منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

وإمكان (١) الإتيان بها بهذا الداعي ، ضرورة (٢) إمكان تصور الآمر لها مقيدة ، والتمكن (٣) من إتيانها (٤) كذلك (٥) بعد (٦) تعلق الأمر

______________________________________________________

بداعي أمرها ، ومن المعلوم : أنّ تصورها كذلك لا يتوقف على وجود الأمر في الخارج ، فيكون دعوة الأمر بالتصور المزبور مقدمة على الأمر الخارجي وغير منوطة به حتى يلزم الدور ، كتقدم سائر أجزاء المتعلق وشرائطه في مقام التصور على الحكم.

(١) هذا إشارة إلى دفع الإشكال الثاني ، وإثبات القدرة على الامتثال ، وحاصله : وجود القدرة عليه بتصور الطبيعة مقيدة بداعي أمرها بالتقريب الّذي عرفته مفصلا ، وعليه فلا يلزم إشكال لا في ناحية الجعل ولا في ناحية الامتثال ، فيصح دخل قصد القربة في متعلق الأمر ، كدخل غيره من القيود شرعاً فيه ، فمع الشك في دخل قصد القربة في واجب لا مانع من نفيه بإطلاق الخطاب.

(٢) تعليل لدفع توهم الدور وبيان له ، وقد عرفت توضيحه.

(٣) معطوف على ـ إمكان ـ وهذا تعليل لدفع توهم عدم قدرة العبد على الامتثال ، وقد عرفت توضيحه أيضا.

(٤) أي : الصلاة.

(٥) أي : مقيّدة بالأمر التصوري.

(٦) متعلق بالتمكن ، يعني : أنّ الشرط في حُسن الخطاب هو القدرة والتمكن حين الامتثال لا حين الأمر أو قبله ، والمفروض وجود القدرة حين الامتثال ، لأنّه بعد الأمر بالصلاة المقيّدة تكون الصلاة مأموراً بها ، فيمكن للمكلّف الإتيان بها لأمرها ، فإنّ حكم العقل باعتبار القدرة في متعلقات التكاليف لمّا كان من باب قبح

٤٦١

بها (١) ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر واضح (٢) الفساد ، ضرورة أنّه (٣) وإن كان

______________________________________________________

مطالبة العاجز لم يكن قاضياً بأزيد من اعتبارها في حال الامتثال ، لاندفاع القبح المزبور بذلك.

(١) أي : الصلاة.

(٢) خبر قوله : «وتوهم» ودفع له.

(٣) الضمير للشأن ، وظاهره تسليم اندفاع إشكال الدور في مقام الجعل بمجرد تصور الصلاة مقيدة بداعي طبيعة الأمر ، حيث إنّ موضوع الأمر هو تصوُّره لا وجوده خارجاً ، فمفهوم قصد امتثال الأمر الّذي هو جزء المتعلق أو شرطه لا يتوقف على الأمر الخارجي حتى يلزم الدور ، وإنّما المتوقف عليه هو مصداق قصد الامتثال ، لكن المصداق ليس جزء المتعلق أو شرطه حتى يكون مستلزماً للدور من جهة دخله في المتعلق الّذي يتوقف عليه الحكم ، لتقدم كل موضوع على حكمه ، ومن جهة نشوه عن الأمر ، لترتبه عليه وكونه من القيود الناشئة عنه ، فيتوقف على الأمر. وكيف كان فالمصنف (قده) أضرب عما اندفع به إشكال الدور في مقام الجعل ، وتصدّى لدفع الإشكال الثاني وهو كون المعتبر من القدرة على الامتثال هو القدرة حينه لا حين الأمر ، وحاصل ما أفاده في ذلك هو : أنّ الضابط في القدرة المعتبرة في الامتثال وان كان ذلك بلا كلام ، لكنه لا ينطبق على المقام ، وذلك لعدم حصول القدرة هنا للمكلف على الامتثال إلى الأبد ، حيث إنّ الأمر ـ على ما فرضه المتوهم ـ قد تعلق بالصلاة المقيدة بداعي الأمر ، لأنّ الّذي جعل متعلقاً للأمر ـ وهو المتصور في ذهن الحاكم الآمر ـ هو هذا المقيّد ، ومن المعلوم : أنّ هذا المقيد لا يمكن الإتيان به بداعي الأمر

٤٦٢

تصورها (١) كذلك (٢) بمكان من الإمكان ، إلّا أنّه (٣) لا يكاد يمكن الإتيان بها (٤) بداعي أمرها ، لعدم (٥) الأمر بها (٦) ، فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها (٧) مقيدة بداعي الأمر ، ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به (٨)

______________________________________________________

أي لا يمكن الإتيان بالصلاة المقيدة بداعي الأمر ـ بداعي الأمر ـ ، لأنّ داعي الأمر إنّما تعلق بذات الصلاة ، لا بها مقيدة بداعي الأمر. وأمّا الإتيان بذات الصلاة فهو غير واجب ، لأنّ المفروض عدم تعلق الأمر بذات الصلاة ليكون الأمر داعياً إليها ، بل الأمر تعلق بالصلاة المقيدة بداعي الأمر ، ومعلوم : أنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلقه ، فإنّ الأمر بالصلاة لا يدعو إلى الصوم والحج مثلا ، ففي المقام لا يدعو الأمر إلّا إلى الصلاة المقيدة ـ لا المطلقة ـ أعني ذات الصلاة ، فتدبّر.

