منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

والتنوين لا يدل إلّا على الماهية على ما حكاه السكاكي لا يوجب (١) كون النزاع هاهنا في الهيئة كما في الفصول ، فإنّه غفلة وذهول عن أنّ كون المصدر كذلك (٢)

______________________________________________________

حيث هو أو على الفرد المنتشر بغير المصدر» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه. وملخص مرام الفصول : أنّ مصبّ النزاع في دلالة الصيغة على المرة أو التكرار هو نفس الهيئة ، دون المادة ، فإنّها خارجة عن حريم هذا النزاع ، لاتفاق أهل العربية على أنّ المصدر الّذي هو مادة صيغة الأمر لا يدلّ إلّا على نفس الماهية ، فنزاع المرة والتكرار يختص بالهيئة ولا يجري في المادة.

(١) خبر ـ أنّ ـ في قوله : «ان الاتفاق» وردّ لكلام الفصول ، وحاصله : أنّ الاتفاق المزبور لا يوجب اختصاص النزاع في المرة والتكرار بالهيئة ، وذلك لعدم دلالة هذا الاتفاق على كون مادة المشتقات ذلك المصدر ، بل يمتنع كونه مادة لها ، لأنّ الّذي يدل على الماهية من حيث هي هو المصدر بمادته وهيئته بحيث يكون للهيئة المصدرية دخل في المعنى ، ومن المعلوم : أنّ المصدر المؤلّف من المادة والهيئة ليس مادة للمشتقات ومبدأ لها ، بداهة مغايرة هيئة المصدر لهيئات المشتقات من الفعل الماضي والمضارع والأمر وغيرها من المشتقات ، وكذا معنى المصدر مباين لمعنى المشتق ، لما مرّ في مبحث المشتق من إبائه عن الحمل ، بخلاف المشتق ، فإنّه غير آب عن الحمل. فالمتحصل : أنّ المصدر ليس مادة للمشتقات ومبدأ لها ، فحينئذ يمكن تصوير النزاع في دلالة الصيغة على المرة أو التكرار في ناحية المادة لا الهيئة ، والغرض إثبات مجرد الإمكان في مقابل الفصول الّذي خص النزاع بالهيئة ، وأخرج المادة عن حريمه.

وبالجملة : فالمصدر صيغة برأسها ، وله مادة وهيئة.

(٢) أي : دالا على الماهية مع تجرده عن اللام والتنوين.

٥٠١

لا يوجب (*) الاتفاق على أنّ مادة الصيغة لا تدل إلّا على الماهية ، ضرورة (١) أنّ المصدر ليس مادة لسائر (٢) المشتقات ، بل هو (٣) صيغة مثلها ، كيف (٤)؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى (٥) ، فكيف (٦) بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه (٧) يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها (٨) كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا يوجب الاتفاق» وقد عرفت توضيحه.

(٢) الأولى إسقاط لفظ ـ سائر ـ.

(٣) أي : المصدر ، فإنّه صيغة برأسها مثل المشتقات في أنّ له مادة وهيئة كالمشتقات.

(٤) يعني : كيف يكون المصدر مادة للمشتقات والحال أنّ معناه مباين لمعنى المشتق كما عرفت آنفا؟ ومع المباينة كيف يصح أن يكون مادة للمشتقات؟ (٥) حيث إنّ اللابشرطية مقوِّمة لماهية معنى المشتق ، وبشرط اللائية مقوِّمة لمفهوم المصدر.

(٦) يعني : فكيف يكون المصدر بمعناه المتباين البشرط اللائي مادة للمشتقات.

(٧) يعني : فبناء على ما ذكر ـ من عدم كون المصدر مادة للمشتقات ـ يمكن دعوى اعتبار المرة والتكرار في مادة الصيغة ، لا في هيئتها كما زعمه صاحب الفصول.

(٨) أي : الصيغة.

__________________

(*) بل يوجبه ، لأنّ الاتفاق على عدم دلالة المصدر على المرة والتكرار يدل على عدم دلالة مادته عليهما في ضمن أيِّ هيئة كانت ، ومن المعلوم انحفاظ مادة المصدر في المشتقات ، فتدبّر.

٥٠٢

إن قلت (١) فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام

قلت (٢): ـ مع (٣) أنّه محلّ الخلاف ـ معناه (٤) أنّ الّذي وضع أوّلا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا

______________________________________________________

(١) هذا إشكال على إنكار كون المصدر أصلا للمشتقات ، وحاصله : أنّ هذا الإنكار ينافي ما اشتهر بين أهل العربية من أنّ المصدر أصل في الكلام.

(٢) قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجهين :

أحدهما : عدم تسالمهم على ذلك ، لذهاب الكوفيين إلى أنّ الأصل في الكلام هو الفعل.

