به عقلا ، وأن ما يصلح ناقضا له هو اليقين اللاحق ، من دون نظر إلى أنه ينقض باليقين شرعا مطلقا أو خصوص التفصيليّ منه حتى يتمسك بالإطلاق الّذي ينشأ منه المعارضة ، وعليه فلا مانع من شمول الصدر بعمومه أو إطلاقه لجميع ما يمكن أن يعمها ومنها الأطراف.

وهكذا حال الغاية في رواية الحل ، بأن يكون غاية عقلية بلا حكم شرعي في جانبها ، فلا تمنع عن شمول المغيا بإطلاقه لما يصح أن يعمه ، ومن الواضح أن أطراف العلم الإجمالي مما يصح أن يعمها المغيا ، فتأمل فانه دقيق.

هذا ما أفاده المصنف (قده) في الحاشية. والظاهر متانة كل منهما في دفع إشكال المعارضة خصوصا الوجه الأول ، فان ذلك هو المنسبق من الإطلاقات المتعارفة ، لظهور قول القائل : «كل شيء في بيتي أو صندوقي أو بستاني هو ملكي إلّا أن يعلم أنه ملك أخي أو صديقي مثلا» في أن ما هو متعين لا مردد بين شيئين أو أشياء ملكي ، فالفرش مثلا بماله من التعين ملكي ، لا الفرش المردد بين فروش أو الظرف المردد بين ظروف عديدة ، فان عنوان التردد يحتاج إلى تصور زائد على نفس الشيء ، بخلاف التعين ، فانه ليس إلّا تصور نفس الشيء ، فتصور الفرش كاف في تعينه ولا يحتاج تعينه إلى لحاظ آخر ، ولذا قيل : ان إطلاق الأمر يقتضي التعيينية ، لأن التعيينية ليست قيدا زائدا على تصور نفس الشيء ، بخلاف التخييرية ، فانها تحتاج إلى لحاظ زائد وهو جعل العدل كما هو واضح.

١٧

ومن هنا (١) انقدح : أنه لا فرق بين العلم التفصيليّ والإجمالي ،

______________________________________________________

(١) يعني : ومن انقسام الفعلي إلى قسمين : ظهر عدم الفرق بين العلم التفصيليّ والإجمالي في علية كل منهما للتنجيز إذا كان المعلوم فعليا من جميع الجهات. وأما إذا لم يكن فعليا كذلك فيحصل الفرق بين العلمين ، ضرورة أن الفعلي بمرتبته الأولى يتنجز إذا علم به تفصيلا ، ولا يبقى مجال للإذن في مخالفته ، لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري ـ وهو الشك في الحكم الواقعي ـ لانكشافه تمام الانكشاف

__________________

الثالث : قال في الفوائد : «ان ظهور الغاية لو كان فانما هو بالإطلاق ، وهو لا يصلح أن يعارض به ظهور العام بلا كلام ، ضرورة أن من مقدمات ظهوره عدم البيان مع كون العام صالحا للبيان ، فلا وجه لرفع اليد عن عمومه الا على نحو دائر ، أي بسبب ظهور المطلق الموقوف على عدم العموم ، وتخصيصه الموقوف على ظهوره ، وإلّا لا يصلح قرينة على التخصيص ، فيكون بلا وجه ... إلخ» (١) ..

لكن يمكن أن يقال بتقدم ظهور الغاية وان كان بالإطلاق على ظهور العام وان كان بالوضع ، وذلك لما ثبت في محله من تقدم ظهور القرينة ولو كان بالإطلاق على ظهور ذيلها وان كان بالوضع ، ولذا يقدم ظهور «يرمي» في «رأيت أسدا يرمي» ـ في الرمي بالنبال دون الرمي بالتراب ـ على ظهور «أسد» في الحيوان المفترس مع كونه بالوضع. نعم مورد حديث تقدم الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي هو ما إذا كانا في كلامين منفصلين انعقد الظهور في كل منهما ، فان الظهور الوضعي حينئذ صالح لأن يكون رافعا لحجية الظهور الإطلاقي.