(١) أي : الصلاة.

(٢) أي : مقيدة بداعي الأمر.

(٣) الضمير للشأن ، وهذا إشارة إلى دفع الإشكال الثاني ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : «وحاصل ما أفاده في ذلك هو أن الضابط ... إلخ».

(٤) أي : الصلاة.

(٥) تعليل لعدم إمكان الإتيان بالصلاة بداعي أمرها ، وقد عرفت آنفاً توضيحه.

(٦) هذا الضمير ، وضمير «أمرها» راجعان إلى الصلاة.

(٧) أي : الصلاة.

(٨) وهو الصلاة المقيّدة ، فالأمر يدعو إليها ، لا إلى غيرها وهو ذات الصلاة ، إذ المفروض عدم تعلق الأمر بها ، فيمتنع الإتيان بها لأمرها إلى الأبد ، فضابط القدرة على الامتثال لا ينطبق على ما نحن فيه.

٤٦٣

لا إلى غيره. ان قلت : نعم (١) ولكن نفس الصلاة أيضا (٢) صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة. قلت : كلّا (٣) ، لأنّ ذات المقيد لا تكون مأموراً

______________________________________________________

(١) غرضه دفع إشكال عدم القدرة على الامتثال إلى الأبد ، وحاصله : أنّ الأمر وإن كان متعلقاً بالمقيد ، لكنه ينحل إلى أمرين ضمنيين يتعلق أحدهما بالذات المعروضة للتقييد ، والآخر بالتقييد ، فيمكن حينئذٍ إتيان ذات الصلاة مثلا بداعي أمرها الضمني ، فاندفع به إشكال تعذُّر الامتثال إلى الأبد ، فقوله : «نعم» تسليم لقوله : «لعدم الأمر بها» يعني : أنّ الأمر وان لم يتعلق بنفس الصلاة استقلالاً ، لكنه تعلق بها ضمناً ، لانحلال الأمر بالمقيّد إلى الأمر بالذات والتقيد كما عرفت.

(٢) يعني : كالتقيد.

(٣) محصل هذا الجواب : إنكار انحلال الأمر بالمقيّد إلى أمرين ، وبقاء إشكال عدم القدرة على امتثال أمر مثل الصلاة بداعي أمره إلى الأبد.

توضيحه : أنّ الأجزاء على قسمين : خارجية وتحليلية.

أمّا الأجزاء الخارجية ، فهي تتصف بالوجوب المتعلق بالكل ، لأنّه نفس الأجزاء بالأمر ، فالأمر المتعلق بالكل ينحل على حسب تعدد أجزاء المتعلق إلى أوامر نفسية ضمنية ، والفرق بين أمر المركب وبين أوامر أجزائه هو : أنّ أمر المركب نفسي استقلالي ، وأوامر الأجزاء نفسية ضمنية.

وأمّا الأجزاء التحليلية ، فلا تتصف بالوجوب ، لعدم وجودٍ لها في الخارج ، فلا ينحل الأمر بالمقيد إلى أمر متعلق بنفس الذات ، وأمر متعلق بالتقيد ، فليس للذات مجردة عن التقيد أمر باعث إليها حتى يصح إتيانها بداعي أمرها ، مثلا إذا قال المولى للمفطر في شهر رمضان بلا عذر : «أطعم ستين مسكيناً» فهل يصح

٤٦٤

بها ، فإنّ الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا (*). فإنّه ليس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسيّ كما ربما يأتي في باب المقدمة إن قلت :

______________________________________________________

أن يقال : إنّ وجوب إطعامهم ينحل إلى وجوبات.

أحدها : وجوب إطعام حيوان.

والآخر : وجوب إطعام إنسان.

والثالث : وجوب إطعام فقير ، وهكذا سائر الأمثلة التي لا تحصى.

وبالجملة : فالمقيّد موجود واحد ، وكثرته إنّما هي بالتحليل العقلي إلى ذات وتقيُّد ، لا بالتحليل الخارجي.

__________________

(*) لا مانع عقلا من اتصاف الأجزاء التحليلية بالوجوب خصوصاً بعد البناء على كون الأحكام لموضوعاتها كعوارض الماهية لا كعوارض الوجود ، نعم ذلك خلاف المتفاهم العرفي من الأدلة ، وليس ذلك راجعاً إلى مقام التطبيق حتى يناقش فيه بعدم اعتبار نظرهم فيه ، واختصاص اعتباره بتشخيص المفاهيم كما لا يخفى. ويمكن أن يكون منشأ فهم العرف لعدم اتصاف الأجزاء التحليلية بالحكم ملاحظة قيام المصالح والمفاسد بوجود متعلقات التكاليف وان كانت هي بوجودها العلمي دواعي للتشريع ، وبوجودها العيني غايات مترتبة على المتعلقات ترتب المعلولات على عللها التكوينية ، فإنّ الحكم تابع سعة وضيقاً لدائرة الغرض الداعي إلى التشريع ، فإذا ترتب الغرض على الموجود الخارجي فالحكم أيضا مترتب عليه ، لا بمعنى كون موضوع الحكم هو وجوده خارجاً ، كيف؟ وهو ظرف سقوط الحكم لا ثبوته ، بل بمعنى تعلق الحكم بإيجاد متعلّقه ، وطرد عدمه المحمولي بوجوده كذلك.