ثانيهما وهو العمدة : أنّ المراد بكون المصدر أصلا هو : أنّ الواضع وضع أوّلا المصدر وضعا شخصيا ، ثم بملاحظته وضع غيره من الهيئات الخاصة التي تناسب المصدر مادة ومعنى وضعا شخصيا أو نوعيا ، مثلا وضع الواضع كلمة ـ الضرب ـ للحدث المنسوب إلى فاعل ما شخصيا ، ثم بملاحظته وضع هيئة ـ ضرب ـ نوعيا لفعل الماضي من كلّ مادة وان كانت مؤلفة من حروف أخرى مثل ـ ن ص ر ـ ، وشخصيا لنسبة الحدث الضربي التحققي إلى رجل فمعنى كون المصدر أصلا هو : أنّ ما يتصور أوّلا من مادة ـ ض ر ب ـ أو ـ ن ص ر ـ مثلا بصورة ثم تتصور بصور أخرى هو المصدر كما عليه البصريون ، أو الفعل كما عليه الكوفيون. وليس معناه كون المصدر بمادته وهيئته مادة للمشتقات ، فإنّ ذلك من الأغلاط الواضحة ، لعدم انحفاظ المصدر لا بهيئته ولا بمعناه في المشتقات ، لمباينته لها هيئة ومعنى كما هو أوضح من أن يخفى.

(٣) هذا إشارة إلى الجواب الأوّل.

(٤) هذا إشارة إلى الجواب الثاني ، وقد عرفت تقريب كليهما.

٥٠٣

سائر (١) الصيغ التي تناسبه (٢) مما (٣) جمعه معه (٤) مادة (٥) لفظ متصورة (٦) في كل منها ، ومنه (٧) بصورة (٨) ومعنى (٩)

______________________________________________________

(١) نائب عن فاعل ـ وضع ـ.

(٢) أي : تناسب الّذي وضع أوّلا بالوضع الشخصي وهو المصدر.

(٣) أي : من الصيغ التي جمع تلك الصيغ مع المصدر مادة لفظ يطرأ عليها الصور ، فالمراد ب ـ ما ـ الموصول هو الصيغ ، والضمير البارز في ـ جمعه ـ راجع.

إلى ـ ما ـ الموصول المراد به الصيغ.

(٤) أي : المصدر.

(٥) فاعل ـ جمعه ـ.

(٦) صفة لقوله : «مادة» ، حاصله : أنّ الجامع بين المصدر والمشتقات هو المادة المتصورة بصورة المصدر وصور المشتقات ، فإنّ مادة ـ ض ر ب ـ تعرض عليها هيئات مختلفة من هيئة المصدر وهيئات المشتقات.

(٧) أي : المصدر ، وضمير ـ منها ـ راجع إلى الصيغ.

(٨) متعلق بمتصورة.

(٩) معطوف على قوله : «لفظ» يعني : أنّ الجامع بين الصيغ المشتقة وبين الّذي وضع أوّلا شخصيا هو مادة لفظ ومادة معنى تتصوران في كل من الصيغ المشتقة والمصدر بصورة مخصوصة ، فإنّ مادة ـ ض ر ب ـ مثلا تتصور في المصدر بصورة الفعل بفتح الفاء وسكون العين ، وفي الفعل المضارع بصورة ـ يفعل ـ بفتح العين أو ضمها أو كسرها ، وهكذا ، وكذا مادة المعنى وهو حدث الضرب تتصور في المصدر بصورة وهي نسبة الحدث إلى فاعل ما ، وفي الفعل الماضي بصورة أخرى وهي تحقق نسبة الحدث إلى الرّجل الغائب ، إلى غير ذلك ، فلكل

٥٠٤

كذلك (١) هو (٢) المصدر (٣) أو الفعل (٤) ، فافهم (٥). ثم المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة (٦) والدفعات أو الفرد والأفراد؟ والتحقيق أنّ

______________________________________________________

من اللفظ والمعنى مادة وصورة ، والجامع بين المشتقات والمصدر هو مادة كل من اللفظ والمعنى ، كما أنّ المائز بين المشتقات والمصدر هو صورة كل من مادتي اللفظ والمعنى كما لا يخفى.

(١) أي : متصورة ، وقد عرفت تصوُّر مادة المعنى كطبيعة الحدث بصور ، كنسبته إلى ذاتٍ ما نسبة تحققيّة ، كما في الفعل الماضي ، أو تلبسيّة كاسم الفاعل ، أو ترقُّبية كالفعل المضارع ، كما أنّك قد عرفت تصور مادة اللفظ بصور متشتتة.

(٢) خبر قوله : «إن».

(٣) كما هو مذهب البصريين.

(٤) كما هو مذهب الكوفيين.

(٥) لعلّه إشارة إلى : أنّه لا بدّ من توجيه كلامهم : «المصدر أصل في الكلام» بما مر ، لامتناع أن يكون المصدر بمادّته وهيئته مادة للمشتقات ومبدأً لها ، إذ فعلية كل مادة بصورتها ، ولا يعقل فعليتها بصورتين في عرض واحد ، لاستلزامه اجتماع علّتين مستقلتين على معلول واحد.