وعليه فلا محذور في كون الغاية قرينة على إرادة الشبهة البدوية من الصدر وهو «كل شيء» وإرادة العلم مطلقا وان كان إجماليا من الغاية.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٩ و ٣٢٥

١٨

إلّا أنه لا مجال (١) للحكم الظاهري مع التفصيليّ ، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات (٢) لا محالة (٣) يصير فعليا معه من جميع الجهات ، وله (٤) مجال مع الإجمالي ، فيمكن أن لا يصير فعليا

______________________________________________________

حسب الفرض. وأما إذا علم به إجمالا فرتبة الحكم الظاهري محفوظة معه ، للشك في وجود التكليف في كل واحد من الأطراف ، وبه يتحقق موضوع الأصل النافي ، فيجري بلا مانع.

وبالجملة : فالتفاوت في ناحية المعلوم لا في ناحية العلم ، إذ لو كانت فعلية التكليف تامة من ناحية إرادة المولى وكراهته ـ بحيث لا يتوقف استحقاق العقوبة على مخالفته إلّا على وصوله إلى المكلف بأي نحو كان من أنحاء الوصول ـ تنجز بالعلم الإجمالي أيضا. وان لم تكن الفعلية تامة إلّا بالعلم التفصيليّ ، لم يؤثر الإجمالي في تنجيزه ، لعدم حصول شرط فعليته التامة وهو العلم به تفصيلا ، فموضوع الأصل المرخص باق مع العلم الإجمالي كما كان قبله.

(١) لما عرفت من عدم الشك الّذي هو موضوع الحكم الظاهري مع العلم التفصيليّ.

(٢) أي : من غير جهة العلم التفصيليّ به ، بل من جهة الملاك وإرادة المولى وكراهته ، فإذا علم به تفصيلا صار فعليا من جميع الجهات ، فيصير حتميا ولا يبقى معه مجال لحكم آخر.

(٣) الأولى اقترانه بالفاء ، لأنه جواب «فإذا كان» إلّا أن يكون الجواب قوله : «يصير» لكن ينبغي حينئذ تأخير «لا محالة» عنه ، لأنه من معمولات «يصير».

(٤) أي : وللحكم الظاهري مجال مع العلم الإجمالي ، لوجود موضوعه وهو الشك معه ، وضمير «معه» راجع إلى العلم التفصيليّ ، والضمير المستتر في

١٩

معه (١) ، لا مكان جعل الظاهري في أطرافه وان كان فعليا من غير هذه الجهة (٢) (*) فافهم.

______________________________________________________

«يصير» في الموردين راجع إلى الحكم الواقعي.

(١) أي : مع العلم الإجمالي ، ووجه عدم فعليته معه هو ما أفاده بقوله : «لإمكان» وحاصله : أن اقتران العلم الإجمالي بالشك أوجب إمكان جعل الحكم الظاهري في أطرافه ، وهذا مفقود في العلم التفصيليّ.

(٢) يعني : وان كان فعليا من سائر الجهات بحيث لو علم به تفصيلا لتنجز ، ولم يكن فعليا من الجهة المضادة لجعل الترخيص والحكم الظاهري في أطرافه.

__________________

(*) فيه : أن فعلية الحكم ليست إلّا بوجود موضوعه بسيطا كان أو مركبا ، ومن المعلوم أن هذه الفعلية لا تتوقف على العلم بنفس الحكم لا تفصيلا ولا إجمالا ، وإلّا لزم دخل العلم فيه ، وهو خلاف الإجماع بل الضرورة. وعليه فيصير الحكم بمجرد وجود موضوعه فعليا علم به المكلف أم لا ، والحكم الفعلي بهذا المعنى يصير منجزا بكل من العلم التفصيليّ والإجمالي بناء على منجزيته ، وحينئذ فالمراد بالعلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي هو وجود الموضوع بماله من الأجزاء والشرائط من الابتلاء وعدم الاضطرار إلى بعض الأطراف وغيرهما.

وبالجملة : فالفعلية اما بمعنى وجود الحكم بوجود موضوعه ، واما بمعنى الفعلية الحتمية وهي التنجز ، وعلى التقديرين لا فرق بين كون العلم المتعلق به تفصيليا وإجماليا. وعليه فجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي لعدم كون الحكم فعليا من جميع الجهات لم يظهر له وجه وجيه ، بل الحق بناء على منجزية العلم الإجمالي أنه لا تجري الأصول في أطرافه أصلا كالعلم التفصيليّ. ولعله إلى ما ذكرنا أو بعضه أشار بقوله : «فافهم».

ثم ان ما يعد من موانع الفعلية كالاضطرار والخروج عن الابتلاء وغيرهما يرجع

٢٠