٤٦٥

نعم (١) لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً ، وأمّا إذا أخذ شطراً فلا محالة نفس الفعل الّذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلقاً للوجوب ، إذ (٢) المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر ، ويكون تعلُّقه (٣) بكل (٤) بعين تعلقه بالكل ، ويصح أن يؤتى به (٥) بداعي ذلك الوجوب (٦) ، ضرورة صحة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه (٧). قلت : ـ مع امتناع

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ عدم الانحلال إلى أمرين : أمر متعلق بالذات وأمر متعلق بالتقيد إنّما هو فيما إذا أُخذ قصد القربة شرطاً ، لأنّ انحلال المقيّد إلى ذات وقيد يكون عقليا ، فالذات كالقيد حينئذ جزءٌ تحليلي عقلي لا تتصف بالوجوب الضمني. وأمّا إذا أخذ قصد الامتثال جزءا ، فلا محالة ينحل الأمر إلى أوامر عديدة بتعدد الأجزاء ، إذ ليس المركّب إلّا الأجزاء ، فأمره ينحل بعدد أجزاء المركّب إلى أوامر عديدة ، والمفروض أنّ ذات المقيّد كالصلاة جزء المأمور به ، فتكون متعلقة للأمر الضمني ، فيتمكن العبد من الإتيان بها بداعي هذا الأمر الضمني.

(٢) تعليل لتعلُّق الوجوب بالفعل الّذي تعلق به الوجوب مقيدا بقصد الامتثال كالصلاة.

(٣) أي : الوجوب.

(٤) أي : بكل جزء.

(٥) أي : بنفس الفعل.

(٦) أي : الوجوب المتعلق بالكل وهو الفعل المقيد بامتثال أمره ، لأنّ المأمور به هو هذا.

(٧) أي : الواجب ، فإنّ وجوبه يصحح الإتيان بأجزائه بداعي الوجوب المتعلق بالكل المنبسط على الأجزاء.

٤٦٦

اعتباره (١) كذلك (٢) (*) ، فإنّه (٣) يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري ، فإنّ الفعل وان كان بالإرادة اختياريا ، إلّا أنّ إرادته حيث لا تكون بإرادة أخرى وإلّا لتسلسلت ليست باختيارية كما لا يخفى ـ إنّما (٤) يصح الإتيان بجزء

______________________________________________________

(١) أي : قصد الامتثال.

(٢) أي : جزءا.

(٣) أي : اعتبار قصد القربة جزءا يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري ، وحاصل ما أفاده في دفع الإشكال وجهان :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «مع امتناع اعتباره ... إلخ» ومحصله : أنّ دخل قصد القربة جزءا للمأمور به يوجب التكليف بغير المقدور.

توضيحه : أنّ قصد امتثال الأمر ليس إلّا إرادة الفعل عن أمره بحيث يكون الداعي إلى الإرادة ذلك الأمر ، والإرادة ليست اختيارية حتى يصح أن تقع في حيِّز الأمر ، إذ لو كانت اختيارية لتوقفت على إرادة أخرى ، إذ كل أمر اختياري لا بد وأن تتعلق به الإرادة ليكون اختياريا ، فيلزم تسلسل الإرادات ، فلا بد في دفع هذا المحذور من جعل الإرادة غير اختيارية ، وحينئذ يمتنع تعلُّق التكليف بها عقلا ، وعليه : فلا يمكن أن يكون قصد القربة دخيلا جزءا في المتعلق ، كدخل سائر الأجزاء فيه حتى ينحل الأمر بالمركّب إلى الأمر بذات الفعل كالصلاة ، والأمر بجزئه الآخر وهو قصد الامتثال ، ومع عدم الانحلال لا يتعلق أمر ضمني بنفس الفعل حتى يؤتى به بقصد أمره كما مر.

(٤) هذا مقول قوله : «قلت» ، فهو المقصود الأصلي بالجواب عن الإشكال

__________________

(*) هذا يوهم إمكان أخذ القربة شرطا ، مع أنّ القدرة شرط مطلقا ، إذ لا فرق في حكم العقل بقبح مطالبة العاجز بين الجزء والشرط.

٤٦٧

الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه (١) بهذا الداعي (٢) ، ولا يكاد (٣) يمكن الإتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

إن قلت :

______________________________________________________

وما قبله من ضمائمه.

وحاصله : أنّ داعويّة الأمر بالكل للأجزاء إنّما تصح فيما إذا لم يكن من أجزائه نفس الداعوية ، كما إذا كان المتعلق للأمر ذات الركوع والسجود وغيرهما من الأجزاء ، فحينئذ تكون داعوية الأمر بالكل عين داعوية الأوامر الضمنية المتعلقة بالأجزاء.

وأمّا إذا كان المتعلق مركبا من أجزاء ، وكان من جملتها الإتيان بداعي الأمر كالمقام ، إذ المفروض أنّ المركّب الّذي تعلق به الوجوب هو الأجزاء التي منها إتيانها بداعي أمرها ، فيلزم أن يكون الأمر داعيا إلى داعويّة نفسه ، وعلة لعليته ، إذ المفروض وحدة الأمر ، فإذا كانت دعوة هذا الأمر من أجزاء المركب ، والأمر المتعلق بالكل يدعو إلى كل واحد من أجزائه التي منها هذه الدعوة (لزم) أن يكون أمر المركب داعيا إلى داعويّة نفسه ، فيلزم توقف الشيء على نفسه.