(٦) المراد بها الوجود الّذي لا يتعاقبه وجود آخر ، وبعبارة أُخرى : المراد بالدفعة هو وحدة الإيجاد ، كعتق عبيد ، أو تمليكهم بإنشاء واحد ، فإنّه لا يصدق عليها المرة بمعنى الفرد ، ويصدق عليها المرّة بمعنى الدفعة. وبين الدفعة والفرد عموم من وجه ، لتصادقهما على مثل إنشاء عتق عبد واحد ، فإنّ كُلًّا من الدفعة والفرد صادق عليه ، وتفارقهما في عتق عبيد بإنشاء واحد ، فإنّه يصدق عليها الدفعة ، ولا يصدق عليها الفرد ، لكونها أفراداً عديدة ، وفي الكلام

٥٠٥

يقعا (١) بكلا المعنيين محل النزاع وإن كان لفظهما (٢) ظاهراً في المعنى الأوّل (٣). وتوهم (٤) أنّه لو أُريد بالمرة الفرد «لكان الأنسب (٥) ، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من (٦) أنّ الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك (٧) : وعلى تقدير تعلُّقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد

______________________________________________________

الممتد المتصل وغيره من التدريجيات ، فإنّ المرة بمعنى الفرد الواحد تصدق عليه ، بخلاف الدفعة ، فإنّها لا تصدق عليه ، لكونه من التدريجيات.

(١) أي : المرة والتكرار ، وصاحب القوانين استظهر المعنى الثاني وهو الفرد ، وصاحب الفصول المعنى الأوّل وهو الدفعة.

(٢) يعني : وإن كان لفظ المرة والتكرار ظاهراً في الدفعة والدفعات ، ولذا استظهره في الفصول بقوله : «لمساعدة ظاهر اللفظين عليه ومرجعه إلى دعوى التبادر»

(٣) وهو الدفعة والدفعات.

(٤) هذا التوهم لصاحب الفصول ، وحاصله : أنّه ـ بناءً على إرادة الفرد من المرة ـ يلزم جعل هذا البحث تتمة للمبحث الآتي من أنّ الأمر متعلق بالطبيعة أو الفرد ، بأن يقال : إنّه على القول بتعلق الأمر بالفرد هل تدل صيغة الأمر على كون المطلوب فرداً واحداً أم أفراداً متعددة؟ ومنشأ هذا التوهم هو وحدة العنوان أعني الفرد في المسألتين ، وظهور كونه في كليتهما بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة.

(٥) هذا عين كلام الفصول إلى قوله : «كما فعلوه».

(٦) بيان للمبحث الآتي.

(٧) يعني : عند ذلك المبحث. تقريب جعل هذا البحث تتمة لكون الأمر متعلقاً بالطبيعة أو الفرد هو أن يقال : بناءً على تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أم المتعدد أم لا يقتضي شيئاً منهما؟.

٥٠٦

أو المتعدد ، أو لا يقتضي شيئاً منهما ، ولم يحتج (١) إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه» وأما لو أُريد بها (٢) الدفعة فلا علقة بين المسألتين (٣) كما لا يخفى

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «لكان الأنسب».

(٢) أي : المرة.

(٣) يعني : مسألة المرة والتكرار ، ومسألة تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد ، ووجه عدم العلقة بينهما بحيث يصحح تعدُّد البحث هو : أنّه بناءً على إرادة الدفعة والدفعات من المرة والتكرار يجري هذا البحث على كلا القولين في تلك المسألة بأن يقال : بناءً على تعلق الأمر بالطبيعة هل تقتضي الصيغة مطلوبية الطبيعة دفعة أو دفعات وفي وقت أو أوقات؟ وعلى القول بتعلقه بالفرد هل تقتضي الصيغة اعتبار الدفعة في مطلوبية الفرد أو الدفعات ، أم لا تقتضي شيئاً منهما؟ وهذا بخلاف تفسير المرة بالفرد ، فإنّه يكون تتمة لتلك المسألة بناءً على تعلق الأمر بالفرد ، ولا يكون بحثاً برأسه ، ويصير أجنبياً عن تلك المسألة بناءً على تعلق الأمر بالطبيعة ، إذ لا يصح أن يقال حينئذٍ : هل الصيغة تدل على مطلوبية الفرد أم الأفراد؟ إذ المفروض تعلق الطلب بالطبيعة ، فلا يبقى مجال للبحث عن دلالة الصيغة على مطلوبية الفرد أو الأفراد بناءً على تعلُّق الأمر بالطبيعة.

وبالجملة : فصاحب الفصول استظهر من المرة والتكرار الدفعة والدفعات ، لوجهين :

أحدهما : التبادر كما تقدم.

ثانيهما : جريان النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بناءً على إرادة الدفعة والدفعات منهما على كلا القولين في المسألة الآتية ، وعدم جريانه بناءً على إرادة الفرد والأفراد منهما كما عرفت آنفاً.

٥٠٧

فاسد (١) ، لعدم العلقة بينهما لو أُريد بها الفرد أيضا ، فإنّ الطلب على القول بالطبيعة إنّما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ، ضرورة أنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وبهذا

______________________________________________________

(١) خبر ـ وتوهم ـ ودفع له ، وحاصله : عدم العلقة بين مسألة المرة والتكرار وبين مسألة تعلق الأوامر بالطبائع ، وعدم كون هذا النزاع من تتمة البحث في تلك المسألة ، حتى بناءً على إرادة الفرد من المرة ، وبناءً على تعلق الأمر بالأفراد في المسألة الآتية. توضيحه : أنّ الفرد في المسألتين ليس بمعنى واحد حتى يبقى للتوهم المزبور مجال ، وذلك لأنّ الفرد في هذه المسألة بمعنى الوجود الواحد من وجودات المأمور به ، بحيث تكون لوازم الوجود خارجة عنه ، وفي تلك المسألة بمعنى الوجود الخاصّ الّذي تكون لوازم الوجود داخلة فيه ، فيصح أن يقال : إن المطلوب إن كان هو الطبيعة يقع النزاع في أنّ الصيغة هل تدل على مطلوبية وجود واحد أو وجود متعدد أم لا تدل عليها؟ كما يصح أن يقال : إنّ المطلوب إن كان هو الفرد المتميز عن سائر الأفراد بالخصوصيات المشخصة يقع النزاع في أنّ الصيغة هل تدل على أنّ متعلق الأمر فرد واحد أي وجود واحد أو وجود متعدد؟.