(١) هذا الضمير وضمير «وجوبه» راجعان إلى الواجب.

(٢) أي : بداعي وجوب الواجب وهو المركب.

(٣) وحاصله : إبداء الفرق بين المركب الّذي يكون داعي امتثال الأمر من أجزائه كالمقام ، وبين المركب الّذي لا يكون كذلك ، وقد عرفت تفصيل ذلك.

وبالجملة : فإشكال عدم قدرة المكلف على إتيان متعلق الأمر بقصد امتثال أمره لم يندفع بشيء من الوجوه المزبورة.

٤٦٨

نعم (١) لكن هذا كله إذا كان اعتباره (٢) في المأمور به بأمر واحد (٣) ، وأمّا إذا كان بأمرين (٤) تعلق أحدهما بذات الفعل وثانيهما بإتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلا (٥) كما لا يخفى ، فللآمر (٦) أن يتوسّل بذلك (٧) في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده

______________________________________________________

(١) غرضه : دفع إشكال عدم القدرة على إتيان المأمور به بقصد امتثال أمره بوجه آخر وهو تعدُّد الأمر ، حيث إنّه مع تعدده لا يلزم دور ، ولا عدم القدرة على الامتثال.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الأمر الأوّل المتعلق بذات الصلاة مثلا يصير موضوعا للأمر الثاني المتعلق بما تعلق به الأمر الأوّل بداعي أمره.

وأمّا الثاني ، فللقدرة على إتيان الصلاة مثلا بداعي أمرها الأوّل بعد الأمر الثاني.

(٢) أي : قصد الامتثال.

(٣) يعني : كما كان هو المفروض.

(٤) كما عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) ، حيث إنّه جعل الأوامر العبادية متعلقة بنفس الأجزاء والشرائط ، واستفاد اعتبار قصد القربة فيها بالإجماع والآيات.

(٥) يعني : لا من ناحية الدور ، لما عرفت من أنّ الأمر بذات الصلاة موضوع للأمر الثاني المولوي المتعلق بإتيان الصلاة بداعي أمرها الأوّل ، ولا من ناحية القدرة على الامتثال ، بداهة التمكن منه على هذا النحو.

(٦) بصيغة اسم الفاعل.

(٧) أي : تعدد الأمر.

٤٦٩

بلا منعة (١). قلت : ـ مضافا (٢) إلى القطع بأنّه ليس في العبادات إلّا أمر واحد كغيرها (٣) من الواجبات والمستحبات ، غاية الأمر (٤) يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها (٥) المثوبات (٦) والعقوبات ، بخلاف ما عداها (٧)

______________________________________________________

(١) هي كما عن الزمخشري في المصباح مصدر ، والمناسب أن يكون مبنيا للفاعل أي بلا مانع ، وفي بعض النسخ ـ بلا تبعة ـ أي بلا محذور ، والمعنى على التقديرين واضح.

(٢) ما أفاده في الجواب وجهان : أحدهما راجع إلى منع الصغرى ، والآخر راجع إلى منع الكبرى.

أمّا الأوّل ـ وهو ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى القطع ... إلخ» ـ فحاصله : منع تعدد الأمر في العبادات مطلقا حتى الواجبات ، بل هي كالتوصليات في وحدة الأمر ، والفرق بينهما إنّما هو في دوران الثواب والعقاب في العبادات مدار امتثال أمرها وعدمه ، ودوران الثواب فقط في التوصليات مدار الامتثال ، وأمّا العقاب فلا يترتب على ترك الامتثال ، بل فيها على ترك الواجب ، لإمكان سقوطه بإتيانه بغير داع قربي ، فإنّ الواجب يسقط حينئذ مع عدم الامتثال ، ولا يترتب عليه عقاب أيضا ، لتحقق الواجب المانع عن استحقاق العقاب كالتطهير بالماء المغصوب ، فإنّ الثوب أو البدن يطهر ، ولا يترتب العقاب إلّا على الغصب.

(٣) أي : غير العبادات.

(٤) إشارة إلى الفرق المزبور بين العبادات والتوصليات (٥) أي : العبادات.

(٦) فاعل ـ يدور ـ.

(٧) أي : العبادات من التوصليات مطلقا واجباتها ومستحباتها

٤٧٠

فيدور فيه (١) خصوص المثوبات ، وأمّا العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق (٢) الموافقة ـ إنّ (٣) الأمر الأوّل إن كان يسقط بمجرد موافقته ولو لم يقصد به

______________________________________________________

(١) أي : فيما عدا العبادات.

(٢) معطوف على ـ الطاعة ـ عطف العام على الخاصّ ، والأولى إسقاط لفظ ـ الطاعة ـ ، لعدم ترتب العقوبة عليها ، إذ الطاعة هي الإتيان بمتعلق الأمر بداعي أمره وهي مدار استحقاق الثواب ، وليس تركها مناط استحقاق العقوبة ، بل مناطه هو ترك المتعلق رأسا ، وعدم إتيانه ولو بداع غير قربي ، ولعل المراد من الطاعة في التوصليات مطلق الموافقة ، فيصير العطف تفسيريا ، وأمّا الجواب الثاني الراجع إلى منع الكبرى فسيتلى عليك في الحاشية الآتية.