وبالجملة : فيتأتى نزاع المرة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد على كل من القول بتعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد ، فجعل هذا النزاع من تتمة مسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد كما صنعه في الفصول ليس في محله. ثم إنّ منشأ كون المراد بالفرد في البحث الآتي الحصّة المتشخصة بلوازم الفرد هو مقابلته للطبيعة المراد بها وجودها من دون دخل للوازم الوجود في المطلوبية ، وفي هذه المسألة نفس وجود الطبيعة ، لكونه في قبال الدفعة.

٥٠٨

الاعتبار (١) كانت مردّدة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين ، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها (٢) ، أمّا بالمعنى الأوّل فواضح (٣) ، وأمّا بالمعنى الثاني ، فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد (٤) وجود واحد ، أو وجودات ، وإنّما عبر بالفرد (٥) ، لأنّ وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد ، غاية الأمر (٦) خصوصيته

______________________________________________________

(١) أي : باعتبار الوجود ، إذ لا معنى لتردُّد ذات الماهية بدون وجودها بين المرة والتكرار بكلا المعنيين ، فإنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي.

(٢) أي : عدم الدلالة.

(٣) لصحة أن يقال : إنّ وجود الطبيعة هل هو مطلوب دفعة أم دفعات؟ (٤) يعني : في المرة والتكرار.

(٥) يعني : في نزاع دلالة الصيغة على المرة ، وحاصله : أنّ التعبير عن المرة بالفرد ـ مع أنّ المراد بها وجود الطبيعة ، وخروج لوازم الوجود عن حيِّز المطلوب ـ إنّما هو لأجل كون الفرد نفس وجود الطبيعة في الخارج.

(٦) غرضه : إبداءُ الفرق بين الفرد الّذي هو بمعنى المرة في هذا المبحث ، وبين الفرد الّذي هو في قبال الطبيعة في البحث الآتي. ومحصل الفرق بينهما : انّ الفرد في هذا البحث هو الوجود بدون لوازمه ، وفي المبحث الآتي هو الوجود مع لوازمه ، فقوله : «غاية الأمر» هو الجواب عن توهم كون نزاع المرة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد من تتمة البحث الآتي على القول بتعلق الأمر بالفرد ، إذ حاصله : مغايرة معنى الفرد في المسألتين (*).

__________________

(*) الحق أنّ البحث عن دلالة الصيغة على المرة والتكرار بكلا المعنيين المتقدمين من الأبحاث الساقطة ، إذ الدلالة المزبورة لا بد أن تكون مستندة إلى

٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المادة أو الهيئة ، وقد عرفت في التعليقة عدم دلالة المادة على ذلك. وأمّا الهيئة فقد تقدم في المعاني الحرفية أنّها موضوعة للنسب والارتباطات ، فهيئة الأمر وُضعت للنسبة الطلبية وإيقاع المادة على الفاعل ، ولا دلالة لها على مرة ولا تكرار ولا فور ولا تراخٍ.

نعم لا بأس بالنزاع في دلالة صيغة الأمر بوضع آخر غير وضع المادة والهيئة على المرة والتكرار ، لكن الظاهر أنّه مما لم يدّعه أحد ، مع أنّ الأصل عدمه ، فالحق سقوط هذا البحث من أصله. ويمكن توجيه كلام القدماء المتعرضين لهذا البحث ـ لبُعد خطئهم مع عُلوِّ مقامهم العلمي ـ بأنّ مقصودهم بدلالة الصيغة على المرة أو التكرار هو : أنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي مطلوبية الطبيعة بوجودها الساري في أفرادها أم مطلوبية صرف وجودها؟ وبعبارة أُخرى : هل يقتضي إطلاق الصيغة سريان المطلوبية إلى جميع وجودات الطبيعة أم اختصاصها بأوّل وجودها؟ وهذا المعنى مما يليق بالبحث عنه ، لا أنّ معنى الصيغة هل هو المرة أم التكرار؟ فإنّ فساده كما عرفت غنيّ عن البيان. لكن التوجيه المزبور بعيد عن ظاهر عبائرهم ، حيث إنّهم عبروا بالدلالة الظاهرة في كون الموضوع له هو المرة أو التكرار.

وكيف كان فالذي ينبغي أن يقال : إنّ الطلب يسري إلى جميع أفراد الطبيعة إن كان لمتعلّقه موضوع خارجي كوجوب الأمر بالمعروف ، وحفظ نفس المؤمن ، وتجهيز الميت ، وغير ذلك مما يكون لمتعلّق الطلب موضوع خارجي.