(٣) هذا مقول قوله : «قلت» وهذا هو الوجه الثاني المقصود به أصالة في الجواب عن الإشكال.

وحاصله : أنّ الأمر الأوّل لا يخلو من أحد أمرين :

أحدهما : حصول الغرض الداعي إليه بمجرد إتيان متعلّقه بدون قصد الامتثال ، والآخر بقاء الغرض على حاله وعدم حصوله بإتيان الفعل مجرّدا عن قصد الامتثال ، فعلى الأوّل يسقط الأمر المتعلق بذات الفعل ، ولا مجال للأمر الثاني ، لعدم غرض موجب له ، فيكون لغوا غير صادر من الشارع الحكيم. وعلى الثاني يستقل العقل بإتيان المأمور به على وجه يوجب القطع بحصول الغرض من الأمر ، وهو إتيانه بداعي الأمر ، ومع استقلال العقل بذلك لا حاجة أيضا إلى الأمر الثاني الشرعي المولوي بإتيانه على هذا الوجه ، لكفاية حكم العقل بذلك.

فالمتحصل : أنّه لا حاجة إلى الأمر الثاني على كلا التقديرين ، بل على التقدير الثاني لا يمكن الأمر المولوي ، لكون المقام من باب الإطاعة التي تكون

٤٧١

الامتثال كما هو (١) قضية الأمر الثاني ، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة (٢) ، وإن (٣) لم يكد يسقط بذلك (٤) فلا يكاد يكون له (٥) (*) وجه إلّا عدم

______________________________________________________

من المستقلات العقلية الواقعة في سلسلة المعلولات التي يمتنع جعل الحكم المولوي فيها ، بل لا محيص عن حمل ما يرد من الشارع في هذا الباب على الإرشاد إلى حكم العقل كما ثبت ذلك في محله ، فقصد القربة من القيود العقلية التي يمتنع دخلها شرعا في متعلق الأمر.

(١) قيد للمنفي ، يعني : أنّ السقوط بقصد الامتثال مقتضى الأمر الثاني.

(٢) أي : تعدُّد الأمر.

(٣) معطوف على قوله : «ان كان يسقط» يعني : وان لم يسقط الأمر.

(٤) يعني : بمجرّد الموافقة.

(٥) أي : لعدم السقوط.

__________________

(*) هذا لا يخلو من غموض ، إذ لا مانع من ترتب غرض وجداني على كلا الأمرين بأن يكون الأمر الثاني أمرا ضمنيا كسائر أوامر الأجزاء ، فذلك الغرض ـ لترتبه على المجموع ـ لا يسقط بمجرد موافقة الأمر الأول ، كما هو شأن الواجب الارتباطي ، فإنّ سقوط أمر الجزء الأوّل مراعى بسقوط غيره من الأوامر الضمنية المتعلقة بسائر الأجزاء. وتوضيح ذلك يتوقف على تقديم أمور :

الأوّل : انّ المناط في تعدد الأمر هو تعدد الأغراض الداعية إلى التشريع لا تعدد الإنشاء ، فإن كان الغرض واحدا والإنشاء متعددا فالمجعول واحد حقيقة.

الثاني : أنّ متمِّم الجعل تارة يكون متمِّما لقصور شمول الخطاب الأوّلي كالمقام ، فإنّ الأمر الأوّلي لا يشمل القربة المعتبرة فيه ، لتأخرها عنه وأخرى

٤٧٢

حصول غرضه (١)

______________________________________________________

(١) أي : الآمر مبنيا للفاعل.

__________________

يكون متمِّما لقصور محرِّكيته كإيجاب الاحتياط ، فإنّ الخطاب الواقعي في ظرف الشك فيه قاصر عن التحريك والبعث الفعليين ، والاحتياط متمِّم لقصور محركيته في حال الجهل به.

(وثالثة) يكون متمما للملاك ، كوجوب المقدمات المفوِّتة على التفصيل الّذي يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

الثالث : أنّ المبنى المنصور كما يأتي في بحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى هو كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، كما يشهد بذلك جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين بناء على عدم حجية الأصل المثبت ، خلافا لما عن المشهور من ذهابهم إلى أنّ التقابل بينهما هو الإيجاب والسلب ، ولما عن الشيخ من كونه هو التضاد. وعلى الأوّل يمتنع الإطلاق بعين امتناع التقييد فلا إطلاق في البين يصح التمسك به. وعلى الثاني يصح التشبث بالإطلاق ، لأنّ استحالة التقييد توجب تعين الإطلاق الّذي هو نقيض التقييد أو ضده ، لاستحالة ارتفاع الضدين اللّذين لا ثالث لهما أو النقيضين.

الرابع : أنّ الأحكام العقلية المستقلة على قسمين :

أحدهما : ما يكون واقعا في سلسلة علل الأحكام كقبح الظلم والكذب ، وحسن الإحسان ، وردّ الوديعة ونحو ذلك.

ثانيهما : ما يكون واقعا في سلسلة المعلولات أي مترتّبا على حكم الشارع ترتب الحكم على موضوعه.

أمّا القسم الأوّل ، فلا يمنع عن وقوع الحكم المولوي في مورده ، كحرمة

٤٧٣

بذلك (١) من أمره ،

______________________________________________________

(١) أي : بمجرد الموافقة ، وضمير ـ أمره ـ راجع إلى الآمر.

__________________

الظلم ووجوب ردِّ الوديعة.

وأمّا القسم الثاني ، فيمتنع وقوع الحكم المولوي في مورده ، لما قرّر في محله ، فإذا وقع فيه حكم فلا بد من حمله على الإرشاد ، كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)».

الخامس : أنّ جميع ما يطرأ من العوارض والحالات على كل من موضوع الحكم ومتعلّقه كالمكلف والصلاة إمّا أن يكون في عرضه ورتبته بحيث يمكن لحاظه مع الموضوع مع الغض عن حكمه ، كلحاظ مالكية التصرف في المال الزكوي مع المكلف المالك للنصب الزكوية ، أو مع المتعلق ، كالاستقبال والستر والطهارة مثلا مع الصلاة. وإمّا أن يكون في طوله كالعلم بالحكم بأن يقول الشارع مثلا : «المكلف المسافر العالم بوجوب القصر يجب عليه القصر» ، فالعلم بالحكم المتأخر عنه دخيل في الموضوع ، كدخل البلوغ والعقل والقدرة فيه ، غاية الأمر أنّها من الشرائط العامة ، والعلم من الشرائط الخاصة ، هذا في الموضوع.

وأمّا في المتعلق فكقصد القربة في الصلاة ، فإنّه متأخر عن الصلاة ، لترتبه على الأمر المتأخر رتبة عن متعلقه ، فلا يمكن لحاظه في عرض الصلاة ، كلحاظ الطهارة والاستقبال وغيرهما من الشرائط ، ولحاظ عدم كونها في الحرير والذهب وما لا يؤكل من الموانع ، فإنّ هذه الشرائط والموانع ملحوظة عرضا مع الصلاة من دون ترتبها وتوقفها على الأمر بها ، وهذا بخلاف قصد القربة وغيره مما يترتب على الأمر ويترشّح منه ، فإنّه يمتنع لحاظه مع الصلاة بدون أمرها. إذا عرفت انقسام الطوارئ بالنسبة إلى كلٍّ من الموضوع والمتعلق إلى القيود الأوّلية

٤٧٤

لاستحالة (١) سقوطه مع عدم

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «فلا يكاد» ، وقد عرفت آنفاً توضيحه.

__________________

والثانوية ، فاعلم : أنّ إطلاق الخطاب مرجع في الانقسامات الأوّلية سواء كانت في الموضوع بكلا قسميه من المكلف والعين الخارجية كالماء والخل ونحوهما مما يتعلق به فعل المكلف أم المتعلق ، وذلك لإمكان لحاظها في عرض الموضوع مطلقاً والمتعلق ، وكلّما كان كذلك يصح الإطلاق فيها ، فإذا شُك في دخل شيءٍ في موضوع الحكم كالرجوع إلى الكفاية مثلا في موضوع وجوب الحج ولم تنهض حجة على اعتباره يرجع فيه إلى إطلاق الخطاب القاضي بإطلاق الموضوع ، وعدم تقيُّده بالرجوع إلى الكفاية ، وكذا إذا شك في دخل شيءٍ في متعلق الحكم كالشك في اعتبار الاستعاذة أو غمض العين مثلا في الصلاة ، فإنّه لا ينبغي الارتياب في جواز الرجوع فيهما إلى إطلاق الخطاب أيضا ، لإمكان لحاظ هذين المشكوكين في عرض لحاظ الصلاة.

وبالجملة : فإطلاق الخطاب محكّم في الانقسامات الأوّلية مطلقاً سواء كانت في الموضوع أم المتعلق.

وأمّا الانقسامات الثانوية المترتبة على الحكم المأخوذة في الموضوع كالعلم بالحكم ، فيمتنع التقييد بها في جميع المراتب الثلاث : الإنشاء والفعلية والامتثال.

أمّا امتناع التقييد في مرحلة الإنشاء ، فلاستلزامه تعلُّق لحاظ واحد بشيءٍ فارد يكون علة ومعلولا.

توضيحه : أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، فالحكم متوقف على موضوعه توقف المعلول على علته ، فلا يوجد الحكم قبل وجود موضوعه ، ففي مقام الجعل والإنشاء لا بدّ من تصوُّر الموضوع أوّلاً ، ثم الحكم عليه

٤٧٥

حصوله (١) ،

______________________________________________________

(١) أي : الغرض ، وضمير ـ سقوطه ـ راجع إلى الأمر.