إلّا إذا دلّ من الخارج ما يمنع عن ذلك ، ويقتضي مطلوبية صِرف الوجود كوجوب الغسل والوضوء ، فإنّ قاعدة الانحلال وإن كانت مقتضية للتكرار ومطلوبية هذه

٥١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعلقات بجميع وجوداتها ، إلّا أنّه قام الدليل على مطلوبية صِرف وجودها ، لتحقق الطهارة به. وإن لم يكن لمتعلقه موضوع خارجي لا يسري الطلب إلى غير أوّل وجودات الطبيعة المأمور بها ، لانطباقها عليه ، فيجزي عقلا ، فيسقط الأمر ، والمفروض عدم موضوع خارجي لمتعلق الطلب تقوم به المصلحة حتى يقال بلزوم سريان الطلب إلى سائر الأفراد ، لعدم مرجِّح لاختصاصه بأوّل الوجود بعد فرض كون سائر الوجودات مثله في قيام الملاك الداعي إلى الطلب بها ، فمقتضى قاعدة قبح الترجيح بلا مرجح مطلوبية جميع الوجودات ، إلّا إذا قام دليل من الخارج على خلافه.

وبالجملة : فقاعدة الانحلال محكّمة ما لم يقم دليل على خلافها ، وإذا فرض عدم تماميتها فالمرجع في الزائد على المرة أصالة البراءة ، لكون الشك فيه شكاً في التكليف ، وفي المرة نفس الخطاب ، لدلالته على مطلوبيّة إيجاد الطبيعة ، ونقض عدمها المحمولي بالوجود كذلك ، ومن المعلوم : تحقق ذلك بأوّل وجودها ، فالاكتفاء بالمرة إنّما هو لأجل طارديّتها للعدم التي هي قضية الأمر. فتلخص مما ذكرناه أُمور :

الأوّل : أنّ النزاع في دلالة الصيغة على المرة أو التكرار ساقط عن درجة الاعتبار.

الثاني : أنّه يمكن توجيه نزاع القدماء في ذلك بما مر.

الثالث : أنّه يرجع إلى قاعدة الانحلال فيما لم تنهض حجة على خلافها.

الرابع : أنّ الأصل العملي بعد فرض وصول النوبة إليه يقتضي عدم وجوب ما عدا أوّل الوجود من الوجودات.

٥١١

وتشخصه (١) على القول بتعلق الأمر بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه (٢) ، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد ، فإنّه (٣) مما يقوّمه.

تنبيه (٤) : لا إشكال بناءً على القول بالمرة في الامتثال ، وأنّه لا مجال للإتيان بالمأمور به (٥) ثانياً على أن يكون

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير ـ خصوصيته ـ راجعان إلى الفرد.

(٢) أي : المطلوب ، ولذا لو قصد القربة بلوازم الوجود كان تشريعاً محرماً.

(٣) أي : التشخص ، فإنّه حينئذٍ مقوِّم للمطلوب ، فيصح قصد القربة به ، ولا يكون ذلك تشريعاً.

(٤) الغرض من عقد هذا التنبيه الّذي جعله في الفصول بعنوان التذنيب هو : بيان ثمرة مسألة المرة والتكرار ، وحاصله : أنّه بناءً على دلالة الصيغة على المرة يحصل الامتثال بالإيجاد الأوّل مطلقاً سواء فسرت المرة بالفرد أم الدفعة ، ضرورة صدقها بكل من هذين المعنيين على الإيجاد الأوّل ، فإذا أعتق ثلاثة عبيد مثلا بإنشاء واحد ، أو أطعم ثلاثة ستينات من المساكين دفعة ، فلا إشكال في حصول الامتثال ، لوجود الطبيعة كحصوله بعتق واحد من العبيد ، وإطعام ستين مسكيناً ، وبعد تحقق الامتثال لا معنى لإيجاد الطبيعة ثانياً بعنوان الإطاعة التي هي موافقة الأمر ، إذ المفروض سقوطه بالإيجاد الأوّل ، فيمتنع الإتيان به ثانياً بعنوان الامتثال ، وهذا معنى قولهم : «لا معنى للامتثال عقيب الامتثال». وبناءً على دلالة الصيغة على التكرار لا إشكال في وجوب إيجاد الطبيعة المأمور بها ثانياً وثالثاً ، وهكذا ، لصدق الامتثال على الجميع ، حيث إنّ الصيغة تدل على مطلوبية جميع وجودات الطبيعة ، فلكل وجود حكم يخصه كالعام الاستغراقي.

(٥) يعني : بما كان مأموراً به ، إذ المفروض سقوط الأمر بالإيجاد الأوّل ، فلا يتصف متعلّقه بعد ذلك بكونه مأموراً به.

٥١٢

أيضا (١) به الامتثال ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال ، وأمّا على المختار من دلالته (٢) على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار ، فلا يخلو الحال إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان ، بل في مقام الإهمال ، أو الإجمال ، فالمرجع هو الأصل ، وإمّا أن يكون إطلاقها في ذلك المقام (٣) فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال (٤) ، وإنّما الإشكال (٥) في جواز

______________________________________________________

(١) يعني : كما يحصل الامتثال بالإتيان به أولا.

(٢) أي : الأمر. ومحصل ما أفاده بناءً على عدم دلالة الأمر على المرة والتكرار هو : أنّه لا يخلو الحال بين كون إطلاق الصيغة مسوقاً للبيان وبين كونه مسوقاً للتشريع فقط.

فعلى الثاني لا بد من الرجوع إلى الأصل العملي الّذي سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وعلى الأوّل لا إشكال في الاكتفاء بالمرّة ، لصدق الطبيعة عليها ، إنّما الإشكال في مشروعية الإتيان بالطبيعة ثانياً وثالثاً وهكذا. وجه الإشكال هو : سقوط الأمر بالطبيعة بالإتيان بها أوّلاً ، فإيجادها ثانياً تشريع محرّم ، لخُلوِّه عن الأمر ، واقتضاء إطلاق الصيغة المفروض كونه في مقام البيان ، لجواز الإتيان بها ثانياً وثالثاً وهكذا.

(٣) أي : مقام البيان.

(٤) وجه عدم الإشكال هو صدق الطبيعة المأمور بها على المرة قطعاً ، وإلّا فلا يكون المأتي به مصداقاً لها ، وهو خلف.

(٥) يعني : أنّ الإشكال إنّما هو في جواز الإتيان بغير المرّة بقصد امتثال الأمر ، لاحتمال كون المرة مشروطة بشرط لا ، فالزائد عليها تشريع محرّم.

٥١٣

أن لا يقتصر عليها ، فإنّ لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها هو الإتيان بها مرة أو مراراً (١) ، لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى. والتحقيق : أنّ قضية الإطلاق إنّما هو جواز الإتيان بها مرّة في ضمن فرد أو أفراد (٢) ، فيكون إيجادها (٣) في ضمنها (٤) نحواً من الامتثال كإيجادها (٥) في ضمن الواحد ، لا جواز الإتيان بها (٦) مرّة

______________________________________________________

ولكن يدفع هذا الاحتمال بإطلاق الطبيعة المأمور بها ، حيث إنّها لم تقيد بمرة ، فيكون إطلاق مطلوبية الطبيعة مقتضياً لجواز الإتيان بها غير مرة ، لكن ناقش المصنف في هذا الإطلاق بقوله : «والتحقيق» ، وحاصله : أنّ مقتضى هذا الإطلاق ليس هو الإتيان بالطبيعة مرّة أو مراراً حتى يثبت به جواز الإتيان بها ثانياً وثالثاً. وبعبارة أُخرى : لا يُراد بهذا الإطلاق جواز الإتيان بالأفراد الطولية ، بل يراد به جواز الإتيان بالطبيعة مرّة أي دفعة في ضمن فرد واحد كعتق رقبة واحدة ، أو في ضمن أفراد كعتق ثلاثة عبيد بإنشاء واحد ، فإتيان الطبيعة مرة في ضمن أفراد عرضية جائز بمقتضى الإطلاق دون الإتيان بها في ضمن أفراد طولية.

(١) وهي الأفراد الطولية المتعاقبة ، فإنّ جواز إتيانها كذلك هو مقتضى لا بشرطيتها.

(٢) وهي الأفراد العرضية ، فالمراد بالمرة حينئذٍ هو الدفعة.

(٣) أي : الطبيعة.

(٤) أي : الأفراد الدفعيّة العرضية.

(٥) أي : الطبيعة.

(٦) أي : الطبيعة ، وقوله : «لا جواز الإتيان». معطوف على قوله : «جواز الإتيان».

٥١٤

ومرّات (١) ، فإنّه (٢) مع الإتيان بها (٣) مرّة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر فيما (٤) إذا كان امتثال الأمر علّة تامة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرده (٥) ، فلا يبقى معه (٦) مجال لإتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر (٧) ، أو بداعي (٨) أن يكون الإتيانان امتثالاً واحداً ،

______________________________________________________

(١) وهي الأفراد الطولية.

(٢) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لعدم كون الإطلاق صالحاً لإثبات جواز الإتيان بما عدا الوجود الأوّل من الوجودات الطولية ، وحاصله : أنّ الوجود الأوّل إن كان علّة تامة لسقوط الغرض الداعي إلى الأمر ، فلا محالة يكون علة تامة لسقوط الأمر أيضا ، وحينئذٍ يمتنع أن يكون إتيان الطبيعة ثانياً وثالثاً متعلقاً للأمر ، وبهذا الامتناع يمتنع أن يكون للصيغة إطلاق يشمل المرّة والمرات ، بل يمكن منع الإطلاق مع الغض عن هذا المانع العقلي بأن يقال : إنّ مقتضى تعلق الطلب بطبيعة هو نقض عدمها بالوجود ، وذلك يتحقق بصِرف الوجود المنطبق على القليل والكثير ، وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق ، لكونه وجوداً بعد وجود ، وليس هو صِرف الوجود الطارد للعدم.

(٣) أي : الطبيعة.

(٤) متعلق بقوله : «يسقط».

(٥) يعني : بحيث يحصل الغرض بمجرد امتثال الأمر.

(٦) أي : سقوط الأمر ، وجه عدم المجال هو سقوط الأمر بحصول الغرض.

(٧) بأن يكون متعلّقاً لأمر على حدة.

(٨) بأن يكون الفرد السابق واللاحق متعلّقين لأمر واحد ليعدّ الإتيانان امتثالا واحداً.