__________________

ثانياً ، وليس العلم بالحكم كذلك ، لأنّ مقتضى موضوعيته هو توقف الحكم عليه تصوراً ووجوداً ، والمفروض توقف العلم على الحكم أيضا ، لتقدم المعلوم على العلم ، فيستحيل دخل العلم بالحكم في موضوع نفس هذا الحكم ، لمحذور الدور ، لتوقف الحكم على العلم به ، لأنّه موضوعه ، وتوقف العلم عليه ، لتقدم المعلوم على العلم ، فتصور العلم بالحكم موضوعاً لنفس هذا الحكم ممتنع ، لامتناع وجوده في الخارج قبل الحكم ، ومن المعلوم : تقدُّم كل موضوع على حكمه ، فإنشاءُ الحكم مقيّداً بالعلم به مستحيل ، حيث إنّ المتصوَّر في مقام الإنشاء لا بدّ وأن ينطبق على ما في الخارج ، وقد عرفت عدم انطباقه عليه ، إذ لا يوجد العلم بالحكم قبل الحكم حتى يكون كالبلوغ والعقل والقدرة من الشرائط العامة ، والاستطاعة ومالكية النصاب ونحوهما من الشرائط الخاصة ، وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضا بناءً على كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة كما أشرنا إليه آنفاً.

وأمّا امتناع التقييد في مرحلة الفعلية ، فقد ظهر وجهه مما تقدم من استلزامه تقدُّم الشيء على نفسه ، وكونه موجوداً ومعدوماً في آنٍ واحد ، لأنّ مقتضى موضوعية العلم تقدُّمه على الحكم ، فيكون موجوداً قبل الحكم ، ومقتضى تقدم المعلوم على العلم تأخُّره عن الحكم ، إذ لا بدّ من وجوده حتى يعلم به المكلف ، وليس هذا إلّا اجتماع النقيضين المستحيل ، فملاك استحالة الدور ـ وهو اجتماع النقيضين ـ موجود هنا.

وأمّا امتناع التقييد في مرحلة الامتثال ، فوجهه : أنّه يعتبر في الامتثال إحراز الحكم على النحو المترتب على موضوعه ، وإحرازه كذلك هنا غير ممكن ،

٤٧٦

وإلّا (١) لما كان موجباً لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يكن سقوط الأمر بدون حصول الغرض مستحيلا لما كان الغرض موجباً لحدوث الأمر ، إذ علّيته للحدوث تقتضي علّيته للبقاء أيضا.

__________________

لأنّ العالم بالحكم عالم بالحكم السابق على هذا العلم ، وليس عالماً بالحكم المترتب على العلم الّذي يكون موضوعاً له ومتقدماً عليه كتقدم كل موضوع على حكمه ، هذا إذا كان عالماً بالحكم ، وأمّا إذا كان جاهلاً به فلا حكم حتى يحتاج إلى الامتثال ، بل لا حاجة في نفيه إلى البراءة ، للقطع بعدمه الناشئ عن عدم موضوعه وهو العلم كما لا يخفى.

فالمتحصل مما ذكرنا : استحالة التقييد اللحاظي بالعلم ، وامتناع الإطلاق أيضا ، فالخطاب بالنسبة إليه مهمل ، فلا إطلاق في البين يتمسك به في نفي اعتبار قيديّة العلم ، هذا.

وأمّا الانقسامات الثانوية للمتعلق كقصد امتثال الأمر ، فيمتنع فيها التقييد أيضا في المراحل الثلاث ، للزوم الدور ، إذ المفروض وحدة الأمر ، فقصده بناءً على كونه من شرائط المتعلق يكون كالشرب الّذي هو فعل المكلف ومتأخر عن موضوعه وهو الماء مثلا ، فلا بد من وجود الأمر أوّلاً حتى يتعلق به الفعل وهو قصده ، إذ الأمر حينئذٍ موضوع للقصد كموضوعية الماء للشرب ، والمؤمن لحرمة الغيبة ، والوالدين لحرمة الإيذاء ، وغير ذلك من الموضوعات التي تتعلق بها الأفعال المتعلقة للأحكام الشرعية ، فإنّ الموضوع بكلا معنييه من المكلف والمفعول به ـ المصطلح عليه بمتعلق المتعلق ـ كالماء والخل والخمر ونحوها مما يتعلق به فعل المكلف متقدم على الحكم ، وفي المقام يكون الأمر كالماء ، وقصد امتثاله كالشرب المتعلق بالماء ، فلا بد من تقدُّم الأمر على قصده ، فلو توقف الأمر على قصده ، لكونه

٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من شرائط المتعلق الّذي يكون متقدماً على الحكم لزم الدور.

وبالجملة : يكون الموضوع كالمكلف ، ومتعلق المتعلق كالماء والفعل كالشرب والأكل والإحسان والإيذاء وغيرها من الأفعال متقدماً على الحكم ، فإذا ترتب أحد هذه الأُمور على الحكم لزم الدور ، فلا فرق في الاستحالة بين المراتب الثلاث من الإنشاء والفعلية والامتثال. ومجرد تصوُّر الأمر قبل وجوده ، ثم الأمر بقصد ذلك الأمر المتصور لا يجدى في دفع غائلة الدور ، لأنّ المتصوّر لا بد وأن يكون قابل الانطباق على ما في الخارج ، وإلّا كان ذلك من قبيل أنياب الأغوال ، ومن المعلوم : أنّ قصد امتثال الأمر مترتب على الأمر الوحدانيّ الشخصي المتعلق بالعبادة ، لا طبيعة الأمر المتصورة عند الآمر ، فلا يندفع محذور الدور. ثم إنّ هنا قسماً آخر للانقسامات الثانوية للمتعلق ، وهو التقييد بالإطاعة والعصيان أي الفعل والترك ، أو للموضوع أعني المكلف ، لانقسامه إلى المطيع والعاصي ، وعليه : فالانقسامات تكون على أقسام ثلاثة :

أحدها ، ما لا يمكن فيه التقييد مطلقاً ولو نتيجة كالإطاعة والعصيان ، وذلك للزوم طلب الحاصل إن كان الوجوب مقيّداً بوجود متعلّقه خارجاً ، واجتماع النقيضين إن كان مقيّداً بعدمه ، إذ مرجعه إلى مطلوبيّة وجود المتعلق مقيداً بالترك ، ويمتنع الإطلاق بعين امتناع التقييد ، لِما أشرنا إليه من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

ثانيها : ما يمكن فيه كل من الإطلاق والتقييد اللحاظيين كالانقسامات الأوّلية بالنسبة إلى الموضوعات بكلا قسميها وهما المكلف ، وما يتعلق به الفعل

٤٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والترك كالماء والحنطة وغيرهما مما يكون للمتعلق موضوع خارجي ، وبالنسبة إلى المتعلقات كالصلاة والحج وغيرهما من الأفعال.

ثالثها : ما لا يمكن فيه الإطلاق والتقييد اللحاظيان فقط مع إمكان نتيجتهما كقصد الأمر ، فإنّه يمتنع إطلاق الخطاب وتقييده لحاظاً بالنسبة إليه ، لما مرّ من لزوم محذور الدور ، ولكن الملاك إمّا يكون عاماً ، وإمّا يكون مختصاً بحال قصد الأمر ، فلحاظ الإطلاق والتقييد ممتنع ، وأمّا نتيجتهما نظراً إلى الملاك فلا مانع منها ، وعليه فيمكن دخل قصد الأمر في المتعلق بالأمر الثاني ، لاختصاص وجه الاستحالة بالأمر الأوّل. إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أنّ قصد القربة مما يمكن دخله في المتعلق بأمر آخر ، لا بالأمر الأوّل ، فالخطاب الأوّل مهمل بالنسبة إلى قصد القربة ، فلا يمكن التشبث به لنفيه ، لما عرفت من امتناع الإطلاق بعين امتناع التقييد ، فلحاظ كل من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الخطاب ممتنع ، لكن نتيجتهما غير ممتنعة ، ولذا يصح التمسك بالإطلاق المقامي لنفي اعتباره ، وليس قصد القربة كالإطاعة والعصيان ، ولا كالعلم والجهل وإن كان مشاركا لهما في كونه من الانقسامات الثانوية ، ولكنه يفترق عنهما في أنّه يمتنع التقييد بالإطاعة والعصيان خطابا وملاكا ، لما مر آنفا ، وفي أنّ العلم والجهل يمتنع دخلهما في موضوع الخطاب دون ملاكه ، فيمتنع تقييد الحكم بالعلم به ، وكذا إطلاقه ، فما في بعض الكلمات من الاستدلال بإطلاق الروايات على اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين لا يخلو من غموض ، إلّا أن يراد بذلك الإطلاق المقامي وإن كان فيه إشكال أيضا ، لأنّه فرع إمكان بيان القيد وهو ممتنع ، لإناطة صحة

٤٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إنشاء الحكم بتمامية موضوعه ، وإلّا يلزم الخلف والمناقضة ، فالإنشاء كاشف عن تمامية الموضوع ، فإذا أنشأ الحكم قبل العلم به كشف ذلك عن عدم دخل العلم في موضوعه ، ولا يمكن إنشاؤه مع العلم به بأن يقال : «المكلف المسافر العالم بوجوب القصر يجب عليه القصر» ، حيث إنّ هذا الإنشاء لغو ، لأنّ العلم يقتضي إنشاء الحكم قبله حتى يعلم أو يجهل ، فلا يصح جعل العلم دخيلا في الموضوع ولو بخطابات عديدة. نعم بناء على تعدُّد مراتب الحكم كما عليه المصنف (قده) يمكن أن يقال : إنّ العلم بالحكم دخيل في فعليته لا في إنشائه ، فتدبّر. وهذا بخلاف قصد القربة ، لأنّ متعلق الأمر الأوّل هو ما عدا قصد القربة من الأجزاء ، ومتعلق الأمر الثاني هو الأجزاء بقصد القربة ، ولمّا كان المناط في تعدد الحكم ووحدته تعدد الملاك لا تعدد الإنشاء كما عرفت آنفا كان الأمر الثاني أمرا ضمنيا متعلّقا بقصد القربة.

وبالجملة : فقصد القربة مما يمكن اعتباره بالأمر الثاني الّذي يكون إرشادا إلى شرطية قصد القربة في العبادة ، فالغرض القائم بمجموع الأجزاء والشرائط واحد ، غاية الأمر أنّه لا يمكن بيان الكل بأمر واحد ، فافترقت القربة عن سائر الأجزاء والشرائط لذلك.

وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ قصد القربة مما يمكن دخله في العبادة شرعا ، فمع الشك في اعتباره يصح التمسك بالإطلاق المقامي إذا كان المتكلم في مقام البيان ، وإلّا فالمرجع أصالة الاشتغال أو البراءة على الخلاف لكونه من صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا من صغريات الشك في المحصِّل بأن يقال : «إنّ عدم

٤٨٠