٥١٥

لما عرفت (١) من حصول الموافقة بإتيانها (٢) ، وسقوط (٣) الغرض معها ، وسقوط (٤) الأمر بسقوطه ، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا (٥). وأمّا (٦) إذا لم يكن الامتثال علّة تامة لحصول الغرض كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ ، فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلاً ، فلا يبعد (*) صحة تبديل الامتثال بإتيان

______________________________________________________

(١) حيث قال : «فانه مع الإتيان بها مرة لا محالة ... إلخ» وهذا تعليل لكليهما ، لوضوح أنّه بعد فرض علّية الامتثال لسقوط الأمر ، فلا وجه لإتيان فرد آخر بداعي أمر استقلالي ، ولا ضمني.

(٢) أي : إتيان الطبيعة مرة.

(٣) معطوف على : ـ حصول ـ ، وضمير ـ معها ـ راجع إلى الموافقة.

(٤) معطوف على : ـ حصول ـ أيضا ، وضمير ـ بسقوطه ـ راجع إلى الغرض.

(٥) يعني : بعد فرض سقوط الأمر بسقوط الغرض بسبب إتيان الطبيعة مرة لا يبقى مجال لامتثاله ، لانتفاء موضوع الامتثال وهو الأمر بكلا قسميه من الاستقلالي والضمني.

(٦) هذا عدل لقوله : «فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة» قبل أسطر ، وحاصله : انّ الامتثال إذا لم يكن علّة تامة لحصول الغرض كما إذا أمر المولى عبده بإحضار الماء ليشرب أو يتوضأ ، فأحضره عنده ولم يشربه المولى بعد ، أو لم يتوضأ به كذلك ، فلا يبعد حينئذٍ صحة تبديل الامتثال بامتثال آخر ، إذ المفروض بقاءُ الغرض الكاشف عن بقاء الأمر ، فلا مانع من تبديل الامتثال بالفرد اللاحق القائم به الغرض.

__________________

(*) بل في غاية البعد ، لأنّ الملاك الباعث للأمر القائم بفعل المأمور بناءً

٥١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على مذهب مشهور العدلية من قيام الملاكات بنفس الأفعال لا بدّ وأن يترتب على الفعل ، وإلّا فلا فائدة في الأمر ، ضرورة أنّ الأمر إنّما يكون لحفظ الملاكات واستيفائها ، فلو لم يكن الفعل المتعلق للأمر وافياً بالغرض وهو الملاك ، فيلغو الأمر ، وهو قبيح على العاقل فضلاً عن الحكيم ، ومقتضى ذلك عدم دخل إرادة الفاعل المختار غير إرادة المأمور في الغرض ، إذ لو كان لها دخل فيه لما كان ذلك مسبباً توليدياً لفعل المأمور ، ولما تمكّن المأمور من استيفائه بفعله ، وهذا خلاف حكمة الأمر. وببيان أوضح : الملاكات من الأُمور الخارجية والخواصّ التكوينية المترتبة على الأفعال ، فلا بد في صحة الأمر من وفاء متعلّقه بالغرض. وعليه فلا معنى لصحة تبديل الامتثال ، بل الإتيان الأوّل وافٍ بالغرض ، فيسقط الأمر ، فالامتثال علّة تامة لسقوط كل من الغرض والأمر. لا يقال : إنّ ما دلّ من الروايات في الصلاة المعادة جماعة على أن الله تعالى يختار أحبّهما إليه» أقوى دليل على جواز تبديل الامتثال ، وعلى عدم كون الوجود الأوّل علّة تامة للامتثال وسقوط الأمر. فانه يقال : إنّ الامتثال المترتب على انطباق المأمور به على المأتي به عقلي ، وليس منوطاً بإرادة أحد ، بل يمتنع إناطته بها ، لصيرورة الفعل المتعلق للأمر حينئذٍ غير مقدور للمأمور ، فالامتثال ليس مترتباً على شيءٍ غير انطباق المأمور به على المأتيِّ به ، وهو قهري ، وهذا كله واضح لا غبار عليه ، وليس في العقل والنقل ما ينافي ذلك ، وروايات الصلاة المعادة لا تنافيه ، لأنّها في مقام بيان القبول ، لا الإجزاء الّذي هو مورد البحث ، فإنّ قولهم عليهم‌السلام : «يختار أحبهما أو أفضلهما إليه» كالصريح في ذلك. نعم لو كانت العبارة هكذا : «يجزى

٥١٧

فرد آخر أحسن منه (١) ، بل مطلقاً (٢) كما كان له

______________________________________________________

(١) كالصلاة المعادة جماعة ، لما ورد من : أنّ الله تعالى يختار أحبهما إليه.

(٢) يعني : ولو لم يكن الفرد الثاني أحسن من الأوّل ، بل مساوياً له ، أو دونه.

__________________

أو يصح أحبهما إليه» كان منافياً لما ذكرناه ، ففي مثل الصلاة المعادة نقول : إنّ المطلوب متعدّد ، حيث إنّ نفس الطبيعة كالصلاة مطلوب ، والخصوصية ـ وهي إتيانها جماعةً مثلاً ـ مطلوب آخر ، فإذا أتى بالصلاة فرادى يسقط الأمر المتعلق بالطبيعة ، لانطباقها على المأتي به قهراً الموجب للإجزاء عقلاً ، ويبقى أمر الخصوصية ، وحيث إنّه لا يمكن امتثاله إلّا بإعادة الصلاة ، فتعاد استحباباً ، للأمر بتلك الخصوصية ، وبعد الإتيان بها ثانيا معها يختار الله عزوجل ويقبل أحبّهما إليه من حيث شرائط القبول. وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ الغرض من الأمر بإحضار الماء للشرب أو الوضوء هو التمكن منهما ، لا ترتبهما عليه فعلا ، لما مرّ من امتناع دخل إرادة غير المأمور في ترتب الغرض على متعلق الأمر ، فليس الغرض الداعي إلى الأمر إلّا حصول التمكن من الشرب والوضوء المتحقق بنفس إحضار الماء الموجب لسقوط الأمر ، فلو أمر المولى بعد ذلك بإحضار الماء أيضا ، فلا بد أن يكون ذلك لغرض آخر غير التمكن المزبور ، كما إذا أمر ثانيا لإدراك خصوصية ، كبرودة الماء ، أو صفائه ، أو غيرهما ، فإنّه يرجع ذلك إلى غرض آخر غير الغرض القائم بالفرد السابق ، فجواز تبديل الامتثال ـ بعد فرض كونه مترتبا على انطباق المأمور به على المأتي به ـ مما لا يخلو من الغموض ، فالامتثال علّة تامة لسقوط الأمر والغرض فتأمّل جيّدا.

٥١٨

ذلك (١) قبله على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

(المبحث التاسع) الحق : أنّه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخي (٢) ، نعم (٣) قضية إطلاقها (٤) جواز التراخي ، والدليل عليه (٥) تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها (٦) بلا دلالة على تقييدها بأحدهما (٧) ، فلا بد في التقييد من دلالة أُخرى (٨) كما ادعى دلالة غير واحدة من الآيات (٩) على

______________________________________________________

(١) يعني : كما كان للمكلّف جواز الإتيان بالفرد اللاحق قبل إتيانه بالسابق.

(٢) لما تقدم في مبحث المرة والتكرار.

(٣) استدراك من قوله : «لا دلالة» وحاصله : أنّ الصيغة وإن لم تدل بمادتها وهيئتها على وجوب شيءٍ من الفور والتراخي ، لكن إطلاقها مع كون المتكلم في مقام البيان دليل على عدم تقيد مطلوبيّة الطبيعة بشيءٍ من الفور والتراخي ، وان لم يحرز هذا الإطلاق وشُك في وجوب أحدهما ، فمقتضى الأصل عدم وجوب شيءٍ منهما.

(٤) أي : الصيغة.

(٥) أي : عدم دلالة الصيغة على شيءٍ منهما.

(٦) أي : الصيغة ، وضمير ـ تقييدها ـ راجع إلى الطبيعة ، وحاصله : أنّ تبادر مطلوبية نفس الطبيعة من الصيغة من دون تقيدها بالفور أو التراخي يدلّ على عدم دخل شيءٍ منهما في معنى الصيغة ، وإلّا لكان متبادرا أيضا ، فالتقييد بأحدهما منوط بدليل خارجي.

(٧) أي : الفور والتراخي.

(٨) يعني : غير الدلالة الراجعة إلى الصيغة.

(٩) كآيتي المسارعة والاستباق تقريب دلالتهما على وجوب الفور هو :

٥١٩

الفورية ، وفيه منع ، ضرورة أنّ سياق آية (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وكذا آية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة ، والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما (١) للغضب والشر ، ضرورة أنّ تركهما (٢) لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير

______________________________________________________

انّهما تدلّان على وجوب المسارعة والاستباق إلى سبب المغفرة ، إذ لا معنى للاستباق والمسارعة إلى نفس المغفرة والخير بعد كونهما من أفعاله تعالى شأنه ، ولا سبب لهما أعظم من الواجبات ، فيجب إتيانها فورا. وقد ناقش المصنف (قده) في دلالتهما على وجوب الفور بوجوه ثلاثة :

أحدها : ما أشار إليه بقوله : «وفيه منع ضرورة ... إلخ» ، وحاصله : منع دلالتهما على الوجوب ، إذ لو كان كذلك لكان ترك المسارعة والاستباق موجبا للغضب والشر ، والأنسب حينئذٍ البعث إليهما بذكر العقاب المترتب على تركهما ، لكونه أشد تأثيرا في تحرّك العبد ، وانبعاثه على المسارعة والاستباق من ذكر الثواب على فعلهما ، وهذا يوجب وهن الاستدلال على الوجوب. وبتقريب آخر : انّ تعلق فعل بمفعول يدل على وجود المفعول به في كلتا صورتي الفعل وعدمه ، مثلا إذا قال : «أكرم زيدا» ، فإنّ تعلُّق الأمر بإكرامه يدل على وجود زيد مطلقا سواء أكرمه المأمور بالإكرام أم لا ، فانتفاء الإكرام لا يوجب انتفاء زيد ، كما هو واضح جدا. وفي المقام إذا قلنا بدلالة الآيتين على وجوب المسارعة والاستباق لَزِم انتفاء المغفرة والخير اللذين تعلّق بهما المسارعة والاستباق وتبدُّلهما بالمؤاخذة والشر ، وهذا خلاف مقتضى تعلق الفعل بالمفعول به ، فعليه لا تدل الآيتان على وجوب المسارعة والاستباق.

(١) أي : المسارعة إلى المغفرة ، والاستباق إلى الخير.

(٢) أي : المسارعة والاستباق.

٥٢٠